أصدقاء الدكتور علي القاسمي

علي القاسمي .. وليمة متنقّلة من القصص والترجمات وعلوم اللغة " لؤي ماجد سلمان "


علي القاسمي .. وليمة متنقّلة من القصص والترجمات وعلوم اللغة

نقلا عن صحيفة تشرين

بالتزامن مع صدور «الأعمال القصصية الكاملة» لعلي القاسمي في بيروت عن مكتبة «لبنان ناشرون» صدر كتاب جديد لهذا الكاتب العراقي بعنوان «مختارات قصصية» أعده وقدم له الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون،

 وذلك بالتعاون بين ثلاثة دور نشر من عدة عواصم عربية «دار ضفاف» بيروت «دار الأمان» الرباط «ومنشورات الاختلاف» في الجزائر. يضم الكتاب أيضاً مجموعة قصصية تم انتخابها من المجموعات القصصية التي صدرت سابقاً بمراحل مختلفة، و في عدة عواصم عربية تحت العناوين التالية «رسالة إلى حبيبتي 2003، صمت البحر 2003، دوائر الأحزان 2005، أوان الرحيل 2007، وحياة سابقة 2008» والتي تؤلف بمجموعها سبعاً وسبعين قصة قصيرة، اختار منها الناقد المغربي عشرين قصة فقط، معتمداً على المحاور الرئيسية والخطوط العريضة في مسيرة القاسمي، بعد تحليل ودراسة كامل النتاج القصصي وربطه بالحياة التي عاشها الكاتب منذ مراحل الطفولة مروراً بالشباب، و انتهاء بأسفاره وترحاله الدائم، وقام بفرزها إلى عدة عوالم أطلق عليها «مرحلة الطفولة المستعادة ومرتع الصبا، وضمنت أربع قصص فقط: «الدرس الأول، وفاء، إنه الربيع، السباح» المحور الثاني تضمّن قصصاً تتعلق بالاغتراب الذاتي والمكاني والمنفى ودوائر حزن أخرى اختار لها الجذور في الأرض، اكتئاب الكاتب، دوائر الأحزان، رسالة إلى حبيبتي«أما في المحور الثالث فقد ركز الناقد على التجارب الوجدانية وقصص العشق المهدور منها «صمت البحر، اللقاء، رسالة من فتاة غريرة، الظلال الملتهبة»  في المحور الرابع رصد حالات التخاطر والاستبصار في حياة الكاتب بقصص حياة سابقة، النداء، التخاطر، موعد في كراتشي «المحور الخامس والأخير خصصه للرحيل الأخير, لحظات الاحتضار والموت وتداعياته في حياة القاسمي ووقع اختياره على «ليلة وفاة جدي، الغزالة، الساعة، القادم المجهول».
انطلق ناقد السرديات في اختياراته أيضاً من خلال دراسات سابقة لأعمال القاسمي إذ يقول في مقدمة الكتاب: «يلوذ القاص علي القاسمي بدوحة إبداع وارفة الظلال ليحط الرحال في عوالم القصة القصيرة، وهو الباحث الأكاديمي، المتخصص في مجالات المعجم وتحديد المصطلح والترجمة وقضايا التربية والتعليم، ومما لا شك فيه، أن عالَمَ الإبداع عادة ما يعطي لهؤلاء الأكاديميين المتخصصين متنفساً آخر، ورئة أخرى، وهامشاً واسعاً للتعبير عن هموم الذات وهواجسها، أكثر مما تُتِيحُهُ لهم طرق البحث العلمي الدقيقة والصارمة التي ينتهجونها في أبحاثهم ودراساتهم، ويؤكد على ضبط اللغة الذي تمتعت به القصص المختارة، حيث استطاع القاص التحرر من لغة المعاجم القاموسية المباشرة، وعلمية الجملة المحاصرة بالفكرة المعقلنة، وخرج من محيط النظرية الضيق والمحدود الأفق إلى العالم الرحب المليء بالرموز الثقافية والحضارية والاجتماعية التي سخرها الكاتب في خدمة القصة، ليحمل معه القارئ عبر رحلاته المعرفية المتعددة. لكنه في تحليله عن المحور الأول الذي جاء تحت عنوان «عوالم الطفولة المستعادة ومراتع الصبا الأثيرة» اعتبر الدكتور عبد المالك أن المتأمل في قصص الباحث علي القاسمي لا بد أن تثيره، وتستهوي مخيلته نبرة ألم عميقة مما هو كائن من جهة، ولا بد أن ينتابه انخطاف لذيذ للحظات هاربة ولت ومضت، يستعيد فيها أماكن الطفولة البهية المستعادة من الريف العراقي، الأمر الذي جعل الكاتب يسترجع ذكريات الصبا التي يعتبرها الأجمل والأبهى، لأنها تنتمي لزمن آخر يختلف تماماً عن الزمان الحالي الذي فقدت فيه الحياة بريقها وجمالها سواء بالزمن الحاضر الذي يعيشه