أصدقاء الدكتور علي القاسمي

قصة قصيرة / الغزالة

الغزالة

علي القاسمي

نقلا عن صحيفة المثقف

ألفيتني، والقمرُ بدرٌ في ليلة تمامه، أُطيلُ النظرَ إليه من فُرجة الخيمة المنصوبة في العراء، فيبادلني النظرَ ويزداد توهُّجاً واقتراباً من الأرض حتى  يلامس نهاية الأفق بحافته الدائريّة. وجدتني، وسكونُ البادية يشحذ حواسِّي، أستجلي لونَه الفضيّ، أتملّى حُمرته الذهبيَّة، فتستدير حدقتا عيني مع استدارته. ينغرز فيه بصري، يغوص في أعماقه، ويندمج فيه. أبصرتني مأخوذاً بأشعّته المتهادية نحوي، تغسل وجهي برفق، ويستحمُّ فيها جسدي، وتنسكب في  عينَيّ، وتتسرَّب منهما إلى أعماقي، فتنبثّ خيوطُ ضوئه في أوصالي دونما صوتٍ ولا نأمة. رأيتني مشدوهاً بسناه، مخدّراً بنوره، وهو يتغلغل بنعومةٍ إلى باطني، ويذوب فيَّ مثلما يذوب قالبُ سكّر في ماء دافئ، فأشعر بسكِينةٍ تلفُّ أحاسيسي، واسترخاءٍ يهدهد بدني، كطفلٍ على وشك النوم في مهده المتأرجح.

كنتُ أظنّ أوَّل الأمر أنَّني أحدّق في سطحٍ مستوٍ مشعٍ، غير أنّني أخذتُ أتبين رويداً رويداً تضاريسَ وظلالاً كالوشم في وجه القمر. ثمَّ تبدّى لي في وسط القمر أو قدّامه،كائنٌ حيوانيّ يتحرَّك قليلاً، ثمَّ يكفّ عن الحركة. ولم أدرِ تماماً ما إذا كان ذلك الكائن يكمن في القمر نفسه أم إنّه يقف على الأرض في نهاية المسافة الممتدَّة بيني وبين القمر. وراح ذلك الحيوان يَتًّجه صوبي فاتّضح لي  رأسٌ جميل يعلوه قرنان صغيران وتتوسطه عينان واسعتان، ويتّصل به جسمٌ ضامرٌله سيقان رقيقة. إنّها غزالة تتحرَّك نحوي ببطءٍ وتَرَدُّد، والقمر يؤطِّرها من خلف، حتّى صارتْ تغطّي معظمه. وأخذتْ تدنو منّي شيئاً فشيئاً، ثمَّ توقّفتْ إزاء خيمتي، وهي تنظر إليَّ فتلتقي عيوننا في صمت.

لم أَذُق طعاماً يُذْكَر طيلة ثلاثة أيامٍ في تلك الصحراء الشاسعة القَفْر الخالية من أيّ نبات أو حيوان أو أيّ شيء آخر ما عدا كثبانٍ رمليَّةٍ تنتشر فيها على مدى البصر مثل انتشار الأمواج العالية على سطح البحر. لقد نَفَدَ طعامي وأوشك مخزونُ الماء على النفاد، فلم أستهلك منه إلا قطراتٍ في فتراتٍ متباعدةٍ، تبلُّ شفتي ولا تكاد تبلغ ريقي. ولم تَعُدْ سيّارتي تساوي حبةَ رملٍ، بعد أن توقّفتْ عن الحركة لانعدام الوقود. ولم تكُن خيمتي المنصوبة في قلب الصحراء، كرايةِ حدادٍ منكّسة، قادرةً على حمايتي من لفح الشمس التي كانت تصهر كلَّ شيءٍ تحتها، وتحيله إلى رمل مسحوق. وهكذا انقضَّ عليّ القلقُ نسراً ينهش عصافير الأمل الفَزِعة في نفسي، وأخذ صِلُّ الخوف يدبُّ في أوصالي.

