الحذاء الإنكليزي - قصة قصيرة
نقلا عن موقع صحيفة المثقف
الحذاء الإنكليزي
قبل أكثر من سبعين عاماً، كانت بريطانيا هي الدولة العظمى ذات النفوذ السياسي والاقتصادي في الشرق العربي، وتُلقَّب بالإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها. وكانت منتجاتها الصناعية رائجةً في أسواقنا، وجامعاتها ذائعة الصيت؛ يكفي أن يذكر الفردَ أَنَّه درَسَ في جامعة لندن أو أكسفورد أو كيمبرج، حتى تَشْرَئِبّ له الأَعناق وتُصيخ له الأَسماع.
وكان العراق يبعث بأَنجب الطلاب إلى بريطانيا للدراسة في جامعاتها، سعياً منه إلى إعداد الأُطر العلمية والتقنية اللازمة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وكان في وسع الطلاب الذين يتمتّعون بمنحةٍ دراسية حكومية لنيل الإجازة، مواصلة دراستهم العالية للحصول على الماجستير فالدكتوراه، إذا حقَّقوا نتائجَ مشجِّعةً في كلِّ مرحلةٍ دراسية. وهذا ما كانوا يصطلحون عليه بتمديد البعثة. وهكذا كان بعض الطلاب يمضي عشر سنوات أو أكثر في بريطانيا قبل أن يعود إلى بلاده حاملاً شهادة الدكتوراه.
وكان أخي الأكبر، أحمد، أحد هؤلاء الطلاب، فقد أَمضى أحدَ عشرَ عاماً تقريباً في دراسة الهندسة الكهربائية في إحدى أرقى الكلِّيات البريطانية، تلكم هي الكلية الإمبريالية في جامعة لندن.
لم أعرف أخي أحمد قبل أن يغادر البلاد متوجِّهاً إلى بريطانيا، فقد كنتُ طفلاً رَضيعاً عندما حصل على بعثته وغادرنا. ولكنَّني كنتُ أكبر مع ذِكْره الذي كان يملأ أرجاء منزلنا. كانت أُمّي تحدِّثني دوماً عنه وعن عاداته وطريقة كلامه وحدّة نظره، وتختم حديثها بحكاية أثيرة عندها:
- " حملكَ أحمد ساعة الوداع من مهدكَ وضمّكَ إلى صدره وغطّاك بالقُبل، ولكنكَ.. ولكنكَ أَغرقته ببولكَ فجأةً."
ثم تُطلِق ضحكةً مِن أَعماقِ قلبها، وتضيف قائلةً:
- " لقد أفسدتَ بذلته الجديدة التي اشتراها له أبوك ليسافر بها."
كانت تعيد تلك الحكاية كلَّما حدَّثتني عن أحمد؛ وفي كلِّ مرَّةٍ، تُطلُّ من وجهي ابتسامةٌ يحاصرها الخجل والشعور بالذنب.
أمّا أبي، فكان حديثه المفضّل، عندما تجتمع العائلة حول طعام العَشاء، يدور على أحمد، وكيف كان ترتيبه الأوَّل في نتائج الامتحانات العامة (البكالوريا) في محافظتنا بأجمعها. كان فخوراً به جدّاً. وكان دائماً يقارنني وإخوتي الصغار بأحمد، قائلاً:
- " يجب أن تتَّخذوه قدوةً لكم في دراستكم. افعلوا كما فعل. كونوا الأوائل في الدراسة. ستلحقون به في بريطانيا العظمى."
كان أبي يعُدُّ السنوات والشهور والأيام لعودة أحمد. وكان يردِّد القول:
- " سيعود أحمد بالخير العميم، نعم، سيعود بالخير العميم."
كان يكرِّر هذه العبارة كثيراً بمناسبة وبدون مناسبة، حتّى حفظناها عن ظهر قلب، وإنْ لم نفقه معناها، حقيقةً، مدَّةً طويلة. كنتُ وإخوتي الصغار نتخيَّل أحمد عائداً إلينا من بريطانيا وهو يحمل لنا حلوى لم نذُقها مِن قبل، أو طعاماً لذيذاً لم يخطر على بال، أو ملابس أجمل من ملابس العيد. وعندما يعنُّ لأَحدنا أن يسأل:
- " وماذا سيجلب لنا أَحمد من بريطانيا؟"،
كان أبي يسارع إلى تصحيحه قائلاً: " بريطانيا العظمى".
