الحُبّ في أوسلو* - قصة قصيرة
قصةٌ واقعيةٌ أغرب من الخيال ظلّت نابضةً في قلبي ووجداني أكثر من أربعين عاماً، أضعها اليوم على الورق لعلّي أتخلّص منها ولو إلى حين.
بعد أن سافرتُ إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لمواصلة دراستي العالية للحصول على الدكتوراه في جامعة تكساس في أوستن، وبعد أن استقرَّ بي الحال وانتظمت دراستي، اتصلتُ هاتفياً بصديقٍ قديمٍ لي يقطن في ولاية مينيسوتا في شمال البلاد:
ــ ستيف، كيف حالك؟
ــ سليم، هذه مفاجأةٌ سارَّة، هل وصلتَ؟ لماذا لم تكتب إليّ منذ أكثر من شهريْن؟
ــ آسف، ستيف، كنتُ منشغلاً في ترتيب أموري، واستقرار عائلتي الصغيرة في محيطها الجديد.
ــ طيّب، بعد حوالي شهر، ستحلُّ عطلة عيد الميلاد التي تدوم ثلاثة أسابيع، وأنا أدعوك لتأتي إلينا هنا في مينيسوتا مع عائلتك العزيزة، فأُمّي كذلك مشتاقة لمقابلتكم. سيعجبكم الجو والمناظر الطبيعية، فكلُّ شيء مدثّر بالثلوج، وهو يختلف تماماً عمّا اعتدتم عليه في الصحاري العربية، وفي تكساس الصحراوية.
ــ تكساس ليست صحراء. ويسعدني قبول دعوتك، يا ستيف، فقد اشتقت إليك، وسأوافيك بموعد وصولي، إن شاء الله.
ــ إلى اللقاء.
ما إن انقضى فصل الخريف الدراسي، وحصلتُ على نتائج مشجِّعة فيه، حملتُ عائلتي الصغيرة المكونة من زوجتي وولدي سامي، بسيّارتي من نوع شوفرليه كميرو، واتجهنا شمالاً مسترشداً بالخارطة التفصيلية التي زوَّدتني بها " جمعيَّة السيّارات الأمريكية" AAA.
وصلنا مساءً إلى مينابولس، عاصمة منيسوتا، واهتدينا إلى المنزل، فألفيناه في حيٍّ راقٍ، ويتكوَّن من فيلا كبيرة تحيط بها الجنائن الفسيحة من نواحيها الأربع، وحديقة المنزل الأمامية غير مسيَّجة مثل بقية حدائق البيوت التي تطلُّ على الشارع، فيصبح الطريق حديقة تسرّ الناظر وتشيع البهجة في الفضاء كلِّه.
رحّب ستيف وأمّه بنا ترحيباً بالغاً، واعتذرت السيدة أُمُّه لعدم وجود زوجها، فهو كثير التغيّب عن المنزل بسبب ارتباطاته الكثيرة لكونه عضواً في الكونغرس عن ولاية منيسوتا، ويمضي أوقاتاً طويلة في واشنطن دي سي العاصمة، وأضافت قائلة:
ــ ولكنّه مسرور جدّاً بوجودكم معنا، وطلب مني أن أبلغّكم تحياته الحارَّة وترحيبه البالغ، فهو يعلم أنَّ سليم هو أعز أصدقاء ستيف، وستيف يحبُّه كما لو كان أخاه، بل هو أخوه، لأنَّني أنجبتُ أختاً له، روث، ولم أنجب ولداً آخر.
شكرنا السيدة على حسن استقبالها لنا وجميل حفاوتها بنا. وبعد أن أرشدتنا إلى جناح الضيوف، وتركنا حقائبنا فيه، ورجعنا إلى صالة الاستقبال، جلبت لنا الخادمة بعض المشروبات، وبعد قليل أخبرتْ سيّدةَ المنزل أنّ مائدة العشاء معدّة، فقالت السيدة:
ــ تفضلوا، لا بُدَّ أنكم تشعرون بالجوع بعد هذه الرحلة الطويلة.
قالت زوجتي:
ــ ولكنَّنا كنّا كثيراً ما نستريح في الطريق، ونتناول وجباتنا الاعتيادية.
في صالة الطعام، أتت الخادمة بكرسيٍّ عالٍ لولدي سامي ووضعته بين مقعدي ومقعد زوجتي التي كانت على يمين سيدة المنزل، على حين كان ستيف يجلس في المقعد المقابل لي.
أثناء العشاء، أخذت سيدة المنزل تحدّثنا عن الأنشطة الاجتماعية الخيرية التي اعتزلت مهنتها التعليمية للتفرُّغ لها، بعد أن انتُخِب زوجها عضواً في الكونغرس. وبعد العشاء، انتقلنا إلى صالة الجلوس المؤثَّثة بأرائك مريحة. وحملت السيِّدة بعض دُمى الأطفال ووضعتها أمام ولدي سامي، وهي تشجّعه على اللعب بها، وتقول:
ــ أحتفظُ بهذه الدُّمى في غرفة ستيف وأخته روث منذ أن كانا صغيريْن، فرؤيتها تذكّرني بطفولتهما وتمنحني سعادة غامرة.
صمتت لحظةً ثم أضافت قائلة:
ــ كم أتمنى أن يتزوَّج ستيف وينجب لنا حفيداً، مثل سامي، نسرّ به أنا وزوجي.
وجاءت الخادمة بفناجين القهوة وصَحناً مليئاً بقطع الشكولاتة البيضاء.
حملنا أنا وستيف فنجاني قهوتنا، وانتبذنا ركناً في صالة الجلوس مبتعدين قليلاً عن السيدتيْن اللتيْن راحتا تتجاذبان أطراف الحديث، وسامي يستكشف اللُّعَب والدُّمى الكثيرة واحدة بعد أُخرى.
وعندما أمسينا أنا وستيف وحدنا، أمعنتُ النظر في وجه ستيف أتفحَّصه. كان أشقر كما عهدته، ولكن غلالةً من أسىً شفيفٍ تخيّم عليه وتحجب بريق الفرحة والأمل الذي عهدتُه يطلُّ من قسماته الوسيمة. ارتشفتُ شيئاً من القهوة، وقلتُ :
ــ ستيف، كيف حالك؟
ــ لا بأس. كما أخبرتك في رسائلي، أزاول المحاماة في مكتب والدي، وأحقِّق نجاحاً ملحوظاً. وكما ذكرتُ لك من قبل، فإنَّ تخصُّصي هو القانون المدني، مثل والدي تماماً، فنحن لا نميل إلى الدفاع عن مجرمين محتمَلين، على الرغم من أنَّ أجدادنا الفايكنغ كانوا يقترفون أنواعاً عديدة من الإجرام.
