أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في حواره مع النيل – بقلم: الدكتور علي القاسمي

 



الدكتور علي القاسمي

  1. تمهيد:

أكتب عن فقيدنا العزيز العالم الأديب الأستاذ الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف رفاعي وفي مهجتي حرقة، وفي مآقي عينيَّ دمعة، وفي الحلق غصة؛ لأنه رحل عنا على حين غرة، وهو في أوج عطائه العلمي والأدبي والاجتماعي، ويتمتع بصحة جيدة، ونشاط متوقد، وهمة عالية. وتُعزِّز كلَّ ذلك محبةُ زملائه الأساتذة الكرام وتلامذته الطلبة النجباء له، ومحبته المتدفقة من روح صافية سمحة لهم.

قبل ستة أشهر من رحيله المفجع، كنتُ في منزلي بالمغرب العزيز وأنا أتهيأ للسفر إلى مصر العزيزة للمشاركة في المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية، عندما زارني صديقي محمد اليملاحي، أستاذ اللغة العربية وآدابها بالمدرسة العليا للأساتذة في جامعة محمد الخامس بالرباط، وهو يحمل رسالتين ويرجوني تسليمهما للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، نائب رئيس المجمع. والأستاذ اليملاحي يدرّس طلابه كتاب ” في بناء الجملة العربية” للدكتور محمد حماسة. وكانت إحدى الرسالتين اللتين حملتهما معي، من الأستاذ اليملاحي يرجو فيها الدكتور محمد حماسة تزويده بواحد من مؤلَّفاته غير المتوافر في مكتبات الرباط، والرسالة الأخرى تتضمَّن بعض الأسئلة من إحدى طالبات اليملاحي كانت تُعدُّ بحثَ تخرُّجها حول الدكتور محمد حماسة.

سعدتُ برؤية الدكتور محمد حماسة في المجمع بالقاهرة، ولم تكُن سعادتي نتيجة المودة الموصولة بين روحينا فحسب، بل كذلك بفضل ابتسامته البهية، وكلماته الجميلة المطرَّزة بنكاته ودعاباته وضحكاته التي تشيع جواً من المرح والنشاط.

سلَّمتُ الرسالتين للدكتور محمد حماسة، وفي صباح اليوم التالي جاء إليّ وهو يحمل ثلاثة ظروف، وقال: هذا الظرف فيه نسخة من الكتاب الذي طلبه صديقك، وهي النسخة الأخيرة من الكتاب في منزلي، والظرف الثاني يشتمل على إجابات الأسئلة التي طرحتها الطالبة مع كتابٍ من كتبي هدية لها، والظرف الثالث يضم كتابي ” حوار مع النيل” هديةً لك، وأضاف مازحاً: وهي أجرة ساعي البريد.

وعندما عُدتُ إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مارس 2016 للمشاركة في مؤتمره في دورته الثانية والثمانين، انتابني شعور بأن أمراً ما ينقص المجمع، ثمة فراغ في ركن من أركانه، ثمة صوت من أصواته العاليةِ الصفاء قد اختفى؛ وهذا النقص/ الفراغ/ الغياب، يبعث الأسى في الروح واللوعة في النفس.

وحينما اقترح عليّ صديقي السيد/ مصطفى يوسف، أحد باحثي المجمع الناشطين، المشاركةَ في كتاب تكريمي تُعدُّه عائلة الفقيد الدكتور محمد حماسة، اتجهت نيتي لإعداد مقال عن كتاب ” حوار مع النيل” الذي تكرّم الفقيد بإهدائه إليّ مع ابتسامته الودية متبوعة بدعابة جميلة وضحكة رنانة، مع العلم أنني لا أعدُّ نفسي ناقداً أدبياً، بل مجرَّد متذوق للأدب.

  1. كتاب “حوار مع النيل”:

صدر هذا الكتاب عن دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2000، ويقع في ستين صفحة من القطع المتوسط، بورق جيد، وطباعة متقنة، وإخراج بديع. ويشتمل على قصيدة طويلة واحدة من شعر الدكتور محمد حماسة. تحف بها نصوص أدبية موازية تزيدها رونقاً وجمالاً.

