أصدقاء الدكتور علي القاسمي

السياسة اللغوية في البلدان العربية: الإعلام نموذجاً



السياسة اللغوية في البلدان العربية: الإعلام نموذجاً
د. علي القاسمي


1
ـ إنَّ غاية المعرفة ترقية نوعيَّة حياة الإنسان وتوسيع حرِّيَّته.
2
ـ إنَّ الوسيلة لتحقيق هذه الغاية هي ما نسميه اليوم بـ 'التنمية البشرية '.
3
ـ تعمل التنمية البشرية على تمكين جميع المواطنين من حياة مديدة بصحَّة جيّدة، واكتساب التعليم النافع، والعيش بمستوىً لائقٍ بالكرامة الإنسانية.
4
ـ يُجمِع خبراء التنمية البشرية على ضرورة إيجاد 'مجتمع المعرفة' القادر على تحقيق التنمية البشرية المنشودة.
5
ـ يعني 'مجتمع المعرفة 'أنَّ المواطنين قادرين على اكتساب العلوم والفنون والآداب، وإعادة إنتاجها، وتعميمها، والإبداع فيها (1).
6
ـ يتفق جميع الباحثين في الموضوع على أنَّ إيجاد مجتمع المعرفة يتطلّب 'أداةَ نفاذٍ' إلى مصادر المعلومات، وتبادلها، وتعميمها، والتعبير عن الفكر والإبداع.
7
ـ المقصود بهذه الأداة هو 'اللغة '. وجميع الدول التي حققت تنميتها البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين واحتلَّت أعلى المراتب في سلم التنمية البشرية، مثل كوريا وفنلندة، تستعمل لغتها الوطنية الفصيحة المشتركة في التعليم والإعلام والحياة العامَّة. فالسياسات اللغوية والتعليمية والإعلامية هي من السياسات التي تشارك في إيجاد التنمية البشرية وتعزيزها (2).
8
ـ يرى خبراء التنمية البشرية أنه كلّما كانت هذه الأداة (اللغة) موحّدةً قويَّةً مستجيبةً لجميع متطلَّبات أهلها، أصبحت عملية التفكير والإبداع أيسر، وصارت عملية تبادل المعلومات أفضل وأسرع.
9
ـ ولأنَّ خبراء التنمية البشرية ذو ثقافةٍ اقتصاديةٍ في الأساس، فإنَّهم يُشبِّهون تداول الألفاظ بتداول السلع في السوق، ويُشبِّهون اللغة بالعُملة النقدية، فكلَّما كانت العملة قويّةً وموحَّدةً في البلاد، صارت عملية تبادل السلع أفضل وأسرع، وأصبح تحقيق الرفاهية أسهل وأيسر (3).
10
ـ بيدَ أنَّ وظيفة اللغة لا تقتصر على كونها الوجه الثاني لعُملةِ التفكير وأنها تساعد على تبادل الأفكار والمعلومات ونشرها فحسب، وإنما تقوم اللغة كذلك بحفظ هذه الأفكار والمعلومات وتراكمها ونقلها من جيل إلى جيل، وتعمل على الإدماج الاجتماعي فتهَب الأمّة ثقافة واحدة. وبذلك تصبح اللغة بمثابة هوية الأمة وشعار استقلالها.
11
ـ وكما تعمل الدول على حماية عملتها وتقويتها، فإنّها تعمل كذلك على صيانة لغتها وتنميتها.
12
ـ إنّ عملية صيانة اللغة وتنميتها، تسمى بـ 'السياسة اللغوية 'أو 'التخطيط اللغوي' أو 'التدبير اللغوي'.
13
ـ تُعرَّف السياسة اللغوية بأنّها نشاط تضطلع به الدولة وتنتج عنه خُطّة تصادق عليها مجالسها التشريعية ويتمُّ بموجبها ترتيب المشهد اللساني في البلاد، خاصة اختيار 'اللغة الرسمية '. ويُنَصّ على السياسة اللغوية للدولة في دستورها أو قوانينها أو أنظمتها. وأحياناً لا توجد نصوصُ قانونية متعلَّقة بالسياسة اللغوية، فتُستشَفّ تلك السياسة من الممارسات الفعلية.
