أصدقاء الدكتور علي القاسمي

اختصار المعاجم : أهدافه وطرائقه دراسة في (مختار الصحاح) للرازي



اختصار المعاجم : أهدافه وطرائقه

دراسة في  (مختار الصحاح)  للرازي

د. علي القاسمي



100 ـ تقديم:

   قد يحسب بعضهم أن اختصار المعاجم أمر يتعلق بمعاجم التراث الكبيرة فقط وأن عصره قد انتهى الآن، أو يظن أننا لا نحتاج إلى اختصار معجم موجود بل من الأيسر أن نصنف معجما صغيرا جديدا، أو يتوهم أن اختصار المعاجم فن يعتمد على حذق المعجمي وفطنته وليس علما له قواعده المحددة.
غير أن أبحاث علم اللغة التطبيقي الحديث تدلنا على أن اختصار المعاجم  لإنتاج أنواع متعددة منها سيبقى ضرورة حتمية ما دامت مستويات القراء متباينة، وما دامت اهتماماتهم متفاوتة، ومادامت حاجاتهم إلى استعمال المعاجم مختلفة؛ وأن من الأفضل أن تنبني المعاجم المتعددة على مدونة معجمية جيدة واحدة لأن في ذلك توفيرا للجهد وصيانة للوقت وتخفيضا للنفقات. ولهذا نجد أن المؤسسات المعجمية العالمية الكبرى مثل لاروس وأكسفورد ووبستر تنتج عدة معاجم لتستجيب لمستويات القراء المتعددة واحتياجاتهم المتنوعة.
وفي هذه الدراسة المختصرة التي تتخذ من مختار الصحاح ميدانا لها، تعريف ببعض أغراض اختصار المعاجم والقواعد الواجب مراعاتها.
200 ـ العبقرية والتعقيد:
لقد احتاج المعجميون العرب إلى أكثر من قرنين من الزمان للتخلص من تأثير الخليل بن أحمد الفراهيدي    (100-175هـ) عليهم. فقد ابتكر الخليل منهجية فريدة توافق عبقريته الفذة وتناسب طموحاته العريضة الرامية إلى وضع معجم يحصي فيه جميع " كلام العرب وألفاظهم فلا يخرج منها عنه شيء." (1)
وتقوم منهجية الخليل على أسس لسانية رياضية منطقية جعلت منها منهجية معقدة لا يستطيع استيعابها إلا المتخصصون، في حين يصعب منالها على عامة المثقفين والمتعلمين. وهذه الأسس هي:
أولا، ترتيب مواد المعجم ترتيبا صوتيا حسب مخارج الحروف ابتداء من حروف الحلق، لأنه أبعد المخارج، والصعود تدريجيا حتى حروف الشفة، فجاء ترتيبه على الوجه التالي: ع ج ه غ خ ق ك ج ش ض ص س ز ط ت د ظ ذ ث ر ل ن ف ب م و ي ا. وجعل الخليل بابا خاصا في معجمه لكل حرف من هذه الحروف. وهو ترتيب مبتكر يصعب استيعابه على عامة الناس الذين اعتادوا علي الترتيب الألفبائي والترتيب الأبجدي الشائعين آنذاك.
ثانيا، ترتيب الكلمات في  كل حرف من هذه الحروف حسب أبنيتها الصرفية، بحيث أُفرد باب لكل بناء من الأبنية التالية: الثنائي المشدد ثانيه، والثلاثي الصحيح، والثلاثي المعتل، واللفيف،  والرباعي،  والخماسي. ومن يبحث عن كلمة عليه أن يعرف أولا أصلها وبنائه.
ثالثا، اعتماد طريقة التقليبات، فهو يذكر الكلمة ثم يقلّبها إلى كل وجه بحيث تتألف من مقلوباتها كلمات، فتُذكر جميع تلك الكلمات في موضع واحد، ويشير إلى المُستعمَل والمُهمَل منها. مثلا: في مادة ع ك ب   نجد العنوان التالي:
ع ك ب ، ع ب ك ، ك ع ب، ك ب ع ، ب ك ع (مستعملات)، ب ع ك (مهمل)
ومن يبحث عن ( ش ع ل ) فهو لا يجدها في كتاب الشين وإنما في كتاب العين لأن العين أسبق من الشين في الترتيب الصوتي الذي ابتكره الخليل.
هذه المنهجية الرائدة في تنظيم المعجم أثّرت، بدرجات متفاوتة، في أعمال كبار المعجمين العرب الذين جاءوا بعد الخليل مثل معاصره أبي عمرو الشيباني (149- 206هـ)، في معجمه ( الجيم )، وابن دريد (223 –321 هـ)في معجمه( الجمهرة)، وأبي منصور الأزهري (282-321هـ) في معجمه (تهذيب اللغة)، والصاحب بن عباد (326-385 هـ) في معجمه (المحيط).
وعلى الرغم من أن المعجميين الذين جاءوا بعد الخليل بذلوا جهدا كبيرا لتيسير منهجيته وتبسيطها في هذا الجانب أو ذاك، فإنه لم يتم التخلص منها برمتها إلا على يد عبقري آخر هو الجوهري.
300-الجوهري ومعجمه (الصحاح):