ضحكتُ وقلتُ:
ـــ نعم لا أنسى أنّهَم اختطفوا أحد سفرائنا العباسيِّين العرب في أوربا وسجنوه أربع سنوات في كهوفهم الكئيبة حتى تمكَّن من الهرب. ولكنَّنا نسامحهم الآن، لأنَّ سليلهم ستيف محامٍ ناجح، ومنافحٌ عن قضايا العرب العادلة، وهو صديقي.
تريثتُ هنيهةً وأضفتُ قائلاً:
ــ طبعاً أنا مسرور لنجاحكَ المهني، ولكنّي أسأل عن نجاحٍ آخر. ألم تنجح في حبِّ فتاةٍ تكون شريكة حياتك. واعذرني إذا كنتُ أُلحُّ في هذا الموضوع الشخصي، لأنّ الزواج في ثقافتنا العربية ليست مسألة شخصية، بل عائلية أو تهمّ جميع أفراد العائلة بل العشيرة كلّها، وأنا لا أعدّ نفسي صديقك فحسب، بل أخاك كذلك.
ــ وأنا، يا سليم، أعتبرك أخي الوحيد، كما تعلم. ولكن صدّقني، سليم، لقد حاولتُ وحاولتُ كثيراً، ورافقتُ فتياتٍ كثيرات لوجبات في المطاعم، ونزهات في الحدائق، ولكن قلبي لم يخفق ولا مرَّة واحدة لإحداهنّ. إنّني لم أستعِد إيماني بنفسي، ولا ثقتي بأيَّة فتاة، بعد ما فعلته (غابي) بي.
كدتُ أصرخ في وجهه قائلاً: " لا تذكر اسمها أمامي." ولكنّي ضبطتُ أعصابي، وسيطرتُ على نفسي بصعوبة. وبغير إرادةٍ مني، ألفيتُ ذاكرتي تعود بي إلى أيام الصبا. وجدتُ عقارب الزمن تعود عشر سنوات إلى الوراء يوم كان عمري عشرين عاماً تقريباً في أواسط الستينيات، يومَ كنتُ طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت. ذات يوم، قرأتُ إعلاناً في لوحة الإعلانات بالجامعة، مفاده أنّ جامعة أوسلو تعلن عن منحةٍ دراسيةٍ لطالبٍ عربيٍّ في دورتها الصيفية مدّة ستة أسابيع. وبعثتُ بترشيحي دون أن يخامرني الأمل في الحصول عليها. ولشدَّ دهشتي وفرحتي أنَّني تلقَّيتُ جواباً بالقبول مع استبيانٍ من القسم الداخلي في الجامعة يستطلع رأيي في جنسيّة الزميل الذي أرغب في السكنى معه، لأنّ كلَّ غرفة في القسم الداخلي تأوي طالبيْن. ولما كنتُ آمل أن أواصل دراستي العالية في أمريكا عندما تسنح لي الفرصة، فإنّني أجبتُ بأنّي أرغب في السكنى مع طالبٍ أمريكيٍّ إنْ أمكن. طبعاً كان قصدي أن أحسّن من لغتي الإنكليزية وأتعرّف على عادات الأمريكيّين وعقليتهم. فالمعرفة الجيدة للغة وبيئتها تساعد على استيعاب المعلومات التي تُصاغ بها. ولم أدرِ آنذاك أنَّ الاستجابة لرغبتي في السكنى مع طالب أمريكي ميسورة جداً، لأنَّ معظم المشاركين في تلك الدورة الصيفية كانوا من الطلاب الأمريكيّين ذوي الأصول الإسكندنافية، لا لرغبتهم في التعرُّف على البلاد التي قدِم منها آباؤهم أو أجدادهم إلى أمريكا فحسب، بل كذلك لأنّ الجامعات الأمريكية تقبل منهم النقاط التي يحصلون عليها من الجامعات الأجنبية، ويعدُّونها خبرةً ومعرفةً مضافة. وكثيرٌ من هؤلاء الطلاب الأمريكان الذي يأتون للدراسة في جامعة أوسلو، هم من المتخصِّصين في الدراسات الإسكندنافية أو القانون والعلاقات الدولية أو اللسانيات أو ما أشبه ذلك، ولهذا فإنَّ الدورة الصيفية لجامعة أوسلو ذات جذبٍ كبيرٍ لهم.
وبناء على نصيحة من القنصلة النرويجية في بيروت حول أفضل وأرخص السبل للسفر إلى أوسلو، سافرت بقطار الشرق السريع إلى ألمانيا واشتريتُ سيّارةً مستعمَلةً من ميونيخ، وواصلت سفري بها إلى أوسلو لتمضية العطلة الصيفية، ثمَّ العودة بها إلى بيروت ليُتاح لي زيارةُ عددٍ من الدول الأوربية في طريق العودة.
عندما وصلتُ إلى أوسلو، وسجّلتُ في الجامعة، علمتُ أنَّ زميلي في غرفة السكن هو طالبٌ أمريكيٌّ في العشرين من عمره كذلك يدعى ستيف سندرسون.
من الوهلة الأولى شعرنا أنا وستيف بمحبَّة متبادلة، فقد كانت روحه شفّافة الصفاء، فيها براءة الأطفال، ورقّة الخلجان. وله ابتسامةٌ وادعةٌ تُشرق في وجهه الأشقر، وتنمُّ عن حبّ الحياة، ونبض الأمل الطاغي في مستقبلٍ رائع.
في أوَّل محادثةٍ لنا، أخبرتُ ستيف بأنّني لا أعدُّه زميلاً لي في السكن، بل صديقاً عزيزاً، أو بالأحرى أخاً لم تلده أمّي.
ابتسم ستيف لهذا الخطاب العاطفي الذي لم يعتَد عليه، وقال :
ـ وأنا كذلك، فقد طلبتُ من الجامعة أن يكون زميلي في السكن طالباً عربيّاً، ولم أعلم أنكَ العربي الوحيد في الدورة الصيفية. ولي صهر عربي أو أخ an Arab brother in law، فقد تزوجتْ أُختي روث زميلاً سوريا لها في الجامعة. ولهذا طلبتُ أن يكون زميلي في السكن عربياً، لأتعرَّف على عاداتكم أكثر. فقد قرأتُ كثيراً عن تاريخ العرب وديانتهم وتقاليدهم، إضافة إلى ما أخبرتني به أُختي عن طيبة أهل زوجها، وكرمهم، ودماثة طبعهم، وسمو خلقهم، وتمسُّكهم بالأسرة وأواصر المحبَّة والتكافل بين أفرادها.
