(1)
مجموعة قصصية جديدة بعنوان (حياة سابقة) يضيفها د. علي القاسمي لرصيده في هذا الجنس الأدبي الذي لم يبدأ حياته الأدبية به، بل بانشغالات أخرى مثل المعجمية والترجمة والدراسات.
نشير في بداية هذا التقديم إلى أسماء مجاميعه القصصية الأولى: أوان الرحيل (القاهرة) 2007 ، دوائر الأحزان (القاهرة) 2005 ، صمت البحر (المغرب) 2003 ، رسالة إلى حبيبتي (المغرب) 2003 .
كما ترجم مختارات من القصة الأمريكية القصيرة وأصدرها في كتاب بعنوان (مرافئ على الشاطئ الآخر)، بيروت 2003 ، تضم المجموعة الجديدة سبع عشرة قصة قصيرة كان قد نشرها في عدد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية.
وإذا ما عدنا إلى تاريخ صدور مجاميعه القصصية سنرى أنها انطلقت في السنوات الأخيرة ومن بدايات الألفية الثالثة تحديداً بين 2003-2008 ومن هنا يمكن القول إنه أنتج في فترة قصيرة من عمر الزمن ما لم ينتجه آخرون من الذين اقترنت أسماؤهم بكتابة القصة القصيرة في العراق واعتبروا من روادها الأول أمثال عبدالملك نوري وغائب طعمة فرحان وغيرهما.
(2)
ما الذي يشغل القاسمي ويجده في كتابة القصة القصيرة ولا يجده في أجناس أدبية أخرى مارسها وكان حضوره الأدبي والعلمي عن طريقها؟
أقول هنا وكما بدا لي أنه يحبّ القصة ويقرؤها ويتابعها ولذا كتب عنها مبكراً لا بل إنه أفلح في وقت مبكر جداً في قراءة القصة في بلده وتوقف بانتباه عند أبرز أسمائها، وكان هذا عام 1973 عندما نشر دراسة في مجلة (المثقف العربي) العراقية عن هذه القصة التي سيضمها بعد سنوات وكما كتبها وقتذاك إلى كتابه (العراق في القلب) 2004م.
وكنت قد ذكرت في القراءات التي كتبتها لمعظم مؤلفاته في القصة القصيرة، ومعها قصته الطويلة للأطفال (عصفورة الأمير) أن القاسمي لا ينطلق من موقف يريد إبلاغه عن طريق هذه القصص بل من مفهوم تشاركه فيه النسبة الأكبر من القصاصين وهو كيف يروي حكاية؟ كيف يوصلها؟ ولا ينشد من وراء هذا إلا جمالية النص وطرافة الحكاية بعيداً عن العبرة أو الحكمة أو النصيحة التي اعتاد كثير من الكتاب أن ينهوا بها قصصهم.
ويبدو لي أن القاسمي الذي اكتسب خبرة الحديث وفنون الحكي من خلال مساهماته في عشرات الندوات العربية والعالمية وممارسته للتدريس في الجامعات العريقة قد وظف هذه الخبرة في رواية قصصه على الورق، أقول رواية لأن روح المتحدث النابه تسكن هذه القصص من الكلمة الأولى حتى الخاتمة.
هو يحكي بمهارة في الحياة يجعل سامعه يصغي إليه، وقد نقل هذه المهارة إلى الورق لذا فإن من عرفه شخصياً يحس وكأن صوته يرافق حكاياته المكتوبة على الورق.
كما أن القاسمي وبعد كتابة هذا الكمّ من القصص (أكثر من سبعين قصة) أصبح ملماً بتقنية هذه القصة وبدأ الفكر في الإضافة وتجاوز ما سبق له أن كتبه في كل عمل جديد له.
(3)
ماذا حملت (حياة سابقة)؟ وأي هاجس ألحّ عليه فيها؟ ولماذا هذا العنوان؟
بدا لي أن اختيار هذا العنوان وهو لإحدى قصص المجموعة دون غيره من العناوين تأتي من انشغال المؤلف بالماورائيات وما فيها من علوم ما يسمى بالباراسيكولوجي أو علم النفس الموازي وهي العلوم التي يهتم بها باحثون في العالم وخاصة في أمريكا، وقد جسدت قصة (حياة سابقة) لقاء راوي القصة بطبيب يعمل في هذا المجال على متن طائرة وكان منطلق الحديث الدورق الذي يحمله معه الطبيب والذي يضمّ عينات من دم بعض الأطفال الذين يتذكرون أنهم كانت لهم حياة سابقة على هذه الأرض، بل ويتذكرون أسماءهم الأولى وجغرافية مدنهم وبيوتهم. وعندما يتم البحث تكون المفاجأة بأن ما قالوه ليس خيالاً بل هو أمر صحيح وهو الذي كان مثار حيرة العلماء ولذا تفرغوا له أمثال الدكتور جيمس هندرسون الذي شارك الراوي الرحلة من مطار دلهي إلى لندن، وكأننا بالراوي وقد وضع المعلومات التي حصل عليها من قراءاته على لسان الدكتور هندرسون هذا. وكيفية التعامل مع الأطفال الذين كانت لهم (حياة سابقة) وطريقة الوصول إليهم، وقد وضع الراوي هذه المعلومات والنماذج من خلال الحوار بينه وبين الطبيب، أو من الوثائق التي أرسلها له بعد ذلك عندما أحسّ بأنه راغب في معرفة المزيد على هذا الأمر.
