رسالة إلى راشيل كوري بقلم: علي القاسمي
رسالة إلى راشيل كوري
بقلم: علي القاسمي
(في 16 مارس/آذار 2003، هاجمت جرافةٌ عسكريةٌ
إسرائليةٌ ضخمة ناشطةَ السلام الأمريكية الشابة راشيل كوري وسحقتها وقتلتها، وهي
تحاول منع الجرافة من هدم منزل فلسطيني في بلدة رفح في قطاع غزة)
عزيزتي راشيل،
اسمحي لي،
أوَّلاً، أن أخاطبكِ باسمك الأوَّل مجرَّداً من جميع الألقاب التي نُثِرت عليكِ
بعد رحيلكِ المفجع، كما تُنثَر الزهور والدراهم على رأس صبيّة فلسطينية في ليلة
زفافها؛ فأنا أنادي جميع مَن أُحبُّهم باسمهم الأوَّل.
واسمحي لي،
ثانياً، أن أضمِّن هذه الرسالة بعض الأخبار المتعلّقة بقضيتكِ، لا أعني قضيتك
الشخصية فحسب، وإنما كذلك القضية التي أُريق دمكِ وفاضت روحكِ من أجلها. وكم أتمنى
أن تبعثي لي بجواب من العالَم الآخر، تجيبين فيه عن أسئلةٍ ظلّت تحيرني عنكِ،
فنتبادل الرسائل والأخبار والمعلومات، فنكون صديقيْن بالمراسلة.
أكتب إليكِ
بالذات لأنَّ وجهكِ، منذ سبعة أعوام ونيِّف، يطلّ عليّ من بين وجوه آلاف الصبايا
والصبيان الفلسطينيين الذين ضحّوا بأرواحهم في الانتفاضة الأولى والانتفاضة
الثانية. أراكم جميعاً في أحلامي بين الفينة والفينة. تُشرِق وجوهكم في سماء
لياليّ الحزينة، تحاصرني، تجتاح ذاكرتي وروحي ووجداني، وأنا عاجز لا أستطيع أن
أفعل شيئاً من أجل قضيتكم، قضيتنا، قضيتي، لأني لا أمتلك شجاعتكِ الفريدة ولا
إقدامكِ الفذ. من بين آلاف الشهداء يُطلّ وجهك عليَّ بجبهتكِ العريضة التي تدلّ
على العطاء والكرم والجود، حتى غاية الجود. تطلُّ عليَّ عيناكِ نافذتيْن تتوهجان
جرأةً لا حدّ ولا وصف لها. وتتردّد في مسمعي جميع كلماتكِ، كلمات قصيدتكِ التي
كتبتِها وعمركِ عشر سنوات فقط عن الأطفال المحرومين والمهمَّشين والبائسين والجياع
المحاصرين بلا غذاء ولا دواء، وكلمات تصريحاتك لوسائل الإعلام وأنتِ في غزة،
وكلمات رسائلكِ الإلكترونية إلى والديكِ، أبيكِ كريغ وأُمِّكِ سيندي.
كثيراً ما
تساءلتُ في ذات نفسي لماذا أنتِ بالذات، وليست صبية أُخرى من بين عشرات الآلاف
الذين سقطوا في المجاز الإسرائيلية في دير ياسين وتل الزعتر وقانا وبحر البقر
وغيرها وغيرها من المجازر التي يرتكبها النازيون الجدد من الصهاينة. ألأنَّ أولئك
الشهداء أصحاب القضية وقد وضعهم القدر الغاشم أمام ماكنة الحرب الإسرائيلية
الطاحنة، في حين أنّك لست صاحبة القضية، وإنَّما صاحبة ضميرٍ حرٍّ لا يرضى بالظلم، ويرفض العدوان، ويمارس
حرِّيته بالاختيار؟
أسألكِ،
راشيل، من أين لكِ كلُّ تلك الحكمة، وأيُّ عزيمة تمتلكين، وبأيِّ شجاعة كنتِ
تتسلحين، وأنتِ تجابهين هجوم الجرافة العسكرية المدرَّعة الضخمة، تحمين المنزل
الفلسطيني المهدَّد بالهدم بجسدك النحيل، وترفعين يدك اليمنى بأناملها الرقيقة
صارخةً في وجه الجندي الصهيوني مستخدمةً مكبِّر الصوت :
ـ " قفْ.
هدم البيوت جريمةُ حربٍ وجريمةٌ ضد الإنسانية. قفْ. قتل المدنيين جريمة حرب وجريمة
ضد الإنسانية."