  1. عتبات الكتاب:

انتقل الناقد الفرنسي جيرار جينيت Genette Gérard (1930 ــــ    ) بالنقد الأدبي من (البنيوية)، التي تُعنى بدراسة النص الأدبي في بنياته الصوتية والنحوية والدلالية، إلى (الشعرية)  التي تُعنى بمستويات التحليل الأدبي للنص، وفتحه على هوامشه وعوالمه الخارجية بوصفه نصاً أدبياً متميزاً عن غيره من النصوص . ووضع جينيت مصطلح ” العتبات” الذي يشير إلى النصوص الموازية أو السابقة والمرافقة واللاحقة للنص المركزي، كما العتبات التي نجتازها قبل أن نصل إلى الدار نفسها. وتعني عتباتُ النص أو عتبات الكتابة تحديداً: صفحةَ العنوان وترتيب محتوياتها، وصورة الغلاف، والإهداء، والاستشهادات، والمقدِّمة، والحواشي، والصفحة الرابعة من الغلاف. وثمة تعالقٌ بين العتبات والنص المركزي يؤدّي إلى استكمال العمل الأدبي، وتكثيف قيمته، وزيادة تأثيره في المتلقي.

  • غلاف الكتاب:
%d8%aa%d9%86%d8%b2%d9%8a%d9%84

يضمُّ غلاف الكتاب اسم المؤلِّف في الأعلى إلى اليمين، ثم يليه عنوان الكتاب في الوسط ” حوارٌ معَ النيل (شعر)“. وتنطبق مقولة ” العنوان ثريا النص” على هذا العنوان، لأنه يسلِّط الضوء على محتوى الكتاب الذي يتخذ شكل حوار بين المؤلّف ونهر النيل. أما الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه هذا الحوار فقد نصَّ عليه المؤلّف ضمن العنوان بين قوسين: (شعر).

وتغطي الغلافَ كلَّه صورةٌ فوتوغرافية ملونة جميلة للنيل وقت الأصيل، والشمس الغاربة المصفرّة فوق التلال التي تظهر أمامها ضفة النيل اليسرى وهي حافلةٌ بالأشجار والنباتات، ووسط النيل قارب شراعي صغير فيه ثلاثة ركاب ( تُنظَر الصورة المرفقة مع المقال). وهذه الصورة الجميلة مناسبة جداً لعنوان الكتاب وموضوعه، وهي قيمة مضافة لجمالية النص وتذوقه. إذ يتعانق في هذا الكتاب الفن التشكيلي والشعر سيد الفنون.

في الصفحة الرابعة من الغلاف، وهي آخر صفحة في الكتاب كله، نجد صورة النيل الجميلة مكررة، وعليها بيتٌ من القصيدة فيه:

          ” قلتُ: يا سيدي النيلُ،

          نحنُ نحبُّكَ،

          قال لي: الحبُّ فعلٌ، وليسَ كلاماً يُقالْ

وبعد أن ينتهي المتلقي من قراءة القصيدة بأكملها يُذكِّره هذا البيت، بأن الأفكار التي صاغها المؤلّف شعراً من أجل إعلاء شأن الوطن، لا تكفي، لأن الأقوال لا فائدة منها ولا أثر لها، ما لم تتبعها الأفعال  وتجسِّدها في عالم الواقع والأعمال.

  • الإهداء:

في أول صفحة من الكتاب يطالعنا الإهداء وهذا نصه:

إلى أبناء نهر النيل

الذين تفيض قلوبهم بالحبِّ

وتكدح سواعدهم بالعمل.”

وانتقاء الشاعر للألفاظ ــــ وهو اللغوي الكبير العارف بأسرار العربية، المدرك لمدلولات مفرداتها وخصائصها التواصلية، المتبصِّر بتراكيبها وأساليبها ــــ يدلّنا على أنه يفتخر بحضارة مصر العريقة. فهو لم يُهدِ الكتاب، مثلاً، ” إلى أبناء مصر” بل ” إلى أبناء نهر النيل”. ومعروفٌ أن أعرق الحضارات الإنسانية نشأت على ضفاف الأنهار العظيمة كنهر النيل والرافدين، وبفضل هذه الأنهار وفيضاناتها وطميها، اكتشف الإنسان الزراعة قبل حوالي عشرة آلاف سنة، مما أدى إلى نشوء التجمعّات السكانية، وبروز أولى الحضارات الكبرى في التاريخ. ومن ناحية أخرى تُشير هذه العبارة إلى أهمية النيل العظمى، فهو أبو مصر وسبب وجودها وواهب خيراتها.

