أصدقاء الدكتور علي القاسمي

العودة إلى بابل بقلم الكاتب الأمريكي: ف. سكوت فتزجيرالد ترجمة : علي القاسمي



قصة قصيرة

العودة إلى بابل
بقلم الكاتب الأمريكي: ف. سكوت فتزجيرالد

ترجمة : علي القاسمي

تقديم:
ف. سكوت فتزجيرالد F. Scott. Fitzgerald ( 1896 ـ 1940) روائي وكاتب قصة قصيرة ، ينتمي إلى " الجيل الضائع" من الأدباء الأمريكيين الذين أقام معظمهم مدة في باريس أو زارها خلال سنوات العشرينيات من القرن العشرين التي ينعتها الفرنسيون بـ " سنوات الجنون" أو" الحقبة الجميلة". وتُعَدُّ كتاباته نموذجاً لأدب " عصر الجاز" في الولايات المتحدة الذي يستغرق سنوات العشرينيات حتى الانهيار الاقتصادي سنة 1929 . وخلال تلك السنوات شاعت موسيقى الجاز والرقص. وبعد وفاة فتزجيرالد، اعتبر كثيرٌ من النقاد أن روايته " غاتسبي العظيم" هي أروع رواية كُتبت باللغة الإنجليزية في القرن العشرين.
ولد فرانسيس سكوت فتزجيرالد في مدينة سانت بول  في ولاية منيسوتا لعائلة من الطبقة الوسطى العليا. وظهرت موهبته الأدبية مبكراً، فقد كانت أول قصة منشورة له قصة بوليسية كتبها في الثالثة عشرة من عمره. درس في جامعة برنستون ولكنه لم يحصل على الشهادة. وهناك التقى بملهمته الأولى، الأرستقراطية جنيفرا كنغ التي اقتبس منها عدداً من شخصياته النسائية في قصصه ورواياته خاصة روايته الأولى " جانب الجنة" (1920) التي حققت نجاحاً هائلا، وأنتجتها السينما الأمريكية.، كما أنتجت جميع رواياته الخمس وكثيراً من قصصه القصيرة، ومنها القصة التي نترجمها هنا.
ثم تزوج بزيلدا ساير (1900 ـ 1948) ابنة قاضي المحكمة العليا في ولاية ألباما. ويخصص إرنست همنغواي ثلاثة فصول من روايته السيرذاتية "وليمة متنقلة" التي ترجماناها إلى العربية، لصداقته مع فيتزجيرالد، ويلقي اللوم على زوجته زيلدا في الإسراف في الشرب الذي انجرفا إليه خلال إقامتهما وابنتهما سكوتي في باريس مدة سنتين في أواسط العشرينيات. وقد أدخلت زيلدا عدّة مرات في مستشفياتٍ للأمراض العقلية،  وكانوا يشخّصون مرضها بالكآبة ( الشزفرينيا)، وتوفيت في أحد المستشفيات العقلية. أما فيتزجيرالد فقد توفي بسبب الإفراط في السكر والسل.
ويتَّفق النقّاد على أن أفضل قصص فيتزجيرالد القصيرة هي " العودة إلى بابل"، التي استقى أحداثها من حياته الشخصية. فقد وُضعت ابنتهما سكوتي وعمرها ثماني سنوات تحت وصاية إحدى خالاتها بسبب مرض أُمِّها وإفراط أبيها في الشرب.
 وتمتاز هذه القصة بمتانة بنائها المدهش، وقوة حبكتها، والتحليل النفسي والفكري العميق لشخوصها وتصرفاتهم.

القصة:

سأل شارلي: “ وأين السيد كامبل؟
ـ “ ذهب إلى سويسرا. السيد كامبل رجل مريض جداً، يا سيد ويلز.”
ـ “ يؤسفني سماع ذلك.” قال شارلي ذلك وسأل: “ وجورج هارت؟”
ـ “ رجع إلى أمريكا. ذهب للعمل.”
ـ “ وأين الطائر الثلجي؟”
ـ “ كان هنا الأسبوع الماضي، وعلى أية حال، فإن صديقه السيد شيفر موجود في باريس.”
وهما اسمان أليفان من قائمة طويلة من شلة الأصدقاء قبل سنتين ونصف. كتب شارل عنواناً في دفتره وقطع الورقة وقال:
ـ “ إذا رأيت السيد شيفر، أعطه هذه. إنها عنوان منزل عديلي. لم أستقر في فندق بعد.”
لم يُصَب بخيبة أمل في حقيقة الأمر حين وجد باريس فارغةً بذلك الشكل. ولكن الهدوء في حانة فندق الريتس كان غريباً واستثنائياً. فعندما توجّه إلى الحانة وقطع العشرين قدماً على السجادة الخضراء وعيناه تنظران إلى الأمام بحكم عادته القديمة، ثم عندما استقرَّت قدمه على قاعدة النضد، أدار وجهه وتفحص الغرفة، فالتقت عيناه بزوجٍ واحد من العيون فقط يطلُّ من جريدة في الركن. سأل شارلي عن رئيس الندل الذي كان في الأيام الأخيرة من السوق المزدهرة، يأتي إلى العمل بسيارته الخاصة التي صُنِعت وفق متطلباته، وعندما أراد الجلوس ذهب  بلطف إلى أقرب ركن. ولكن بول كان في منزله الريفي في ذلك اليوم، وحلّ محله ألكس الذي كان يعطي المعلومات لشارلي.
وقال شارلي: “ لا، لا مزيد من الشراب لي. فأنا أقلِّل منه هذه الأيام.”
هنأه ألكس قائلاً: “ لقد أكثرتَ منه جداً قبل سنتين.”
فأكَّد له شارلي: “ سألتزم بلك حقاً. فقد داومتُ على التقليل من الشرب لأكثر من سنة ونصف حتى الآن.
ـ “ كيف تجد الأحوال في أمريكا؟”
ـ “  لم أذهب إلى أمريكا منذ شهر، فأنا أعمل في براغ، أمثّل مشروعيْن، وهم لا يعرفون عني شيئاً هناك.”
ابتسم آل .
قال تشارلي: “ أتذكر تلك الليلة التي أقام فيها جورج هارت وليمة العزوبية هنا؟ بالمناسبة ما الذي حصل لكلود فسندان؟”
خفّض ألكس صوته وأسرَّ إليه: “ إنه في باريس، ولكنه لم يعُد يأتي إلى هنا، إذ لا يسمح له بول بذلك. لقد تراكمت عليه فواتير بثلاثين ألف فرنك لقاء مشروباته ووجبات غذائه، وعادة وجبات عشائه، لأكثر من سنة. وعندما طلب منه بول أخيراً أن يدفع ما عليه، أعطاه شيكاً بلا رصيد.”
هزَّ الكس رأسه بحزن.
ـ “ لا أفهم، رجل أنيق مثله، الآن أفسد كل شيء.” وشبك يديه.
ونظر شارلي إلى مجموعة من الشواذ الصاخبين وهم يتخذون مكانهم في ركن من الحانة.
وفكّر: “ لا شيء يؤثر عليهم. الأسهم ترتفع وتنخفض، والناس يعملون وتصيبهم البطالة، وهم ماضون دوماً.” أحزنه المكان، فطلب النرد، وهزه مع ألكس (لمعرفة من يدفع ثمن) المشروب.
ـ “ هل أنتَ هنا لمدة طويلة، يا سيد ويلز؟”
ـ “ أنا هنا لمدة أربعة أو خمسة أيام لرؤية ابنتي الصغيرة.”
ـ “ أوه ، لديك ابنة صغيرة.”