ومنذ اليوم الأوّل، أخذنا أنا وستيف، نعامل أحدنا الآخر، لا كصديقيْن فقط، بل كأخويْن متضامنيْن، ورفيقيْن متلازميْن في معظم الأوقات: في المطعم والمقهى والنزهات القصيرة في الغابة المحيطة بالجامعة، على الرغم من أنّنا لم نتابع المسارات الدراسية نفسها، فقد اخترتُ أن أدرس الأدب الاسكندنافي، والنظام التربوي النرويجي، والمستوى الابتدائي من اللغة النرويجية؛ أمّا ستيف فقد كان يتابع المستوى العالي من اللغة النرويجية، والعلاقات الدولية، والاقتصاد المختلط. فقد كانت آنذاك ثلاث مدارس اقتصادية في العالَم: الاقتصاد الرأسمالي المطبَّق في أمريكا والدول الغربية، والاقتصاد الاشتراكي في الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية الأُخرى، والاقتصاد المختلط المتَّبع في الدول الإسكندنافية.
تصرَّفَ ستيف معي كما لو كان أخي فعلاً. فقد شرحتُ له أن مفهوم الأخوّة في الثقافة العربية أوسع منه بكثير عما هو عليه في الولايات المتحدة الأمريكية. فكلمة (الأخ) باللغة العربية مشتركٌ لفظيٌّ يعني " الشقيق"، و"الأخ من الأب أو من الأم" و "الصديق المخلص"؛على حين أنَّ لكلمة (Brother ) وحدها باللغة الإنكليزية معنىً ضيقاً واحداً هو " الشقيق" أما "الأخ من الأب أو من الأم" فهو "نصف أخ = Half brother ". وبيَّنتُ له كيف أنَّ المُسلِم يكتسب أخاً إذا رضع مع طفلٍ آخر مدَّةً معيَّنة من ثديٍ واحد، سواء أكان هذا الثدي لأمِّ أحدهما أو لمرضعةٍ أُخرى. ولهذا فقد كثرت الأمثال والأقوال في الثقافة العربية التي تبرّر وجود إخوة لك من غير الأشقاء، مثل " ربَّ أخٍ لك لم تلده أُمّك."
كنتُ على وشك أن أسوق له أدلَّةً أخرى على رأيي مثل مؤاخاة الرسول (ص) بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وعهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر، واليه على مصر، الذي كان معظم أهلها من الأقباط، وفيه يقول الإمام للأشتر: إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق (أي أخ لك في الإنسانية)، وهذا يدل على المعنى الواسع للأخوّة في الحضارة العربية. ولكنَني لم أسرد هذه الأدلة، لا لأنني لمحت أمارات الاقتناع برأيي على ملامح وجه ستيف، بل لأنَّني خشيتُ أن يقول لي ستيف: ولماذا ما تزال دولكم العربية تتصرف من منطق عشائري أو طائفي ولا تنظر إلى الناس بوصفهم مواطنين، عليهم واجبات ولهم حقوق على الدولة. ولهذا اكتفيتُ بأدلتي السابقة.
المهمّ أن ستيف اقتنع بنظريتي عن الإخوّة. ولهذا عندما أعلنتِ الجامعة عن إتاحة الفرصة لطلّاب كلِّ قوميةٍ لتنظيم أمسيةٍ ترفيهية، يعرضون فيها شيئاً من موسيقاهم وأغانيهم، وحضارتهم، وبعض قضاياهم الاجتماعية والوطنية، قلتُ لستيف:
ــ تمنيتُ لو أستطيع تنظيم سهرةٍ عربية، وأتحدّث فيها عن القضية الفلسطينية ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ولكنَّني هنا العربي الوحيد، كما أني لا أملك أيَّة أفلام للعرض أو اسطوانات غنائية.
قال لي ستيف:
ــ أنا أخوك وسأساعدك في تنظيم الأمسية على أحسن وجه، وفي وسعك أن تطلب من السفارات العربية في أوسلو إمدادك بأفلام سياحية وترفيهية.
قلت:
ــ لا توجد في أوسلو من السفارات العربية إلا المصرية. سأتَّصل بها وأرى.
لم يكتفِ ستيف بمساعدتي في تنظيم القاعة وتشغيل جهاز عرض الأفلام فحسب، بل شارك كذلك في عرض القضية الفلسطينية، وتناولها من الناحية القانونية وفي ضوء حقوق الإنسان، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تقترفها إسرائيل بحقِّ السكان الفلسطينيّين حين تقتلعهم من مساكنهم وتصادر أراضيهم.
وتعرّض ستيف لاستهجان بعض زملائه الطلبة الأمريكيّين ونقدهم الشديد لآرائه في تلك الأمسية، فكان يردّ عليهم بهدوء قائلاً:
ــ علينا نحن، طلاب المعرفة ، أن نرتفع عن التعصّب ونتَّصف بالروح الموضوعية، وأن ننظر إلى حقوق الإنسان واحترامها بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه. وإذا أردنا أن نتحدّث بوصفنا أمريكيِّين، فعلينا أن نعلم أن أمريكا ليست إسرائيل، وأنَّ مصالح بلادنا مع البلدان العربية أكبر من مصالحها مع إسرائيل، وتحيّزنا لهذه الدولة سيؤدّي إلى الإضرار بمصالحنا مع البلدان الإسلامية.
وفي يوم من أيام الأسبوع الأوّل من الدورة، وكنتُ ممدَّداً على السرير في غرفة السكن الجامعي، طُرِق الباب وفُتِح باب الغرفة، ودخل ستيف مشرق الوجه باسم الثغر، وحالما رآني صرخ قائلاً:
ـــ سليم، سليم، وجدتها، وجدتها.
ـ ماذا وجدتَ؟ الحقيقة؟ تفاحة نيوتن؟
ـــ لا، بل فتاة أحلامي، شريكة عمري. أكان عليّ أن آتي من أمريكا إلى النرويج لأعثر عليها؟ إنَّه القدر، أو المكتوب، كما تقولون.
سألته بشيء من الاستغراب:
ـ هل هي أمريكية؟
ــ لا، هولندية، رائعة، رائعة، تماماً كما تصوّرتُها في أحلامي.
قلتُ له مازحاً:
ـ لا بد أنها سمينة غليظة كالأبقار الهولندية.
ضحك وقال:
ـــ لا، اطمئنْ. إنّها رشيقةٌ هيفاءُ كظباء جزيرتكم العربية.
صمتَ لحظةً وقال:
ـ عندما تراها أنتَ ستحبّها كذلك. ولكن إيّاك أن تنافسني في غرامها، وإلا ستصيبك آلام فيرتر. وأنا أخشى منافستك، ففتيات أوربا ما زلن مفتونات برومانسية القرن التاسع عشر، والشابُّ العربيُّ الوسيم، مثلك، عملةٌ نادرةٌ يتهافتن عليها.