14
ـ يمرّ 'التخطيط اللغوي 'بمراحلَ عديدةٍ أهمّها: مسح الاحتياجات وتحليلها؛ اختيار لغة مشتركة؛ تنمية هذه اللغة ( بتقعيدها، وتقييسها، وإغنائها لفظاَ وتركيباً وأسلوباً وكتابة وطباعة وحوسبة)؛ وتيسير تعلُّمها؛ ونشرها، وتشجيع استعمالها من قِبل جميع المواطنين في الدولة (4).
15
ـ يُعَدّ 'التعليم 'و' الإعلام 'في طليعة وسائل نشر اللغة. فكلّما ازداد سماع الطفل اللغة الفصيحة في قاعة الدرس أو أمام شاشات التلفزيون، ازداد اكتسابه لها وتحسّن أداؤه بها.
16
ـ من أشهر الأمثلة على نجاح التخطيط اللغوي وإيجاد لغة مشتركة تكون أساساً لوحدة الأُمُّة، السياسة اللغوية الألمانية. فقبل الوحدة الألمانية في سنة 1871، كانت هنالك 39 ولاية ألمانية تستعمل ثلاث لغات أو لهجات ذات أصل ألماني لا يتم التفاهم بين الناطقين بها. ثمَّ عمل اللغويون، خاصةً الأخوَين يعقوب غريم (1785 ـ1863م) وفيلهلم غريم (1768 ـ 1859) على إيجاد لغة ألمانية فصيحة مشتركة بين تلك اللغات أو اللهجات الثلاث، تمَّ نشرها بالتعليم والإعلام حتى صار الألمان اليوم يتحدَّثون بهذه اللغة الفصيحة المشتركة ونسي معظمهم لهجته السابقة.
17
ـ يفسِّر علماء النفس السلوكيون ذلك بأن اللغة عادات لفظية، والعادات تُكتسَب بالتكرار والتعزيز. فالطفل، بعد ولادته، يسمع لغة الأم مراراً وتكراراً مدَّة عامٍ تقريباً قبل أن يأخذ في الكلام تدريجياً. ولهذا فإنَّ الأطفال الذين يجلسون اليوم أمام شاشات التلفزيون أكثر من جلوسهم في قاعة الدرس بالمدرسة أو مع والديهم، يتعلَّمون اللغة من الإعلام أكثر من أي مصدر آخر.
18
ـ لهذا كلِّه، يعدُّ علماء الاجتماع والتربويون أنَّ وظائف الإعلام ( المقروء والمسموع، والمرئي، والمحوسَب) تتجاوز الترفيه وتمضية الوقت إلى التعليم، والتثقيف، والتدريب، وتوحيد مشاعر المواطنين نحو أهداف مشتركة تضعها الدولة، وتنفّذها من خلال سياستها التعليمية والإعلامية. فالإعلام يعزّز ما يتعلَّمه الفرد في المدرسة.
19
ـ معروفٌ أنَّ سياسات الدولة اللغوية والتعليمة والإعلامية والاقتصادية وغيرها لا تُطبَّق في الدوائر الرسمية فحسب، بل كذلك في جميع مرافق الدولة ومؤسَّساتها، الحكومية والأهلية، العسكرية والمدنية، لكي تكون فعّالة وتؤدّي إلى النتائج المرجوَّة.
20
ـ عندما نتساءل عن السياسة اللغوية التي تتبعها الأقطار العربية نجد أن بعض عناصرها واضحة مسطرة في دساتيرها. فجميع دساتير الدول العربية تقريباً تنصّ على 'أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد.'
21
ـ من خصائص الدول المتقدِّمة احترام التشريعات وتطبيقها، في حين أنَّ الدول المتخلِّفة تمتلك قوانين جيدة، ولكنّها لا تحترمها ولا تطبقها. ولهذا فإنَّ دستورية اللغة العربية في أقطارنا غير محترمَة لا في التعليم ولا في الإعلام ولا في الإدارة ولا في الحياة العامَّة.
22
ـ خلافاً لدستورية اللغة العربية، نجد أن التعليم العالي العلمي والتقني لا يجري باللغة الوطنية، وإنَّما بلغة المستعمِر القديم ( الإنجليزية أو الفرنسية ) ما يؤدّي إلى قطيعة مفهومية ومعرفية وثقافية مع حصيلة الطلاب من التعليم الابتدائي والثانوي، فيتأثر تحصيلهم الجامعي سلباً، ويصعب عليهم بعد تخرّجهم نشر معرفتهم العلمية والتقنية بين المواطنين الذين لا يعرف أغلبهم اللغة الأجنبية. إضافة إلى ذلك، تسمح الحكومات العربية للمدارس الأجنبية والأهلية باستعمال لغةٍ أجنبيةٍ لغةً للتعليم في المستويين الابتدائي والثانوي.
