أصدقاء الدكتور علي القاسمي

قراءة في تقرير التكامل العربي، سبيلاً لنهضة إنسانية





تمهيد:
في الوقت الذي نسيت فيه الأجيال العربية الصاعدة حُلم الوحدة العربية والديمقراطية والتنمية البشرية، نتيجةً للسياسات التعليمية والإعلامية التي مارستها الأنظمة العربية خلال عقود من الزمن، فإن امرأة عربية اسمها الدكتورة ريما خلف ظلّت متشبثة بهذا الحلم الجميل. واغتنمتْ موقعها الدولي بوصفها وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، فأصدرت سلسلة من التقارير الأممية في مطلع الألفية الثالثة بعنوان " التنمية الإنسانية العربية " تبيّن الاستراتيجيات اللازم تطبيقها لإيجاد مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية، من أجل تمكين الإنسان العربي من التمتع بحقوقه الأساسية من تعليمٍ منتج، وصحةٍ جيدة، ودخلٍ فردي كافٍ يضمن له العيش بكرامة إنسانية. فهذه المرأة مثال للمثقف العربي الحر المسكون بهمِّ أمته ومصيرها، الباحث دوماً عن طريق النور والخلاص، الجاعل من آلام الجماهير وحزنها آلامه الشخصية وحزنه، ومن أحلامهم وآمالهم حادياً لفكره وهادياً لقلمه.
            وقد عكفت الأسكوا خلال السنتين الماضيتين على إعداد تقرير يحمل عنوان " التكامل العربي، سبيلاً لنهضة إنسانية"، وحشدت له مجموعة كبيرة من الاقتصاديين والمفكرين البارزين، وأطلقته في الخامس من عشرين من شهر شباط/فبراير الماضي في تونس بحضور رئيس الجمهورية التونسية الذي وعد بتقديمه إلى القمة الاقتصادية العربية التي ستنعقد في بلاده في المدة من 15 إلى 20 كانون الثاني/يناير 2015.
الواقع العربي:
يصف التقرير حال العالم العربي اليوم، فيشير إلى المأزق التنموي الذي وصلت إليه البلدان العربية نتيجة عقود من التخلُّف المعرفي، وهشاشة البنى الاقتصادية، وتفشي الظلم والقهر، والتشرذم المجتمعي.
            إن التشرذم العربي وضعف التعاون بين البلدان العربية أديا إلى أخطار محدقة بأمن المواطن وحرية الأوطان، فجعل المنطقة العربية أكثر المناطق استباحة من القوى الأجنبية. ففلسطين ما زالت ترزح تحت استعمار استيطاني، خلافاً لجميع المواثيق الدولية. وتمارس إسرائيل تهديداً وخطراً على أمن المواطن العربي بترسانتها النووية واتباعها سياسة تأجيج الحروب الأهلية في المنطقة في محاولة لتفتيت الدول العربية إلى دويلات طائفية.
كما أدى ضعف التعاون العربي إلى وجودٍ عسكري ونفوذٍ أجنبي ضخم في المنطقة يرسّخ تبعية البلدان العربية إلى القوى الأجنبية. وأدى تدهور الأمن القومي إلى استفحال مشاكل اللجوء والتهجير القسري، حتى تجاوز نصيب العرب نسبة 53% من مجموع اللاجئين في العالم، في حين أن العرب لا يشكلون سوى  5% من مجموع سكان العالم.
استراتيجية التقرير:
يطرح التقرير بديلاً للخروج من هذا المأزق متجسِّداً في فكرة التكامل بين البلدان العربية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والتربوية. ومما ييسِّر هذا التكامل اشتراك 350 مليون إنسان في تراث تاريخي وثقافي وروحي واحد، وتقاربهم جغرافياً، واستعمالهم لغة واحدة.  ولكنهم بحاجة إلى إرادة سياسة مستقلة، ومعرفة مبدعة، وقدرة فعليه لاستئناف دورهم التاريخي في مسيرة الحضارة الإنسانية.
والتكامل العربي ليست فكرة طارئة أو بدعة مستحدثة، بل كانت الفكرة متوقِّدة وتجسدت بعد " استقلال" الدول العربية حوالي منتصف القرن الماضي عندما أسست جامعة الدول العربية ووقعت اتفاقياتها لإقامة وحدة اقتصادية ودفاع مشترك.
وتقوم استراتيجية التقرير في تحقيق التكامل العربي على ثلاثة أركان هي:
•1)   تعاون سياسي لإقامة حكم ديمقراطي في البلدان العربية، وتشكيل كتلة عربية متجانسة في المحافل الدولية للحفاظ على الحقوق العربية، وتحرير الأراضي المحتلة في فلسطين والجولان السورية والجنوب اللبناني.
