قراءة في " صمت البحر " للقاص علي القاسمي انغلاق الحكاية وانفتاح الدلالة الاختراق والمفاجأة بقلم إبراهيم أولحيان
قراءة في
" صمت البحر " للقاص علي القاسمي
انغلاق الحكاية وانفتاح الدلالة
الاختراق والمفاجأة
إبراهيم أولحيان
في
غمرة انشغالات الدكتور علي القاسمي بالقضايا المصطلحية، والمعجمية، والترجمة،
وإشكاليات التربية والتنمية؛ كان يسترق وقتاً لمكاشفة الذات، والبوح بأسرارها،
وإعطاء الجسد فسحة للتعبير عن آماله وإحباطاته، وذلك في إبداعات قصصية متميزة،
تقرِّبنا من ذواتنا، وتجعلنا في تماهٍ مع كائنات تخييلية، لها القدرة على أَسْرنا،
وجذبنا إلى عوالمها/عوالمنا، انطلاقاً من التقاط القاص للمُنفلت من الأحاسيس لدى
الإنسان، وهي تلك اللحظات الكونية، المشتركة بين الناس جميعاً، أينما كانوا في هذا
العالم.
ورغم
أن القاسمي لم ينشر مجموعته الأولى إلا في سنة 2003، إلا أنه، كما قلت، يكتب القصة
منذ زمان، بين الحين والآخر، إلى أن تجمعت لديه عدة مجاميع، نشر منها إلى حد الآن
مجموعتين : الأولى بعنوان " رسالة إلى حبيبتي "، والثانية بعنوان
" صمت البحر" ، وله تحت الطبع مجموعة أخرى بعنوان: " إنه
الرحيل، يا حبيبتي! ". وقد منحه هذا الكم من القصص حرية اختيار النصوص التي تبدو
له مناسبة للمجموعة التي يروم إصدارها، لذلك فكل مجموعة تدور حول تيمة معينة،
فـ " رسالة إلى حبيبتي " تستدعي الطفولة بكل ثقلها،
كما ترسخت في ذهن الطفل، وتم استحضارها، فيما بعد، عبر الكتابة التخييلية ؛
ومجموعة " صمت البحر " تناولت تيمة الحب، من منظور آخر، يكشف عن جوانب
خفية في الإنسان ؛ أما المجموعة الثالثة " إنه الرحيل، يا حبيبتي "
فعالجت تيمة الموت وتداعياتها عند بني البشر.
هكذا
فكل مجموعة توحِّدها تيمة معينة، وكل نص يعمّق جانباً من جوانبها، لكنها تلتقي
دائماً عند نقطة واحدة. والملاحظ أن التيمات الثلاث: الطفولة، الحب، الموت، تلتقي
كلُّها عند تيمة كبرى وهي: الفقدان. ومن النادر أن نجد عند مبدعٍ ما هذا الانسجام
في نصوصه القصصية، بحيث تكون بؤرة الاشتغال واحدة؛ بمعنى أن الإحساس الذي يقود
الكتابة عند المبدع هو نفسه ؛ فالمبدع الحقيقي هو الذي يكتب عن الأشياء والأحاسيس
بنفس التصور والرؤية، لأن رؤيته للعالم هي التي تقود كتابته، وتضيء مساربها.
ويمكن
تلخيص خصائص الكتابة القصصية عند علي القاسمي فيما يلي:
التركيز
على حكاية بسيطة، مشوِّقة، وخالية من التعقيد.
ا-
ستعمال لغة إبداعية لا غموض فيها، تساعد على سيولة السرد.
ا- لاشتغال على فضاءات
مفتوحة، تصلح أن تكون لأي مكان.
- اعتماد البناء
الكلاسيكي في القصة، حيث هناك بداية وعقدة ونهاية.
- اعتماد الوصف والسرد،
وتغييب للحوار (ولهذا دلالاته في القصص).
- توظيف التجديد من
داخل القصة، والابتعاد عن التجريب.
- ارتباط القصص بالمحكي
الذاتي، لأنها تمتح من تجربة الكاتب في الحياة.
- إعطاء أهمية للقارئ
لجذبه والتأثير فيه، وجعله يتفاعل مع القصة.
عدم توظيف الاقتباسات (les
epigraphes
) المرافقة للنصوص، إلا فيما ندر.
غياب أي توظيف للهجات
في النصوص.