ويعكس هذا الإهداء محبة الشاعر لأبناء وطنه العظيم، الذين يمتازون بخصلتيْن تميزانهم: الأولى ” تفيض قلوبهم بالحبِّ” وتشير إلى الطيبة المتأصلة فيهم التي تجعل من أفئدتهم عامرة بالحبّ. وانتقى المؤلِّف لفظة (تفيض) المجازية التي توحي بدلالتيْن إضافيتيْن: الأولى، علاقتها الوثيقة بالماء فهي تذكرنا بالنيل الذي يفيض بالخير والعطاء، والثانية، أن قلوب هذا الشعب تمتلك مقداراً عظيماً من الحبِّ يفيض ويغمر ما حوله من أمكنة وكائنات. ولهذا جاءت كلمة “الحبّ” مطلقة، فهي تتسع للحبِّ العذري والحبِّ الإلهي والحبِّ الوجودي الذي يشمل حبَّ الزوج وحبَّ الأهل وحبَّ الوطن وحبَّ العمل وحبَّ الكون والحياة. فالحبّ هو أساس السعادة والهناء، والقوة الدافعة للعمل والإبداع والبناء. فبالحبِّ ينفعل الوجود كلُّه. ومن هنا جاءت الخصلة الثانية لأبناء هذا الشعب:” تكدح سواعدهم بالعمل” التي تشير إلى ما يتَّصف به الشعب المصري من جدٍّ واجتهاد وحبٍّ للعمل، فهو باني الحضارات العظيمة.

ولكن اختيار لفظة ” تكدح” ليس بريئاً، فلهذه اللفظة إيحاءاتٌ وظلالٌ دلالية هامشيةٌ تعطي القارئ الانطباع بأن هذا الشعب العظيم يبذل مجهوداً شاقاً، ولكنه لا يحصل على ما يستحقه من مردود يتناسب مع عمله المرهق. وأكثر من ذلك، فإن فاعل الفعل ” تكدح” هو ” السواعد”، ما يدل على أن الإهداءَ موجَّهٌ إلى طبقة الفلاحين والعمال التي تشكِّل غالبية الشعب المصري. فالشاعر يتعاطف مع هذه الطبقة ويتألَّم لما تكابده من العمل المضني، وما يصيبها من ضيم، وما تقاسيه من خشونة العيش. وهو أدرى بما يتكبَّده الفلاحون من مشقَّة ليجعلوا أرضهم الكأداء مزهرة معطاء، فقد ولد الشاعر سنة 1941 وترعرع في بيئة فلاحيّة هي قرية كفر صَراوة المنوفية.

وعندما نقرأ النص المركزي للكتاب، يتأكّد لنا أن الإهداء مدعِّمٌ لأفكار المؤلِّف، مكمِّلٌ لأغراضه الرامية إلى رفاهية الكادحين والمهمشين.

  • الاستشهادات:

يفتتح الكاتب نصّه ــ أحياناً ــ باستشهادٍ أو أكثر لتعزيز آرائه، ولهذا ينبغي أن يكون الاستشهاد لشخصيةٍ شهيرة ذات سلطةٍ أدبية أو فكرية كبيرة، وأن يكون وجيزاً بليغاً، وشديدَ الصلة بموضوع النص.

 وفي كتاب “حوارٌ مع النيل“، يمهِّد المؤلّف لنصِّه بأربعة استشهادات. الأول والثاني على شكل سؤال وجواب، في سياق حوار.

فالاستشهاد الأول:

          مِنْ أيِّ عهـــدٍ في القُــــرى تتدفــقٌ      وبأيِّ كفٍّ في المدائنِ تُغْدِقُ؟

          ومنَ السماءِ نزَلتَ أم فُجِّرتَ منْ             عُـليا الجنانِ جـداولاً تتــرقـرقُ؟

                                                                                                  أحمد شوقي

والاستشهاد الثاني، جوابٌ عن الأسئلة الواردة في الاستشهاد الأول:

          إنني مُرسَلٌ من عيونِ السماءِ          ومِن عند ربٍّ شديد المِحالْ.