القاص، أو في ذاكرة ذلك الطفل الذي استحضر من الريف رموز البساطة، وعناصر الإثارة، وفضاء التشكل الوجداني والعاطفي والروحاني، وسكبها في كلماته وحواديته «لأن أمي البدوية كانت تحضنني وأختي في حجرها كل ليلة تروي لنا حكايات عن وفاء البدو: وفاء الصديق للصديق، وفاء الزوج للزوج، وفاء البدوي بالعهد الذي يقطعه على نفسه، أو لأن أبي كان يحفظني تلك الأيام قصيدة للشاعر العربي الجاهلي السموءل الذي اشتهر بالوفاء والذي لا تبعد قريتنا كثيراً عن أطلال دياره. أعترف أنني على الرغم من عدم استيعابي الكامل لمفهوم الوفاء يوم ذاك فقد استهواني الاسم.
غير أن الناقد اعتبر ذلك استعادات جميلة عارمة لأشياء وأحداث وصور من الطفولة، وعهد المراهقة الأول، وحتى لحظات الإحساس بالرجولة، من خلال ذكريات يغمرها التوثب الجامح للمعرفة والتحصيل الأول، والارتباط الحميم بعناصر الطبيعة العذراء كقصة النهر، والبطة في قصة وفاء « كان لونها الناصع البياض يعانق اللون الفضي لماء النهر،  فيتداخل معه ويمتزج به ويذوب فيه، حتى يغدوان لوناً واحداً متموجاً متلألئاً، بفعل حركة النهر ونور القمر المطل من الأعالي. وينعكس ألق الضوء الذي يلامس جسمها الممتلئ على عينيّ وينفذ منهما إلى أعماقي فينبعث بي إحساس لذيذ بالنشوة والارتياح. تمد عنقها الطويل، المقوس كالخنجر، إلى الأمام وتغمره في الماء هنيهة، وهي منسابة على سطح النهر كزورق ورقي أنيق، ثم تستله وتنفض رأسها، فتتطاير القطرات منه, ويلامس وجهي بعض الرذاذ البارد، فأشعر بانتعاش يسري في أوصالي، وأطلق ضحكاتي الطفولية وصرخاتي المرحة. تفرد جناحيها مشرعين، وتحرك ذيلها بسرعة، وبخفقات متناسقة متلاحقة من الجناحين تندفع محلّقة على بساط الماء لمسافة بضعة أمتار، وهي تبعث بصيحات حادة جذلى تمزق سكون الليل، ثم ترجع عائمة صوبي فأستقبلها باسما فرحا بعودتها. وتقترب مني وأنا على حافة النهر حتى تلامس أصابعي ظهرها الناعم و أمسد ريشها للحظات، فـتـتجه عائمة إلى وسط المجرى لتواصل سباحتها اليومية» ليؤكد لنا أنها حالة من حالات الانتشاء بأحلام اليقظة الوردية في أحضان الطبيعة الساحرة في عز فصل الربيع كما في قصة (إنه الربيع)، مروراً بلحظات الشعور والحس بالرجولة، حين ينقذ الأخ الأكبر أخاه الأصغر من غرق محقق في قصة (السباح). فكلما ابتعد الراوي عن مسقط رأسه، يفقد الاتصال الحميم مع مراتع الصبا الأثيرة. ولهذا السبب الوجداني, نجد القاسمي يشبه الشجرة التي تمتد جذورها عميقا في هذا المكان/الهنا، وإن كانت فروعها تطول وتصل أرجاء أخرى من العالم /الهناك. ناذراً نفسه كسادن وحارس لذاكرة هذا الفضاء الريفي الذي انغرس في وجدانه منذ الطفولة. يعود الدكتور مالك ليؤكد على الحالة الوجدانية التي رافقت الكاتب في قصصه «أن ما روي في القصص عبارة عن حالات وجدانية» وتذكرات يرويها الكاتب بعد سنوات من فراق الأهل والأحبة، تذكرات شاهدة على مرحلة الطفولة وعناصر الابصارات الأولى، وحالات توهج العشق الطفولي، أعاد الكاتب تجسيد عوالمها التي عايشها عن كثب، بعد أن هضمها وتمثلها، معيداً إنتاجها عبر مخيلة خلاقة في صياغات قصصية مشوقة، وكأنه يقرر لنا قاعدة أدبية وفلسفية مفادها: أن من لا يعيش طفولة العالم فيه، يستحيل أن يكون أو يستمر كاتباً «ونمت تلك الليلة على وسادتي المبتلة بعبراتي، وعندما استيقظت ضحى الغد لفت نظري رجلان يحفران شيئا في فِـناء الدار الواسع. وذهبت لأقبل يدي والدتي ووالدي كعادتي كل صباح، فوجدت أمامهما بطتين صغيرتين. وقال لي والدي: لقد جلبت لك معي هاتين البطتين هدية، وسنبني حوض سباحة في حوش المنزل لتعوما فيه دون أن نضطر إلى اصطحابهما إلى النهر.«ولكنني أجبت بصوت متهدج وأنا مطأطئ الرأس: «أريد بطتي، وفاء» صرح الناقد الأدبي أخيراً أنه وقع في مأزق حقيقي لحظة اختياره