•2)   تعميق التكامل الاقتصادي وتنفيذ الاتفاقيات المتعلِّقة بتوحيد التعرفة الجمركية، والوحدة الاقتصادية، وحرية انتقال العرب في البلدان العربية.
•3)   الاصلاح الثقافي التربوي لتوفير التعليم الجيد لجميع الأطفال باللغة الوطنية  لتكوين مواطنين مبدعين قادرين على بناء مجتمع المعرفة، متمكنين من الانتاج. ويدعو التقرير إلى إطلاق حرية انتقال نتائج البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني وحرية انتقال البشر عن طريق إلغاء التأشيرة بين البلدان العربية ( يُلاحظ أن الدول العربية لا تطلب تأشيرات من الأوربيين والأمريكيين).
( وقد لاحظ بعض أعضاء المجلس الاستشاري للتقرير المشاركين في حلقة النقاش التفاعلية التي عُقدت على هامش الاحتفال، أن نظام التعليم في البلدان العربية طبقي لا يتيح تساوي الفرص أمام الأطفال. فهناك مدارس أجنبية ( فرنسية في بلدان المغرب العربي، وأمريكية وبريطانية في بلدان المشرق). وتعلِّم هذه المدارس منهجاً أجنبياً بلغة أجنبية لأبناء رجال السلطة والمال. وهناك مدارس أهلية/ حرة تجارية لأبناء الطبقة المتوسطة. وهناك مدارس حكومية سيئة التجهيز أو لا مدارس لأبناء عامة الشعب. ونتيجة لذلك توجد أجيال مختلفة بمرجعيات متباينة وبلغات عمل مختلفة، ما يعيق التكامل العربي والتنمية البشرية، ويمهِّد للصراع المجتمعي. في حين أن البلدان التي حققت تنمية بشرية عالية، مثل كوريا وفنلندة وغيرهما، تتوفر على تعليم جيد باللغة الوطنية على حساب الدولة لجميع الأطفال، ويمنع قانونها التحاق الأطفال بمدارس أجنبية.)
وإذا كان التشرذم الذي تعانيه مجتمعاتنا العربية، والصراعات الاثنية والطائفية والنزعات الانفصالية المتفشية في بلداننا، تجعل من أهداف التقرير ضرباً من الخيال أو حلما لا يُنال، فإن التقرير يعتبر هذا الواقع المرير دافعاً قوياً للخروج منه والدعوة إلى تكامل عربي يحقق التماسك الاجتماعي عن طريق تساوي الجميع في المواطنة والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
ومشروع التكامل العربي كما هو مطروح في التقرير لا يناقض مشروعات التكامل الاقتصادي القائمة ولا ينقضها، يل يأتي ليكملها ويسندها. كما أنه يوطَّد العلاقات الاقتصادية مع التكتلات والتجمعات الأخرى، خاصة في آسيا وإفريقيا، بحيث يكون وسيلة فاعلة للأخذ والعطاء، والتفاعل مع الحضارات الإنسانية كافة.
الوحدة الاقتصادية العربية:
على الرغم من أن العمل العربي المشترك المتمثل في تأسيس جامعة الدول العربية سنة 1948، يرمي إلى إقامة وحدة اقتصادية عربية ودفاع مشترك، فإنه انحسر وحُصِر فقط في نطاق تيسير التبادل التجاري بين اقتصادات لا تنتج كثيراً، ووُضعت العراقيل أمام مسيرة إنشاء سوق عمل عربية واحدة، وتحوَّلت اتفاقات العمل العربي المشترك إلى مجرَّد إعلانات مبادئ ونوايا حسنة لا تجسيد لها على أرض الواقع.
لقد اتبعت البلدان العربية سياسات لغوية وثقافية جعلت منها أكثر ارتباطاً بمُستعمِر الأمس من ارتباطها بالأمّة، وأضعفت وحدة اللغة والمخيلة، وقيَّدت الطموح، وألغت أُسس التنشئة المشتركة لأبناء الأمة. ( ويتضح هذا في السياسات الإعلامية التي توكِّد الروح القطرية، وفي الدعوات التي تُطلَق لاعتماد اللهجات العامية والدارجة في التعليم والإعلام.)
وخلافاً للسياسات الحكومية، فإن الشعوب العربية تسير في طريق التكامل العربي الشعبي، تأكيداً لوحدتها الثقافية والتاريخية والتراثية. وقد أدى الفن والأدب والإبداع دوراً فاعلاً في التلاحم بين مشاعر أبناء الأمة، كما يتضح ذلك في الشعر والقصة والرواية والغناء، وفي الفضاء العربي المشترك الذي أوجدته الفضائيات العربية ووسائل الاتصال الحديثة. فأسهم كل ذلك في تقريب العادات والتقاليد واللهجات، وأصبح التنوُّع عامل إغناء للهوية العربية المشتركة.