هذه القصة التي وضعها الكاتب في آخر أقاصيص مجموعته هي التي كثفت كل ما أراده من ال(الحياة السابقة).
وربما كانت قصة (لقد سقاني القهوة) تسير في الاتجاه نفسه، فالفتى الذي رافق والده إلى بغداد لإنجاز معاملة تخصه بعد إتمامه لمرحلة البكالوريا واستعداده لدخول الجامعة، وإذا كان الوالد رجلاً صالحاً يؤمن (بالروحانيات ويصدق الكرامات) فإن الفتى كان (يخضع كل شيء وكل خبر لمبادئ العلم وقوانينه وقواعد العقل ومنطقه)، ولكن والده تنبأ له بالنجاح وبدرجة الأول في مدينته، وهذا ما كان إذ كان جواب الوالد الحاسم متأسياً من حلم رأى نفسه فيه وهو يقف أمام لوحة الإعلانات في مدرسة الابن (وقد علقوا عليها أسماء الناجحين وكان اسمك الأول فيها). لكن المسألة تذهب إلى أبعد من هذا عندما وصلا بغداد لإنجاز المعاملة، وكان كل طالب يحصل عليها بواسطة، أما الأب فلم تكن له واسطة، ويردد: (إن واسطتي هو الله).
ويروي الفتى أنه (بعد فترة قصيرة اقترب منا رجل يحمل دلة القهوة العربية، وله هيئة السعاة الذين يخدمون في الدوائر الرسمية ويقدمون القهوة لكبار الموظفين وضيوفهم) ويصفه بطول قامته وإشراق وجهه وبريق عينيه الواسعتين. وهذا الوصف ينطبق على الرجال في الصور الدينية التي كانت تنتشر في جنوب العراق بشكل خاص وتصوّر آل البيت. سلّم الرجل على الوالد وقدّم له فنجان قهوة وسأله إن كان قد جاء لإنجاز معاملة ابنه وعندما ردّ عليه بالإيجاب أخذها منه وأنجزها في فترة قصيرة ثم اختفى، وعندما بحث عنه الوالد وذهب حيث المكان المخصص للسعاة أنكرا وجوده وأنهما وحدهما اللذان يعملان في بيع القهوة، هنا أحس الوالد كأن رحمة أتته من الغيب، من المجهول تجسدت في ذلك الرجل الوسيم وكان مبتهجاً وهو يقول لولده بفرح: (لقد سقاني القهوة!)
(4)
ضمت المجموعة قصصاً تشدّ القارئ إليها طرافة الحكاية مثل قصة (الحذاء) الرياضي الذي تمناه الفتى وكان يقف أمامه مشدوهاً في واجهة العرض وعندما نجح بتفوق وسألوه عن الهدية التي يريدها فما كان له إلا أن ذكر (الحذاء) وبعد أن كبر وصار طبيباً شاهد فتى في مثل عمره وقتذاك وهو يقف بالانشداه الحالم أمام حذاء معروض في الواجهة. ويمكن هنا ذكر قصة (الفراشة البيضاء) عن القناة الحالمة التي لوثها اغتصاب قاتل.
وعندما ذكرنا بأن القاسمي يستطيع أن يحول أي مشهد أو حادثة إلى قصة عمادها الحكاية وعلى أي إيقاع جرت فإننا بهذا نؤكد أنه صار يملك حرفية معينة تؤهله لهذا، مثل قصة (التعارف) التي كان شاهداً عليها في الواقع لا بل إنه طرف فيها.. وقد حكاها أكثر من مرة لطرافتها فالشخصية التي تحدث عنها الأديب معروف وضع اسمه الحقيقي فيها، ولكنه وبعد أن حكاها وكأن ذلك مجرد مران حولها إلى قصة.
ويخرج الكاتب في قصة (قراءة في جريدة عربية) إلى تناقضات ما يجري في الساحة العربية من خلال إيراد عناوين لجريدة معينة اكتشف أن أخبار (الهجمات الإسرائيلية الوحشية على الفلسطينيين) التي سمعها من إذاعة لندن صباحاً قد غابت عن هذه الجريدة وحضرت أخبار أخرى لا قيمة لها.