وهبّتْ في أعماقي ريحُ الحنين إلى المدينة وشوارعها ومقاهيها وحدائقها ونافوراتها. وعجبتُ لنفسي كيف تضجر بين الحين والآخر من صخب المدينة وزحمتها، وتتوق إلى صمت الصحراء وفضائها الغارق في السكون. هكذا كنتُ دوماً، حياتي كلُّها سلسلةٌ متصلةٌ من التناقضات. أَترعُ كأسَ الرغبة بالشوق، ثمَّ في لحظةٍ واحدةٍ أُهْرِقه على بساط الملل؛ أُحلِّق على جناح الأمل إلى قِمَم الفرح، ثمَّ سرعان ما أهوى متشظياً إلى سفوح البؤس؛ أُغنّي للوصل أحلى الأغاني، وفجأةً أقطعها لأنشج بكائيات الهجر والحرمان.

ودبّتِ الساعات بطيئةً ثقيلةً مثل سلحفاة خائفة منكمشة، وكَلّت عيناي من التحديق في  الصحراء التي تحاصرني من جميع الاتجاهات، وتحيط بي كثبانها الرمليّة مثل قلاع منيعة يستحيل اختراقها. وتحت وطأة الجوع الذي كان يعضّني بضراوة، وبفعل العطش الذي كان يجففني مثل قطعةِ لحمٍ قديد، هامَ عقلي في سراب من الهواجس والرؤى. ورحتُ أجترُّ خوفي وأمضغ قلقي. ومن ربوةٍ رمليّةٍ صغيرةٍ تشبه الرمس، ارتفعَ شبحُ والدي بكفنه الأبيض، مُمتطياً صهوة جواده الأدهم، متقلِّداً بندقيته، كما لو كان في طريقه إلى الصيد. واستقرَّ على كتف أبي، بومٌ أسودَ بدلاً من صَقْره المدلَّل. وراح كلبُه السلوقي يعرج بإحدى قوائمه المبتورة، وهو يتلفّتُ إلى الجواد الذي فُقِئَتْ عيناه. وعندما اقترب أبي منّي أوقف جواده، وانحنى عليّ، ومدَّ يدَه إليَّ، ورفعني من الأرض وأردفني وراءه على الجواد كما كان يفعل في صغري، ثم عاد من حيث أتى وأخذ جواده يغوص في ذلك الرمس الرمليّ وأنا معه، فأشعر بذرات الرمل تندس في أنفي وتخنق أنفاسي.

نظرتُ إلى الغزالة الواقفة أمامي. عيناها الجميلتان تذكرانني بعينَيّ الحبيبة الكحيلتين؛ فيهما معاني المحبّة ورقّة الاستعطاف. ولها لفتة الجيد ذاتها كذلك. غير أنّ هذه الغزالةَ هي أملي الوحيد في الصمود بعض الوقت ريثما تصل نجدة ما أو تمرّ قافلة. رمقتُها بنظرة ولهى على استحياء. يا إلهي، كم أنا بحاجة لدمها يروّي ظمئي! وما ألذَّ لحمها! . التفتُ إلى البندقية الملقاة على أرض الخيمة، فتذكرت أنّها هي الأخرى لا تساوي حبة رمل، فقد أَمْسَت مجرد قطعة من خشب جامد وحديد بارد بعد أن نفدت ذخيرتي، بسبب محاولاتي المتكررة الفاشلة لإصابة ذلك الضَّبّ اللعين. كان يمرق أمامي كالبرق ثم يختفي في جحر من جحوره المتعددة في قَلْب الكثبان الرملية، فأظلُّ أُطلق النار بجنون على الرمل. وفي كلّ محاولة لم أحصل على شيء سوى دويّ هائل سرعان ما تشربه الرمال، وأبقى أردد بصوت عال متوتر عبارة "وضعي أعقد من ذَنَب الضبّ".

حدجتُ الغزالة المنتصبة أمامي بنظرة متلهّفة. توهّمتُ أنّ قوّة خفيّة  ساقتها إليّ لإنقاذي. نظرتُ إليها ثانية نظرة انكسار واعتذار. تحسَّستُ خنجري المشدود على بطني الخاويّ. لا بدّ أن أُمسك بها أوّلاً. مددتُ يدي على مهل تجاه فَمِها، كما لو كنتُ أقدّم إليها شيئاً تأكله. لا بدّ أنّ الجوع هو الذي دفعها صوب خيمتي. أَدْنَتْ رأسها من يدي وهي تشمُّ كفِّي الفارغة. نهضتُ بحذر، فجفلتْ وتراجعتْ إلى الخلف بخفّة ثم توقفتْ. تقدَّمتُ صوبها ببطء. اقتربتُ منها مادّاً يدي نحوها. تراجعتْ مرّة أخرى وأنا أتبعها حتّى ابتعدنا عن الخيمة وصرنا في وسط العراء.