في الخارج سطعت اللافتات الحمراء النارية، والزرقاء الزيتية، والخضراء الشاحبة، بصورة ضبابية تحت المطر الهادئ. كان الوقت عصراً وفي الشوارع الحركة، والحانات لامعة. في منعطف شارع الكوبتشين، استقل سيارة أجرة. وكان ميدان الكونكورد يتحرَّك بالقرب منه في روعة قرمزية. عبرا نهر السين الهادئ وشعر شارلي بصورة مفاجئة بالجو الريفي في الضفة اليسرى منه.
وجّه شارلي سائق سيارة الأجرة إلى شارع الأوبرا، الذي لم يكن في طريقه، لأنه أراد أن يرى زرقة تلك الساعة منتشرة على واجهاتها الرائعة، ويتخيل أبواق سيارات الأجرة تعزف بلا نهاية الجمل الموسيقية الأولى في مقطوعة (رقصة الفالس الأبطاْ)، بمثابة أبواق الأمبراطورية الفرنسية الثانية. كانوا يغلقون الباب الحديدي المشبَّك لمكتبة برنتانو، وكان أناس قد اتخذوا أماكنهم في مطعم دوفال، خلف سياجه المكوَّن من شجيرات. لم يأكل من قبل في مطعم رخيص حقاً في باريس، عشاء من خمسة أطباق مقابل أربعة فرنكات ونصف، ما يعادل ثمانية عشر سنتاً، بما في ذلك النبيذ. ولسبب غريبٍ ما، تمنّى لو أنه كان قد فعل.
وفيما كانوا يتنقَّلون في الضفة اليسرى، وقد شعر فجأة بالطبيعة الريفية للمنطقة، فكّر: إنني أفسدتُ هذه المدينة على نفسي. فأنا لم أتعرَّف على حقيقتها، ولكن الأيام توالت الواحد تلو الآخر، ثم انقضت سنتان، وذهب كلُّ شيء وذهبتُ أنا.
كان في الخامسة والثلاثين من العمر، ومرآه يُسرّ الناظر. وكان صفاء وجهه الإيرلندي لا تشوبه شائبة سوى تقطيبة بين عينيه. وفيما كان يقرع جرس منزل عديله في شارع بالاتين، ازدادت تلك التقطيبة عمقاً، حتى سحبت حاجبيه إلى الأسفل، فقد شعر بتشنّج في معدته. وخلف الخادمة التي فتحت الباب، اندفعت صبيَّة صغيرة في التاسعة من العمر، صائحة : “ بابا!” ، وقفزت جاهدة، مثل سمكة، بين ذراعيه. أدارت وجهه بجرِّ إحدى أذنيه وألصقت خدها بخده:
قال: " يا حلوتي القديمة."
ـ " أوه، بابا، بابا، بابا، بابا، با، با، با، با."
جرّته إلى الصالون حيث كانت العائلة في انتظاره: ولد وبنت في سن ابنته، وأخت زوجته وزوجها. سلّم على السيدة ماريون وهو يتحكَّم بنغمة صوته بعناية، ليتحاشى إظهار مودة غير حقيقية لها أو نفور منها. ولكن جوابها كان أكثر صراحة فقد جاء فاتراً، على الرغم من أنها قلّلت من تبيان عدم ثقتها فيه بتوجيه نظراتها إلى ابنته. وتصافح الرجلان بصوة ودية وأبقى لنكولن بيترز يده على كتف شارلي للحظة.
كانت الغرفة دافئة ومريحة ومؤثَّثة بطريقة أمريكية. وانتقل الأطفال الثلاثة بصوة ودية، للَّعب، عبر المستطيلات الصفراء التي تقود إلى الغرف الأخرى. وامتزجت دقات الساعة السادسة بطقطقة النار في المدفأة وأصوات النشاط الفرنسي في المطبخ. ولكن شارلي لم يكن مرتاحاً، فقلبه متأهِّب بتصلُّب في بدنه، وكان يستمد الثقة من ابنته التي كانت تأتي بين وقت وآخر بالقرب منه، وهي تحمل بين يديها الدمية التي جلبها لها.
ـ “ في الواقع، ممتاز جداً.” هكذا أجاب على سؤال لنكولن، “ فثمة كثير من الأعمال لا تتقدَّم، ولكننا نحقَّق نجاحاً، أفضل من أي وقت مضى. في الحقيقة، ممتاز جداً. وأنا سآتي بأختي من أمريكا الشهر القادم لتدبير منزلي. فدخلي في العام الماضي أكبر مما كان عندما كان لدي المال. فكما تعرف، فإن التشيك...”
كان تفاخره لغرض مخصوص. ولكن بعد وهلة، حين رأى مللاً خفيفاً في عيني لنكولن، غيّر الموضوع:
ـ “ إن طفليك طيبان، ذوي تربية جيدة، وعلى أخلاق كريمة.”
ـ “ ونحن نعتقد كذلك أن هونوريا صبية رائعة.”
رجعت ماريون بيترز من المطبخ. كانت امرأة طويلة ولها عينان قلقتان، كانت لهما ذات يوم طراوة وفتنة أمريكية. ولم يكن شارلي منجذباً لها قط، وكان يستغرب دائماً عندما يتحدَّث الناس عن جمالها الفتّان في السابق. فمنذ البداية، كانت بينهما كراهية غريزية.
وسألتْ: “ حسناً، كيف تجد هونوريا؟”
ـ “ رائعة. وأنا مندهش كم هي كبرت خلال عشرة شهور. وجميع الأطفال يبدون بصحة جيدة.”
ـ “ لم يزرنا طبيب منذ عام. هل تحب أن تعود إلى باريس؟”
ـ “ من الغريب أن لا نرى في باريس إلا القليل من الأمريكيين اليوم.”
قالت ماريون بصرامة: “ أنا مسرورة بذلك. فالآن تستطيع أن تذهب إلى السوق دون أن يفترضوا أنك مليونير. ونحن قاسينا مثل أي واحد آخر، ولكن الوضع ألطف بكثير.”
قال شارلي: “ ولكنها كانت لطيفة. فقد كنا نعامل  كملوكيين، معصومين تقريباً، مع نوع من السحر حولنا. في الحانة، عصر هذا اليوم ...”  ـــ تلعثم، فقد أدرك غلطته ـــ “ لم يكن ثمة رجل أعرفه؟”
نظرت إليه بحدّة: “ كنتُ أظن أنك اكتفيت من الحانات.”
ـ “ بقيتُ هناك دقيقة واحدة. فأنا أتناول مشروباً واحداً كل يوم بعد الظهر، ولا مزيد.”
وسأل لنكولن : “ الا تريد كوكتيل قبل العشاء؟”
ـ “ أتناول مشروباً واحداً كل مساء. وقد تناولت كأسي اليوم.”
قالت ماريون: “ آمل أنك ستلتزم بذلك.”
كان كرهها له بادياً في البرودة التي تتكلَّم بها، ولكن شارلي ابتسم فقط، فقد كانت لديه خطط أوسع. فعدوانيتها كانت في صالحه. وهو يعرف ما يكفي لحمله على الانتظار. كان يريدهم أن يبدأوا الحديث عن أسباب قدومه إلى باريس.
وأثناء العشاء لم يستطع أن يقرّر ما إذا كانت هونوريا تشبهه هو أكثر أم أمها. من حسن الحظ أنها لم تجمع صفاتهما التي أودت بهما إلى الكارثة. وغمره شعور أبوي بحمايتها. وحسب أنه يعرف ما ينبغي أن يفعل من أجلها. فهو يؤمن بالأخلاق، وكان يريد أن يقفز إلى الخلف جيلاً كاملاً، ويعيد الثقة بالأخلاق مرة أخرى، بوصفها العنصر القيم أبداً. كل شيء آخر يبلى ويضمحل إلا الأخلاق.