ـ لا تكيل الثناء عليَّ، فإنا لست ممن يطربني المديح المصطنع.
قال ستيف:
ـ أنا مخلص في ما أقول. المهمُّ، أنَّني دعوتها للعشاء معي غدا، ليس في مطعم الجامعة، بل في مطعم الملكة في خليج أوسلو، وأنا أدعوك كذلك ليكون سروري مضاعفاً.
ـ لا، شكراً ستيف. ليس من اللائق أن تصطحب شخصاً ثالثاً في موعدٍ غرامي. ألم تسمع بالمثل العربي: " كلُّ سرٍّ جاوز الاثنين شاع"؟
قال ستيف:
ـ لا، ولكنَّك أخي ولست شخصاً ثالثاً. كما أني لا أريد أن يبقى حبّي سرّاً، يل أريد العالم كلَّه أن يعرف أنّي أحبُّها، فأنا فخور بها.
ـ ستيف ، أنتَ مندفع، تريَّثْ قليلاً حتى تعرفها جيّداً.
ــ أشعر أني أعرفها منذ زمن طويل، منذ أن أبصرت النور في هذا العالم، بل إنّي وقعتُ في حبِّها قبل مجيئي إلى هذا العالم.
سكتَ لحظة وقال بانفعالٍ وجدانيٍّ شديد:
ـــ ستحبّها أنتَ كذلك، يا سليم، ستحبّها من كلّ قلبك. ما مِن رجل يراها إلّا ويقع أسير سحرها وفتنتها.
قلتُ:
ـــ ستيف، طبعاً ستعجبني، لأنَّها تحبُّك وتحبّها. وكلُّ مَن تحبّ وما تحبّ، حبيبٌ إلى قلبي.
قال ستيف بحماسة ظاهرة:
ـ متى تريد أن تلتقيها، لأرتّب موعداً آخر لنا؟
قلتُ:
ــ ستيف، ترَّيث قليلاً، لننتظر حتى تتوثَّق علاقتكما، وتعرفها بصورةٍ أفضل.
قال باندفاع كبير:الخيال العليا.
وأخيراً رتّب ستيف لقاءنا ــ نحن الثلاثة ــ تحت خميلةٍ في الغابة التي تحيط بالجامعة وتحتضنها، كما تحتضن الأم وليدتها الصغيرة، لتحميها من برودة الليل، ووهج شمس ضعيفة الحرارة واهنة، معلَّقة في كبد السماء لا تتحرّك.
التقينا حوالي الساعة العاشرة مساءً بعد وجبة العشاء. كنتُ في انتظارهما تحت الخميلة، والشمس باهتة الضوء في السماء. أقبلتْ معه بجسمها متوسط الطول الرشيق اللدن مثل قدِّ الغزال الأهيف، ومشيتها مموسقة موقّعة كمشيةِ عارضةِ أزياء ممشوقةِ القوام عاجيَّة الساقيْن؛ أمّا وجهها الأشقر فكان مشرقاً صبوحاً قبل الأوان؛ وتكشف ابتسامتها عن أسنان منظومةٍ كاللؤلؤ شديد البياض. وقفتُ مرحباً بهما. قال ستيف يخاطبها:
ـــ غابي، هذا أخي سليم.
مددتُ يدي إليها لمصافحتها، ولكنّها فتحت ذراعيها وعانقتني وضمّتني إلى صدرها الريّان. أحسستُ به ناهداً مثل وسادة صغيرة لينة يغمرني بدفئه اللذيذ، فيوقظ حواسي مثل مغطس ملئ بماء دافئ يغسل آثار النوم في عينيّ بعد أن أستيقظ من النوم ويسلّمني إلى يوم عمل جديد بنشاط متوثّب.
تحدّثنا باسترخاء أشبه ما يكون باسترخاء شمس أوسلو في ليلةٍ صيفيةٍ ممتدَّة. ومنذ تلك الليلة، قسّم ستيف أوقات فراغه إلى نصفيْن: نصف يمضيه مع غابي في غرفتنا وأنا متغيّب، ونصف يقضيه معها بحضوري في تناول الوجبات اليومية في مطعم الجامعة، ومشاهدة المسرحيات في المسرح البلدي، والاستمتاع بالحفلات الموسيقية في الأوبرا، والاستماع إلى المحاضرات الجامعية العامّة، والمشاركة في الأنشطة اللامدرسية، وكنا نشارك في هذه الأنشطة جالسين أو واقفين جنباً إلى جنب: غابي في الوسط وستيف على يمينها وأنا على يسارها. وكثيراً ما تفرد غابي ذراعيها مثل جناحَي حمامة وتضعهما حول خصرينا، ويمدُّ ستيف ذراعه اليسرى على كتف غابي، ويطلب مني أن أمدَّ ذراعي اليمنى على كتفها كذلك لتصافح يده يدي على عنقها العاجي الطويل فيشعر بدفء الأخوة، كما قال لي. فتلازم أيدينا نحن الثلاثة رمز لوثاق المودَّة الذي سيربطنا إلى الأبد. وشيئاً فشيئاً، أخذ يراودني شعور قلِق بأنَّ غابي هي أختي أو كما يقولون بالإنكليزية: a sister in law . وكنتُ أقول في نفسي إذا كانت أذرعنا كثيراً ما تتعانق وأيدينا غالباً ما تتشابك بصورة ملتبسة غامضة غموض الغابة الشاسعة الداكنة التي تحيط بجامعة أوسلو، فإنَّ الأمور لعقلي كانت واضحة وضوح الشمس في سماء بابل نهاراً. فستيف هو أخي وهي حليلته. وسارت الأمور بحلاوة على هذا النحو.
في منتصف شهر آب/ غشت، انقضت الأيام الجميلة التي سحرتْنا خلال الدورة الصيفية لجامعة أوسلو. وكان علينا أن نغادر النرويج. بيدَ أنّا ــ نحن الثلاثة ــ كنّا نتشبث بالبقاء سويةً أطول مدَّةٍ ممكنة، كما يتشبث الحالم بالنوم بعد أن يستيقظ، أملاً في استمرار حلمه الجميل.
قال ستيف مخاطباً غابي:
ــ غابي، أقترح أن لا أعود بالطائرة من أوسلو إلى نيويورك. سأغير مسار تذكرتي. سأرافق سليم بسيّارته إلى ميونخ ومن هناك سأستقلُّ الطائرة إلى نيويورك. وأقترح أن ترافقينا بالسيّارة حتّى ميونيخ ومن هناك تستقلّين القطار إلى أمستردام.