23
ـ وخلافاً لدستورية اللغة العربية، نجد أنَّ الإعلام الرسمي يعمل على تهميش اللغة العربية المشتركة التي يتعلّمها التلاميذ في المدرسة، ويتمُّ هذا التهميش بطريقة تغليب العاميات، أو تغليب لغة المستعمر القديم (الإنجليزية أو الفرنسية) على اللغة العربية تحت غطاء الثنائية اللغوية، بحيث يؤدّي ذلك إلى تقليل فرص تعلُّم اللغة الوطنية المشتركة وتعزيزها من ناحية، وإلى التداخل اللغوي السلبي لدى الأطفال من ناحية أخرى (5).
24
ـ يتحوّل تهميش اللغة العربية إلى تدمير مقصود في الإعلام الخاص الذي يستخدم في الأغلبية الساحقة من برامجه اللهجات العامية أو اللغات الأجنبية، وبالتحديد لغة المستعمِر القديم، الإنجليزية أو الفرنسية.
25
ـ بعد البحث والاستقصاء، تبين أن هذا التدمير يتمّ بناء على سياسات لغوية وإعلامية غير معلنة مخالفة للدستور اتخذتها الحكومات العربية، ومخالفة لحقوق الطفل في تمكنيه من اللغة الأم. ولكي تضفي الشرعية على سياساتها تلك، اجتمع وزراء الإعلام العرب بمقر جامعة الدول العربية في القاهرة بتاريخ 12/2/2008، وأعلنوا وثيقة 'مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية'.
26
ـ تنصّ هذه الوثيقة في مادَّتها السابعة على ما يلي:
'7
ـ الالتزام بتخصيص مساحة باللغة العربية، لا تقلّ عن عشرين في المائة من إجمالي الخريطة البرامجية للقناة الواحدة أو لمجموعة القنوات التابعة لهيئة واحدة.' (6)
27
ـ وتعني هذه المادة أنه إذا كانت الهيئة الإعلامية تمتلك خمس قنوات، تكون القناة الواحدة ملتزمة بتخصيص مساحة باللغة العربية لا تقل عن أربعة في المائة من إجمالي الخريطة البرامجية فيها.
28
ـ من الأمثلة على ذلك أشهر هيئتَين إعلاميتَين مملوكتَين لمواطنين من المملكة العربية السعودية وتبثان من المنطقة العربية وموجَّهتين للمواطنين العرب، وهما: روتانا ، و أم بي سي. فروتانا تمتلك خمس قنوات تبثُّ الأغاني والأفلام ومعظمها باللهجات العامية. وأم بي سي تمتلك خمس قنوات تبث أربع منها أفلام وبرامج باللغة الإنجليزية حاملة في أغلبها ثقافة أمريكية، والقناة الخامسة تبثّ معظم برامجها باللهجات العامية.
29
ـ وفي الوقت نفسه، أي في شباط/فبراير 2008 أصدر مجلس وزراء الإعلام العرب بجامعة الدول العربية 'ميثاق الشرف الإعلامي العربي'، الذي تنص مادته التاسعة على أن 'يحافظ الإعلاميون العرب على سلامة اللغة العربية وبلاغتها، ويصونونها من مزالق العامية والعجمي، ويعملون على نشرها بين أبناء الأمة العربية لتحل تدريجياً محل اللهجات العامية وذلك دعماً للتفاهم بينهم.'
30
ـ تدلّ هذه المادة على إدراك الوزراء لأهمية الإعلام ووظيفته في تعميم اللغة العربية لتحل محلّ اللهجات العامية، وأن انتشار اللغة الفصيحة المشتركة يؤدي إلى إشاعة التفاهم بين العرب. ولكن الميثاق لا يتضمن أية خطوات عملية لتحقيق أهداف هذه المادة كما لم يفرض أية عقوبات على وسائل الإعلام العربية التي تهمّش العربية وتستعمل العامية ولغة المستعمِر القديم (الإنجليزية أو الفرنسية).