التقتْ نظراتنا مرّةً أُخرى. لم أرَ منها غير عينيْها هذه المرَّة. استرعى انتباهي احمرارٌ شديدٌ أخذ يكسوهما، ويُخفي تلك النظرة المنكسرة الحنون. وبدلاً منها لاحت لي نظرةٌ قاسيةٌ مريبة. انزلقت عيناي عن عينيْها إلى بقية وجهها، فأدهشني وأفزعني في آنٍ، منظرُ أنيابٍ حادَّةٍ يكشِّر عنها الفكان. وسرعان ما صدر عواءٌ خافتٌ متقطِّعٌ يُنذر بالشرِّ. وقبل أن أستجمع شتات فكري المشدوه، أَحْسستُ بمخالبَ حادةٍ تنغرز في صدري وبطني، وبأنيابٍ شرهةٍ تمتدُّ إلى وجهي. وفي طُوفان الرعب الذي اجتاحني بفعل المفاجأة، اختلطت الأمور في ذهني. غير أنَّ الشيء الوحيد الذي تأكَّد لي هو سقوطي على الأرض مستلقياَ على قفاي، وفوقي ذِئْبٌ شرسٌ على وشك أن ينهش وجهي، ويقطّعه إرباً بأنيابه الحادَّة. وألفيتني أُطلق صرخةٌ رعبٍ تمزِّق سكون الليل، يتراجع على إثرها الذئب قليلاً، ليتأهَّب للانقضاض عليّ في هجمةٍ جديدةٍ حاسمة.

وفي غمرة اضطرابي، امتدتْ أَصابعُ يدي المرتجفة إلى خنجري، فاستللتُه من غمده، ثمَّ أمسكتُه بكلتا يديّ، وأسندتُه إلى صدري،كأنّي أحتمي به. وفي تلك اللحظة، انقضَّ الذئبُ عليَّ، بقفزةٍ هائلةٍ، فانغرزَ نصلُ الخنجر، في موضع القلب من صدره. ووجدتني في حالةٍ من الهيجان والصراخ، وأنا أغمد الخنجرَ، أكثر فأكثر في جسده، لينبجس الدم الحارُّ منه، فيغطّي وجهي كلَّه، ويندلق في فمي،ويُطفئ ظمئي.

***

بقلم: علي القاسمي

.................................

* من مجموعة قصصية عنوانها "دوائر الأحزان"، الطبعة الخامسة (الدار البيضاء: دار الثقافة 2019) الطبعة الأولى (القاهرة: دار ميريت،  2005).

يمكنكم الاطلاع على دراسة نقدية حولها بعنوان:

سحر الحكاية في قصص علي القاسمي.. قراءة في قصة "الغزالة"

للدكتورعبد الحميد العبدوني.


تعليقات (20)

  1.  

قصة مدهشة وتستحق قراءة الدكتور عبد الحميد
أحييك دكتور علي وليس بغريب على قلمك هذا السرد الساحر واللغة السلسة الجميلة
احترامي واعتزازي

عزيزتي الشاعرة الأديبة المتألقة الأستاذة ذكرى لعيبي،
شكراً جزيلاً لك على إطلالتك البهية وتشجيعك المتواصل لي ولكثير من أصحاب القلب والقلم.
وشكراً للأدباء الأعزاء في صحيفة المثقف الغراء الذين تكرموا بإيراد مقالة المرحوم الدكتور عبد الحميد العبدوني، وكنتُ أعلم بها ولكن لم أشأ أن أزيد جرحي نزيفاً فلم أبعث بها إليهم، فقد كان الدكتور عبد الحميد في عز شبابه وأوج عطائه، أستاذا للنقد الأدبي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، بيد أنه فارقنا ورحل. فبقيت أتحاشى ذكره.
تمنياتي لك بالصحة والهناء والإبداع والعطاء.
علي القاسمي

لطالما فاضت علينا، لغة الدكتور علي القاسمي سحرا و جمالا
وهو يمنحها من قاموسه الكبير أبجديات للمعنى و الرؤى.
يكتب القصة شعرا ليزيل عن كواهلنا عتمة الكسل و التثائب !
شكرا لكل هذه العُصبة من الجمال .