معوّقات التجارة الحرة بين البلدان العربية:
على الرغم من اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى التي تنص على إعفاء جمركي كامل، فإن سلعاً عديدة تخضع لحماية جمركية حقيقية في التجارة البينية العربية.
كما أن التدابير غير الجمركية في الدول العربية تعادل ما نسبته حوالي 30% من التعرفة الجمركية على المبادلات الصناعية والواردات الزراعية. ومن هذه التدابير غير الجمركية التي تشكل عائقاً للتجارة الحرة: تراخيص الاستيراد والتصدير، والرسوم والضرائب كضريبة الدمغة، والرسوم القنصلية، والرسوم الإحصائية، ورسوم العبور التي قد تفرض على الواردات أو الصادرات.
وتؤدّي هذه الرسوم والضرائب الإضافية إلى رفع تكاليف المبادلات التجارية والحد من الاستيراد أو التصدير.
ومن الحواجز الفنية التي تحدّ من التجارة البينية العربية، اختلاف نظم الجودة والمواصفات والمعايير القياسية بين دولة عربية وأخرى.
ولكي يمهَّد الطريق للتكامل الاقتصادي العربي لا بدّ من تنسيق السياسات النقدية بين الدول العربية، بحيث يتم تثبيت أسعار الصرف الحقيقية للعملات العربية عند مستوى موحَّد يُعمَل به في معاملات الاستيراد والتصدير. وتعود هذه الصعوبة إلى أن بعض العملات العربية مرتبط بالدولار وبعضها الآخر مرتبط بسلة عملات.

فوائد التكامل العربي:
يقدم التقرير تقديرات قياسية كمية لمنافع التكامل العربي. فيرى أن تحرير التجارة وتحقيق الاتحاد الجمركي العربي بحلول عام 2015 فقط لا يؤدّي إلى أفضل النتائج، لأن العائق أمام التجارة البينية العربية وحركة السلع بين البلدان العربية هو القيود غير الجمركية وارتفاع أسعار النقل. ولهذا يدعو التقرير الدول العربية إلى إزالة جميع القيود والعراقيل الحمائية بالتوازي مع إزالة التعرفات الجمركية، كما يدعو إلى بناء الطرق السيارة والسكك الحديدية الرابطة بين البلدان العربية. (ومن المحزن حقاً أنه في أيام الاستعمار الفرنسي كانت هناك سكة حديد تربط بين بلدان المغرب العربي، كما كانت هناك في العهد العثماني سكة حديد دمشق ـــ الحجاز، أما اليوم في عهد " استقلال" الدول العربية، فقد قطعت هذه الطرق بل أُغلقت حتى الحدود).
ويوضّح التقرير أن تخفيض كلفة النقل بـ 5% سنوياً بالإضافة إلى الاستعاضة عن ما نسبته 20% من العمالة الوافدة مستقبلاً بالقوى العربية، سيضاعف نسبة الارتفاع في الدخل، وسيخفّض نسب البطالة العربية بما يزيد على 4% في المتوسط لجميع الدول العربية.