                                                                                               النيل

وفي التعليق على هذين الاستشهادين، أقول، بادئ ذي بدء، إن جمال النيل الأخاذ، والألوان الزاهية المتحولة التي يتلفّع بها في كل ساعة من ساعات اليوم مثلما تبدّل العروس فساتينها بين آونة وأخرى في حفل الزفاف، ومناظره الطبيعية الخلابة، وروعة مياهه المتدفقة، وعِظم هباته وخيراته التي ينثرها على الأماكن والناس الذين يمرُّ بهم أو يمرّون به، أثارت إعجاب الشعراء والأدباء والفنانين وجعلتهم من عشاق هذا النهر الخالد، وألهمتهم أروع إبداعاتهم. فعلى ضفافه قيلت أعذب الأشعار، ولحّنها مشاهير الموسيقيين، وأداها غناءً كبارُ المطربين. ونحن لا نجد شاعراً مصرياً واحداً في العصر الحديث لم يبدع قصيدة أو عدة قصائد أو ديواناً كاملاً عن النيل. ولعل ما اشتهر من هذه القصائد قصيدة أحمد شوقي ( 1868 ــ 1932) التي استشهد بمطلعها الدكتور محمد حماسة، وقصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم (1872ـــ 1932) التي مطلعها:

نظرتُ للنيلِ فاهتزتْ جوانبُهُ   وفاضَ بالخيرِ في سهلٍ ووديانِ “؛

وقصيدة أحمد زكي أبو شادي (1892ــ 1955) رائد مدرسة أبولو لتجديد الشعر العربي ” يجري بماء حياتنا وحياته“؛ وقصيدة علي محمود طه المهندس (1901 ــــ 1949) التي مطلعها:

 ” أخي، إن وردتَ النيلَ قبلَ ورودي   فحييِّ ذمامي عندهُ وعهودي” ؛

وقصيدة النهر الخالد لمحمود حسن إسماعيل (1910 ـــ 1977) التي غنّاها الموسيقار محمد عبد الوهاب ومطلعها:

مســـــــافرٌ زادهُ الخيــــــــــــالُ    والسحرُ والعطرُ والظلالُ

ظمآنُ والكأسُ في يديه    والحـــبُ والفـــنُّ والجـــمـــالُ “؛

 وقصائد فاروق شوشة الذي كتب ديواناً كاملاً للنيل وعن النيل وبالنيل عنوانه ” النيل يسأل عن وليفته” (نُشِر 2009 ).

والاستشهاد الأول في كتاب ” حوار مع النيل” هو مطلع قصيدة أحمد شوقي التي أهداها للمستشرق مرجليوث، أستاذ اللغة العربية في جامعة أكسفورد البريطانية، وقد غنت كوكب الشرق أم كلثوم هذه القصيدة بتلحين الموسيقار رياض السنباطي، بعد وفاة أحمد شوقي. وعلى الرغم من أنها كانت تعرفه في حياته، وغنّت له ذات ليلة في قصره “كرمة ابن هاني”، ومدحها بقصيدة ” سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها“. فإنها لم تغنِ من شعره في حياته، ولكنها غنّت عشراً من قصائده بعد وفاته.

ولكن لماذا اختار المؤلّف الكريم هذيْن البيتيْن لأحمد شوقي دون غيره، على الرغم من أنه ، بلا شك، يحفظ عشرات الأبيات النيلية الرائعة لشعراء آخرين؟

أولاً، لأن شوقي هو أمير الشعراء وأشهرهم.

وثانياً، لأن هذين البيتيْن يطرحان أسئلة، يجد القارئ جوابها في الاستشهاد الثاني، المقتبس من الكتاب ” حوار مع النيل“. وهكذا فإن الاستشهاديْن الأوليْن يضعان القارئ في خضم الحوار نفسه، ويوسّعان دائرة المشاركين في الحوار: شوقي والنيل ومحمد حماسة.

وثالثا، لأن المؤلّف أراد أن يثير هذا الاستشهاد إحساسَ القارئ بالموسيقى والغناء، فقصيدة أحمد شوقي تذكِّر القارئ بأغنية أم كلثوم، عن طريق ما يسميه علم النفس بـ ” التداعي“، تماماً كما أثار إحساسه بالفن التشكليلي من خلال صورة الغلاف الفوتوغرافية. وهكذا تتعانق الفنون الجميلة جميعها في هذا الكتاب، تكثيفاً للذة التلقّي وإمتاع القارئ.