ألم تعلمي،
راشيل، أنَّ جنود إسرائيل لا يبصرون ولا يسمعون ولا يفقهون؛ فقد أعماهم التعصّب،
وأصمَّهم التحيّز، وعميتْ بصيرتهم، وتحجّرتْ أفهامهم، بالحقد والكراهية والعدوان.
ومما يشجّعهم على ذلك أنهم منذ أكثر من ستين عاماً وهم يقترفون جرائم الحرب
البشعة، وجرائمهم النكراء ضد الإنسانية دون أن يطالهم حساب أو عقاب، حتى أمسى
الكيان الصهيوني فوق القانون.
لعلكِ
تتسائلين، يا راشيل، لماذا قتلكِ ذلك الجندي وهو يراكِ بوضوح، عِلماً بأن ناشطاً
من نشطاء السلام لم يُقتَل من قبل. الحقيقة يا راشيل أنّ حكام إسرائيل انزعجوا من
الأخبار التي كان يبعث بها أعضاء الحركة التي تنتمين إليها، حركة التضامن العالمي،
إلى وسائل الإعلام الغربية عن قتل الأطفال، وهدم البيوت، أثناء الانتفاضة الثانية.
فقرَّروا وضع حدٍّ لوجودكم في فلسطين، خاصةً غزة. فاغتالوك في 16 مارس 2003، وبعد
أقلّ من ثلاثة أسابيع، في يوم 5 أبريل، أطلق جنديٌّ إسرائيلي النار، دون أي سبب،
على ناشط السلام براين أفيروي وأصابه في وجهه وسبَّب له إعاقة دائمة، وبعد أقل من
أسبوع، في 11 أبريل أطلقوا النار على رأس زميلك المصوّر المتطوِّع في حركة التضامن
العالمي، توم هيرندال، فظلَّ في غيبوبة بضعة أشهر ثم فارق الحياة. وفي 2 مايو من
العام نفسه، أطلقوا النار على المخرج والمصوّر البريطاني جيمس ميلر الذي كان يصوّر
فيلماً سينمائياً في مخيم رفح للاجئين عنوانه " الموت في غزة"
وأردوه قتيلاً. وبعد أيامٍ معدودة، أغلقتْ حركة التضامن العالمي مكاتبها في
فلسطين. فكان لحكام إسرائيل ما أرادوا. وبدلاً من هدم البيوت بيتاً بيتا،ً شنت
إسرائيل في نهاية سنة 2008 حرباً شعواء على غزة أطلقت عليها اسم " الرصاص
المصبوب" من طائراتها المقاتلة مخلوطاً بالحقد والكراهية، وممزوجاً بالفسفور
الأبيض وقنابل النابالم، هدّمت خلالها أحياء كاملة ومستشفيات ورياض أطفال ومدارس،
بما فيها المدرسة الأمريكية التي كنتِ تزورينها، وقتلت الآلاف من الشيوخ والأطفال
والنساء، ثمّ فرضت حصاراً ظالماً على القطاع حتى اليوم.
دعيني، راشيل،
أخبرك أن موتك انتصارٌ لك، ففي الموتِ ألفُ فضيلةٍ لا تُعرَف. فبعد يوميْن فقط من
رحيلك، يا راشيل، سار طلاب كلّيَّتكِ " الكلية الدائمة الخضرة"، وأهل
بلدتك " أولمبيا" في مظاهرة وقور إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن،
رافعين صورةً مكبّرة لكِ ونصبوها على جدار السفارة، وأمضوا الليل كلَّه أمامها،
حاملين الشموع، في صلاة ترحّمٍ وخشوع. ثم أطلقت بلدتك وكليتك اسمكِ الجميل على
عددٍ من معالمهما، وانضم والداك إلى حركة التضامن العالمي، وأخذا يشاركان في
المظاهرات ضد جرائم الاحتلال الصهيوني. وأقام والداك، بالاشتراك مع المؤسسات
الإنسانية والحقوقية الأمريكية، الدعوى على شركة كاتربلر الأمريكية التي صنعت
الجرافة التي قتلتك، ولكن المحاكم الأمريكية ردّت الدعوى بزعم أنها ليست قضائية
وإنما سياسية، معللةً حكمها بأنَّ الشركة تبيع تلك الجرافات المدرَّعة إلى الحكومة
الأمريكية، التي تقّدمها ضمن مساعداتها العسكرية وهباتها المالية إلى إسرائيل.