أجابت غابي بلا تردد:
ــ طبعاً، هذا رائع. سنكسب بعض الوقت سوية. وسنمضي ليلةً معاً في كوبنهاغن.
كنا ــ نحن الثلاثة ــ بلا تجربة حياتية، فلم نخطِّط للإنفاق طبقاً لما لدينا من مال. وقد أنفقنا معظم ما عندنا من نقود أثناء الدورة الصيفية في جامعة أوسلو. وأخذ رصيدنا يتضاءل بسرعة، كما يتناقص الماء في قربة مثقوبة يحملها بدوي في هجير الصحراء. وما إن وصلنا إلى كوبنهاغن، حتى وجدنا أنَّ ما لدينا من مال لا يمكِّننا من تمضية ليلة في فندق، فأخذنا نبحث عن نُزلٍ رخيصٍ نكتري فيه غرفةً واحدةً فقط. وعثرنا على النزل المنشود، فقالت صاحبته باستغراب:
ـ ثلاثتكم في غرفة واحدة؟!
أجاب ستيف مبتسماً:
نعم، نحن طلاب، وهذه خطيبتي وهذا أخوها.
قالت السيدة وقد بدت أمارات الشكّ على محيّاها:
ـ طيّب. اسمحوا لي بجوازات سفركم لتسجيلها في سجل الضيوف.
ناولناها جوازات سفرنا، فقلّبتها، وقالت بأدبٍ واستحياء:
ــ أستطيع أن أفهم أنَّ أمريكيا يتَّخذ له خطيبةً أو زوجة هولندية. ولكنّي لا أفهم كيف يكون لهذه الهولندية أخٌ عربي.
قال ستيف بابتسامة:
ــ هذا أمر بسيط. إنّه أخوها بالرضاعة.
قالت السيدة باستحياء:
ــ أنا لم أكمل دراستي الجامعية. وقعت الحرب العالمية الثانية فانقطعتُ عن الدراسة. وبعدها ساءت أحوالنا فاضطررتُ إلى العمل. فاعذرني إذا لم أعرف مصطلحات مثل "أخوها بالرضاعة".
قال ستيف مستأنفاً عبارته:
ــ هذا أمر بسيط. عندما كان رضيعاً في صحاري بلاد العرب، جفّ ثديا أُمِّه، وجفّت أضرع النوق، فاضطروا إلى أن يسقوه حليب نيدو الهولندي، وهو نفس الحليب الذي كانت أمها تسقيها إياه عندما كانت رضيعة، لأنّ أمها كانت تخشى أن تؤثر الرضاعة الطبيعية على شكل نهديْها. وطبقاً لقوانين بلاد العرب أصبحا أخاً وأختاً بالرضاعة. ولا يحقّ لهما الزواج أو ممارسة الجنس معاً. الأخوّة شيء جميل، سيدتي، صدّقيني.
قالت السيدة الدنماركية باستحياء، وكأنّها تخجل من جهلها بهذه المصطلحات المعقَّدة، وهي تناولنا جوازات السفر ومعها مفتاح الغرفة :
ــ بصراحةٍ، أنا لم أسمع بشيءٍ اسمه أُخوَّةٌ بالرضاعة، ولكنَّي أصدِّق ما تقول.
قلتُ وأنا أجاهد في منع نفسي من الضحك عالياً:
ــ سيّدتي لا يهمُّ المسمَّيات، وإنَّما الذوات والوقائع. فستيف صديقي، وهو خطيبها، ولا يمكن أن يكون لها أكثر من صديق أو خطيب أو زوج في آن واحد. أليس كذلك، يا غابي؟
هزَّت غابي رأسها وهي تتناول مفتاح الغرفة من السيدة، وتقول:
ـ ستيف، سليم، اجلبا الحقائب من السيّارة، رجاء.
كان السرير الوحيد في الغرفة صغيراً لا يكفي لأكثر من شخصيًن، فقلتُ:
ــ سأنام على بطانية على الأرض.
اعترضَ ستيف وغابي في آن واحد قائليْن:
ــ مستحيل، سننام جميعاً على السرير.
انتبذتُ أقصى طرف من الفراش وتمدَّدتُ ووجهي إلى شباك الغرفة. وقفزت غابي مرحةً إلى وسط السرير ثمَّ سحبت ذراع ستيف بقوة ووضعتها حولها، ثمَّ أخذت ذراعي بلطف ووضعتها على صدرها وهي تقول لي:
ــ عانقني، يا أخي الحبيب.
في صباح اليوم التالي، ونحن نتناول الفطور الذي أعدَّته السيدة صاحبة النزل، قلتُ:
ــ ما رأيكما في زيارة قلعة (هملت) المشهورة، على مدخل بحر البلطيق. فمشاهدة الأماكن التي جرت فيها وقائع مأساة شكسبير الرائعة، ستعمّق من إدراكنا كيف أن أمَّ هملت خانت زوجها وشاركت في اغتيال زوجها الطيب، وتسببت فيما بعد بتعاسة ابنها ومقتله.
قال ستيف:
ــ أحسب أن شكسبير بالغ في تصوير ذلك، فالأدب لا يكون أدباً إلا إذا أقلع من أرض الواقع وحلّق في فضاء الخيال الرائع.
قلتُ معترضاً:
ــ ولكن، أنتَ تعلم أن شكسبير اعتمد على وثائق ومستندات حقيقية في كتابة مسرحياته التاريخية.
قالت غابي بشيء من الضيق وبنبرة تضع حدّاً لهذه المناقشة:
ــ صدّقني، سليم، إن قلعة كرونبورغ في مدينة هلسنغور التي يسموّنها قلعة (هملت)، هي قلعة عادية لا تختلف عن أيَّة قلعةٍ أوربيةٍ أخرى. أُضف إلى ذلك إن ما تبقَّى لنا من نقود لا يسمح لنا بهذه الرحلة. الأفضل الاحتفاظ به لتكاليف رحلة العودة.
وهكذا، حملنا حقائبنا من الغرفة، واتّجهنا بها إلى السيّارة لنواصل سفرنا إلى ألمانيا. وعند وصولنا إلى مدينة هانوفر، كانت نقودنا على وشك أن تنفد، ولا وقود يُذكَر في السيّارة. جلسنا في حديقة عامَّة نتدارس الأمر وكيف نخرج من ذلك المأزق. وأخيراً قالت غابي:
ــ سأشتري بما تبقى لنا من نقود تذكرةَ سفر بالقطار إلى هولندة. ومن هناك سأبعث لكما بحوالةٍ نقديةٍ كافيةٍ لمواصلة سفركما. أمّا أنتما، فعليكما أن تقيما في فندق صغير إلى حين تصل حوالتي على عنوان الفندق.