دمت متألقا استاذنا المجيد.

عزيزي الأديب المتألق الأستاذ زياد كامل السامرائي، الشاعر الذي "يموت الوقت كلما ألقى أشعاره بيننا".
أسعدني حضورك معي، وأشكرك على تشجيعك الكريم. وأبوح لك بسرهو أنني بوصفي سارداً، فإنني أتعلم منكم أيها الشعراء ، وبوصفي لسانيا ومعجمياً، فإنني أصف ما تأتون به، أنتم الشعراء، من تراكيب ودلالات.
وثمة نظرية عن أصل اللغة تقول إن الإنسان بدأ الكلام شعراً. ولكن النظرية العلمية الغربية الأخيرة تذهب إلى أن الإنسان الأول وجِد في جنوب شبه جزيرة العرب وأن لغته (العربية الأم) ولدت مكتملة، ومنها توالدت لغات العالم. (الفصل الأول من كتابي " علم المصطلح" طبعة 2019 المتوافر مجانا في موقع "أصدقاء الدكتور علي القاسمي".
مودتي واحترامي، مع أطيب تمنياتي لك بالصحة والهناء وموصول الإبداع والعطاء.
علي القاسمي

الإنسان والذئب أيهما أشد غدرًا ؟
لماذا يسوغ الإنسان لنفسه سوء طباعه ولا يعذر غيره؟، وهل يشدنا الوهم بعيدًا عن ذواتنا ؟ وماذا لو لم نمتلك سلاحًا لنصارعه ؟
قصة قصيرة ولكنها تبعث في النفس أسئلة كثيرة . شكرًا جزيلًا للدكتور علي القاسمي 🌺

لغة عالية بتفاصيل دقيقة حيث تتأرجح الأحداث بين دهشة مرعبة وأمل يشير بنجدة... والاتكاء على الماضي المشرق تارة للاستنجاد به لطرد الوحشة والملل... ولعل في الغزالة ما يشير إلى حياة الكاتب التي يتربص بها ذئب بشري راغبا في إطفاء نور إبداعه المتألق...
تحيتي وتقديري لهذا البناء الفني السامق

الشاعر الكبير الدكتور أكرم جميل قنبس حفظه الله ورعاه،
أشكرك جزيل الشكر على مرورك الكريم بقصتي القصيرة " الغزالة"، يا غزال الشعر.

قد يكتب المبدع باللاوعي، وحتى إذا أراد الخيال، فإنه عادة ما ينطلق من مخزونه الواقعي ويحلّق في أجواء الخيال. ومن هنا جاءت أهمية النقد النفسي الذي يستخدم التحليل النفسي، لا في تحليل سلوك الشخصيات فحسب، بل في تحليل سلوك كاتب النص نفسه كذلك، كما تعلم.

تمنياتي لك بموفور الصحة والخير والهناء، وموصول إبداع قصائدك العصماء.
محبكم: علي القاسمي

عزيزتي اللسانية الأديبة الدكتورة أسمهان الموسوي حفظها الله ورعاها.
أنا سعيد بحضورك البهي في هذه القصة.
أحد التعريفات التي حفظناها عن الفلسفة والفيلسوف هو القدرة على توجيه الأسئلة لمعرفة كنه الحياة والإنسان لتنميتهما. وأسئلتك مشروعة حقاً.
تمنياتي الطيبة لك بالصحة والهناء وموصول العمل والعطاء.
علي القاسمي

رحم الله فقيد الذاكرة عبد الحميد العبدوني ، الدأب على الاجتهاد من سمة المتضلعين باللغة ..
القصة ، مكان في اللامكان ، عيش دون حياة ، لا يمكن بحال من الأحوال لأي قارئ / متلق باختلاف أنواعه ، أن لا يقرأ حملها و هو يتصورها منذ البداية إلى النهاية ، أحداث محبكة كـالخيط المحبك الرفيع ، صورة خيالية و ربما واقعية أيضاً تستند إلى مقومات سردية ملازمة لكل فقرات القصة ..
كان لنا شرف قراءتها ، و الشرف زان بكاتبها ..
أدام الله قلمكم سيدي العزيز ..