ويدلُّنا الاستشهاد الثاني على طول باع المؤلّف في الدراسات الإسلامية وتبحّره فيها، خاصة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. كيف لا وهو الذي حفظ القرآن الكريم في صباه على يد والده الشيخ عبد اللطيف رفاعي رحمه الله، ثم التحق بالمعاهد الأزهرية، ونال أعلى الشهادات من كلية دار العلوم بالقاهرة. وما أعظم أثر حفظ القرآن والدراسة في دار العلوم على حصيلة الفرد اللغوية والدينية!

فقول النيل، في الاستشهاد الثاني: ” إنني مُرسَلٌ من عيونِ السماءِ“، يتضمَّن إشارةً إلى الأحاديث النبوية الشريفة عن الإسراء. فقد ورد في صحيح البخاري عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (ص) ” رُفِعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان. فأما الظاهران فالنيل والفرات، وأما الباطنان فنهران في الجنة.”

وأما الشطر الثاني من الاستشهاد: ” ومن عند ربٍّ شديد المحال“، فيتضمن تركيباً ورد في القرآن الكريم في وصف الله تعالى: ﴿ هوَ شديدُ المِحالِ ﴾ ( سورة الرعد: الآية 13). ومعنى هذا الشطر: النيل من فِعلِ الله تعالى الذي هو عظيم التدبير.

وعندما نقرأ شعر الدكتور محمد حماسة، نجد أنه متأثِّر بثقافته الدينية وبألفاظ القرآن الكريم وتراكيبه وأساليبه. وهذه ميزة يشترك فيها الدكتور محمد حماسة مع كثير من شعراء دار العلوم المعاصرين الذين حفظوا القرآن الكريم في طفولتهم، مثل محمود الربيعي ومحمد فتوح أحمد وغيرهم كثير.

أما الاستشهاد الثالث فهو قولٌ للنيل ورد في قصيدة الدكتور محمد حماسة ” حوار مع النيل“، وهو:

                    ” ربَّ نهرٍ يجفُّ؛ لأن عقول ذويه تَجفُّ

                   ونهرٍ يفيضُ؛ لأنَّ عقولَ ذَويه تفيضُ،

                    فيروي التلال.”

                                       النيل

وأحسب أن المقصود منه هو أن يرتشف القارئ جرعةً من النصِّ المركزي مزدانة بقضايا فكرية سامية، فتغويه بمتابعة قراءة النصِّ كاملاً. إذ يلخّص هذا النص الشعري الصغير قضية إنسانية كبرى تسعى إليها الأمم وتجاهد من أجل بلوغها، ألا وهي “التنمية البشرية“. وهذا مصطلح اقتصادي سياسي ظهر أوَّل مرة في أواخر القرن العشرين في تقارير التنمية البشرية السنوية التي أخذ يُصدرها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة ابتداء من سنة 1990. ومفاده أن تقدّم الأمم ينتج من الحكم الرشيد الذي يحقق رفاهية المواطنين، المتمثلة في ما يحصلون عليه من تعليم ذي جودة، وما يتمتعون به من صحّة مديدة جيدة، وما يكسبونه من دخل يمكِّنهم من العيش بمستوىً يليق بالكرامة الإنسانية. وتقوم التنمية البشرية على إيجاد (مجتمع المعرفة) الذي يستطيع تحقيقها بما يتوفَّر عليه من تعليم وتدريب، وإعداد علمي ومهني، وقدرات فكرية تمكِّنه من الإبداع والإنتاج وتنمية بلاده. فالتنمية البشرية تتم بالإنسان وللإنسان. وكان الخليفة الراشد الرابع الإمام علي كرّم الله وجهه (ت 40 ه) قد لخّص هذا المفهوم في عهده لمالك الأشتر لمّا ولاه مصر، إذ حدَّد واجبات الوالي بأربع كلمات تُعدُّ من جوامع الكلم: ” استصلاح أهلها، وعمارة بلادها” ونلاحظ أن ” استصلاح المواطنين ” يُقدَّم على ” تعمير البلاد” لإن الأنسان هو أساس التنمية البشرية، وتعليمه وتزويده بالمعارف والمهارات هو المنطلق الصحيح لإنجازها. وإذا كان مصطلح ” التنمية البشرية” غير معروف في زمن الإمام، فإن مفهومها كان موجوداً في الثقافة الإسلامية. ويدلُّنا علم المصطلح على أن المفهوم قد يوجد مع عدم وجود مصطلح يعبّر عنه أو يُعبًّر عنه بمصطلح مختلف يخضع للتغيُّر مع مرور الزمن. وبالمقابل قد يتغير المفهوم من عصر لعصر ويبقى المصطلح الذي يعبِّر عنه ثابتاً.