والجوهري هو إسماعيل بن حماد (332-400هـ)، أصله من فاراب في بلاد الترك. رحل إلى العراق في طلب العلم فدرس على اثنين من أعظم شيوخ العربية في زمانه هما أبو علي الفارسي (288ـ 356 هـ)وأبو سعيد السيرافي (284ـ 368 هـ). ثم رحل إلى الحجاز وشافه الأعراب في ديارهم. وسافر إلى خراسان فالري فنيسابور حيث أقام هناك متصديا للتدريس ومتفرغا للتأليف، وفيها ألف معجمه (الصحاح) وفيها لقي حتفه على إثر قيامه بتجربة فاشلة للطيران حين  صعد إلى سطح الجامع وقد ربط أجنحة إلى ذراعيه وألقى بنفسه محاولا الطيران، ولكنه سقط ميتا. فقال بعضهم إن محاولته تلك نتيجة لإصابته بوسوسة أو لوثة في عقله.
ومعجمه (الصحاح) يشهد بعبقرية فذة جعلت ياقوت يقول عنه في معجم الأدباء:" كان الجوهري من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما" (2)
ولا تكمن أهمية معجم (الصحاح) في أن الجوهري جمع فيه الألفاظ الصحيحة " بعد تحصيلها بالعراق رواية، وإتقانها دراية، ومشافهتي بها العرب العاربة في ديارهم بالبادية"، كما يقول(3) فحسب، وإنما في الترتيب الذي ابتكره لتيسير المعجم كذلك. وخصائص المعجم الفريدة هذه جعلت الناس يقبلون على اقتنائه وتداوله ما دعا الباخرزي إلى القول: " وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم، وعليه اعتمادهم." (4) ويعلل الثعالبي ذلك بأن (الصحاح) " أحسن من (الجمهرة)، وأوقع من (تهذيب اللغة)، وأقرب متناولا من (مجمل اللغة)." (5)
وتنبني منهجية الصحاح على ترتيب جميع أصول الكلمات العربية، بصرف النظر عن بنائها الصرفي، حسب قوافيها على حروف المعجم الألفبائية المعتادة. ويُخصص لكل حرف باب. وفي كل باب تُرتب المواد ترتيبا ألفبائيا كذلك. ففي باب الباء، مثلا، نجد المواد مرتبة ألفبائيا : أبب، أتب، أدب، أرب، أزب، ..ألخ.
400ـ تلخيص الصحاح:
وأدى صدور هذا المعجم الرائع إلى تنشيط الحركة المعجمية تمثل في الكتابات النقدية التي تناولته والأعمال المعجمية التي انبثقت عنه تعليقا، وتكملة، وتحشية، وتلخيصا. ويكفي الجوهري فخرا أن أعظم معاجم التراث العربي بعده سارت على نهجه وأفادت منه، ومنها (القاموس) للفيروزبادي و(لسان العرب) لابن منظور ومعجما الصاغاني.
وقد أحصى الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار، محقق الصحاح، تسعة تعليقات، وسبع حواش، وتسعة كتب جمعت الصحاح مع غيره من المعاجم، وسبع تكملات ومستدركات، وعشرة كتب تناولت الصحاح بالنقد، وستة عشر كتابا أُلفت  في الدفاع عن الصحاح، وسبعة عشر مختصرا، وثمان ترجمات إلى اللغتين الفارسية والتركية، وعشرة كتب اقتبست اسم الصحاح أو سارت على منهجيته. (6)
500ـ الرازي ومختار الصحاح:
لا يقل محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت بعد سنة 691هـ) عن الجوهري عبقرية وطول باع في المعارف. فالرازي لغوي، مفسر، فقيه، صوفي، أديب له نظم ونثر. ولكن أخباره قليلة ولا نعرف تاريخ ولادته ولا تاريخ وفاته على وجه التحديد، فقد اتسم العصر الذي عاش فيه بالاضطراب السياسي والحروب الطاحنة، إذ كان الصليبيون قد شنوا حملاتهم المتتالية على العالم الإسلامي من الغرب واستولوا على بيت المقدس سنة 493 هـ  واجتاح المغول العالم الإسلامي من الشرق فسيطروا على إيران كلها عام 628 هـ . ثم زحف هولاكو بجحافله إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، بغداد، سنة 656 هـ واستباحها ودمّرها وأحرق معاهد العلم والمكتبات فيها وقتل الخليفة وأهله.
ولهذا كله اضطربت في ذلك العصر الاتجاهات الفكرية المتباينة والنزعات الدينية المختلفة، وانتعش التصوف. وكان الرازي، وأصله من الري، من كبار الصوفية الذين ولعوا بالأسفار والرحلة في طلب العلم فزار مصر والشام والأناضول، واتصل بالعلماء وطلاب العلم في هذه الأقطار.
وللرازي مؤلفات عديدة في تفسير القران، واللغة، والبلاغة، والتصوف. وله خبرة في إيجاز المعلومات واختصارها تجلت في تفسيره الموجز المعروف بـ ( إنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من آي التنزيل) (7)، وفي مصنفه (كتاب الأمثال والحكم) الذي قال عنه في مقدمته إنه مختصر جمع فيه ما تفرق من الأبيات المفردة وأنصاف الأبيات التي ما زال الفضلاء يتمسكون بها في مكاتباتهم ومخاطباتهم...(8)