عزيزتي الأدييبة الأستاذة إيمان الناجمي حفظها الله ورعاها،
أسعدني حضورك معنا، وتذوقك لقصتي القصيرة.

أشعر أنك وضعت أصبع الناقدة المرهفة الإحساس على ميزة هذه القصة، وهي الحبكة. فقد بذلتُ جهداً خاصاً عند كتابتها في إحكام حبكتها ليتقبَّل القارئ الكريم تسلسلها والتحولات التي طرأت على أحداثها.

تمنياتي لك بدوام الصحة والخير والهناء. ورحم الله الدكتور عبد الحميد العبدوني.
علي القاسمي

  1.  

الأخ العزبز الدكتور علي القاسمي
قصة "الغزالة" واحدة من دوائر الأحزان التي تشكل سلسلة من الحالات التي تخيلها السارد، المقابل النصي للمؤلف الواقعي، تتقاطع معه بضمير المتكلم النحوي، وتنفصل عنه بقدر المسافة التخييلية التي تتيحها اللغة السردية المشبعة ببلاغة الترميز والإيحاء الدلالي الفني.
استوقفتني صناعة القصة وبناؤها المتنامي، وكذلك حدة جمعها بين المتضادات المتواجهة، أي مواجهة تضاد لتضاد، مما يخلق توترا متناميا يمر من حالة مضيئة منشرحة في البداية مع منظر القمر وبسطة النفس وانشراحها وهدوئها، ولحظة تدرج خفوت ذلك الانشراح مع وصول الغزالة أمام خيمة السارد، وتغير اللغة المضيئة الى لغة بنية ضبابية. هو تغير يعكس تدرج تغير وتوتر نفسية السارد، واستدعاء استيهام السارد خيال الوالد في صورة قاتمة أيضا، حتى ضاقت الدائرة على عوالم السارد المقفرة، ووصلت الى حدها الأقصى عندما فجر بركان توتره في الحيوان الشرس الذي كان يسكنه. وربما استراح؟
البناء التصاعدي لصنعة القصة، يعكس وضعية نفسية السارد في حالة كانت تبني توترها وتصعده الى درجته القصوى لتتخلص منه أيضا بدرجة قصوى من العنف. والغريب أن الوسط الطبيعي، الصحراء الهادئة، والقمر في تمامه، والغزال، لم يكن له أثر في نفس السارد، ولم يخفف من حالته المذعورة، كما توحي به تلك الدوال الطبيعية والحيوانية. الفضاء الطبيعي والحيواني، خصع في القصة لعملية تحول وتغير غرائبي أفقده كل سماته الأصلية واكتسب صفات تتميز بالشراسة، حتى فقدت كل تميزاتها الطبيعية المعروفة بها.
الحق أن تعنيف هلوسات السارد هي التي جردت طبيعة الصحراء بعوالمها، التي وصفهتها القصة في بدايتها، من كل متعة بصرية ونفسية، وكشفت لنا نهاية القصة أن الطبيعة تكون مريحة وممتعة عندما تكون طبيعة الانسان ونفسيته مريحة، وتكون خلاف ذلك عندما تكون متوترة مذعورة كما حصل لنفسية السارد.
قد توحي القصة، مما توحي به، بأن أوضاع الإنسان وحالاته النفسية هي التي تجعله يرى الطبيعة ممتعة او عنيفة، وليس الطبيعة في حد ذاتها. وهذه فلسفة ظاهراتية تعطي للتلقي وحالات التلقي دورا في خلق عوالم مختلفة توحي بها الكتابة الفنية القصصية العميقة فقط، مثل قصة الغزال.

أخي الحبيب الناقد الأديب الدكتور سيدي أحمد بوحسن حفظه الله ورعاه،
أشكرك على تكرمك بالتعليق على قصتي بنص نقدي مدهش.

أحسب أن تمكنك من المدارس الفلسفية، وإتقانك لعدد من اللغات العالمية، وثقافتك الواسعة، كلها ساعدتك على تبوُّء مكانتك المرموقة في النقد العربي المعاصر. ومعظم المدارس النقدية الحديثة صدرت من مدارس فلسفية أو فلاسفة، كما تعلم.