صمتنا، فأضافت قائلة:
ـ حوالةٌ برقيةٌ لا تستغرق أكثر من يومٍ أو يوميْن.
وهكذا فعلنا. استأجرنا غرفةً لشخصيْن في فندق صغير. وكان ذلك الفندق يقدِّم وجبة الفطور فقط للنزلاء. ولهذا كنا نأكل أكثر ما يمكننا في وجبة الفطور، ونظلَّ شبه صائميْن حتى المساء فنشتري قطعتَي سجق فرانكفورتي مشوية من عربة متجولة. كنتُ أغالب الجوع بالقراءة، بقراءة رواية " جين أير" للكاتبة البريطانية شارلوت برونتي وهي رواية مغرقة بالرومانسية. فكان الجوع يوهّج أحاسيسي فتبدو المشاعر أكثر رومانسية، والأحداث أعظم درامية.
بعد يومين أو ثلاثة، وقد ضرّنا الجوع، قال لي ستيف:
ــ لديَّ فكرة. نذهب إلى مطعم جيّد، ونطلب وجبةً فاخرةً، ونأكل حتّى نشبع، ثمَّ نخبرهم بأنّنا لا نملك النقود. ولن يفعلوا شيئاً إذا عرفوا أنّني أمريكي.
ــ أنتَ واهم، يا ستيف. وقد أعماك غرورك عن الوقائع والحقائق. لقد نسيتَ أن الناس هنا في ألمانيا يكرهون الأمريكان، فقبل عشرين عاماً فقط أذقتموهم الأمَرَّين بقصفكم الجوي حتّى بعد استسلام ألمانيا وانتهاء الحرب بعدّة أيام.
ــ الوقائع تقول إنَّ قواعدنا العسكرية منتشرةٌ في هذه البلاد. هذا واقع. وهم وحلفاؤنا اليوم ويعاملون الأمريكان بلطف. هذه حقيقة.
واصل ستيف إلحاحه عليّ لتناول وجبةٍ دسمةٍ في مطعمٍ فاخرٍ، فخامرني شكٌّ بشيء، وقلتُ له:
ـ لا بُدَّ أنَّ حوالة غابي قد وصلتك. وإذا كان الأمر كذلك، فأنا أقبل دعوتك لي للغداء بكلِّ رحابة صدر.
في ذلك اليوم بعد الغداء، ركبنا السيارة وواصلنا سفرنا إلى ميونيخ، حيث ذهبنا إلى المطار، وقبل أن يستقلّ ستيف الطائرة المتَّجهة إلى نيويورك، أعطاني معظم النقود التي كانت معه، وهو يقول:
ـ أنا لا أحتاج إلى هذه النقود، فلدي تذكرة السفر من نيويورك إلى مينابولس. أما أنتَ فتحتاجها لشراء الوقود لسيارتك حتى بيروت.
ودّعتُ ستيف في مطار ميونيخ بقلبٍ حزين. وشعرتُ حقّاً بأنّه أخٌ لي شاركني السراء والضراء خلال هذه المدّة التي لن تُنسى. وظلّت ذكريات ذلك الصيف تمرّ أمام ناظري، وأنا أقود السيّارة في ربوع أوربا، فتشغلني عن التمتُّع بالمناظر الطبيعية الخلّابة التي أمرُّ بها. كانت تلك الذكريات والمشاعر التي خالجتني أحلى من جميع الربوع الجميلة التي مررت بها: أحلى من مرتفعات بادن بادن في النمسا، وأحلى من الغابة السوداء في ألمانيا، بل أكثر إثارة للمشاعر والأحاسيس الإنسانية من الجبال الوعرة ذات الطرق الخطيرة في تركيا.
حالما وصلتُ بيروت، وجدتُ رسالة من ستيف في انتظاري. كلماتها تفيض عاطفةً وحناناً، وعباراتها تتدفق شوقاً وحنيناً. وكلُّ نقطة فيها توثّق أواصر المحبَّة بيننا، وتمتِّن روابط الأخوَّة الدائمة.
لم أجد رسالةً من غابي. ولم يُثِر ذلك استغرابي. فأنا أفترض أنّها تكتب إلى حبيبها المتيَّم، أخي ستيف. وحتى لو كتبتْ إليَّ، لأجبتها بأنَّني بخير ما دام أخي ستيف سعيداً بحبِّها، ولوَجَّهتها بالكتابة إليه أكثر وأكثر.
في رسالته الثانية إليّ تحدّث إليّ ستيف عن حبّه العظيم لغابي وغرامه الكبير بها، وكيف أنَّ الفراق قد أجَّج مشاعره الإنسانية النبيلة تلك. وأخبرني بأنَّه كتب إليها يدعوها لتمضية عطلة عيد الميلاد خلال شهر ديسمبر معه ومع عائلته في مينابولس. وأسرّني بأنَّه يحتفظ لها بمفاجئةٍ سارّة، هي إعلان خطوبتهما. وأخبرني كيف أنَّه اشترى خاتم خطوبة غالي الثمن تتوسَّطه قطعة ألماس جميلة تتوافر فيها مواصفات الصفاء الشفاف، والقطع الدقيق، والحجم المناسب؛ وكيف أنه سيجثو على ركبتيْه أمامها ويسألها والدموع تتلألأ في عينيْه أن تقبل به زوجاً. وعندما تصدر منها أية نأمة بالموافقه سيفتح كفَّه المضمومة لتطير منها فراشة بيضاء مخلِّفةً خاتم الخطوبة الخلّاب، "وبعدها لن أدعها تعود إلى أوربا، ولن نفترق حتّى يشتتنا الموت، لنلتقي في العالم الآخر مرَّةً أُخرى".
أحسستُ وأنا أقرأ رسالته بلظى أشواقه تحرق أعماقه، وحرارة حبّه تذيب وجدانه دمعاً. ومن غير تفكير، وجدتني استلُّ قلمي لأسطّر رسالة إلى غابي مفرداتها أزاهير ملوَّنة، وجملها عصافير مزقزقة، أنصحها فيها أن تكون مستعدَّة لجميع المفاجاءات السارة والاحتمالات السعيدة أثناء سفرتها القادمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتمضية عطلة عيد الميلاد مع ستيف.
بيدَ أن المفاجأة أصابتني أنا، مفاجأة غير سارة، بل حزينة أليمة. وأشدُّ النكبات إيلاماً تلك التي تحلّ بنا ونحن نسبح في غمرة الفرح نحو مرافئ السعادة والأمل. لا أريد أن أخبرك ــ عزيزي القارئ ــ بتلك المفاجأة الحزينة، لأنني كلما تذكّرتها أو ذكرتها، تناوشتني نصال الخيبة، وقطّعتني سكاكين الغضب الأعمى.