"صمت البحر" : الاختراق والمفاجأة
إن
قارئ قصص " صمت البحر " لا بدّ أن يثير انتباهه أن هذه النصوص
تعيد الاعتبار للحكاية التي ضاعت مع كثير من القصص التي تنتج هنا أو هناك، داخل
المغرب أو خارجه؛ الحكاية بتفاصيلها، مصدر متعة القراءة، فهي المادة الخام التي
يشتغل عليها المبدع، لتحقيق ذلك الوقع في القارئ، بعد نهاية كل قراءة. وهذا هو ما
نجده عند القاسمي، فالحكاية بسيطة، وواضحة، ولا يتخللها أي غموض، لكن الاشتغال على
طريقة سردها، يعطي لكل نص هويته الخاصة، ويجعل القارئ يقع في شرك الحكي. ومن أجل
إثبات هذه القضية سنتناول بالتحليل استهلالات القصص وخواتمها.
إذا
كان للعنوان دور أساسي في التعرف على النص، فإن للاستهلال الدور الحاسم في جذب
القارئ وإغوائه، والملاحظ أن نصوص علي القاسمي ذات البناء الكلاسيكي، تستثمر
كثيراً من تقنيات الكتابة الحداثية، لذلك نجد أن الاستهلال في كل القصص (باستثناء
قصة "صمت البحر") لها نفس البنية، وَوُظِّفت لنفس الغرض، ولذلك يمكن
إدخالها فيما يمكن تسميته بـ " الاستهلال المثير " في مقابل
" الاستهلال العادي ". وهكذا نجدها تعتمد الدخول مباشرة في
الموضوع، أي أن القارئ يجد نفسه وسط الأحداث دون سابق إنذار، وهي بذلك تفتح فضاء
الشك، والبحث عن " الحقيقة " أو عن ما سيحدث، مما يدفع القارئ إلى أن
يستمر في القراءة حتى النهاية؛ ولذلك فاستهلالات مجموعة " صمت البحر "
تركّز على :
-
جلب اهتمام القارئ، بتوظيف اللغز، وتعمُّد ترك فراغات دلالية/بياضات.
- الإخبار عن موضوعة
القصة.
- تحسيس القارئ أثناء
القراءة أن الحكاية بصدد الوقوع، وأنه طرف مشارك.
وإذا
كانت ـ كما يقول جان رايمون ـ " الجملة العتبة هي الجسر القائم بين الصمت
والكلام"، أي تكسير الصمت بالدخول إلى عالم التخييل، فإن استهلالات المجموعة
وظّفت ما سميناه بـ "الاختراق" كبنية تشمل كل أجزاء النص،
انطلاقاً من البداية، لأن هدفها هو " تهيئ لحالة شعورية وعقلية من خلال
محاولة توجيه القارئ إلى نوع من التلقي المطلوب، الذي يتيح له استقبال معظم مكونات
الرسالة اللغوية، الخفية منها والمعلنة، وذلك عن طريق الإيحاء بمناخ ما..."
(صبري حافظ ). فالاستهلال في هذه المجموعة يخترق وجدان القارئ، ويقتحم عليه عزلته،
ليوجهه، ويضعه في مسار حكائي يجعله يتابع ما سيقع، ويتقبل نتائجه. لنقرأ بعض
الاستهلالات:
ـ " لم يتزوج. لم
يتزوج، على الرغم من أن عمره تعدّى سنَّ الزواج منذ أعوام طويلة..." (قصة
"الأستاذ والحسناء"، ص 18)
ـ " لا يدري كيف
اكتسب تلك العادة الباهظة الكلفة، تنخر جيبه، وتلتهم وقته..." (قصة
"الكاتب والمسافرة"، ص 32)
ـ " ولِمَ لا تريد
العمل في كلية التربية؟ واستمر في تفحّص الملف المكتنز بالأوراق الموضوع أمامه على
منضدة فخمة..." (قصة "الظلال الملتهبة"، ص 73).
ـ " أفقتُ (أو
ربما استعدتُ وعيي) على وقع أصوات بدت أول وهلة لغطاً بعيداً، ثم أخذت تقترب
رويداً رويداً حتى بانت مقاطعها واتضحت دلالاتها..." ( قصة " عارضة
الأزياء"، ص 116).
ـ " نظر صلاح
بحنان إلى المرأة الجالسة بصمت إلى جانبه في المقعد الخلفي بسيارة الأجرة..."
(قصة " الشاعرة " ص 93).
ـ " وصرختُ بالرجل
الآلي محتدماً: " توقفْ فريد، اهدأْ، تعقّلْ..." (قصة " الغيرة
القاتلة" ص 51).