31
ـ وترى بعض الصحف أنَّ الهدف الحقيقي لـ 'ميثاق الشرف الإعلامي العربي 'هو الحدّ من حرية التعبير. ومن هذه الصحف جريدة 'القدس العربي' التي قالت في افتتاحيتها بتاريخ 18/1/2010 عن هذا الميثاق : 'أدى تطبيقه إلى إغلاق عدد من الفضائيات ومنع أخرى من البث على القمر المصري (النايل سات) والعربي (عرب سات). وزراء الإعلام العرب أقرّوا مجموعة من الخطوات العقابية للقنوات الفضائية التي تنتقد الزعماء، وتتحدث عن فسادهم، مثل إغلاق مكاتبها، وإزالتها من الأقمار الصناعية العربية، وفرض غرامات كبيرة عليها...' (7)
32
ـ إنَّ مضمون الأعلام العربي ينسجم مع الشكل الذي يستخدمه. فكما أن شكله يؤدي إلى الإضرار بلغة المستهلك وتدنيها، فإنَّ مضمونه يؤدي إلى تجهيل المستمع والمشاهد وحرمانهما من أيَّة ثقافة حقيقية. فمن بين حوالي 350 فضائية عربية على الساتل العربي 'النيل' لا توجد سوى فضائية واحدة فقط متخصِّصة في الثقافة، أما الغالبية العظمى من تلك الفضائيات فإنَّها متخصَّصة في الغناء الخفيف والرقص، والرياضة خاصة كرة القدم، والأفلام الأمريكية خاصةً أفلام العنف والرعب. ولهذا اعتبر تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 الذي يحمل عنوان 'تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية' ، أن المبادئ المذكورة آنفاً التي اتفق عليها وزراء الإعلام العرب في 'مبادئ تنظيم البث والاستقبال الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية' 'تهدف في واقع الأمر إلى كتم الأصوات وتضييق هامش الحرية المتاح... وقد تحايل مصدرو هذه الوثيقة ِ[وزراء الإعلام العرب] في مسألة التسمية، فاعتبروها بمثابة 'إعلان' لا 'معاهدة' أو 'اتفاقية'، لتحاشي عرضها على البرلمانات العربية للمناقشة والموافقة...' (8).
33
ـ لا يقتصر الأمر على الفضائيات التلفزيونية، بل يشمل كذلك الإذاعات. فمنذ بضع سنين، أجازت معظم الحكومات العربية ما يسمى بالإذاعات المحلية أو الجهوية التي تبث باللهجة العامية الخاصة بالمدينة أو المنطقة التي تعمل فيها. يقول الباحث قادري حسين: '... عمدت الجزائر إلى تدشين إذاعات جهوية ومحلية، والمشكلة في هذه الإذاعات أنها لجأت في أغلب برامجها إلى المخاطبة بالعامية، بمعنى تستعمل الدارجة بحجَّة إيصال المعلومة إلى جميع فئات الشعب؛ مما أثَّر سلباً على تعميم اللغة العربية الفصحى...' (9).
34
ـ هناك صحف عديدة في البلاد العربية تصدر بلغة المستعمِر القديم (الإنجليزية أو الفرنسية) وهي ليست موجهة للأجانب وإنما لأبناء البلاد، أو تصدر باللهجات العامية، والمقصود منها، طبعاً، إضعاف استعمال اللغة العربية الفصيحة المشتركة في الصحافة. ويقال إن بعض تلك الصحف العاميّة أو الفرنسية والإنجليزية تتلقَّى دعماً من جهات أجنبية. فقد كشفت جريدة 'المساء المغربية' 'أن المالك الحقيقي لمجلتَي ( تيل كيل) [ أسبوعية مغربية بالفرنسية] و (نيشان) [أسبوعية مغربية باللهجة العامية] ليس سوى جون لوي سيرفان شرايبر.' وهو صحافي يهودي فرنسي.(10).
35
ـ وإذا كان للصحافة في عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فضل تبسيط الأساليب العربية، فإن مواد الصحف والبرامج الإذاعية والتلفزيونية التي تستعمل اللغة العربية الفصيحة اليوم، زاخرة بالأخطاء الإملائية والصرفية والنحوية والأسلوبية. فمعظم وسائل الإعلام لا تستخدم مدقِّقين لغويِّين، وهكذا تعمل على نشر الأخطاء اللغوية من كلِّ نوع. ولهذا السبب، كثرت المقالات والكُتُب التي تصحِّح لغة الإعلام (11).