ويحق لي أن أفتخر وأتباهى بصداقتنا الأخوية.
تمنياتي لك بالصحة التامة والإبداع المتواصل.
محبكم: علي القاسمي

الاديب العلامة
النص السردي وحكاياته وتبعيته الفكرية والمرجعيات التي اعتمد عليها , والخلفية العميقة التي استندت في رؤية عتباته الدالة . يكشف معالم هامة في مناخات السرد الجميل , الذي يمتلك افكار واسعة في ثنايا السرد , تدعو الى المناقشة واثارة محتوياته . لاشك ان الاديب العلامة له باع طويل وبارع في اتجاه تأسيس اتجاه سردي متطور وحديث في نوعية السرد في الجودة والخلفية العميقة التي يمتلكها بالمعارف المتنوعة , اللغوية والفكرية والثقافية . بما يمتلك استلهام في جوانب التناص المتعدد الاطر والعتبات , يعني لم يكتفِ بسرد جميل ومشوق ويحمل أثارة مرهفة وساخنة , في الواقع المشحون والمناخ السائد للحدث السردي , وانما النص السردي نكتشف منه تعمق فكري في جماليته المتعددة , ليس هو حكاية بسيطة وجميلة تحمل وجاهة الواقع والواقعة , بأنه بعد ثلاثة ايام غطست في سيارته في كثبان الصحراء , في ظل العطش والجوع الذي ينهكه , ويتوهم بأي سراب يلوح له في الافق . مثلاً الضائع في الصحراء يتوهم بسراب الماء , ولكن في هذا النص يتوهم بالجوع , لذلك قده التوهم ( ومسألة التوهم مسألة حيوية , وهناك اوصاف من التوهم . التوهم في النظر , التوهم في الفكر , التوهم في الشكل .... الخ ) لذلك يمتلك الحدث السردي جملة مناخات وطقوس . يعني اننا أمام سرد يملك ثنائية مركبة . الواقع / السرد . الزمن / السرد . المكان / السرد . التوهم / السرد . الحنين / السرد ( هنا يؤكد بأن زوابع الحنين تنتاب الشخص في مكان موحش وغريب . ذلك في عمق ليل الصحراء شده الحنين الى الاهل , الى الاب الذي يصحبه في طلعاته الصيدية . الحنين الى المدينة ) . تكاملت هذه الاطر في البنية السردية, بعناصرها الاساسية . فالسرد يحمل عنوان من الطقوس ومناخات الشرقية ( الصحراء في رمالها وكثبانها , في لياليها على ضوء القمر . في الليل الموحش . في فقدان عناصر الحياة الاساسية . البشر والماء والنبات ) اضافة الى العمق الفكري من دلالات النص . اي انه خليط من الحصيلة المتفاعلة في بنية الحدث السردي وعتباته الداخلية والخارجية , والاديب العلامة ملهم في بناء النص من العنوان , الذي حمل نظرة التوهم في المغزى , بأنه حقيقته ( ذئب مفترس ) وحالة التوهم ( الغزال ) ويظل متمسك بنهاية التوهم حتى داهمه الخطر , بأن الذئب يريد افتراسه , هذه المفارقة المتقابلة في حالة الجوع الشديد , الراوي أو السارد ( ضمير المتكلم ) يتوهم بالغزال ليسد صرخات جوعه ثلاثة ايام بدون طعام , والذئب ايضاً جائع يفتش عن ضحية يفترسها ليسد رمق جوعه . يعني وصلت الحالة الى ذروة الصراع من يصرع الآخر من اجل الحياة والبقاء . ولكن انتهت حلبة الصراع بقتل الذئب . وحالة الاحباط والخيبة , فبدلاً من ان ينعم بلحم الغزال الطريء , انفجر دم الذئب الحار على وجهه ليطفيء ظمأ العطش . ان هذه الحالة تؤكد البقاء للاقوى . وهي ايضاً تدل على ان الانسان أبن بيته تشكله حسب مناخاتها وطقوسها . وهذه الحقيقة القصدية في المتن السردي , تشير بشكل مباشر وغير مباشر , بوعي أو لا وعي . بأن البيئة تشكل عقلية وثقافة الشخص . مثلاً : العصابات الاجرامية والارهابية , تعلمت على ثقافة الدم والاجرام بأعصاب باردة مهيئة تكوينياً للقتل والاجرام . بينما الانسان ضمن بيئة أنسانية . تربى على الثقافة التسامح الحرة , لم تطوعه يدية وعقله ان يرتكب جراماً أو تلطخ يداه بالدماء. لذلك قصة ( الغزالة ) تمتلك جملة من الرموز الفكرية في دلالاتها العميقة ( والاديب العلامة ملهم في اختيار المناخ والوقت , في نشر احدى قصصه سردية , كأنها بنت اليوم والساعة والحدث البارز ) . بما يمتلك من معارف فكرية وكذلك تتبع الاحداث البارزة التي تحتل المقام الاول في نشرات الاخبار والاعلام . هذه بعض الاشياء في تشريح الحدث السردي وعمقه الفكري , وخلفياته ومرجعياته . التي تملك وجهات نظر , ولكن الاديب العلامة يملك براعة في الاقناع للقارئ , وهذه الخاصية الابداعية من الصعوبة تحقيقها لدى القارئ , ولكن الاديب العلامة يملك حالة الاقناع بما يملك من خلفية معرفية واسعة . بأن نصوصه السردية لم تولد من الفراغ , وانما من مخاض الحياة العسيرة .
تحياتي بالخير والصحة ايها الاخ العزيز