وقد اختار الشاعر هذا البيت دون غيره من أبيات الحوار ليكون أحد الاستشهادات التي يفتتح بها كتابه، لأن جلَّ الحوار يدور حول قضايا التنمية البشرية، ولأن هذا البيت يبيّن أساس التنمية البشرية: المعرفة والإبداع.

والاستشهاد الرابع اقتباس من القرآن الكريم هو:

﴿ أليس لي ملكُ مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾ قرآن كريم ( الزخرف: الآية 51)

ففي هذه الآية الكريمة، يتحدَّث الفرعون عن عظمة مصر المتأتية من أنهارها الجارية التي  هي ( النيل) وفروعه الكثيرة. وهذا الاستشهاد يرتبط بالنص المركزي الذي يمجِّد النيل ويعلي منزلته.

  • المقدِّمة:

العتبة الرابعة في هذا الكتاب هي المقدِّمة. ولكن المؤلِّف لم يطلق عليها اسم “المقدمة”، وإنما اختار أن يعنونها بـ ” هذه القصيدة “. واستغرقت هذه المقدمة النثرية الصفحات من 13 إلى 27. وتناولت القضايا التي ينبغي أن يتناولها كلُّ مؤلّف في مقدمته، والتي بيّنها تقي الدين المقريزي ( 1358 ـــ 1441) في مقدّمته لكتابه ” المواعظ والاعتبار في الخطط والآثار” وأسماها بـ ” الرؤوس الثمانية” للمقدمة،  التي ينبغي أن تساعد القارئ على الإلمام بطبيعة الكتاب وظروف تأليفه خاصة تاريخ ومكان إبداع النص والغرض منه وتجنيسه.

يخبرنا المؤلّف في مقدمته أنه كتب هذه القصيدة في شهر كانون الثاني/ يناير 1993 على شاطئ النيل في منطقة ما قبل المعادي من جهة القاهرة، بعد أن رأى ما يحيق بشاطئه من عدوان عليه، فخيِّل إليه أن النيل يبكي، فشرع في كتابة مطلع القصيدة على ورقة صغيرة وجدها في جيبه. ولما عاد إلى منزله وضع الورقة الصغيرة في مكان ما وانشغل بأمور عاجلة. وبعد سبع سنوات وكان يبحث عن أوراق أخرى، عثر مصادفة على تلك الورقة الصغيرة ففرح بها دون أن يدري لماذا، وأخذ يقرأ المطلع ويعيد قراءته، فإذا به يفجِّر في نفسه هموماً فيكتب القصيدة ويختمها، ويسميها ” حوار مع النيل لم يكتمل”.

وعندما سلّم نسخة من القصيدة لصديقه وأستاذه الدكتور محمود الربيعي الشاعر والناقد الأدبي المعروف، فاجأه في اليوم التالي بقولهً إن قصيدتك مجرد نجوى، وأرى أن تفتح القصيدة وتجعلها حواراً حقيقياً، واحذف عبارة ” لم يكتمل” من العنوان، ودع عنك الكسل، وانهض للقصيدة كما يجب. وهكذا كان، وأصبح عنوان القصيدة “حوار مع النيل“.

وتنبغي الإشارة إلى أن هنالك قصيدة للشاعر أمل دنقل (1940ــــ 1983) عنوانها  “حوار على النيل” لم تظهر في أية طبعة من طبعات إعماله الشعرية الكاملة، وإنما ألقاها في (برنامج أمسية ثقافية) الذي يقدِّمة الشاعر الكبير فاروق شوشة، وقد جمعه مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، سنة 1982. بيدَ أن حوار دنقل كان مع شخص آخر وهما على النيل، في حين أن قصيدة الدكتور محمد حماسة كانت مع النيل نفسه، ومضمونهما مختلف، ولو أن بطل القصيدتين هو النيل.