وذات يوم، عاد أَبي إلى المنزل وهو في غاية الانشراح. لقد وصلته رسالةٌ طويلةٌ من أحمد يخبره فيها أنَّه حاز الدكتوراه، ويحدِّد موعدَ عودته. قرأها علينا مرّات عديدة. كانت تلك الرسالة كالدواء، أو كتعويذة، يتلوها على مسامعنا كلَّ يوم بعد طعام العَشاء. وكلَّما انتهى من قراءتها، توجّه إلينا موصياً:
-" من الآن فصاعداً، لا تقولوا أحمد، بل الدكتور أحمد." ويضع نبرة شديدة على كلمة " الدكتور".
وحلَّ يوم الوصول. وكانت العائلة كلُّها في محطّة القطار في انتظار أحمد، أعني الدكتور أحمد. وتساءلت أُمّي ما إذا كان سيعرفها بعد كلِّ تلك السنين الطويلة من الفراق، وبعد كلِّ ما طرأ على وجهها وجسمها من تغيّرات. وفجأةً صرخَ أبي وأمّي في وقتٍ واحد: " ها هو! "، وتدافعنا نحوه. وعانق أُمّي عناقاً طويلاً، ثمَّ أخذ يد والدي وقبّلها وضمّه إلى صدره، ثمَّ راح أبي يقدِّمنا إليه واحداً واحداً مُذكّراً أياه بأسمائنا. وعندما نطق اسمي، أَضافت أُمِّي:
-ـ " وهو الذي بال عليك يوم سفرك."
وفي حين ضحك الجميع، انزويتُ خجلاً.
وفي المنزل، كانت عيوننا ـ نحن الصغار ـ موزَّعةً بين النظر بإعجاب وانبهار إلى أحمد، أعني الدكتور أحمد، وبين حقائبه التي كنا ننتظر، بلهفةٍ، ساعةَ فتْحها، والحصول على الغنائم والهدايا. ولكنَّ أبي وأمّي ظلّا يمطرانه بالأسئلة، وهو يجيب ويتحدَّث بإسهاب عن السفرة، ولندن، وعادات الإنكليز، والدراسة، والدفاع عن أطروحته، ونيله الدكتوراه بمرتبة الشرف، وحفل التخرج، إلخ.
كان يتلعثم أحياناً في كلامه كأَنَّ بعض الكلمات تهرب منه أو كأنَّه يبحث عنها قبل أن ينطقها. وأحياناً أُخرى، كان يطعِّم كلامه، بكلمات تبدو لنا ذات رطانة غريبة لا نفهمها.
وحان وقت فتح الحقائب وتوزيع الهدايا على ماما أوَّلاً، وبابا ثانياً، ثمَّ علينا نحن الصغار فرداً فرداً، فكنّا نعانقه ونطبع قبلةَ شكرٍ على خدِّه. غير أن أُمّي وأبي كانا يُلحِفان عليه بالسؤال:
- " وأَنتَ، ماذا جلبتَ لنفسك؟"
فنردِّد نحن قائلين:
- " نعم، ماذا جلبتَ لنفسك؟".
فكان يجيب قائلاً :
- " انتظروا لحظةً، سأُريكم."
وَأخيراً، استدار أحمد إلى حقيبة صغيرة كان يضعها خلفه، فجرّها قدّامه. وقال:
-ـ " سأريكم ماذا جلبتُ لنفسي."
فتحَ الحقيبة، فلاحَ لنا صندوقٌ من الورق المقوّى. أخرج الصندوق من الحقيبة. رفع غطاءه العلويّ، ظهرت صُرَّةٌ من القماش المشمّع مشدودة بخيط، سحب الخيط بعنايةٍ، وأَخرج منه شيئاً ملفوفاً بورقٍ رقيقٍ أبيضَ. كان الجميع. ينتظر بِلهفة. إنَّه حذاء كبير الحجم، بُنّي اللون، لامع الجلد. وقال: " إنّه first class " وَأَعاد القول: " first class ". فسأله أحد إخوتي الصغار: " ما معنى (فص كلاس)، يا أحمد؟" فصحّحهُ أحدنا قائلاً: " يا دكتور أحمد؟". وجاءه الجواب:
ـــ " أي إنّه حذاء إنكليزي من الدرجة الأولى، من طرازٍ رفيع. إِنه مبطَّن بوسائد صغيرة تريح القدميْن، وكعبه محشوٌ بالمطاط الذي يزيد سرعة المشي من غير أن يبذل الإنسان جهداً. أمّا أسفله، فمصنوع من الجلد الحقيقي. إنّه يدوم مدى العُمر."
وهنا تذكَّر الدكتور أحمد حقيقةً مهمّة، فأضاف قائلاً:
- " أَتعرفون أنَّ أستاذ الجامعة في بريطانيا يقتني ثلاثة أشياء تظلُّ معه طوال حياته، ولا يستبدلها أبداً: الدراجة الهوائية، والحذاء، والزوجة."