صديقي العزيز المفكر الناقد المتألق الأستاذ جمعة عبد الله
أشكرك جزيل الشكر على حضورك البهي. وقد استوقفتني في نقدك الرائع كلمة " الإقناع".

لا يخفى عليك أن القصة القصيرة تحظى بعناية فائقة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويوجد كتاب سنوي عنوانه " أحسن القصص الأمريكية لعام ـــــ" تشرف عليه مجموعة مختارة من الأدباء والنقاد، تتولى قراءة جميع القصص القصيرة التي نُشرت ذلك العام في جميع المجلات والصحف الكبرى، ويبلغ عدد تلك القصص بالآلاف، واختيار ما يقرب من خمس وعشرين قصة منها لذلك الكتاب السنوي.

وفي أواخر القرن العشرين، اختير أبرز الأدباء الأمريكيين آنذاك، جون أبدايك، ليشرف على كتاب عنوانه " أحسن القصص الأمريكية في القرن العشرين"، يتم انتقاؤها من أعداد ذلك الكتاب السنوي.
وفي مقدمته لهذا الكتاب، تحدث أبدايك، عن المعيار الذي اعتمده في اختيار القصص المحظوظة. فقال معياره الإقناع، أي أن القصة قادرة على إقناع القارئ بأنها وقعت فعلاً أو أنها ممكنة الوقوع، مهما كانت غرابتها.

تمنياتي الحارة لك بالصحة والهناء ودوام الإبداع والعطاء.
أخوك : علي القاسمي

أسعد الله مساءك دكتور
القصة جميلة و لكن دموية. فيها تعبير مختلف و مستور عن رغبة مدمرة بقتل الأب الأثري من خلال بدائله. و داخل قلعته الحصينة و هي الطبيعة التي يحكمها بطريقتين: العنجهية الفارغة و التخويف. و عصا الأب هنا موجودة في كل جزئية من صور مصادر الخطر و التهديد. وعلى العموم إن دراما الغزال و الذئب ليس ببعيد عن الترغيب و الوعيد أو الوجه ألأبوي الطيب و الآخر الشرير و الأوديبي.. سياسة العصا و الجزرة كما نسميها.
ناهيك أن رمز الغزال :ما ورد في أحد الكتب التي ترجمها جبرا يمكن أن يكون افتراسيا بإيحاءات فرويدية تحيل لغريزة امتلاك الأم.
ثم إن القتل لم يكن موضوعيا فقط بل هو فني أيضا.
لأنه يلغي أساليب و عناصر القصة المتعارف عليها و يركب المركب الصعب و هو صيغة الاعتراف بالإكراه و التحول لنص دون حوار و شخصيات و حبكة قانونية.
إنها استعادة لأزمة روبنسن كروزو و هو يعيد بناء ذاته في أعماق الغابة البشرية التي وضعته بها الصدفة.
قرأت عددا من النصوص المماثلة لمجموعة أدباء أعتز بنتاجهم و منهم يوسف الشاروني في أجمل أقاصيصه و هي مطاردة منتصف الليل، و جمال الغيطاني في سلسلة دفاتر التدوين و سفر البنيان.
أتمنى لك يوما سعيدا و مباركا، و كذلك على الدوام.