يقول
أندري دي لنجو (Andrea Del Lungo) عن هذا النوع من الاستهلالات أنها
" تدخل في صميم الموضوع بدون تمهيد، وتقطع بهذه الصفة الحكاية التي بدأت
"بعد" ، وتضع إذن أول لغز أساسي متعلق بما "قبل" الحكاية،
ولئن كانت غير مكشوفة فهو متوقع من النص بصفة أو بأخرى، ولكن هذا الصنف من الفواتح
النصِّية يجرُّ فوراً (أي بلا وساطة ولا تدخُّل) القارئَ نحو الحدث".
ويمكن
بذلك أن نسجّل على هذه الاستهلالات مجموعة من الملاحظات:
-
النفي، حيث أن القارئ يواجه منذ اللحظات الأولى نفياً لا يعرف سببه ( لم يتزوج، لا
يدري كيف...)
- التساؤل، شخصية غير
محددة تسأل عن شيء ما (ولِمَ لا تريد العمل في كلية التربية؟)
- عدم تحديد الذات
المتلفظة في البداية، وحتى حين يُعيّن اسمها فهي تبقى، رغم ذلك، مجهولة لدى القارئ
( وصرختُ بالرجل الآلي محتدماً...، نظر صلاح بحنان إلى المرأة الجالسة بصمت...)
إن
عناصر هذه الاستهلالات تقودنا إلى الحيرة والشك والقلق التي تؤثث النصوص، وتوجّه
القارئ منذ البداية، وتجعله متشوقاً لما سيحدث، فهي بدايات استطاعت أن تأسر
القارئ، وتجذبه إلى عمق الحكاية، باحثاً عن نهاية لحيرته وقلقه. فنصوص المجموعة
تخلق هذا الإحساس لدى المتلقي الذي يبحث عن خلاص لمحنته، متوقعاً مع كلِّ جزء من
أجزاء الحكاية نهاية معينة. لنرى إذن كيف جاءت خواتم/نهايات القصص في المجموعة؟
لقد
وُظِّفت بنية الاختراق في استهلالات المجموعة، مولِّدة لدى القارئ شعوراً
بالقلق، وبالرغبة في إتمام القراءة حتى آخر كلمة، وعمدت إلى تحديد أفق توقعه،
الشيء الذي ستخرقه الخاتمة، بتركيزها على عنصر المفاجأة، أي الوصول إلى نقطة غير
متوقعة. لنرى ذلك في مجموعة من الخواتم:
* ففي
قصة " الرسالة "، نجد الشخص الذي ينتظر رسالة،
وأظهرت تفاصيل النص حيرته وخوفه وقلقه الناتج عن عدم تسلمه الرسالة، وإذا وصلت هل
سيكون فحواها مناسباً أم لا. نقراً في نهاية هذه القصة ما يلي:
"
قفزت عيناه وساقاه وقلبه في آنٍ واحد عند دخول موزِّع البريد ظُهْرَ هذا اليوم.
فمنذ الصباح وقلبه يُحدّثه أن الرسالة قادمة لا محالة، رآها بين الظروف في يد
الموزِّع حتى قبل أن يقرأ العنوان. أوصد الباب، وافتضَّ الظرف بارتباك، وراحت
عيناه تفترسان الحروف؛ وعندما دخل الآذِن بعد نصف ساعة لينظِّف المكتب ويكنس
أرضيته، فوجئ به مرمياً على الأرض، مغشياً عليه، وقد تصلَّبت أصابع يديه على ورقة
فيها بضع كلمات فقط : " أُحبُّكَ، أحبكَ، ولكني لا أستطيع أن أفارق
بلدي." (ص 17).
* وفي
قصة " أخضر العينين "، تلك المرأة التي أحبّت شاباً " بدا
لها مختلفاً عن جميع الشبان الذين سبق لها أن تعرفت عليهم...فقد كان متميزاً عنهم
جميعاً في مظهره وأخلاقه" (ص 40)، وتكتشف ـ ومعها القارئ ـ
في آخر المطاف، بعد ما قامت صديقة في أمريكا بتحريات عنه، أرسلت لها تقول: "
يمثِّل كمالك هذا أوج معطيات تكنولوجيا الجينات والهندسة الوراثية..." (ص
49)، وبذلك تأتي النهاية مفاجئة: " يا إلهي!