ثمَّ مدَّ يده إلى الحقيبة، وأخرج منها قالبيْن خشبيَّيْن، وقال:
-ـ " إنّهما يدخلان فيه، هكذا، للمحافظة على شكله، ولئلا ينثني جلده."
ومدَّ يده، مرّةً أُخرى، إلى الحقيبة، وأخرج منها أربع قوارير زجاجية وفرشاة متوسطة الحجم وقطعة قماش سميك، وقال:
-ـ " وهذه الأدوات خاصة به، لا يمكن أن تمسحه بغيرها."
وأراد أخي الأصغر أن يلمس الحذاء بإصبعه، فطلب منه الدكتور أحمد أن يغسل يديه أوَّلاً بالماء والصابون، وينشّفهما جيداً، قبل أن يحظى بلمسة من الحذاء.
في صباح اليوم التالي، كنا نحنُ الصغار في لهفةٍ لرؤية الدكتور أحمد وهو يرتدي حذاءَه الإنكليزي الفص كلاس. ولكنَّنا أُصبنا بخيبة أمل عندما رأيناه ينتعل حذاءه القديم. وتساءلنا عن السبب.
-ـ " لا يمكن أنْ ألبس الحذاء والجوُّ ممطر. فالطرقات مبتلةٌ والأزقة موحلة. وحتّى إذا كان الجوُّ صحواً، فهذا الحذاء لا يمكن أن ينتعله الإنسان في هذه الطرقات الترابية."
واهتدى الدكتور أحمد إلى مكان يحفظ فيه الحذاء، وفي الوقت نفسه يستمتع برؤيته. إنّه خزانة زجاجية بالقرب من غرفة نومه في الطابق العلوي من المنزل، كان أبي يحفظ فيها بعض التُّحف العائلية القديمة: خنجرٌ مُذهَّبُ المقبض كان قد ورثه عن جدّه، ومخطوطٌ نادرٌ كان قد استنسخه أبوه عندما كان يدرس الفقه والأصول، ومبخرةٌ فضّيةٌ قديمة، وأشياء مماثلة. قام الدكتور أحمد بإفراغ الخزانة الزجاجية من محتوياتها، ونظّفها جيِّداً بإِسفنجة، ومسح زجاجها، ثمَّ وضع الحذاء الإنكليزي في وسط الرفِّ العلوي، بعد أن أعدَّ له قاعدة خشبية ارتكز عليها كعبه.
كان يُخرِج حذاءَه يوميّاً إلى شرفة المنزل لينظِّفه بقطعة القماش الخاصَّة به، ويتركه بعض الوقت على حافة سياج شرفة المنزل لتهويته قليلاً لئلا يتشقَّق جلده من الجفاف، كما أوضح لنا، ثمَّ يعيده بعنايةٍ إلى الخزانة الزجاجية، ويقفلها، ويحتفظ بالمفتاح.
وذات يومٍ، وفيما كان يهمُّ بالتقاط الحذاء من سياج شرفة المنزل ليعيده إلى الخزانة الزجاجية، فلتتْ فردةُ الحذاء اليمنى من يده وسقطتْ. وكان من سوء الحظِّ أَنْ وَقعتْ على رأس أحد المارَّة في الشارع الذي صرخ لهول المفاجأة، وسال الدم من رأسه، وانهار على الأرض. وأخذ المارّة يتجمهرون حول الرجل، وكان أحمد ما يزال يحمل بيده فردة الحذاء اليسرى عندما رأى ما حصل، فسقطت منه هي الأُخرى نتيجة ارتباكه وهلعه.
وقال أحد المارّة:
-ـ " إِنهم يلقون بأثاث المنزل إلى الشارع."
وقال آخر ساخراً:
- " إنَّ السماء تمطر أحذية."
وقال أحد الفضوليِّين الذي وصل لتوّه ورأى الرجل ممدّداً على الأرض والدم يسيل من رأسه: - " إنَّ الرجل ألقى بنفسه من أعلى المنزل."
ـوعلَّق فضوليٌّ آخر حال وصوله:
- " من المحتمل جدّاً أنَّهم دفعوه من الشرفة."
وصاح آخر:
- " لا بُدَّ من استدعاء الشرطة فوراً."
وفي وسط الفوضى التي سادت المكان، اختفتْ فردتا الحذاء، وكان ذلك آخر عهدنا بالحذاء الإنكليزي الفص كلاس.
***
قصة قصيرة
بقلم: علي القاسمي - الرباط
تعليقات (19)