تمثّلت تلك المفاجأة الأليمة في صورةِ رسالةٍ وصلتني من ستيف، يقول فيها إنَّ غابي رفضت دعوته لتمضية عطلة عيد الميلاد مع عائلته، وأبلغته بقطع علاقتها معه قطعاً باتّاً.
شككتُ في فهمي لمضمون الرسالة القصيرة. لا بُدَّ أن عائقاً ما حال دون استيعاب مضمون الرسالة التي تلقّيتها. كثيراً ما نفهم عكس مضمون الرسالة لخلل في واسطتها أو لغتها، أو لخلل في فهمنا نحن لقواعد التواصل، أو بتأثيرٍ من توقُّعاتنا المخالفة. أعدتُ قراءة الرسالة. إنّها واضحة، لغتها سليمة، لا يشوبها معوّق ولا خلل: غابي ترفض دعوة ستيف لتمضية عطلة عيد الميلاد معه. غابي تنهي علافتها العاطفية مع ستيف تماماً.
كلماتٌ واضحةٌ وضوحَ الشمس في شهر تموز في بلاد سومر. ولكنَّها غير مفهومة داخل سياق القصَّة، ولا تنتمي إليها، ولا تتفق مع توقُّعات القارئ النبيه ولا استنتاجاته المنطقية. فهذه النتيجة المؤلمة لا تتمخَّض أبداً عن المقدِّمات السعيدة التي مرّت بنا. ولهذا لم أفهم الرسالة على قصرها، وبساطة كلماتها، وسهولة تراكيبها.
وكما تتوقَّع، فإنَّني كنتُ أتلهَّف لمعرفة السبب، ولا أستطيع أن أنتظر لأتخلَّص من مارد حبِّ الاستطلاع الذي استيقظ في أعماقي وسيطر على حواسي ووجداني. ليت لي هدهد سليمان ليأتيني بالخبر اليقين قبل أن يرتد إليَّ طرفي. ولكن هذا الهدهد العجيب لم يخترعه العِلم إلا بعد عشرين عاماً من فعلة غابي النكراء الشنعاء، على صورة بريد إلكتروني.
ولهذا لجأتُ إلى الوسيلة العلمية المتاحة لي آنذاك. ذهبتُ إلى مكتب البريد والتلغراف في ساحة الشهداء في بيروت، وأرسلتُ برقيةً إلى ستيف تتألَّف من كلمةٍ واحدة: لماذا؟! وجاءني الجواب في اليوم التالي ببرقيةٍ من كلمتيْن: لا أدري.
وفي فورة غضبي، وتأزُّمي النفسي، عزمتُ على إرسال برقية أخرى إليه أقول فيها: "أسألْ. فالجهل دواؤه السؤال، أيّها الجاهل". ولكنَّني وأنا في طريقي إلى مكتب البريد والتلغراف قلتُ في نفسي: إن ستيف الآن في حالةٍ يُرثى لها حقّاً. وحتّى إذا برَّرتْ له غابي سوء تصرفها وخطل قولها، فإنَّه لن يفهم كلامها. لا فائدة من تبادل البرقيات بيني وبين ستيف، ولا حتّى بيني وبين غابي ذاتها. ينبغي أن أجابه غابي وجهاً لوجه، وأغرز عينيَّ في عينيْها، وأقذف في وجهها السؤال: " لماذا"، مثل رصاصة قاتلة.
قرَّرتُ في ذات نفسي أن أسافر إلى هولندة بأسرع وسيلةٍ ممكنة وهي الطائرة، مهما كلّفني ذلك. ألا تستحقُّ المعرفةُ وعثاء السفر والتضحية بالمال؟ ألم يشدَّ الرحال أسلافنا من أجل التأكُّد من موضعِ كلمةٍ في عبارة؟ وبدلاً من مواصلة السير إلى مكتب البريد والتلغراف، وجدتني ألج وكالة سفريات في ساحة الشهداء، وأطلب حجز تذكرةِ سفرٍ في أوّل طائرة متَّجهة إلى أمستردام. تذكرة ذهاب وإياب، ليومٍ واحد. هذا كلُّ ما أحتاجه لوضع حدٍّ لدوّامة التساؤلات والهواجس والشكوك التي اجتاحتني. لم أفكِّر في ثمن التذكرة التي سترهق ميزانيتي للعام الدراسي بأجمعه. كلُّ ما أحتاجه وأنشده في هذه اللحظة هو أن أرى هذه اللعينة المسماة (غابي) وأسمع منها الحقيقة عاريةً، بعباراتٍ لا لبس فيها، وتخلو من لفِّالخمار ودوران الحِجاب. كنتُ على استعداد لأضحّي بكلِّ ميزانيتي لمجرِّد أن أقف على أسباب نقضها لجميع مواثيق المحبة والهيام، وكلِّ عهود الودّ والغرام التي قطعتها لستيف على مسمعٍ منّي، لمجرّد أن أعرف، أن أطلع على السبب الحقيقي، أن أتعلَّم؛ فقد يكون هذا الدرس الذي لا يتجاوز دقائق معدودة، أبلغ من جميع الدروس والمحاضرات والمسارات العلمية التي تلقيتُها في جامعة أوسلو، وأكثر منها التصاقاً بالحياة.
كانت تذكرة سفري تتضمَّن عودة مؤكدة في اليوم التالي، وفي نيتي أن أذهب إلى مكتب الفنادق في مطار أمستردام لأحجز في أحد الفنادق في لليلة واحدة. ولكنَّني عندما وصلتُ الى مطار أمستردام، لم أبحث عن مكتب الحجز في الفنادق، بل وجدتُ نفسي أمام منضدة اقتناء تذاكر الحافلات، لأشتري تذكرة حافلة تقلّني من المطار إلى مدينة لايدن التي لا تبعد عن مطار أمستردام إلا بخمسة وعشرين كيلومتراً.
حينما هبطتُ من الحافلة في موقف الحافلات في لايدن، وقفتُ في خط انتظار سيّارات الأجرة الصغيرة التي كانت منتظمةً منتظرةً أمام موقف الحافلات، وركبتُ أوّل سيارة أجرة متاحة، وأنا أناول سائقها ورقة صغيرة كُتِبَ عليها عنوان منزل غابي.
طرقتُ باب المنزل، ولم أُتِح الوقت الكافي للاستجابة بل أعدتُ الطرق ثانية وثالثة قبل أن تفتح الباب سيّدة نصفٌ تلوح على وجهها أمارات الدهشة التي ازدادت بعد أن رأت وجه الطارق الأسمر الغريب. عاجلتُها بالقول:
ــ صباح الخير، سيدتي. كنتُ صديق غابي في جامعة أوسلو هذا الصيف المنصرم. وأودُّ أن أراها بضع دقائق فقط.