غادر بعد العشاء مباشرة، ولكن لا ليذهب لغرفته، فقد كان متحمِّساً لرؤية باريس في الليل بعينين أصفى وأكثر تمييزاً من عينيه في الأيام الخوالي. اشترى تذكرة لمقعد في الكازينو وشاهد الفنانة جوزفين بيكر في استعراضها المتنوع.
بعد ساعة انصرف وتمشّى على مهل في اتجاه حي منتسمارتر، عن طريق شارع البيغال والساحة البيضاء. كان المطر قد توقف وثمة قليل من الناس في ملابس السهرة وهم ينزلون من سيارات الأجرة أمام أبواب الملاهي، والعاهرات يتجولن مثنى وفراداً، وهناك العديد من الزنوج. ومرّ بباب مضاء تنبعث منه الموسيقى، وتوقّف بشعور من الألفة، فقد كان هذا ملهى بركتوب، حيث أمضى فيه كثيراً من الحفلات وأنفق الكثير من المال؛ وبعد بضعة أبواب وجد ملتقى قديماً آخر، ومن غير حذر مدّ رأسه  في داخله، وسرعان ما صدحت الموسيقى وقفزت راقصتان على أقدامهما، وأسرع إليه رئيس الندل، صائحاً: “ سيصل الجمع حالاً، سيدي.” ولكنه انسحب بسرعة.
وفكّر: لا بد أنك ثمل جداً.
كان ملهى زلي مغلقاً، والفنادق الرخيصة المشؤومة والكئيبة القريبة منه مغلقة، وبعد ذلك في شارع بلانش، كان هناك ضوءٌ أكثر وجمعٌ من عامة الفرنسيين المحليين. واختفى ملهى (كهف الشاعر)، ولكن فمَي (مقهى الجنة) و (مقهى النار) ما زالا متثائبين، بل فاغرين مستعدين لالتهام محتويات ضئيلة لفظتها حافلةُ سياح ــ ألماني، وياباني، وزوج أمريكي لمحاه بعيون مذعورة.
ثمَّة الكثير من جهود حي مونمارت وبراعته. فبذل الرذيلة والضياع فيه، كان على نطاق طفولي كبير. وفجأة أدرك معنى كلمة “ الإسراف في الشراب” ــ الإسراف في الشراب في فراغ، لتجعل من شيء ما لاشيئاً. وكل انتقال من مكان إلى آخر هو بمثابة قفزة بشرية كبيرة، وزيادة في الإنفاق من أجل حركة أبطأ وأبطأ.
تذكَّرَ أُعطِيت ورقة نقدية من فئة ألف فرنك لفرقة موسيقية من أجل عزف أغنية واحدة، وورقة نقدية من فئة مئة فرنك أُلقيتْ على البوّاب لاستدعاء سيارة أجرة.
ولكنها لم تُعط من أجل لاشيء.
فقد كان مُقدّرا أن تُعطى تلك، وحتى أكبر مبلغ مالي تمّ تبذيره، من أجل قدر مقتضاه أن يتذكّر الأشياء التي تستحق التذكّر حقاً، الأشياء التي تتذكّرها الآن ـــ البنت التي وُضعت في وصاية غيره، وزوجته التي هربت إلى قبرها في فيرمونت.
وفي ضوء مطعم، تكلمت امرأةٌ معه، اشترى لها بعض البيض والقهوة، ثم أعطاها ورقة نقدية من فئة عشرين فرنكاً، وهو يتجنّب نظرتها المشجّعة، ثم أستقلَّ سيارة أجرة إلى فندقه.
2
استيقظ على نهار خريفي جميل ذي طقس يصلح لكرة القدم. مضت كآبة يوم أمس، وأحبَّ  الناس في الشوارع. وعند الظهر، جلس مقابل هونوريا في (لو كراند فاتل)، وهو المطعم الوحيد الذي لا يُذكِّره بوجبات العشاء الزاخرة بالشمبانيا أو وجبات الغداء التي كانت تبدأ في الساعة الثانية بعد الظهر وتنتهي عند وقت الشفق الضبابي المبهم.
ـ “ الآن ما رأيكِ في الخضروات؟ ألا ينبغي أن تتناولي بعض الخضروات؟”
ـ “ طيب، نعم.”
ـ “ يوجد السبانغ، والقنبيط، والجزر، والفاصوليا.”
ـ “ أحب القنبيط.”
ـ “ هل تودين تناول نوعين من الخضروات؟”
ـ “ أتناول عادة نوعاً واحداً في الغداء.”
وتظاهر النادل بأنه مولع بالأطفال جداً، فقال بالفرنسية: “ ما ألطف هذه الصغيرة! إنها تتكلَّم تماماً مثل فرنسية.
ـ " وماذا عن الحلوى. هل ننتظر ونرى؟"
اختفى النادل. ونظرت هونوريا لأبيها وهي تتوقع شيئاً.
ـ " ماذا سنفعل؟"
ـ " أولاً سنذهب إلى دكان اللُّعب في شارع سانت هونوريه ونشتري أيَّ شيء تحبين. ثم نذهب إلى المسرح الفكاهي."
ترددتْ: " أنا أميل إلى المسرح الفكاهي، ولكن ليس لدكان اللُّعب."
ـ " ولم لا؟"
ـ " حسناً، لقد جلبت إليّ هذه الدمية ( وكانت تحملها معها ) ولدي كثير من الأشياء. ولم نعُد أغنياء كما كنا، أليس كذلك؟
ـ " لم نكن أغنياء أبداً. ولكن اليوم لك أن تطلبي ما تشائين."
ـ " طيب." ووافقت بشيء من التسليم.
عندما كانت معها أمُّها ومربية فرنسية، كان يميل إلى شيء من التشدُّد، أما الآن فهو أوسع بالاً، محاولاً تسامحاً جديداً؛ فعليه أن يقوم بدور الوالدين معاً، ولا يغلق في وجهها باب التواصل.
وقال بجدّية: " أريد أن أتعرَّف عليك. أولاً دعيني أقدّم نفسي. اسمي تشارلس جي ويلز، من براغ."
قالت ضاحكة : " أوه، بابا."
وأصرَّ: " مَن أنتِ، من فضلك؟"
قبلت تمثيل الدور حالاً: " هونوريا ويلز، شارع البلاتين، باريس."
ـ " متزوجة أم عزباء؟"
ـ " لا، لست متزوجة. عزباء."
فأشار إلى الدمية: " لكني أرى أن لك طفلة، يا سيدتي؟"
ولم ترغب في نكراها، فضمّتها إلى قلبها وفكّرت بسرعة: " كنتُ متزوجة، ولكني لست متزوجة الآن، فقد توفي زوجي."
فواصل بسرعة: " واسم الطفلة؟"
ـ " سيمون. سمّيتها على اسم صديقتي المفضلة في المدرسة."
ـ " أنا مسرور لأنك متفوقة في الدراسة."
قالت بافتخار: " ترتيبي الثالثة، هذا الشهر. أما ألسي ـ وهذا اسم بنت خالتها ـ فترتيبها الثامنة عشرة فقط، وريتشارد في آخر الترتيب تقريباً."
ـ " أنتِ تحبين ريتشارد وألسي، أليس كذلك؟"
ـ " أوه، نعم، أحب ريتشارد جداً، وأحبها بشكل حسن."
وسأل بحذر وبصورة عابرة: " وخالتك ماريون، وخالك لنكولن ــ أيهما تحبين أكثر."
ـ " أوه، أحسب الخال لنكولن."