ورفع والداك الدعوى على الجيش الإسرائيلي في إسرائيل لفضح ممارسات الصهيونية، لا
للحصول على تعويض، فأيُّ شيءٍ يعوّضك يا راشيل؟ فأنتِ جوهرةٌ نادرة الوجود. أقاموا
مؤسّسةً تحمل اسمك، وموقِعاً باسمك على الشابكة، نشروا عشرات المقالات والكتب
عنكِ، أنشد كبار الموسيقيين أكثر من ثلاثين أغنيةً لك، يا راشيل. وظلّت كلِّيتك
تنظِّم مهرجاناً سنوياً في الملعب الكبير تخليداً لاسمك. وقبل أيام، يا راشيل،
أطلق محبو السلام اسمك " راشيل كوري " على إحدى سفن قافلة الحرية،
انطلقت من إيرلندة وهي تحمل الأغذية والأدوية والخيام لأطفال غزة المحاصرة منذ
ثلاث سنوات.
كانت حروف اسمك المخطوطة على تلك السفينة
الصغيرة كافيةً لبثِّ الرعب والهلع في نفوس جنرالات إسرائيل الذين يمتلكون القنابل
الذرية، والطائرات الأمريكية المقاتلة، والغواصات المجهزة بالصواريخ النووية،
وقنابل النابالم، وقنابل الفسفور الأبيض، وجميع أصناف أسلحة الدمار الشامل. ارتعب
أولئك الجنرالات لمجرَّد سماع اسمك. هاجموا السفينة الصغيرة في المياه الدولية
تماماً كما يفعل القرصان الخارجون عن القانون، هاجموها بمئات الجنود المجهَّزين
بالأسلحة الأوتوماتيكية، وقنابل الغاز، والعصي الكهربائية، واعتقلوا مَن عليها،
وفيهم مَن يحمل جائزة نوبل للسلام، وأساءوا معاملتهم، وأخذوهم إلى إسرائيل، واستولوا
على السفينة وحمولتها.
والآن دعيني،
راشيل، أخبركِ عمّا فعلناه نحن أصحاب القضية، بعد موتك.
قررنا، نحن
أصحاب القضية العرب، أننا سوف نرفع صوتنا، وسوف نستنكر، وسوف نحتج، وسوف نشجب،
وسوف ندين، وسوف نطالب، وسوف نتكلّم بالإنكليزية والفرنسية في محافل الأمم المتحدة،
لأنَّ العربية لغةً رسميةً فيها.
نعم، راشيل،
سوف نخلع اسمك على مدارس بناتنا، لعلّهن يقتبسن شيئاً من شجاعتك فيطالبن بالمساواة
وبتمكينهن في المجتمع. سوف نطلق اسمك على معبر رفح، لعلّنا نتذكر بعض كلماتك عن
حصار المدنيين ومنع وصول الغذاء والدواء إليهم، بوصفهما جريمة ضد الإنسانية. وسوف
نصنع لكِ تمثالاً في المكان الذي سقطت فيه بالقرب من الجدار الفولاذي الذي نشيّده
الآن تحت الأرض وفوقها، لمنع مهربي الأغذية والأدوية عبر الأنفاق. ولكن قولي لي،
يا راشيل، أيّ نحّات هذا الذي يستطيع أن يجاري ألق الجرأة في عينيك ؟ وأيُّ إزميل
هذا الذي يمكنه أن يضاهي العزيمةَ التي تجمَّعت على شفتيك، وأنتِ تصرخين في وجه
الجندي والجرافة المدرعة بمكبر الصوت: " قفْ. هدم المنازل جريمة حرب، وجريمة
ضد الإنسانية."؟
ألم أقُل لك،
راشيل، أنَّكِ لم تموتي، فقد بقي اسمك حيّاً نابضاً في كلِّ مكان. رحلتِ أنتِ
ليحيا اسمك. سقطتِ أنتِ لترتفع قضيتك شامخة. وأخبرك رشيل أنكِ وحدك التي تحظين
بمثل هذا التكريم والتخليد. ففي نفس الليلة التي قُتلتِ، وفي نفس البلدة رفح، قتل
الجنود الإسرائيليون تسعة فلسطينيين منهم طفلة عمرها أربع سنوات فقط وشيخ يناهز
عمره التسعين عاماً. ولم يذكرهم أحد في حينه ولا يذكرهم أحد اليوم. وفي الانتفاضة
الفلسطينية التي قُتلتِ خلالها، سقط أكثر من أربعة آلاف شهيد معظمهم من الأطفال
والشيوخ، ولم يغنِّ باسمهم أحد ولم يكتب
أحدٌ شيئاً عنهم في حينه، ولا يغني أحدٌ لهم ولا يكتب أحدٌ شيئاً عنهم اليوم، حتى
أنا، صديقك بالمراسلة.
ـ كاتب أكاديمي عراقي مقيم في المغرب