هذا اللغوي المتمرس في الإيجاز، المولع في ما قلّ ودلّ، تصدى لاختصار (الصحاح) الذي يقع حاليا في ستة مجلدات مطبوعة يربو عدد صفحاتها على 2560 صفحة من الحجم الكبير، ولخّصه في كتاب صغير عنوانه (مختار الصحاح)      لا يتجاوز عدد صفحاته 590 صفحة من القطع الصغير.
600 ـ اختصار المعاجم:
لا يعني اختصار المعجم مجرد حذف ما زاد على كلمات المداخل ومعانيها الأولى من معلومات نحوية، ومعان ثانوية ومجازية، وتعبيرات اصطلاحية وسياقية، وشواهد، وغيرها.(9) فعملية الاختصار مقيدة بالهدف منها وجمهور القراء المستهدفين. فإذا كان هذا الجمهور يتألف من المتعلمين وغير المتخصصين فقد يقتضي الاختصار إضافة معلومات لا يتضمنها المعجم الأصلي، وهذا ما فعله الرازي في (مختار الصحاح)، فقد أضاف أحيانا إلى مداخل الصحاح ما يحتاج إليه الجمهور الذي يسعى الرازي إلى إفادته. ومن الأمثلة على ذلك ما أضافه الرازي من مصادر الأفعال الثلاثية التي أهملها الجوهري. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك مقدمة المعجم. ففي حين تتألف مقدمة الجوهري لمعجمه (الصحاح) من فقرة واحدة لا تتعدى نصف صفحة، نجد أن مقدمة الرازي لمعجمه ( مختار الصحاح) تناهز ست صفحات ضمنها معلومات صرفية ونحوية تساعد القارئ على استيعاب مواد المعجم وفهم سلوكها اللغوي بصورة أفضل.
610ـ أهداف الاختصار ونطاقه:
في مقدمته لـ (مختار الصحاح) يبين الرازي، أولا، سبب اختياره لمعجم الصحاح دون غيره من المعاجم المطولة الأخرى فيقول:
" هذا مختصر في علم اللغة جمعته من (كتاب الصحاح) للإمام العالم العلامة أبي نصر إسماعيل بن حماّد الجوهري رحمه الله تعالى، لما رأيته أحسن أصول اللغة ترتيبا، وأوفرها تهذيبا، وأسهلها تناولا، وأكثرها تداولا، وسميته (مختار الصحاح). ( 10)
فهو هنا لا يُغفل عنوان المعجم الأصلي ولا يهمل اسم مؤلِّفه بل يذكره بتقدير واحترام ويترحم عليه، وهذا ما تقتضيه آداب التأليف والأمانة العلمية وتواضع الأدباء.
ويوضح الرازي في مقدمته أهداف الاختصار فيذكر أنه أعدّ (مختار الصحاح) ليكون معجما أساسيا ميسرا   " لكل عالم فقيه أو حافظ، أو محدّث، أو أديب"(11) . فهو ليس للمتخصصين في علوم اللغة كما هو حال المعجم الأصلي، الصحاح، وإنما توخى الرازي أن يجعل (الصحاح) في متناول عامة المثقفين، حجما ومادة، دون أن يجرده من مزاياه    المفيدة وخصائصه المجيدة.
ولا يعني الاختصارُ الاقتصارَ على ما ورد في المعجم الأصلي فقط وإنما قد يرجع المعجمي إلى معاجم أخرى فيفيد منها، أو يضيف من معلوماته الخاصة استكمالا للفائدة. وهذا  ما فعله الرازي وأشار إليه في مقدمته بقوله:
" وضممت إليه (أي إلى الصحاح) فوائد كثيرة من تهذيب الأزهري وغيره من أصول اللغة الموثوق بها ومما فتح الله تعالى به عليّ فكل موضع مكتوب فيه (قلت) فإنه من الفوائد التي زدتها على الإصل." (12)
620ـ طرائق الاختصار وقواعده:
إذن، ما هي المنهجية التي اتبعها الرازي في الاختصار؟ أو ما هي الوسائل التي استخدمها  لتحقيق أهدافه؟
يلخص لنا الرازي منهجيته حينما يذكر في المقدمة أنه اقتصر على ما لا بدّ من معرفته وحفظه لكثرة استعماله وجريانه على الألسن مما هو الأهم فالأهم، واجتنب فيه عويص اللغة وغريبها طلبا للاختصار وتسهيلا للحفظ .(13)
وبعد إمعان النظر في مواد (مختار الصحاح) ومقارنتها بالمواد الأصلية في (الصحاح)، يمكننا أن نستخلص وسائل الاختصار التي استخدمها الرازي ونلخصها في ما يلي:
621 ـ اختصار المعلومات النحوية:
يقدّم المعجم الجيد لمستعمليه معلومات صرفيه ونحوية تعينهم على تصريف الأفعال ونطق مشتقاتها بصورة صحيحة. ويحتاج مستعمل المعجم العربي الذي تتألف مداخله عادة من الأفعال في صيغة الماضي إلى معرفة الأفعال المضارعة وحركة  عين الفعل فيها ومصدرها، وأحيانا اسم الفاعل واسم المفعول إذا كانا شاذين، لأن هذه الأمور سماعية وليست قياسية لا يستطيع القارئ معرفتها بنفسه.
 وهذا النوع من المعلومات الصرفية يتطلب استعمال الشكل التام (الحركات) ما يؤدي إلى كثير من التصحيف والتحريف حتى في وقتنا الحاضر التي تطورت فيه الطباعة بالحاسوب بله في ذلك العصر الذي كان يعتمد فيه النشر على النسخ اليدوي والنسّاخ الذين قد تعوزهم المعرفة المتخصصة ويرهقهم العمل ما يؤدي إلى اقترافهم الأخطاء الكثيرة.