ــ أنتَ لستَ ستيف؟!
ــ لا، أنا أخوه...، أقصد صديقه الحميم سليم.
قالت المرأة:
تفضّل، أدخل أرجوك.
ــ لا، شكراً، لا داعي للإزعاج. كلُّ ما أريده أن أرى غابي بضع دقائق فقط، هنا عند الباب.
قالت السيدة بلطف:
ـ أرجوك، ادخل، وسأشرح لك.
دخلتُ في غرفة الانتظار، وكان فيها شيخ يطالع كتاباً وهو بمنامته، قدّمته السيد بوصفه زوجها، والد غابي.
قلتُ وأنا أهمُّ بالجلوس:
ــ وأين غابي؟
ــ إنّها مع زوجها.
وهنا وجدتني أصرخ في وجه المرأة:
ــ زوجها؟ وماذا عن ستيف؟
قالت السيدة بلباقة:
ــ أولاً، ماذا تودّ أن تشرب؟ القهوة أم الشاي؟ سأتصل بغابي هاتفياً لتوافيك هنا وتشرح لك كلَّ شيء.
ــ شكراً لا أريد أن أشرب شيئاً. ولكنّي يقيناً أريد أن أرى غابي.
بعد دقائق حسبتها دهراً، دخلت غابي. كان الشرر يتطاير من عينيَّ غضباً وحقداً. ولو كان بإمكان النظرات الحادَّة أن تقتل إنساناً، لقُتِلت غابي مراراً بنظراتي الشزراء تلك.
قالت غابي:
ــ أهلاً سليم.
ــ لا أهلاً ولا سهلاً، غابي. أريد فقط أن أفهم لماذا اقترفتِ هذه الجريمة البشعة بحقَّ ستيف. ألم يكُن مخلصاً صادقاً معك؟
ـ سليم، أرجوك أن تسمح لي بدقيقتيْن فقط لأشرح لكَ كلَّ شيء. عندما ذهبتُ إلى أوسلو في شهر يوليو/تموز الماضي، كنتُ مخطوبةً منذ سنتيْن لأحد زملائي في الجامعة. وكان من المقرَّر أن نتزوج هذا العام بعد تخرُّج خطيبي. وكنتُ قد تخرّجتُ قبله وبدأتُ العمل معلِّمةً في مدرسة ابتدائية في لايدن. عندما التقيتُ ستيف في جامعة أوسلو، وجدتني أقع في حبِّه من النظرة الأولى، أغرم به، أهيم به، وأنسى نفسي وأنسى ذاتي. أنسى تاريخي وأنسى وطني وأنسى عائلتي ومدرستي وخطيبي وجميع شؤوني. لم تعُد عيناي تريان إلا ستيف. فقدتُ السيطرة على نفسي، على عقلي، على أحاسيسي.
صدِّقني، سليم، أنَّني أحببتُ ستيف بكلِّ جوارحي، وبكلِّ أمانة، وبكلِّ صدق. وكنتُ مخلصةً في جميع عهودي ووعودي. ولكنَّني عندما عدتُ إلى لايدن في نهاية الدراسة الصيفية في أوسلو، ألفيتني أرجع إلى غابي التي كنتُها، إلى ذاتي القديمة. وجدتُ روحي التي كانت محلِّقة في سماوات الخيال والحبّ والغرام، تهبط من الأعالي لتدخل في جلدي القديم، لأعود إلى بيئتي القديمة، ومدرستي القديمة، وصحبتي وشلتي القديمة. ألم تسمع بأولئك الذين تتوقَّف قلوبهم عن النبض، فيفارقوا الحياة، ثمَّ يقوم الطبيب بتدليك القلب ليعود إلى النبض، فيُبعثون إلى الحياة ثانية، وعندما يُسألون عما رأوا أثناء وفاتهم، يقول معظمهم أن أرواحهم قد حلّقت في أجواء سماوية نورانية سعيدة، ولكنَّهم فجأةً رأوها تهبط إلى الأسفل لتدخل في أجسادهم القديمة، فيعودون إلى حياتهم السابقة؟ هذا ما حصل لي: عادت روحي من جنّة أوسلو الصيفية إلى خريف لايدن الغائم القاتم. وعندما جاء خطيبي إليّ في منزل والديّ، واقترح موعداً لإتمام الزواج في الكنيسة، وجدتني بغير إرادةٍ مني لا أعترض على شيء. فيتمُّ الزواج والانتقال معه إلى المنزل الذي أمضينا سنةً في تأثيثه وإعداده ليكون منزل الزوجية لنا.
وفيما هي تتكلَّم كانت عيناي تقدحان شرراً وحقداً وازدراءاً. وفجأة قلتُ باشمئزازٍ وبصوتٍ غاضب عالٍ:
ــ أنتِ معلّمة؟! أيَّة أخلاق ، وأيَّة مُثُل، وأيَّة قيم تعلِّمين صغار تلاميذك؟ أتعلِّمينهم الكذب؟ الكذب ليس مجرّد بالقول بل كذلك بالصمت، وبإخفاء الحقائق. أتعلِّمينهم تمضية عطلةٍ صيفيةٍ أثناء فترة الخطوبة في مدينة أخرى لممارسة الجنس مع شخص آخر، وفي نهاية العطلة يرجعون ليتزوجوا الخطيب المخدوع؟ ما هذا العبث؟ إنني أرثي لتلاميذكِ. أكاد أتقياً من أخلاقكِ الدنيئة؟ أتعلمين أنكِ ألقيتِ بستيف على درب الآلام والمعاناة دون أن يقترف ذنباً؟؟ لا، لا أريد أن أراك، ولا أريد أن أرى الدار التي نشأتِ بها، ولا أريد أن أرى البلاد التي تعلّمتِ فيها.
وانفلتُّ خارجاً إلى الشارع، وأنا أصرخ:
ـ سيّارة أجرة... إلى المطار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
•· من مجموعة قصصية بعنوان " الحب في أوسلو" صدرت مؤخراً عن الدار العربية للموسوعات في بيروت وبغداد.
ـ لقد توثقت علاقتنا من النظرة الأولى. إنّها نصف روحي الذي كنتُ أبحث عنه، منذ أن استنشقتُ أوَّل نسمة في هذه الدنيا.
وعلى الرغم من أنّنا ـ كلينا ـ في ميعة الصبا، فقد عجبتُ لاندفاعه العارم، وحماسته المنقطعة النظير، وثقته المطلقة بها. وقلتُ في نفسي: لا بُدّ أنَّها ساحرة الحسن رائعة، خلبتْ لبه، وهيمنتْ على روحه ووجدانه، وسَقتْه جرعةً من السعادة فانتشى وحلّق في أجواء