مجموعة من القصص من مجموع الرصيد القصصي الذي يمتلكه الدكتور والباحث علي القاسمي, معتبراً أنه امتحان عسير للمقروء القصصي بشكل عام ولقصص علي القاسمي على وجه الخصوص.
نذكر أخيراً أن الدكتور علي القاسمي كاتب وباحث عراقي من مواليد 1942 مقيم في المغرب العربي منذ عام 1978، حاصل على بكلوريوس «مرتبة الشرف» في علم الآداب، وليسانس في الحقوق، وماجستير في التربية، ودكتوراه في علم اللغة التطبيقي، درس في عدة دول غربية وعواصم عربية منها دمشق، أدركته حرفة الكتابة القصصية متأخراً، ولكنه أبدع فيها، من حيث الأسلوب، أو اختيار الموضوع الذي يغترف مادته من مخزون التجارب التي عاشها، ترجمت أعماله القصصية واللسانية إلى عدة لغات منها الإنكليزية والفرنسية والصينية والفارسية واليابانية والهولندية والكورية، له مؤلفات باللغتين العربية والانكليزية أهمها «السياسة الثقافية، مفاهيم العقل العربي، ودراسات في حضارة العراق/ دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي بعنوان «لغة الطفل العربي»، و«الترجمة وأدواتها»، «النور والعتمة: إشكالية الحرية في الأدب العربي»، «علم المصطلح»، وله دراسات في طبيعة الكتابة الأدبية بعنوان «الحب والإبداع والجنون»، وكتب تتناول علم اللغة وصناعة المعاجم اللغوية.  وترجمات لعدة أعمال أدبية منها، أبرزها «أحلام اينشتاين» للكاتب آلان لايتمان، و«الشيخ والبحر»، و«الوليمة المتنقلة» لإرنست همنغواي.

مقالات ذات صلة