وقد استخدم الرازي طريقة ذكية لاختصار المعلومات النحوية في صلب معجمه (مختار الصحاح)، وتساعد، في  الوقت نفسه، على تجنب التصحيف والتحريف.  وهي طريقة تستخدمها اليوم أحدث المعاجم الإنكليزية مثل معجم كمبرج ومعجم أكسفورد للمتعلمين، مع العلم أن الجوهري لم يستعمل تلك الطريقة في معجمه (الصحاح).
وخلاصة طريقة الرازي تلك أنه ذكر في المقدمة أبواب أو أنواع الأفعال الثلاثية الستة ( فَعَلَ يفعُل، فعَل يفعِل، فعَل يفعَل، فعِل يفعَل، فعُل يفعُل، فعِل يفعِل)، ونصّ على  موازين كل باب منها، وهي موازين يحفظها التلاميذ في المراحل التعليمية الأولى، مثل :
" الباب الأول ـ فعَل يفعُل ، بفتح العين في الماضي وضمها في المضارع، والمذكور منه سبعة موازين: نصر ينصر نصرا، دخل يدخل دخولا، كتب يكتب كتابة، ردّ يردّ ردّا، قال يقول قولا، عدا يعدو عدوا، سما يسمو سموا"
ثم أتى على بقية الأبواب وموازينها الشائعة، وذكر القواعد الصرفية التي تتحكم في بعض هذه الموازين. أما في صلب المعجم فإنه أخذ يحيل على هذه الموازين المذكورة في المقدمة، فلا يحتاج إلى ذكر الفعل المضارع، ولا تهجي المصدر، ولا تحديد حركة الحرف الأوسط من الماضي، ولا إيراد حركة عين المضارع. وكل ما يحتاجه هو النص على الباب الذي ينتمي إليه الفعل الماضي. مثلا:
"ح ل ل ـ (حَلّ) العقدة: فتحها (فانحلّت). وبابه ردّ. يقال: يا عاقد اذكر حلاً.."   
وعند ذلك يعرف القارئ أن تصريف الفعل الماضي  (حلّ) مماثل لتصريف الفعل (ردّ) المنصوص عليه في مقدمة المعجم، وهو : حَلَّ يَحُلُّ حَلاً.
622ـ حذف الألفاظ العويصة والغريبة:
من المعروف أن الناس لا يستخدمون في أحاديثهم اليومية أكثر من ثلاثمائة كلمة، وهي التي اصطلح عليها بالمفردات الشائعة. أما أكبر الكتاب وأطولهم باعا في اللغة وأكثرهم اطلاعا على أوابدها وشواردها فإنه لا يستخدم في كتاباته أكثر من عشرة آلاف كلمة. ولهذا فإن المعجم الوجيز المخصص لعامة الناس من المثقفين لا تتضمن مداخله الكلمات النادرة التي لا يحتاجها مستعملوه عادة. ولذلك فإن الرازي أهمل عددا كبيرا من مداخل الصحاح ذات الألفاظ العويصة التي يصعب على الدارسين حفظها. وهذه إحدى وسائل الاختصار والتسهيل التي اتبعها وأعلن عنها في مقدمته بقوله: " واجتنبت فيه عويص اللغة وغريبها طلبا للاختصار وتسهيلا للحفظ".
وقد تكون المادة برمتها غريبة كما قد يكون أحد مشتقات المادة فقط غريبا. ففي الحالة الأولى يحذف الرازي تلك المادة. وفي الحالة الثانية يُبقي على المادة ويحذف المدخل الغريب فقط.
ومن الأمثلة على المادة الغريبة في الصحاح  مادة(ب ج ر م):
   " البَجارِم: الدواهي."   التي  حذفها الرازي،
ومادة (ج ح ل):
   " الجُحال بالضم : السَمُّ. وأنشد الأحمر:
             جرّعه الذَيْفانَ والجحالا
   وأما الجُخالُ بالخاء فلم يعرفه أبو سعيد..."
 وأبو سعيد هذا هو أبو سعيد السيرافي شيخ الجوهري صاحب الصحاح. فإذا لم يعرفه أبو سعيد فما فائدته لعامة المثقفين؟ ولهذا تركه الرازي.
ومن الأمثلة على مداخل الصحاح العويصة الغريبة التي أهملها مختار الصحاح على الرغم من احتفاظه ببقية مداخل المادة، مدخل (طَباقاءُ) في مادة ( ط ب ق ):     
"(طَبَاقَاءُ) ويقال: جملٌ طَباقاءُ، للذي لا يضرب.
والطَبَاقَاءُ من الرجال: العييُّ، قال جميل بن معمر:
طبقاءُ لم يشهد خصوما ولم يَقُدْ     ركاباإلى أكوارها حين تعكفُ
ويروى "عَيَايَاءُ" ، وهما بمعنىً " 
623 ـ حذف المعاني العويصة والغريبة:
   لا يقتصر الاختصار على حذف الألفاظ العويصة والغريبة فقط، وإنما يشمل كذلك حذف المعاني العويصة والغريبة لبعض الألفاظ. فقد يكون المدخل مشتركا لفظيا له  عدة معان بعضها عويص غريب لا يحتاجه القارئ المثقف، فيعمد المعجمي إلى حذفه توخيا للاختصار.
ومن الأمثلة على ذلك مدخل (الرخمة) في مادة (ر خ م ) التي أورد لها الصحاح معنيين هما:
ـ "الرَخَمَةُ: طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة يقال له ألأنُوق. والجمع رَخَمٌ. وهو