36
ـ دأبت المؤسِّساتُ اللغوية المختصَّة، كالمجامع والمجالس اللغوية، على دعوة الحكومات العربية إلى استخدام اللغة العربية الفصيحة المشتركة في الإعلام. ولكن الحكومات العربية لا تستجيب لها على الرغم من أنَّها هي التي أنشأت تلك المؤسَّسات المختصة كبيوت خبرة. ومن أمثلة هذه الدعوات ما ورد على لسان الدكتور محمد العربي ولد خليفة رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر الذي دعا إلى 'رفع الأداء الإعلامي والثقافي باللغة العربية باعتبارها لغة موحِّدة وأداة إدماج اجتماعي للمواطنين، داخل الجزائر وخارجه، وقناة صالحة للتوصيل المباشر لعشرات الملايين عبر العالم العربي والإسلامي والجاليات المتواجدة في المهجر...' (12).
37
ـ كان الدين الإسلامي هو الملاذ الأخير للغة العربية الفصحى كلّما تعرّضت لاضطهادٍ مُشينٍ أو إهمالٍ مُسيءٍ، منذ أن شّرفها القرآن بتوحيد لهجات الجزيرة العربية. وأسهم رجال الدين المسيحي العرب كذلك، بفاعليةٍ وتفانٍ، في إحيائها إبان عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبعده. ولكن مما يثير القلق والحزن أنّ بعض الفقهاء اليوم يظهرون على الفضائيات والإذاعات العربية وهم يتحدَّثون باللهجات العاميّة. ويتساءل المرء ما إذا كان ذلك نتيجة عدم تفقُّههم بالعربية الفصحى، أو نتيجة تفقُّههم العميق بمقاصد السلطات وسياساتها اللغوية. فقد دأب بعض رجال الدين في كلِّ مكان، منذ أيام السومريين والفراعنة، على تبرير سياسات السلطان بأفعالهم وفتاويهم.
38
ـ خلاصة القول إنَّ المشهد اللغوي في وسائل الإعلام في البلدان العربية يهمِّش اللغة العربية الفصيحة المشتركة، وذلك باستعمال اللهجات العامية أو لغتَي المستعمِر القديم، الإنجليزية أو الفرنسية؛ وإنَّ الإعلام العربي الرسمي لا يلتزم باللغة الرسمية التي تنصّ عليها دساتير الدول العربية، ولا يقوم بوظيفته المفترضة في تعزيز اللغة الفصيحة التي ينبغي أن يتعلَّمها أطفالنا في المدارس، ولا يقدّم ثقافةً تشجِّع على غرس قِيم الأُمَّة ومُثُلها العليا، والشفافية، وروح المسؤولية، والفكر الحرّ، والمعرفة الحديثة، والانفتاح وقبول الرأي الآخر؛ ولا يسهم في نشر الثقافة العلمية والتقنية والاقتصادية (13).
39
ـ إنَّ السياسة الإعلامية العربية لا تخدم قضية التنمية البشرية ولا إيجاد مجتمع المعرفة الذي يتطلَّب استخدام لغة مشتركة تيسِّر تلقّي المعلومات وتمثُّلها وتبادلها والإبداع فيها، بل على العكس تُسهِم في تجهيل المواطنين وتخلُّفهم وعرقلة التنمية البشرية. ويرى بعضهم أنَّ اعتماد اللهجات العامية في الإعلام الذي تنصحنا به الدول الكبرى دوماً (14)، جزءٌ من مخطَّط تجزيء المجزَّأً، أي تقسيم كلِّ قطرٍ عربي إلى كيانات ضعيفة، بدلاً من توحيد الأقطار العربية على غرار الاتحاد الأوربي.
40
ـ لكي يضطلع الإعلام العربي بوظائفه ويكون مؤثِّراً ومشاركاً في عملية التنمية البشرية، ينبغي أن يرقى بمادته شكلاً ومضموناً لترقية المواطن المتلقّي. وإذا كان رُقي الشكل يكمن في استخدام لغةٍ فصيحةٍ سليمةٍ ميسَّرة، فإنَّ الرقي بالمضمون يتطلَّب الأمانة المهنية من حيث الالتزام بحرِّيَّة المعلومة، وقيمة المادة الثقافية التي يقدّمها، وتعزيز ثوابت الأُمّة، ومواكبة مضامينه لمستجدات الساحة الوطنية والعالمية.