أخذ يشعر بحضورها بصورة متزايدة. عندما دخلا المطعم، تبعتهما همهة: "محبوبة..."، والآن شدّت انتباه الناس في الطاولة المجارة، وهم يحدّقون فيها كما لو كانت شيئاً ليس أكثر أدراكاً من وردة.
سألت فجأة: " لماذا لا أعيش معك؟ لأن أمّي ميتة؟"
ـ " يجب أن تبقي هنا وتتعلمي الفرنسية أكثر. كنتً سأصير أبا قاسياً لو كان عليّ أن أعتني بك جيداً."
ـ " لم أعُد أحتاج في الواقع إلى كثير من العناية، فأنا أفعل كل شيء بنفسي."
وفيما هما خارجان من المطعم، حياه رجل وامرأة بصورة غير متوقعة:
ـ " حسناً، هذا ويلز القديم."
ـ " مرحبا، لورين... دونك."
شبحان خرجا من الماضي: دونكان شيفر صديق من أيام الكلية، ولورين كوارلز، سيدة شقراء شاحبة في الثلاثين من عمرها؛ واحدة من المجموعة التي ساعدته وزوجته على تحويل الشهور إلى أيام، في زمن الرفاهية والتبذير قبل ثلاث سنوات.
وفي إجابة عن سؤال قالت له لورين: " زوجي لم يستطع المجئ هذا العام، فنحن فقراء جداً. ولهذا فقد أعطاني مئتي دولار شهرياً وقال لي إنني أستطيع أن أفعل بهما الأسوأ... هل هذه ابنتك الصغيرة؟"
وسأل دونكن: " هل تود الرجوع والجلوس معنا؟"
ـ " لا أستطيع ذلك." وشعر بارتياح لاعتذاره. وكدأبه أحسَّ بجاذبية لورين الشهوانية المثيرة.
فسألتْ: " حسناً، وماذا عن العشاء؟"
ـ " لدي التزام. أعطيني عنوانكما وسأتصل بكما."
قالت كمَن يُصدر حكماً: " شارلي، أعتقد أنك صاحٍ. أعتقد بأمانة أنه صاحٍ، دونك، اقرصْه لتعرف أنه صاحٍ."
قال دونكن بتشكك: " ما هو عنوانك؟"
ـ " لم أستقر بعد، من الأفضل أن أتصل بك. نحن ذاهبان لمشاهدة المسرح الفكاهي في الأمباير."
قالت لورين: " هناك، هذا ما أريد أن افعله، أريد أن أرى بعض المهرجين والبهلوانيين والمشعوذين. ذلك تماما ما سأفعله، يا دونك."
قال شارلي: " سنقضي بعض الأشغال أولاً، ربما سنراكما هناك."
ـ " حسناً، أيها المتكبر... وداعاً، أيتها الصغيرة الجميلة."
أجابت هونوريا بلطف: " وداعاً."
وكيفما كان الحال، فقد كان لقاءً غير مرغوب فيه. أحبّاه لأنه كان فاعلاً، لأنه كان جدياً. كانا يريدان رؤيته، لأنه كان أقوى منهما، لأنهما أرادا أن يستمدا الدعم من قوته.
وفي الأمباير، رفضت هونوريا الجلوس على معطف أبيها المطوي. كانت قد أصبحت شخصاً مستقلاً، وكان شارلي قد تملكته الرغبة في أن يضع فيها شيئاً قليلاً من نفسه قبل أن تتبلور بصورة كاملة. ولكن من الميؤوس أن يحاول معرفتها في وقت قصير مثل هذا.
وفي فترة الاستراحة، التقيا بدونكن ولورين في الصالة حيث كانت الفرقة الموسيقية تعزف ألحانها.
ـ " نتناول شراباً؟"
ـ " طيب ولكن ليس في الحانة. سنأخذ طاولة."
ـ " الأب المثالي."
كان شارلي يستمع للورين وهو شارد الذهن، فقد كان يراقب عيني هونوريا اللتين تركتا طاولتهم، وتتبعهما بلهفة حزينة في جولتهما في الغرفة، وهو يتساءل عمّا رأتا. والتقت نظراتهما فابتسمتْ له.
وقالت: " أحببتُ ذلك العصير."
ماذا كانت تقول؟ ما الذي كانت تتوقعه؟ وهما ذاهبان إلى البيبت بسيارة الأجرة، أدناها منه حتى استراح رأسها على صدره.
ـ " عزيزتي، هل تفكرين في أمّك؟"
ـ " نعم، أحياناً."
ـ " لا أريدك أن تنسيها. هل لديك صورة لها؟"
ـ " نعم، أظن ذلك، وعلى أية حال، فخالتي ماريون عندها صورة لها. لماذا تريدني أن لا أنساها؟"
ـ " لأنها كانت تحبكِ جداً."
ـ " وأنا كنت أحبها كذلك."
وظلا صامتين للحظة.
وفجأة قالت: " بابا، أريد أن آتي وأعيش معك."
وقفز قلبه، فقد أراد أن تسير الأمور بهذا الشكلْ
ـ " ألست سعيدة بصورة كاملة؟"
ـ " بلى، لكني أحبك أكثر من أي شخص آخر. وأنتَ تحبني أكثر من أي شخص بعد وفاة أمي، اليس كذلك."
ـ " طبعاً، ولكني سوف لا أظل المفضل لديك، يا عزيزتي. ستكبرين وتلتقين بشخص في مثل عمرك، وستتزوجينه، وستنسين أنه كان لديك أب يوماً ما."
وافقت بهدوء: " نعم، هذا صحيح."
لم يدخل المنزل، فهو سيعود الساعة التاسعة، وأراد أن يحتفظ بنفسه جديداً من أجل الأشياء التي يجب أن  يقولها.
ـ " عندما تكونين في أمان في الداخل، أطلي عليّ من ذلك الشباك."
ـ " طيب. مع السلامة، بابا، بابا، بابا، بابا."
وانتظر في الشارع المظلم حتى ظهرت، دافئة ولامعة، في الشباك العلوي، وقبَّلت أصابعها، وبسطتها للَليل.
3
كانوا في انتظاره. جلست ماريون خلف مائدة القهوة في بذلة العشاء السوداء الوقورة التي توحي بالحداد بصورة باهتة. وكان لنكولن يمشي ذهاباً وإياباً بحيويةِ مَن كان يتكلم. وكانا متلهفين مثله للدخول في الموضوع. ولهذا فقد افتتح الحديث في الحال.
ـ " أفترض أنكما تعرفان لماذا أريد أن أراكما ــ لماذا أتيت إلى باريس في الحقيقة."
أخذت ماريون تداعب النجوم الصغيرة السوداء في قلادتها، وقطَّبت جبينها.
وواصل قائلاً: " فأنا أتوق إلى أن يكون لي بيت، ومتلهف كثيراً لتصبح هونوريا فيه. وأنا مقدّر لكما أنكما آويتما هونوريا من أجل أمِّها، ولكن الأمور تغيّرت الآن ".  وتردَّد ثم استأنف الكلام بقوة أكبر ـــ " تغيّرت الأمور  معي بصورة جذرية، وأرجوكما أن تعيدا النظر في الموضوع. من العبث أن أنكر أنني قبل ثلاث سنوات، كنتُ أسيء التصرف ـــ"
نظرت إليه ماريون بعينين حادتين.
ـ " ولكن كل ذلك قد انتهى، كما أخبرتكما، فأنا منذ ما يربو على سنة، لا أتناول أكثر من مشورب واحد في اليوم، وآخذُ ذلك المشروب عمداً، لكي لا تصبح فكرة الكحول أكبر من اللازم في خيالي. هل تفهما الفكرة؟"
قالت ماريون بإيجاز: " لا."