  للجنس. قال الأعشى: يا رَخَماً قاظَ على مطلوبِ
   ـ والرَخْمَةُ أيضا قريب من الرحمة، يقال: وقعت عليه رَخَمَتُهُ، أي محبته ولينه.
    أبو زيد: رَخِمَهُ رَخْمةً، ورَحِمَهُ رحمةً، وهما سواء. قال الشاعر:
كأنها أمُّ ساجي الطرفِ أخْدَرَها  مستودعٌ خَمَرَ الوَعساءِ مَرْخومُ
 قال الأصمعي: أُلقيت عليه رَخْمَةُ أمّه، أي حُبُّها وإلفُها ، وأنشد لأبي النجم:
مُدللٌ يشتمنا ونَرْخَمُهْ    أطيبُ شيءٍ نَسْمُهُ ومَلْثَمُهْ  ..."    
   أما الرازي فأهمل المعنى الثاني ( أي الرخمة بمعنى الرحمة) واقتصر على المعنى الأول مختصرا، كما يلي:
   ـ" الرَّخْمَةُ : طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، وجمعه (رَخَم) وهو للجنس."  
624 ـ حذف المعلومات الموسوعية:
   إن أحد الفروق بين الموسوعة والمعجم هو اشتمال الموسوعة على أسماء الأعلام من أشخاص، وأماكن جغرافية ـ مثل البلدان والجبال والأنهار والوديان ـ، وأعياد، ووقائع حربية، وأعمال فنية وأدبية وغيرها مما يُطلق عليه عادة بالمعلومات الموسوعية. أما المعجم اللغوي فإنه يخلو من تلك المعلومات الموسوعية. (14)
وقد دأب أصحاب المعاجم التراثية على إدخال المعلومات الموسوعية فيها جريا على ما سَنّه الخليل في معجمه الرائد، كتاب العين. ويطلق اللغويون المعاصرون على هذا النوع من المعاجم اسم المعاجم الموسوعية. ولكن المعجم اللغوي البحت لا يشتمل على أية معلومات موسوعية. فمكان المعلومات الموسوعية الصحيح هو في المعلمة أو الموسوعة أو دائرة المعارف، وليس في المعجم اللغوي. وهذا ما فعله مجمع اللغة العربية بالقاهرة حينما أصدر المعجم الوسيط خاليا من أسماء الأعلام.
 وكان الرازي من أوائل اللغويين العرب الذين تنبهوا إلى هذا الفرق الأساسي بين المعجم والموسوعة ( أو بين المعجم اللغوي والمعجم الموسوعي) وأفاد منه في اختصار الصحاح. ولم ينتبه إلى هذه الحقيقة الهامة المعجمي الشهير مجد الدين الفيروزبادي ( ت 817 هـ ) الذي عاش بعد الرازي بحوالي قرن ونصف قرن من الزمان. فمعجمه (القاموس المحيط)  الذائع الصيت هو ،في حقيقة الأمر، خلاصة معجمه المسمى (اللامع المُعلم العُجاب الجامع بين المُحكم والعُباب) الذي كان يتألف من ستين سفرا. ولكن الفيروزبادي حذف في عملية الاختصار معظم الشواهد وأبقى على أسماء الأعلام. وليته اقتدى بالرازي وفعل العكس.
ومن الأمثلة على المعلومات الموسوعية التي أوردها الجوهري في الصحاح وأغفلها الرازي في مختار الصحاح ما يلي:
   ـ "جُعْفيٌّ : أبو قبيلة من اليمن، وهو جعفي بن  سعد العشيرة بن مَذحج. والنسبة إليه  كذلك.  قال لبيد:
   قبائل جعفيٌّ بن سعد كأنما سقى جمعهم ماءَ  الزعاف منيمُ
    وقوله منيم، أي مهلك، جعل الموت نوما. ويقال: هذا كقولهم ثأر منيم.
   ومنهم عبيد الله بن الحر الجعفي، وجابر الجعفي. "
   ـ "جُحْفة : موضع بين مكة والمدينة، وهي ميقات أهل الشأم، وكان اسمها مَهيَعة، فأجحف السيلُ بأهلها، فسميت جُحفة. "
625 ـ اختصار الشواهد:
   والنوع الآخر من المعلومات التي عمد الرازي إلى اختصارها هو الشواهد. ونعني بالشاهد نصا قصيرا، حقيقيا   أو موضوعا، يرد فيه اللفظ المراد تعريفه. وقد استخدم المعجميون العرب الشواهدَ لأغراض متعددة أهمها:
   1ـ إثبات وجود الكلمة في اللغة العربية، بدليل ورودها في بيت شعري أو مثل سائر أو قول مأثور أو نحوه.
2ـ توضيح معنى الكلمة، لأن السياق يساعد على  تحديد معنى اللفظ الوارد فيه.
3ـ مساعدة القارئ على الوقوف على سلوك اللفظ النحوي عندما يستعل في نص حيّ.
إضافة إلى أن الشاهد المقتبس من القرآن الكريم أو الحديث الشريف أو كبار الشعراء والأدباء يلقي أضواء كاشفة على الثقافة العربية ويثير اهتمام القارئ.
ولكن المعجميين العرب أكثروا من الشواهد أو استطردوا فيها بحيث اضطروا في أحيان كثيرة إلى شرح معنى الشاهد كله أو بعضه، لأن الشاهد أصعب من اللفظ المطلوب فهمه. ومن الأمثلة على ذلك ما مرّ علينا في الفقرة 624 حين اضطر الجوهري إلى شرح الشاهد الذي أورده من شعر لبيد.