عوائق تعترض التكامل العربي:
يقسّم التقرير العوائق إلى خارجية وداخلية. فالقوى الأجنبية تقاوم أي تكامل عربي منذ القرن التاسع عشر. ففي رسالة بعثها بها وزير خارجية بريطانيا في عام 1840 إلى سفيره في إسطنبول، أشار إلى أن الهدف من تشجيع بريطانيا استيطان اليهود في فلسطين يهدف إلى إيقاف أية محاولات " شريرة" قد يقوم بها محمد على باشا أو أي من خلفائه في المستقبل، لإقامة كيان موحَّد في مصر وسوريا الطبيعية. وفي العصر الحاضر تطرح القوى الغربية مشاريع إقليمية بديلة للتكامل العربي مثل التعاون المتوسطي، ومشاريع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لفرض إسرائيل على المنظومة الإقليمية العربية.
أما العوائق الداخلية فتتمثل بوجود أنظمة حكم لا تمثل شعوبها ولا تخضع للمساءلة أمامها، وإنما ترتبط مصالحها بالقوى الدولية المتنفذة، وتستمد شرعيتها وأمنها منها.

غايات التكامل العربي:
يلخص التقرير غايات التكامل العربي فيما يأتي:
•1)   صيانة الحرية والكرامة الإنسانية لجميع المواطنين في عموم الوطن العربي، والاحتفاء بالتنوع، وتعزيز المواطنة المتساوية.
•2)   إنشاء بنية إنتاجية عربية تسدّ الحاجات المادية للإنسان العربي وتوفّر سبل العيش الكريم له.
•3)   نهوض ثقافي يستند إلى أفضل مزايا الحضارة العربية الإسلامية ويشمل حماية اللغة العربية.
ويتطلب تحقيق هذه الغايات خمسة مقومات هي:
•1)   إرادة مستقلة ،
•2)   علم مبدع يحقق شروط الكيان المستقل،
•3)   قدرة فعلية لا وهمية ،
•4)   مشاركة الجميع في حوار دائم.
•5)   قيام كيان فاعل في التاريخ له رسالة محددة.
حلقة نقاش تفاعلية:
على هامش احتفال إطلاق التقرير في تونس، عُقدت حلقة نقاش تفاعلية. تناولت هذه الحلقةُ الأبعادَ الاقتصادية للتكامل العربي مثل:
ـ التكامل الاقتصادي ( التجاري والصناعي) بين الرؤية والواقع.
ـ الترتيبات التفضيلية ومنظومة الحوكمة الاقتصادية.
ـ فرص تمويل مسارات التكامل الاقتصادي.
ـ التكامل في مجالي الزراعة والأمن الغذائي.
ـ تنسيق السياسات الاقتصادية الكلية، العمالة والفقر.
كما تناولت هذه الحلقة الأبعادَ السياسية والثقافية للتكامل العربي مثل:
ــ العلاقة بين الدولة والدين، والتعددية الثقافية والاثنية.
ـ تعريف الدولة المدنية، ومفهوم المواطنة والحقوق والواجبات المرتبطة بها.
ـ مقومات الدولة المدنية وعلاقتها بالمفاهيم الدينية.
ـ الإصلاح الثقافي ودور المؤسسات الفكرية العربية.
ـ إصلاح النظم التربوية العربية لدعم الإبداع الفكري.
ـ متطلبات استقلال الإرادة السياسية وتعزيز الحرية والاحتفاء بالتنوع.

مقالات ذات صلة