ـ " إنه نوع من المعوِّق التزمتُ به. فهو يحتفظ بالمسألة في توازن."
قال لنكولن: " أفهمك. فأنت لا تريد أن تعترف بجاذبيته لك."
ـ " شيء من ذلك. أحياناً أنسى أنني لم أتناوله. ولكني أحاول أن أتناوله. وكيفما كان الحال، فأنا ليس بوسعي أن أشرب وأنا في موقعي الحالي. والناس الذين أمثِّلهم أكثر من راضين بما فعلته، وسأجلب أختي من مدينة بيرلنغتون لتدبير منزلي، وأرغب بشدة في وجود هونوريا كذلك. وتعرفان أنه حتى عندما كنتُ وأمّها على غير وفاق، لم نَدعْ أبداً أي شيء مما يحدث يمس هونوريا. أعلم أنها مولعة بي وأعرف أنني قادر على العناية بها. وـــ حسناً، هذا ما هناك. كيف تشعران حيال الموضوع؟"  
كان يعلم أنه سيتلقّى النقد الآن. سيدوم الأمر ساعة أو ساعتين، وسيكون صعباً، ولكنه إذا استطاع أن يخفف من امتعاضه الذي لا مناص منه، من موقفهم من المذنب التائب، فقد يربح قضيته في نهاية المطاف.
وقال في نفسه: احتفظْ بهدوئك. فأنت لا تريد أن تحصل على البراءة، أنك تريد هونوريا.
تكلّم لونكولن أولاً: " لقد ناقشنا الموضوع عدة مرات منذ أن وصلتنا رسالتك الشهر الماضي. نجد أنفسنا سعداء بوجود هونوريا معنا هنا، فهي طفلة صغيرة عزيزة، ونحن مسرورون لتمكننا من مساعدتها، ولكن ذلك طبعاً ليس هو الموضوع..."
قاطعت ماريون كلامه فجأة وسألت: " إلى متى ستبقى صاحياً، يا شارلي؟"
ـ " آمل ، دائماً."
ـ " كيف يستطيع أي إنسان أن يثق بذلك؟"
ـ " تعلمين أنني لم أشرب بكثرة إلا بعد أن تخليتُ عن عملي وأتيتُ إلى هنا وليس لي ما أفعله، ثم أخذنا أنا وهيلين نخرج مع ..."
ـ " من فضلك لا تُدخِل هيلين في الموضوع. فأنا لا أحتمل سماعك وأنت تتكلم عنها بمثل ذلك."
حدّق فيها بعبوس. لم يكن متأكّداً من مدى تعلُّق الأختين ببعضهما في الحياة.
ـ " إن إسرافي في الشرب دام سنة ونصف فقط ــ من وقت وصولنا حتى انهياري."
ـ " كان ذلك زمناً كافياً."
أقرَّ بهذا  : " كان ذلك زمناً كافياً."
قالت: "إن واجبي هو تجاه هيلين بصورة كاملة. أحاول أن أفكِّر في ما تريدني أن أفعل. بصراحة، منذ تلك الليلة التي وقع فيها ذلك الشيء الفظيع، لم تعد أنتَ موجوداً بالنسبة إليّ. وأنا لا أستطيع التخلص من ذلك، فقد كانت أختي."
ـ " نعم."
ـ " عندما كانت تحتضر، رجتني أن أعتني بهونوريا. ولو لم تكن في مصحّة آنذاك، لساعد ذلك."
لم يكن لديه جواب.
ـ " لا أنسى في حياتي أبداً ذلك الصباح عندما طرقت هيلين بابي، وهي مبلَّلة حتى جلدها وترتجف، وقالت لي إنك أوصدت الباب في وجهها."
قبض شارلي على جانبي الكرسي. فذلك أصعب مما كان يتوقَّع. أراد أن ينطلق في جدال وشرح، ولكنه قال فقط:
ـ " الليلة التي أوصدت الباب في وجهها ـــ" ثم قاطعته ماريون:
ـ " لا أظن أنني قادرة على مناقشة ذلك مرة أخرى."
بعد لحظة صمت، قال لنكولن: " لقد ابتعدنا عن الموضوع. أنت تريد ماريون أن تتنازل عن الوصاية القانونية وتعطيك هونوريا. وأظن أن القضية الأساسية بالنسبة إليها هي ما إذا كانت لديها الثقة بك أم لا."
قال شارلي: " لا ألوم ماريون، ولكني أعتقد أنها تستطيع أن تثق بي ثقة كاملة. فسجلي جيد خلال السنوات الثلاث الماضية. وطبعاً طبقاً للطبيعة البشرية، فقد أقع في الخطيئة في أي وقت. ولكننا إذا أنتظرنا طويلاً، فإنني سأفقد طفولة هونوريا وفرصتي في تكوين بيت عائلي." هزَّ رأسه " إنني سأفقدها بكل بساطة، ألا ترى ذلك؟"
قال لنكولن: " نعم، أفهم ذلك."
سألت ماريون: " ولماذا لم تفكّر في ذلك من قبل؟"
ـ " أفترض أنني كنتُ أفكر في ذلك بين الحين والآخر، ولكن علاقتنا أنا وهيلين كانت سيئة. عندما وافقتُ على الوصاية، كنتُ ممدَّداً على ظهري في مصحة، وطردني السوق. أعرف أنني تصرفتُ بصورة سيئة. وفكرتُ أنه إذا كان ذلك سيجلب السلام إلى روح هيلين، فإنني سأوافق على أي شيء. ولكن الأمر مختلف الآن، فأنا في وظيفة جيدة، وأتصرف بصورة جيدة، اللعنة، فيما يخص..."
قالت ماريون: " رجاء لا تجذِّف أمامي."
جفل ونظر إليها، ففي كل ملاحظة منها، أخذ كرهها يظهر أكثر فأكثر. وقد شيّدت جميع خوفها من الحياة في حائط واحد ووجهته إليه. من المحتمل أن يكون تأنيبها التافه له نتيجة بعض المشاكل مع الطاهية قبل بضع ساعات. وأمسى شارلي خائفاً بصورة متزايدة من ترك هونوريا في هذا الجو المشحون بالكراهية ضده، فعاجلا أو آجلاً، ستخرج هذه الكراهية في كلمة هنا، وفي هزة رأس هناك، وبعض عدم الثقة فيه سينغرس في نفس هونوريا بصورة نهائية. ولكنه سيطر على انفعاله لئلا يبدو على وجهه، وحصره في أعماقه؛ لقد ربح نقطة، لأن لنكولن أدرك سخافة تصريح ماريون وسألها بشكل لطيف منذ متى أصبحت تعترض على استعمال كلمة " اللعنة".
وقال شارلي: " وثمة شيء آخر، وهو أنني قادر الآن على توفير منفعة أخرى لها، فأنا سآخذ معي إلى براغ مربية فرنسية. وحصلت على عقد كراء شقة جديدة..."
وكفّ عن الكلام، إذ أدرك أنه أخطأ. فليس من المتوقع أن يتقبَّلا برباطة جأش حقيقة أن دخله أصبح مرة أخرى ضعف مجموع دخلهما معاً.
قالت ماريون: " أفترض أنك تستطيع أن توفر لها الرفاهية أكثر مما نستطيع. عندما كنتَ ترمي بالنقود وتبذرها، كنا نعيش ونحن نرتِّب كل عشرة فرنكات... أفترض أنك بدأتَ تفعل ذلك مرة أخرى."