صديقي الحبيب العالم الأديب الدكتور صالح الرزوق حفظه الله ورعاه وحقق مناه.

أشكرك على تعليقك الكريم الذي أعجبني كثيراً لكثرة إحالاتك على المدارس النقدية والأدباء البارزين ما يدل على ثقافتك الأدبية الواسعة، على الرغم من تخصُّصك العلمي. وهي ثقافة تجمع المجد من أطرافه.

أحسب أن الكاتب لا يستطيع أن يتحكّم في العوامل والدوافع اللاواعية خاصة عندما يأخذ النصُّ بكتابة نفسه، وهي حالة نادرة تصيب بعض الكتّاب المحظوظين. ولكن ما أستطيع أن أؤكده لك أنني كنتُ محظوظاً لأن والدي رحمه الله رعاني خير رعاية وشجعني أفضل تشجيع، وأنا مدين له بكل شيء طيب عندي.
أكرر شكري الجزيل وتمنياتي الطيبة.
محبكم: علي القاسمي

العم العزيز الغالي العلامه والنابغه حفظكم الله اينما كنتم ووفقكم للمزيد من العطاء ...
ينقل لي والدي العزيز عن لسانك والقصه حدثت مع شخصك الكريم عندما اخذت شهادة الدكتوراه من جامعه امريكيه وفي حفل التكريم وتوزيع الشهادات عندما حان دورك صافحت رئيس الجامعه وقلت له(افتخر بأن الزي الذي ترتديه هو اصله عربي) فقال لك المصدر؟
فأعطيته المصدر وقلت له معناه فوق كل ذي علم عليم
فرد عليك رئيس الجامعه قائلا(لا زلت اتعلم من طلابي)
واليوم نحن لا نزال نقرأ لك ونتعلم من جنابك الكريم
خادمك
امير يوسف القاسمي

ابن أخي العزيز الأستاذ أمير يوسف القاسمي
شكراً لرسالتك الكريمة، نعم القصة حدثت في حفل تخرج جامعة تكساس، وكان رئيس الجامعة والعميد ومعهما ثالث يستقبلون طلبة الدكتوراه وكلهم بالزي الجامعي لحفل التخرج. وعندما ذكرتُ له أن هذا الزي عربي الأصل، فقد أخذه الأوربيون من علماء الأندلس( Cap and Gown) طلب الرئيس المصدر، فقلتُ: دوزي ، معجم الملابس العربية. وكان كتاب المستشرق الفرنسي الهولندي (رينهارت دوزي)، " معجم الملابس العربية"، قد ترجمه الدكتور أكرم فاضل من وزارة الثقافة العراقية، إلى اللغة العربية..ثم ظهرت له ترجمات أخرى. وما قاله الرئيس تدلُّ عليه مقولات عربية كثيرة مثل: من المهد الى اللحد، مع المحبرة إلى المقبرة، وغيرهما. فكلنا نتعلّم دوماً.
سلامي للوالد العزيز وتمنياتي الطيبة للأهل جميعاً..
عمك المشتاق: علي

مجبات متواصلات
وأنا أحب الشغب خاصة في مضمار السرد ، وهو بطبعته جريء ! والشعر فلهذا فنحن
في مجال القول أو الحكي أو السرد قارّتان تعشقان التذاوب حسب اصطلاحتي
أو ربما بسبب نوع من الجاذبية الروحية اللا أرضية يفوز القاريء لكتاباتك التي هي قربية من بالرسم ، يفوز بلذة غامضة مبعثها التوقع
ولا أطيل عليك
أتمنى لك قدح مانجو فإنه يريح الأعصاب كما فهمت ولا ننسى طعمه اللذيذ

عزيزي الشاعر الأنيق الأستاذ سامي العامري حفظه الله ورعاه،
صباح الخير والسرور ويسعدني أن أقدم لك فنجان قهوة مصنوعة من بُن اليمن الأصيل.
أشكرك جزيل الشكر على كلمات الثناء السخية على قصصي، وأنا أعتز بها أيما اعتزاز لأنها صادرة من شاعر ذي ذائقة فنية رفيعة.
تمنياتي لك بالصحة والخير وموصول الإبداع والتألق.
محبكم: علي القاسمي


مقالات ذات صلة