والقاسمي يوظف حتى تجربته الطويلة في العمل بإحدى المنظمات العربية والإسلامية مثل قصة (موعد في كراتشي) وهذه القصة ربما كانت بشكل أو آخر تمهيداً لقصته (حياة سابقة) فالبروفيسور (أنور دل) كان يعرف أنه سيقابل هذا اليوم في الفندق شخصاً اسمه خالد وعلي (وسأقدم له هدية هي عبارة عن اسمه مخطوطاً بالخط الديواني الجلي المزخرف والمشجر بطريقة بديعة فالخط العربي هوايتي).
ولم يكن علي - الراوي - يعرف أن هذا الرجل بهيئته البسيطة وملامحه الآسيوية ما هو إلا البروفيسور أنور دل الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس.
ويقول علي - الراوي - إنه سبق له أن قرأ مؤلفات هذا العالم المعنية بنظرية المعرفة، فهو معنيّ بتلك المعرفة (التي تتأتى لنا من الغوص في داخل ذواتنا واستخدم القوى الخيرة الكامنة في نفوسنا، إنها المعرفة الحدسية، أو المعرفة القلبية كما يسميها أنور دل) ولم ينس أن يقول لنا بأن كلمة (دل) باللغة الأوردية معناها القلب.
وعندما أهداه البروفيسور دل مزهرية صغيرة من المرمر وطلب منه أن يضعها على مكتبه في منزله، قال له بأنه (يحتفظ بمثيلتها على مكتبه في منزله في مدينة سانتا بربارة في كاليفورنيا، وهكذا عندما تنظر إلى هذه المزهرية وأنظر أنا إلى أختها في الوقت نفسه، سنتواصل روحياً رغم المسافات البعيدة التي تفصل بيننا).
ويحصل ما تنبأ به البروفيسور دل بأن طائرة عليّ ستتأخر وسيرافقه لزيارة شيخه، هكذا حدثه قلبه كما قال وعندما قصدا دار شيخه بدون موعد مسبق لم يلبث الشيخ أن قال هو الآخر (أنور، أهلاً وسهلاً. قلبي يحدثني منذ الصباح بأنك ستزورنا اليوم، وقد طلبت من أولادي وأزواجهم أن يأتوا هذه الليلة لتناول العشاء مع عمهم أنور).
لا يدري قارئ هذه المجموعة السبب الذي جعل هذا النوع من الحكايات يستيقظ في ذاكرة الكاتب فيدونها لتكون العلامة الواضحة في هذه المجموعة رغم أنها حوت قصصاً أخرى ذهبت إلى موضوعات مختلفة مثل (المجابهة) التي كانت مع أفعى عثرت عليها معينة المنزل وهي مختبئة بين الأغطية، وفيها جانب الطرافة وفي السياق نفسه قصة (الكاتب الكبير) الذي كان هناك من يكتب له لقاء أجر ويعدّ له المؤلفات التي تحمل اسمه، وعندما يموت المعدّ فجأة يظهر شيخ جليل ليخبره أنه من كان يكتب له ويعد خطاباته وعليه أن لا يقلق، فالكتاب الذي بدأه هو في طريقه إلى استكماله وهكذا.
هذه المجموعة القصصية تقرأ بكثير من المتعة فقد كتبها مؤلفها لهذه الغاية، وإذا ما ظننا عن المشاغل التي تؤرق القصاصين الآخرين الناشرين استحداث تقنيات مختلفة ولديهم هموم اللغة والتجريب فإننا لن نجدها فنحن أمام كاتب يرى أن كتابة القصة هي في سرد حكاية وبلغة - وهو المعجمي - غاية في البساطة، لا ترهق القارئ بل تأخذه إليها.
وأرى أن بعض القصص من الممكن أن يجري تطويرها إلى روايات قصيرة أو إلى قصص قصيرة طويلة، وهذا ما فعله قصاصون آخرون بعد نشر تجارب لهم في قصص قصيرة ولكن وفقاً لمقترحات نقادهم طوروها، أذكر هنا الروائي والقاص السوري ياسين رفاعية الذي طوّر قصته (مصرع ألماس) إلى رواية، وفعل الشيء نفسه مع قصته (امرأة غامضة) وفي مجموعة القاسمي هذه هناك قصص من الممكن أن تعاد كتابتها بتفاصيل أكثر لتكون لها (حياة لاحقة) بديلاً عن (حياة سابقة).
* صدرت (حياة سابقة) من منشورات دار الثقافة - الدار البيضاء 2008