وحلّ صمت طويل. وشعر الجميع بأعصابهم متوترة، ولأول مرة منذ سنة رغب شارلي في مشروب. وصار متأكداً الآن أن لنكولن بيترز يريده أن يأخذ ابنته.
وارتعدت ماريون فجأة، فبعضها يرى أن أقدام شارلي مستقرة على الأرض الآن، وشعورها الأمومي اعترف برغبته الطبيعية؛ ولكنها عاشت مدة طويلة مع هذا التعصُّب ــ تعصّبٌ يقوم على الشك في سعادة أختها، الذي تحوّل بصدمة ليلة مرعبة إلى كره له. فقد حدث كل ذلك في نقطة من حياتها حيث جعل التذمّر من المرض والظروف الصعبة من الضروري أن تؤمن بوجود نذل ملموس وخسة حقيقية.
وفجأة صرخت قائلة: " لا أسيطر على مشاعري. لا أعرف مقدار مسؤوليتك في موت هيلين. لا أعرف. إنه شيء يجب عليك تسويته مع ضميرك."
وغمره تيار كهربائي من الغم وسرى في كيانه، وللحظة كان على قدميه تقريباً، وصوتٌ لم يُنطق تردَّد في حنجرته. وأمسك نفسه للحظة، ولحظة أخرى.
فقال لنكولن وهو غير مرتاح: " انتظر. لم أفكّر قط في أنك مسؤول عن ذلك."
وقال شارلي بفتور: " هيلين توفيت بسبب مشكلة في القلب."
ـ " نعم، بسبب مشكلة في القلب." هكذا قالت ماريون وكأن للعبارة معنى آخر بالنسبة إليها.
وفي الهدوء الذي أعقب انفجارها، رأته كما هو، وعرفت أنه استطاع بكيفية ما من التحكم بالموقف. ولمحت زوجها، فلم تجد فيه أية مساعدة لها. وبصورة مفاجئة، تخلّت عن الموضوع، وكأنه لا أهمية له.
وأسرعت خارجة من الغرفة؛ وبعد  لحظة قال لنكولن:
ـ " لقد كان يوماً صعباً بالنسبة إليها. أنت تعرف قوة مشاعرها...". وكان صوته تطبعه نغمة اعتذار تقريباً، "
ـ " طبعاً."
ـ " يحسن بي أن أذهب وأرى كيف هي"
ـ " أنا ذاهب."
كان ما يزال يرتجف عندما وصل إلى الشارع، ولكن مشيه في شارع بونابارت حتى ضفة النهر رفع معنوياته، وعندما عبر نهر السين المتجدد، المتألق بفضل أضواء الرصيف ــ شعر بشيء من الابتهاج. ولكن في غرفته لم يستطِع النوم. فصورة هيلين هيمنت عليه. هيلين التي أحبها حتى أخذا في إفساد حب أحدهما الآخر بصورة غير معقولة، حتى قُطِّع ذلك الحب إربا. في تلك الليلة الرهيبة من شهر فبراير التي تتذكرها ماريون بكل وضوح، وقعت مشادة بينهما واستمرت لساعات. ثم كانت هناك ثورة غضب في مطعم فلوريدا، ثم حاول أن يأخذها إلى البيت، ثم قبّلت شاباً على المائدة، وبعد ذلك قالت ما قالت بشكل هستيري. وعندما وصل إلى البيت وحيداً بعد ساعة، أدار المفتاح في ثورة غضب. وكيف يدري أنها ستصل بعد ساعة وحدها. وكانت هناك عاصفة ثلجية تجولت خلالها وهي ترتدي نعلين خفيفين، وكانت مرتبكة أكثر من اللازم لتعثر على سيارة أجرة. والنتيجة أنها نجت من الإصابة بالتدرُّن الرئوي بإعجوبة؛ وجميع رعب الانتظار، ثم  " التصالح" بينهما، لكن ذلك كان بداية النهاية. وما رأته ماريون بعينيها وتصورته في مخيلتها ما هو إلا واحدة من مشادات عديدة من عذاب أختها، ولم تنسَه.
وتذكُّر تلك الأحداث مرة أخرى، جعل هيلين أقرب إليه، وفي الضوء الخافت الأبيض الذي تسلَّل إليه وهو نصف نائم قبيل الصبح، ألفى نفسه يتحدّث إليها مرة ثانية. وقالت له إنه كان مصيباً تماماً بشأن هونوريا، وهي تريد أن تكون هونوريا معه. وقالت إنها مسرورة لأنه في حال جيدة وأنه يتحسن. وقالت كثيراً من الأشياء الأخرى ــ أشياء ودية جداً. ولكنها كانت في أرجوحة وهي ترتدي ثوباَ أبيض،  وتتأرجح أسرع وأسرع طوال الوقت، ولهذا في النهاية لم يستطع سماع كل ما قالته بوضوح.
4
استيقظ وهو يشعر بسعادة. فباب العالم مفتوح أمامه من جديد. فقد وضع الخطط، والتصورات والمشاهد المسقبلية لهونوريا ولنفسه، ولكنه فجأة عاد حزيناً، لأنه تذكّر جميع تلك الخطط التي وضعها هو وهيلين. لم تكُن قد خططت لتموت. كان الحاضر هو الشيء ـ عملٌ نقوم به وشخصٌ نحبه. ولكن لا لنحبه أكثر من اللازم، فهو يعرف الجرح الذي يمكن لوالد أن يسبِّبه لابنته، أو أمٌّ لابنها، من خلال التعلُّق بهما بشدة: فبعد ذلك عندما يخرج الطفل إلى العالم، سيبحث في زوجه، شريكا له نفس المحبة والرقة العمياء، ومن المحتمل أن يفشل في العثور عليها، وآنذاك سينقلب ضدَّ الحب والحياة.
كان يوماً مشرقاً ساطعاً آخر. اتصل هاتفياً بلنكولن بيترز في البنك الذي يعمل فيه، وسأله إذا كان في وسعه أن يتأكد من اصطحاب هونوريا معه عندما يغادر إلى براغ. ووافق لنكولن على أنه لا يوجد سببٌ للتأخير. شيءٌ واحد ــ وثيقة الوصاية القانونية. تريد ماريون الاحتفاظ بها لوقت أطول. لقد كانت مستاءة من القضية برمتها، ومن المفيد ترطيب الأشياء بجعلها تشعر بأنها ما تزال تسيطر على الوضع لسنة أخرى. وافق شارلي على ذلك، لأنه يريد الملموس فقط، الطفلة بشخصها.
ثم هناك مسألة المربية. جلس شارلي في وكالة تشغيل مظلمة، وتكلّم مع سيدة غاضبة تدعى بيارنيز، وإلى قروية غليظة من منطقة بريتاني، ولم تثبت أية واحدة منهما. هناك أخريات سيراهن غداً.
تناول طعام الغداء مع لنكولن بيترز في مطعم  كريفون، وحاول أن يخفّف من فرحته.
وقال لتكولن: " ليس هنالك مثل طفلك ولكنك تتفهم شعور ماريون كذلك."
قال شارلي: " لقد نسِيَتِ المشقة  التي عملتُ بها خلال سبع سنوات هناك. إنها تتذكر ليلة واحدة فقط."
وتردد لنكولن: " هناك شيء آخر، عندما كنتَ وهيلين تجوبان أوربا وتبذِّران النقود، كنا نعيش على الكفاف. ولم أنل شيئاً من الرخاء الاقتصادي، لأنني لم أسعَ إلى  الحصول على شيء سوى التأمين. وأظن أن ماريون شعرت بأن ثمة نوعاً من الظلم في ذلك ــ فأنت لم تكن تبذل غاية الجهد وأصبحت أغنى وأغنى."
قال شارل: " كنتُ أعمل بالسرعة المتاحة لي."