'
كاتب ولغوي من العراق
ـ دراسة قُدِّمت في المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة هذا العام الذي انصبَّ على 'اللغة العربية في الإعلام'.
الهوامش:
(1)
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية البشرية 2009: التغلب على الحواجز: قابلية التنقل البشري والتنمية (نيويورك: البرنامج، 2009)، وجميع التقارير السنوية التي صدرت قبله منذ عام 1991.
(2)
للتفاصيل يُنظر: علي القاسمي، 'التعريب والتنمية البشرية' في كتاب 'العربية: الراهن والمأمول'(الجزائر: المجلس الأعلى للغة العربية، 2009) ص 135 ـ 146.
(3)
فلوريان كولماس، اللغة والاقتصاد، ترجمة أحمد عوض ( الكويت: عالم المعرفة 263، 2000) ص 7 ـ 74.
(4)
ينظر: محمود فهمي حجازي، 'السياسة اللغوية في التعليم' في مجلة 'الحياة الفكرية'، وزارة الثقافة، دمشق، العدد 2 (2009)، ص 5ـ 18.
(5)
ينظَر الفرق بين التداخل اللغوي والتحوّل اللغوي في كتاب: علي القاسمي، لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2009) الفصل الخامس، ص 81ـ 98.
(6)
يُنظر نصَّ الوثيقة كاملاً في الصحف الصادرة في تلك الفترة مثل جريدة 'الشرق الأوسط، في عددها 10669 بتاريخ 13/2/2008.
(7) '
رأي القدس' في جريدة 'القدس العربي' بتاريخ 18/1/2010.
(8)
المكتب الإقليمي للدول العربية، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009: تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية ( نيويورك: البرنامج، 2009)، ص 57، والنص اقتبسه التقرير من المنظمة العربية لحقوق الإنسان.
(9)
قادري حسين، 'دور وسائل الإعلام في انتشار اللغة العربية في الجزائر' في كتاب: المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر، دور وسائل الإعلام في نشر اللغة العربية وترقيتها ( الجزائر : المجلس الأعلى، 2004) ص 59ـ 87.
(10)
رشيد نيني، في جريدة (المساء) المغربية بتاريخ 8/8/2009. وعلى الرغم من أنني شخصياً ـ كلغوي ـ أؤمن بضرورة تنمية وتدريس اللغات الوطنية غير العربية ، مثل الآشورية ـ الكلدانية، والآرامية، والأمازيغية، وهي لغات عروبية الأصل تصب تنمية ثقافتها في إغناء الثقافة العربية المشتركة، فإني أدرك أن بعض الجهات الأجنبية تسعى إلى استغلال هذه اللغات في زعزعة تماسك الاندماج في البلدان العربية ، فقد أفادت جريدة (العلم) المغربية في عددها رقم 21569 بتاريخ 21/1/2010 'أن سلطات الاحتلال الإسباني في مدينة مليلية السليبة خصَّصت ضمن ميزانيتها لسنة 2010 فصلاً لتمويل الجمعيات والمنظمات وهيئات المجتمع المدني بمدينتي الناظور والحسيمة بمنطقة الريف (شمال المغرب) تحت غطاء تنمية اللغة والثقافة الأمازيغية في المغرب'. السؤال هنا: متى تتكرم السلطات العربية في الأقطار العربية بتخصيص فصل في ميزانياتها لتنمية اللغة والثقافة العربية المشتركة؟؟!
(11)
من أمثلة هذه الكتب: عبد الهادي بوطالب، معجم تصحيح لغة الإعلام ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2006).
(12)
المجلس الأعلى للغة العربية، مرجع سابق، ص 19.
(13)
هناك دراسات ميدانية كثيرة حول فشل الإعلام العربي في وظائفه، منها كتاب: نهوند القادري، قراءة في ثقافة الفضائيات العربية: الوقوف على تخوم التفكيك ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008).
(14)
تُنظر نصائح الدول الكبرى للعرب بخصوص ضرورة استعمال اللهجات العامية بدلاً من اللغة الفصيحة في كتاب: محمود فوزي المناوي، في التعريب والتغريب ( القاهرة: دار الأهرام، 2005) ص 117ـ119.

مقالات ذات صلة