ويفسِّر لنا الدكتور محمد حماسة ” الكسل ” الذي أشار إليه أستاذه وصديقه الدكتور الربيعي، بأنه شاعر هاوٍ ولا يعدّ نفسه من الشعراء المتخصصين، وأنه لم يكتب قصيدة قط إلا إذا استطاعت السيطرة عليه ولم يعُد منها مفر إلا بكتابتها. ونحن نعلم أن تيسير النحو العربي قد سيطر على جل اهتمامه، وأنه أنتج أكثر من خمسة عشر كتاباً في هذا المجال تعد من نفائس الكتب ُالتي تُستخدم مراجع أساسية في الجامعات العربية وهو عدد كبير إذا ما قورن بمطبوعاته الشعرية التي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين. ومع ذلك، فنحن نعلم أنه إذا كان عقله مع تيسير النحو العربي، فإن قلبه مع الشعر والأدب، فهو الذي نظّم أول مهرجان في كلية دار العلوم للاحتفاء بيوم الشعر العالمي سنة 2002، عندما كان وكيلاً للكلية.

وبوصفه ناقداً أدبيا متميزاً، فإن الدكتور محمد حماسة يثير في المقدِّمة قضية قراءة الشعر وتذوقه. فهو يرى أن كلّ قارئ يؤوِّل النص الشعري طبقاً لثقافته وخبراته، وليس من حقِّ الشاعر أن يفرض تفسيراً محدداً لقصيدته على القارئ، فلكل متلقٍ للنص الشعري فهمه وتأويله، وهذا ما يهب النص حياة متجددة ويصبح نصاً متعدداً. بيد أن الدكتور محمد حماسة بوصفه عروضياً متمكناً يذكر لنا في مقدمته أن قصيدته هي من بحر المتدارك الذي تفعيلته “فاعلن” وقد يدخلها الخبن، أي حذف الألف، فتصير “فَعِلن”. وإضافة إلى ذلك، فإنه لم يتقيّد، في هذه القصيدة، بعدد التفعيلات المقرر في العروض العربي التقليدي،  بل يزيد طول بعض أبياتها على ثماني تفعيلات قليلاً أو كثيراً. ولكنه التزم بقافية لامية ساكنة مسبوقة بالألف في جميع أبياتها. وهكذا تكون هذه القصيدة من الشعر الحر ( أو من “شعر التفعيلة”، في مصطلح الشاعر فاروق شوشة الذي يحتفظ بمصطلح “الشعر الحر” لما  يُسمى عادة بقصيدة النثر).

  1. قصيدة ” حوار مع النيل”:

سرتُ والنيلَ،

قلتُ: أُلاطفُهُ، كان يبكي

فرحتُ أهدهِدُهُ،

قلتُ: لا تبكِ، واحكِ، فقالْ:

يابُنيَّ، امضِ،

لا تُثِر الهمَّ،

دعني وشأني، همومي ثقالْ.”

يُنبـئنا مطلع القصيدة أن الحوار سيدور حول هموم النيل أي هموم الشعب المصري، فالنيل هو مصر، وأبناء الشعب المصري هم أبناء النيل، كما أشار الإهداء. وعندما يتساءل الشاعر عن أسباب حزن النيل، ويعجب النيل من الاهتمام الذي يبديه هذا الرجل، يقول الشاعر:

قلتُ: يا سيدي، إنني واحدٌ من  بنيكَ،

وماؤكَ يجري دماً في عروقي،

وطميكَ شدَّ عظامي،

وإمّا ابتعدتُ، أحنُّ إليكَ،

وأنتَ ليَ البدْءُ، أنتَ المآلْ.”