ـ " نعم، ولكن الكثير من ذلك المال ظلّ في أيدي المتصيدين وعازفي السكسفون ورؤساء النُّدل  ـــ حسناً، والجزء الأكبر من المال قد انقضى الآن. قلتُ ذلك لأشرح لك شعور ماريون حول سنوات الجنون تلك. إذا أتيت الساعة السادسة هذا المساء قبل أن تمسي ماريون متعبة، سننهي التفاصيل في الحال."
وعندما عاد شارلي إلى فندقه، وجد رسالة مستعجلة موجهة من حانة فندق الريتس حيث ترك عنوانه لغرض اللقاء برجل معيّن.
" عزيزي شارلي لقد كنتَ غريباً عندما رأيتك ذلك اليوم، بحيث أخذتُ أتساءل ما إذا كنتُ قد أسأت إليك. فإذا كان الأمر كذلك، فأنا لست واعية بذلك. في الحقيقة، كنتُ أفكر فيك كثيراً جداً خلال السنة الماضية، وكانت فكرة احتمال رؤيتك إذا أتيتُ إلى هنا، في فكري دائماً. لقد أمضينا أوقاتاً ممتعة في ذلك الربيع المجنون، مثل تلك الليلة عندما قمنا أنا وأنت بسرقة دراجة الجزّار، وعندما حاولنا الاتصال هاتفياً بالرئيس وأنت تعتمر قبعة السباق القديمة والعصا المزينة بسلك. كل واحد يشعر بالكبر في الأونة الآخيرة، ولكني لا أشعر بالكبر قيد أنملة. هل نستطيع اللقاء لبعض الوقت اليوم، من أجل الأيام الخوالي؟ لدي خُمار خفيف هذه اللحظة، ولكني سأشعر بتحسن بعد الظهر، وأنتظرك الساعة الخامسة في محل الحلويات في فندق الريتس.
المخلصة دوماً: لورين"
أول شعور خامره هو الخشية من أنه قد سرق فعلاً في سنوات شبابه دراجةً، ودرج ولورين حول ساحة النجمة بين منتصف الليل والفجر. وكان في استعادة أحداث الماضي وتأملها كابوس مقضّ. وإغلاق باب البيت في وجه هيلين لا ينسجم مع أي تصرف آخر في حياته، ولكن حادث الدراجة ينسجم ــ فقد كان واحداً من تصرفات عديدة مشابهة. كم من الأسابيع أو الشهور من الإسراف في الشرب تحتاج، لكي تصل إلى وضعية اللامسؤولية الكاملة؟
حاول أن يتصوّر كيف كانت لورين تبدو له حينذاك ــ جذابة جداً. وكانت هيلين غير سعيدة بسبب ذلك، على الرغم من أنها لم تقُل شيئاً. وفي المطعم يوم أمس، كانت لورين تبدو كئيبة وشاحبة ومنهكة. ولم يُرِد أن يراهاً قطعاً، وهو مسرور لأن ألكس لم يُعطِ عنوان فندقه. وعلى عكس ذلك، فالتفكير في هونوريا يمنحه الشعور بالارتياح، وكذلك التفكير في أيام العطل التي أمضاها معها، وقول صباح الخير لها، ومعرفة أنها هناك في منزله. وتنفّس في الظلام.
في الساعة الخامسة، استقل سيارة أجرة ومعه هدايا لجميع أفراد عائلة بيترز: دميةٌ بملابس فاتنة، وصندوقٌ جنودٍ رومانيين، وزهورٌ لماريون، ومناديلُ حريرية كبيرة للنكولن.
عندما وصل إلى الشقة، رأى أن ماريون قبلت بما لا يمكن تفاديه، وحيّته الآن كما لو كان فرداً متمرِّداً من أفراد العائلة، أكثر من كونه غريباً يشكِّل تهديداً. وكانت هونوريا قد أُخبِرت بأنها ستغادر: وكان شارلي مسروراً بلباقتها التي جعلتها تخفي فرحتها العارمة. فقط عندما أصبحت في حضنه همست سرورها وسؤال " متى؟" قبل أن تنساب خارجة مع الطفليْن الآخريْن.
وبقي هو وماريون وحدهما لدقيقة في الغرفة، وبدافع نزوة ما تكلّم: " إن الخلافات العائلية أشياء مُرّة. فهي لا تسير وفق أية قواعد. هي ليست كالأوجاع والجروح، بل أكثر شبهاً بشقوق الجلد التي لا تندمل لعدم وجود المادة  اللازمة الكافية. وأتمنى أن تكون العلاقة بينك وبيني أفضل."
أجابت: " من الصعوبة نسيان بعض الأشياء. إنها مسألة ثقة."
ولم يكن ثمة جواب لذلك. والآن سألت: " متى تريد أن تأخذها؟"
ـ " حالما أستطيع الحصول على مربية. آمل بعد غد."
ـ " ذلك مستحيل. أريد أن أرتب أشياءها جيداً. ليس قبل يوم السبت."
قبلَ بذلك. وعاد لنكولن إلى الغرفة وعرض عليه شراباً.
قال: " سآخذ ويسكيي اليومي."
ثمة دفء هنا، إنه البيت. والناس مجتمعون بالقرب من المدفأة. والأطفال يشعرون بأنهم في أمان، وأنهم مهمّون؛ والأم والأب يمتازان بالجد وبمراقبة أطفالهما. ولديهم أشياء يعملونها للأطفال، وهي أكثر أهمية من زيارته لهم. فملعقة دواء، مثلاً، أكثر أهمية من علاقة متوترة بينه وبين ماريون. لم يكونوا أناساً أغبياء، بل كانوا مسيطرين كثيراً على الحياة وعلى الظروف. وتساءل ما إذا كان في مقدوره أن يفعل شيئاً لإخراج لنكولن من روتين ذلك البنك.
قُرع جرس الباب طويلاً؛ ومرّت الخادمة وذهبت إلى آخر الممر. وفُتِح الباب مع رنين الجرس مرة أخرى، ثم أصواتٌ، واشرأبت أعناق الأشخاص الثلاثة الموجودين في الصالون، وعدّل لنكولن من جلسته ليكون الممر في مدى النظر، ونهضت ماريون. ثم رجعت الخادمة في الممر، وتتبعها مباشرة أصواتٌ، تحولت تحت الضوء إلى دونكن شيفر ولورين كوريلز.
كانا جذلين، كانا مرحين بصخب، كانا في قهقهةٍ وضحكٍ صاخب. صُعق شارلي لوهلة، غير قادر على أن يفهم كيف حصلا على عنوان آل بيترز.
وأشار دونكن إلى شارلي بأصبعه بخبث: " آه ـ ها ـ ها ، آه ها ـ ها."
وأطلق كلاهما شلالاً من الضحك مرة أخرى.
مع شعورٍ بالقلق والخسارة، صافحهما شارلي بسرعة وقدّمهما للنكولن وماريون. حركت ماريون رأسها دون أن تتكلم، وتراجعت خطوة إلى المدفأة، ووقفت ابنتها الصغيرة بجانبها فوضعت ماريون ذراعها حول كتفها.
وبانزعاج متزايد بسبب هذا الاقتحام التطفُّلي، انتظر شارلي منهما أن يعطيا تفسيراً، وبعد شيء من التركيز، قال دونكن:
ـ " أتينا لندعوك إلى العشاء. وأنا ولورين نصر على أن هذا الاحتراس المخاتل بشأن عنوانك يجب أن يتوقَّف."
ـ " آسف، ولكنني لا أستطيع. أخبراني أين ستكونان، وسأهاتفكما خلال نصف ساعة."