   وقد تعامل الرازي مع شواهد الصحاح بطرائق أربع:
أولا، الإبقاء على الشاهد القصير المفيد. مثلا، في مادة (س م ع ):
   ـ" السَّمْع : سمع الإنسان، يكون واحدا وجمعا، كقوله تعالى: ( ختم الله على قلوبهم وسمعهم)، لأنه في الأصل مصدر قولك:سمعتُ الشيءَ سَمعا وسَماعا. وقد يجمع على (أسماع). وجمع الأسماع ( أسامع).." 
ثانيا، اختصار الشاهد بالإبقاء على الجزء المناسب منه. مثلا، في مادة ( ع ص م) ورد في الصحاح :
"وفي المثل: (كن عصاميا ولا تكن عظاميا) يريدون به قوله:
   نفسُ عصامٍ سودت عصاما
   وعلّمته الكـرَّ والإقـداما
   وصيّرته ملكا همـــاما..."
أما الرازي فقد اكتفى بإيراد الشاهد على الوجه التالي:
نفس عصام سودت عصاما     وعلمته الكرّ والإقداما
وكان بإمكانه، طبعا، أن يقتصر على الشطر الأول فقط، ولكنه آثر أن يحتفظ بالبيت كله لأن الوزن والقافية يسهلان حفظه؛ فالتقصير لا يؤدي دائما إلى التيسير.
ثالثا، إذا ذكر الجوهري عدة شواهد لمدخل واحد، فقد يكتفي الرازي بشاهد واحد منها.
ومن الأمثلة على ذلك مدخل (الغرام) الذي ورد في الصحاح على الوجه التالي:
ـ "ابن الأعرابي: الغرام: الشرّ الدائم والعذاب. قال بشر:
   ويومُ النِسار ويومُ الجفارِ   كانا عذابا وكانا غراما
   وقال الأعشى:
   إن يُعاقِب يكنْ غراما، وإن يُعـ    ـطِ جزيلا، فإنه لا يُبالي
   وقوله تعالى: ( إن عذابها كان غراما). قال أبو عبيدة: أي هلاكا ولزاما لهم. قال: ومنه رجل مُغرم لحب حبّ النساء. ومنه قولهم: رجل مُغرم من الغُرم والدَين..." 
في هذا المدخل من معجم الصحاح ، نجد أن الجوهري أتى بثلاثة شواهد، اثنين من الشعر وواحد من القرآن الكريم. أما الرازي فقد اكتفى بشاهد واحد للاختصار، فاختار الشاهد القرآني، وهو أوضح الثلاثة وأبسطها، لأنه يفسر نفسه بنفسه، وجاء المدخل في مختار الصحاح على الوجه التالي:
   ـ الغرام : الشر الدائم والعذاب. وقوله تعالى: ( إن عذابها كان غراما)، قال أبو عبيدة: أي هلاكا   ولزاما له. قال: ومنه رجل مُغرَم: يحب النساء، ورجل مُغرَم : من الغُرم والدَين."