ومن الهموم التي أثارها الشاعر في حواره مع النيل همُّ ” التنمية البشرية” الذي تطرقنا إليه عندما تناولنا عتبة الاستشهادات. ومن الهموم المتعلّقة بهمِّ “التنمية البشرية” همُّ ” التنمية المستدامة” التي تعني استخدام الموارد الطبيعية بصورة محسوبة بحيث لا يضر هذا الاستخدام بالموارد الطبيعية ولا يُسيء إليها ولا يضعفها ولا يستنفدها فيضحي بمصالح الأجيال المقبلة. وقد تناول الشاعر هذا الموضوع بطريقة طريفة إذ يقارن بين تقديس المصريين القدماء للنيل وعنايتهم به، وبين إساءتنا في العصر الحاضر إليه. فيقول:

إنهم عبدوك قديماً، فأنت لهم واهب الخير والخصب،…”

وفي مقابل هذه العبادة والتقديس والعناية قديماً، يتعرض النيل إلى الإساءة في الحاضر:

” اعتدى الشاطئان عليكَ بلا هيبةٍ، فاستْكنْتَ،

          وصارت مياهك آسنةً، فسكَتَّ،

          وفرّتْ من الضفتين الطيورُ،

إلى حيثُ تلتقط الحبَّ والخسفَ،

غاضتْ على الجانبينِ الظلال.”

ومن الهموم التي تطرّق إليها الحوار، وهي مرتبطة كذلك بالتنمية البشرية، اعتماد الشعوب العربية على اقتصاد الريع. فهذه الشعوب تركت بذل المجهود في الإنتاج الزراعي والصناعي وما يلزم ذلك من تعلّم ومهارات، واعتمدت بصورة شبه كُليّة على البترول والسياحة اللذين يتحكّم فيهما الأجنبي. يقول النيل:

” كان أهلي يقومون في الفجر،

يبتدرون الحقول، ويبقون حتى الغروب،

وكانوا ينامون بعد صلاة العشاء، بأكرم نفسٍ وأصلح بالْ.

فجأةً … أهملوني، وقد قيدوني

وصاروا يبيتون في المُلهياتِ،

وقد زرعوا أرضهم شجراً من رمال.

إنهم هجروني إلى النفط…”

ومن مبادئ التنمية البشرية، التي انتبه إليها ابن خلدون (1332 – 1406) وذكرها في تاريخه ومقدمته، أن الأمّة إذا تقدَّمت بالعلم وقويت، عمرت أرضها، وارتقت صناعاتها، وتطوّرت لغتها وسادت، وتقدّم كل شيء يمت إليها بصلة؛ أمّا إذا ضعفت الأمة، فيضعف كل شيء متعلق بها. يقول النيل:

ولستُ ضعيفاً،

          ولكنني إن ضعفتم، ضعفتٌُ،

          وإمّا قويتُم، قويتُ،

          فإني وأياكمُ توأمانِ حياتهما في توالْ

ويمضي الشاعر في حواره مع النيل الذي يتناول فيه مختلف قضايا التنمية البشرية. وعلى الرغم من أن التنمية متدنية في بلداننا العربية، فإن الشاعر لا يفارقه الأمل في أن أمتنا ستعي أقوال مفكريها، وتعمل بنصحهم، وتحقق آمالها، وتنال عزتها، ولذلك فإنه يختم الحوار بنغمة أمل:

قلتُ: يا سيدي النيلُ، حسبُكَ،

          إني وعيتُ حديثكَ،

          قال: السلامُ عليكَ،

          فقلتُ عليكً السلامُ إلى أن أراك بأحسنِ حالْ.”

  1. الخاتمة:

إن قصيدة ” حوار مع النيل ” كتبت بلغة بليغة جزلة مطرَّزة بصور مجازية بديعة، ومدعمة بتقنيات شعرية فذّة، في مقدمتها تقنية ” التشخيص” التي تضطلع بدور فاعل في بناء الصور الشعرية، فتضفي الحياة على الذوات الجامدة، وتخلع عليها خصائص النفس الإنسانية بعواطفها وإحساساتها وخلجاتها وقدراتها الفكرية واللغوية. فتجعل من النيل شيخاً  أسيفاً كسيفاً، غضّن اليأسُ صفحةَ وجهه، وارتجفت قدماه، وقد نال منه الهزال، فيتكّلم بصوت واهن ضعيف.

والحوار يعكس لنا ثقافة الشاعر وقدراته على الإبداع الأصيل، كما يبين لنا محبته العارمة لوطنه العزيز.

علي القاسمي
الرباط

مقالات ذات صلة