لم يكن لقوله مفعولاً. فقد جلست لورين على جانب كرسي، وركزت عينيها على ريتشارد، وصاحت: " أوه، ما ألطف هذا الولد الصغير! تعال هنا، أيها الولد الصغير!" نظر ريتشارد إلى أمه، ولكنه لم يتحرَّك. وبهزة من كتفيها، التفتت لورين إلى شارلي:
ـ " تعالَ وتعشَ. من المؤكَّد أن أقرباءك لا يمانعون. نراك لاحقاً أيها الوقِر ، أو الوقور."
قال شارلي بحدّة : " لا أستطيع. تناولا أنتما العشاء، وسأهاتفكما."
فجأة صار صوتها كريهاً: " طيب، سنذهب. ولكنني أتذكر عندما طرقت بابي ذات مرة في الساعة الرابعة صباحاً. كنتُ دمثة بصورة تكفي لإعطائك مشروباً. لنذهب، يا دونك."
ومع ذلك، وبحركة بطيئة وبوجهين غاضبين شاحبين، جرجرا أقدامهما طوال الممر.
قال شارلي: " تصبحا على خير."
وعندما عاد إلى الصالون، لم تكن ماريون قد تحرّكت وأصبح ابنها الآن واقفاً في دائرة ذراعها الأخرى. وكان لنكولن يؤرجح هونوريا من جانب إلى آخر مثل بندول.
وانفجر شارلي: " أية وقاحة! أية وقاحة خارقة!"
لم يُجب أي منهما، وسقط شارلي في أريكة، ورفع كأسه، وأعاده مرة أخرى، وقال:
ـ " لم أرهما منذ سنتين وعندهما الجرأة ـــ "
وتوقف فجأة. وأطلقت ماريون الصوت " أوه!" مع نفَس غاضب سريع، وحوّلت جسمها عنه بحركة مفاجئة وغادرت الغرفة.
وأجلس لنكولن هونوريا بعناية. وقال:
ـ " أنتم الأطفال، اذهبوا وتناولوا حساءكم." وعندما أطاعاه، قال لشارلي:
ـ " حسناً، سيء جداً. وهذا لا يساعد الموضوع. اسمح لي بدقيقة."
وعندما تركه  لوحده، جلس شارلي متوتراً في كرسيه. وكان يسمع الأطفال يأكلون في الغرفة المجاورة، ويتحدثون بكلمات متقطّعة، غير واعين بالمأزق الذي كان فيه كبارهم. وسمع همهمات محادثة من غرفة أبعد، ثم رن جرس الهاتف ورُفعت السماعة، وفي وجل تحوّل إلى الجانب الآخر وصار في منأى عن السمع.
وبعد دقيقة، عاد لنكولن:
ـ " اسمع، شارلي، أعتقد أن من الأحسن إلغاء العشاء الليلة. ماريون في حالة سيئة."
ـ " هل هي غاضبة عليَّ؟"
قال بخشونة تقريباً: " نوعاً ما. وهي ليست قوية و ـــ"
ـ " تعني أنها غيّرت رأيها بشأن هونوريا؟"
ـ " إنها تشعر بمرارة في هذه اللحظة. اتصل بي هاتفياً  في البنك غداً."
ـ " أرجو أن تشرح لها أنني لم أحلم أبداً بأن يأتي هؤلاء الناس إلى هنا. وأنا متألِّم مثلكما تماماً."
ـ " لا أستطيع أن أشرح لها أي شيء الآن."
نهض شارلي. تناول معطفه وقبعته وبدأ السير في الممر. ثم فتح باب غرفة الطعام وقال بصوت غريب: " تصبحون على خير، أيها الأطفال."
نهضت هنوريا وجرت حول المائدة لتعانقه.
قال بشكل غامض: " تصبحين على خير يا حبيبتي." ثم حاول أن يجعل صوته أرق ليصلح شيئاً ما : " تصبحون على خير أيها الأطفال."
5
ذهب شارلي مباشرة إلى حانة فندق الريتس وهو غاضب ليجد لورين ودونكن، ولكنهما لم يكونا هناك. وأدرك أنه ليس ثمة ما يستطيع فعله، على أية حال. لم يكن قد مس مشروبه في منزل آل بيترز، والآن طلب ويسكي مع الصودا. وجاء بول ليسلم عليه، وقال بحزن:
ـ إنه تبدّلٌ كبير، فنحن لدينا نصف العمل الذي كان. فقد سمعت أن كثيراً من الأصحاب الذين عادوا إلى الولايات المتحدة خسروا كل شيء، ربما ليس في انهيار  السوق الأول، ولكن في الانهيار الثاني. سمعت أن صديقك جورج هارت خسر كل سنت. هل عدت إلى الولايات؟"
ـ " لا، أنا أعمل في براغ."
ـ " سمعتُ أنك خسرت كثيراً في انهيار السوق."
ـ " نعم." وأضاف بحزن: " ولكنني خسرت كل شيء أريده إبان الازدهار."
ـ " هل بعتَ بخسارة؟"
ـ " شيء من هذا القبيل."
ومرة أخرى اجتاحته ذكرى تلك الأيام مثل كابوس ــ الناس الذين التقيا بهم أثناء السفر؛ ثم الناس الذين لم يحسنوا جمع أعداد قليلة أو النطق بجملة مفيدة؛ الرجل الصغير الذي رضيت هيلين أن ترقص معه في الباخرة، والذي أهانها على بُعد عشرة اقدام من المائدة؛ والنساء أو الفتيات اللواتي نُقِلن وهن يصرخن من الأماكن العامة  بسبب السكر أو المخدرات ــ الرجال الذين يوصدون الأبواب بوجه زوجاتهم ويتركونهن في الثلج، لأن ثلج ( الانهيار الاقتصادي سنة ألف وتسعمئة وتسعة وعشرين) لم يكن ثلجاً حقيقياً؛ وإذا لم تكن تريده أن يكون ثلجاً فما عليك إلا أن تدفع بعض المال.
ذهب إلى الهاتف واتصل بشقة آل بيترز. رد لنكولن على الهاتف.
ـ " إنني اتصل، لأن هذا الشيء يشغل بالي. هل قالت ماريون أيَّ شيء؟"
أجاب ماريون باقتضاب: " ماريون مريضة. أعرف أن ما حصل لم يكن غلطتك، ولكنني لا أريدها أن تتحطم بسببه. أخشى أن علينا أن نؤجل الموضوع ستة أشهر. لا أريد أن أغامر بحملها على ذلك مرَّة أخرى وهي في هذه الوضعية."
ـ " أفهم."
ـ " أنا آسف، شارلي."
رجع إلى طاولته، وكان كأسه فارغاً من الويسكي، ولكنه هز رأسه عندما نظر ألكس إلى الكأس متسائلاً. ليس ثمة شيء يمكن أن يفعله الآن سوى إرسال بعض الأشياء لهنوريا؛ سيبعث إليها بأشياء كثيرة غداً. وفكّر بشيء من الغضب أن ذلك مجرد فلوس ــ وكان قد أعطى فلوساً لكثير من الناس...
ـ " لا، لا مزيد." قال ذلك لنادل آخر، " كم الحساب؟"
سيعود يوماً ما، فهُم ليس في وسعهم أن يجعلوه يدفع إلى الأبد. ولكنه يريد طفلته، وليس هناك شيء جيد آخر، غير هذه الحقيقة. وهو لم يعُد شاباً مع كثير من الأفكار والأحلام الجيدة بمفرده. وهو متأكِّد تماماً أن هيلين لا تريده أن يبقى وحيداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ















                                                              

مقالات ذات صلة