رابعا، حذف الشاهد بأكمله، إذا ما شعر الرازي أنه لا حاجة له أو أنه لا يخدم الغرض الذي استخدم من أجله. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في مادة ( ر ق ع) في الصحاح:
استرقع الثوبُ : حان له أن يُرقَع. وأما قول أبي الأسود الدؤلي:
أبى القلبُ إلا أمَّ عمرٍو وحبَّها    عجوزاً، ومَن يُحبب عجوزاً يُفنّدِ
كثوب اليماني قد تقادم عهدُه     ورُقْعَتُهُ ما شئتَ في العينِ واليدِ
فإنما عني به أصله وجوهره."
أما في مختار الصحاح فنجد المدخل على  الوجه التالي:
   " استرقعَ الثوبُ: حان له أن يُرقَع."
لأن الشاهد الذي ورد في الصحاح لا يتعلق بـ "استرقعَ " بل بـ " رُقْعة".
626ـ حذف المصادر والمراجع :
   تقتضي الأمانة العلمية ومتطلبات تيسير البحث العلمي أن يذكر المعجمي مصادره، وهذا ما دأب عليه الجوهري في المواد التي سمعها من شيوخه أو نقلها من معاجم أخرى ولم يجمعها بنفسه من الأعراب الذين شافههم في البادية. ولهذا نجد الصحاح مليئا بعبارات مثل: "قال أبو عبيدة:" و "أنشدنا أبو عمرو:" و " ابن الأعرابي أو قال ابن الأعرابي:" و" لم يعرفه أبو سعيد" و " أبو زيد:" و " قال الفراء: ".
أما الرازي فقد حذف كثيرا من هذه المصادر، لأن ما يحتاج إليه مستعمل معجمه الوجيز، مختار الصحاح، هو معنى الكلمة والمعلومات المتعلقة بها وليس اسم اللغوي الذي استقيت منه تلك المعلومات. وهذا يذكرنا بمقولة الإمام علي بن أبي طالب: " لا تنظر إلى مَن قال بل أنظر إلى ما قال." ومن أراد الوقوف على المصادر الأصلية يستطيع مراجعة الصحاح.
 ومن الأمثلة على حذف الرازي للمصادر حذفه لعبارة "ابن الأعرابي:" التي ذكرناها في النقطة الثالثة من الفقرة 625.
700 ـ الخاتمة:
في هذه الورقة الموجزة لخّصنا الطرائق التي استخدمها الرازي في اختصار معجم الصحاح، وهي طرائق تقوم على تخطيط محكم وأسس علمية جعلت من معجم مختار الصحاح أشهر مختصرات الصحاح وأيسرها، ومكّنته من التفوق على جميع المختصرات الأخرى حتى تلك التي أنجزها علماء مشهود لهم بالمعرفة والخبرة مثل  محمود الزنجاني    (573ـ656 هـ) وخليل بن أيبك الصفدي (696-764 هـ) وغيرهما.