هل سأتزوج إنساناً يشاركني مشاعري أم كائناً مركَّباً اصطناعياً في المختبر؟"
* وفي
قصة " الظلال الملتهبة "، نجد الشخص الذي رفض العمل في كلية
التربية، بسبب الذكريات التي أمضاها في هذه الكلية مع حبيبته التي ماتت في "
حادثة انفجار مخزن الوقود في حمّام البيت" (ص 83)، وبعدما أُرغم على العمل في
هذه الكلية، يفاجَأ الشخصية/الأستاذ في النهاية بتلك الفتاة التي وجهت له سؤالاً
في نهاية الدرس، فدُهش الأستاذ، لأن الفتاة تشبه حبيبته التي ماتت منذ زمان. جاء
في النص: " وما إن وقعت عيناه عليها حتى تسمَّرت نظراته، وتصلَّبت قامته،
وبهتت ملامح وجهه. إنها وفاء تجلس في مكانها المعتاد، لم تبدِّله، وشعرها ما زال
كستنائياً... انتهى الدرس. انصرفوا من فضلكم. وجلس منهاراً على كرسيه، وأغمض
عينيه، وظل مسمَّراً في مكانه بينما غادر الطلاب قاعة الدرس ما عدا الطالبة الصغيرة
التي تقدمت إلى الدكتور فؤاد برفق كأم رؤوم... متأسفة، يا أستاذ، أنا أختها
الصغرى."
نلاحظ
في هذا السياق أن نهايات القصص تعتمد المفاجأة، وخرق أفق توقع القارئ، الذي يتابع
الحكاية وكأن الأحداث تقع في زمن القراءة، لذلك تأتي النهاية، غالباً، صاعقة، وغير
متوقعة، وتجبر القارئ على إعادة تفاصيل الحكاية لكي يلم الشتات والزوبعة التي
أحدثتها الخاتمة بفجائيتها تلك. ومما ساعد على ذلك، العلاقة المفتوحة بين
الخاتمة والاستهلال، علاقة دائرية، تفتح شهوة إعادة القراءة، لأنها تجيب عن
أسئلة كانت مطروحة لدى القارئ في البداية أو توضِّح غموضاً وجَّه القراءة في اتجاه
معين، ووجب ترتيب الحكاية وتأويلها حسب ما ورد في الخاتمة.
لعل بنية الاختراق والمفاجأة لا تشغل الاستهلال
والخاتمة فقط، بل تسري في أجزاء النص كلها، لأن ما طرح في البداية يتم تطويره
وتحليله في النص، للوصول به إلى نتيجة معينة لها علاقة بكل تمفصلات الحكي من
البداية إلى النهاية. فـ " المعنى يخترق كل النص، وتتكفل البداية بتوجيهه
اتجاهاً معيناً.".
لقد
استطاعت نصوص " صمت البحر " أن تبني الموضوع، وتوجهه لخدمة
التيمة الأساس، فالحب كموضوع تمَّ تناوله من زاوية معينة، من داخل أحاسيس
الشخصيات، وفي تشابكٍ مع كثير من العلاقات النصِّية، التي تساعد على تمظهره
باعتباره خيبة وإخفاقاً، الحب كاختراق للذات العاشقة، والخيبة التي وسمت كلَّ
العلاقات في نصوص المجموعة، باعتبارها مفاجأة للشخصيات، وأيضاً للقارئ الذي لا
ينتظر مثل هذه النهايات المأساوية.
فإذا
كانت قصص " صمت البحر " تستند إلى بناء كلاسيكي، فإنها أبانت عن
استثمارها لكثير من التقنيات الحداثية، مما جعلها تستفز القارئ، وتأسره من خلال
الطريقة التي يتمُّ بها تناول المواضيع، وهي بذلك استطاعت أن تحافظ على الحكاية
بتوسيع التخييل وفتح آفاقه، بالاشتغال على مجموعة من التقنيات التي ظهرت مع السرد
الجديد. وهكذا استطاعت أن تكسب رهان شدِّ القارئ إليها، بتتبع تفاصيل الحكاية التي
تنتهي بالفشل والخيبة، لتضعه أمام مجموعة من الأسئلة المقلقة، الشيء الذي جعل
نهاية الحكاية بشخصياتها وعالمها وعلائقها، ما هي إلا بداية لعلاقات أخرى ينسجها
القارئ من خلال تلك الأشياء التي تسربت إليه، أثناء القراءة، وجعلته قادراً على
طرح الأسئلة والتفكير في مجموعة من المصائر، وبذلك تكون قد نقلته من موقع المستهلك
إلى موقع المنتج الفاعل.