 

الهوامــش




(1) لخليل بن أحمد، كتاب العين ، تحقيق د. مهدي المخزومي        و د. إبراهيم السامرائي ( بغداد: دار الرشيد للنشر، 1980) ج 1، ص 47، من مقدمة الخليل.
(2) ياقوت، معجم الأدباء ( بيروت: دار الفكر، 1980) ج 6،      ص 151-152.
(3) إسماعيل بن حماد الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار (بيروت: دار العلم للملايين) ج 1 ص 33.

(4)  علي بن أبي الحسن الباخرزي، دمية القصر وعصر أهل العصر، نقلا عن مقدمة المرجع السابق ص 112.               
(5) عبد الملك الثعالبي، يتيمة الدهر، تحقيق مفيد محمد قمحية         ( بيروت: دار الكتب العلمية، 1983) ج 4، ص 468 .

(6) اسماعيل بن حماد الجوهري، مرجع سابق، المقدمة ص 154-212

(7) محمد بن أبي بكر الرازي، تفسير الرازي، تحقيق محمد رضوان الداية (بيروت: دار الفكر، 1990)
(8) المرجع السابق، ص 9.
(9) من الأمثلة غير الموفقة على اختصار المعاجم، المعجم العربي الميسر     ( تونس: الألكسو، 1991)، المستخلص أساسا من المعجم العربي الأساسي. فقد حذف المكلفون بإعداده كثيرا من المعلومات الأساسية الموجودة في المعجم الأصلي، بما في ذلك أسماء اللغويين العرب الذين ألفوه.
(10) محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح ( القاهرة: المطبعة الأميرية، 1922) المقدمة.  
(11) المرجع السابق       
(12) المرجع السابق       
(13) المرجع السابق
(14) للوقوف على الفروق بين المعجم والموسوعة، انظر: علي القاسمي، علم اللغة وصناعة المعجم ( الرياض: جامعة الملك سعود، ط2: 1991) ص 43-44.









مقالات ذات صلة