مبدعون يكتبون خارج أسوار العالم: كتاب الثورة والشعر للدكتور علي القاسمي" بقلم فيصل عبد الحسن
مبدعون يكتبون خارج أسوار العالم: كتاب الثورة والشعر للدكتور علي القاسمي" بقلم فيصل عبد الحسن
صدر عن دار البدوي للنشر والتوزيع في تونس كتاب جديد للمفكر والأديب العراقي المقيم في المغرب د. علي القاسمي، عنوانه ” الثورة والشعر” العام 2016 ويقع في 230 صفحة من القطع المتوسط، وضم مقدمة كتبها الناشر الناقد د. محمد البدوي، رئيس اتحاد الكتاب التونسيين السابق، في عشرة فصول سأتناول مضامينها بإيجاز:
الاضطرابات الاجتماعية في الوطن العربي:
في الفصل الأول طرح المؤلف وجهة نظره في هذا الموضوع. فهو يرى أن تلك الأسباب متجذّرة في أنظمة الحكم وفي النظام التعليمي. فأنظمة الحكم لا تولي حقوق الإنسان التي تنصّ عليها دساتيرها أية أهمية، ولا تعطي الأولوية للتعليم، والصحة، والحقوق الاقتصادية للمواطنين كالتعويض عن البطالة والشيخوخة والإعاقة. وهذه الخدمات هي الواجبات الأساسية للسلطة وهي الأسس القويمة لعملية التنمية البشرية في أية دولة.أما النظام التعليمي في البلدان العربية فهو نظام طبقي يعيد إنتاج الطبقية، ويلغي تساوي الفرص، ولا يحقق العدالة الاجتماعية، فهو يتألف من ثلاثة أنواع رئيسة المدارس:
مدارس أجنبية، مدارس خصوصية أهلية حرة، تعلّم المنهج الوطني مع عناية خاصة باللغة الأجنبية. وتتوافر هذه المدارس في المدن الكبرى فقط، ويرتادها أبناء الطبقة المتوسطة، التي تطيق أجورها المدرسية بشق الأنفس، ما يؤدي إلى إرهاق هذه الطبقة الصغيرة وتضاؤلها. ومدارس حكومية سيئة ( أو لا مدارس) لأبناء بقية الشعب، تدرّس منهجاً وطنياً باللغة العربية، ويكثر في هذه المدارس غياب المعلمين، واكتظاظ الصفوف والأقسام، ولا يتمكن خريجوها من استخدام اللغة الأجنبية بصورة وظيفية ولما كانت الدول العربية تصرّ على استخدام لغة المستعمِر القديم (الإنكليزية أو الفرنسية) لغة عمل في الدولة، وفي المؤسسات المالية والاقتصادية كالمصارف والشركات، وفي التعليم العالي العلمي والتقني كالطب والهندسة وغيرها، فإن خريجي المدارس الأجنبية وبعض خريجي المدارس الخصوصية هم الذين يستطيعون ولوج الكليات العلمية، وتبوأ المناصب القيادية، فيشكلون حكّام المستقبل على الرغم من جهلهم الفاضح بلغة وطنهم وثقافته وتاريخه وجغرافيته، ولهذا فإنهم يشجّعون استعمال اللغة الأجنبية أو العربية العامية الدارجة في التعليم والإعلام والحياة العامة. أما معظم خريجي المدارس الحكومية فمصيرهم البطالة بسبب جهلهم باللغة الأجنبية السيدة في وطنهم، وليس لهم سوى الهجرة في “قوارب الموت” إلى أوربا بحثاً عن إنسانيتهم، أو الانخراط في الحركات المتطرفة المشبوهة، ليكونوا حطباً للاضطرابات الاجتماعية والحروب الأهلية. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الأنواع الثلاثة من المدارس تخرج أنواعاً مختلفة من المواطنين بعقليات مختلفة، ولا تساعد على التماسك الاجتماعي وتكوين هوية وطنية واحدة، بل تؤدي إلى انقسام مجتمعي، وتضارب في التوجهات والمصالح. ويرى المؤلف أن البلدان العربية لا تستطيع بوضعها الحالي تحقيق التنمية البشرية، كما حققتها خلال الستين سنة الماضية كثيرٌ من البلدان التي كانت أقل نموا من البلدان العربية، مثل فنلندا وكوريا وماليزيا والصين وتركيا وإيران وغيرها، لأن هذه البلدان التي تقدّمت، تستخدم لغاتها الوطنية في التعليم بجميع مستوياته وتخصصاته والإدارة والحياة العامة، ما يساعد على إيجاد مجتمع المعرفة ويحظى التعليم والصحة وحقوق الإنسان بالأهمية القصوى في هذه البلدان المتقدمة. وهكذا تكون السياسة التعليمية والسياسة اللغوية في تلك البلدان من وسائل تحقيق تساوي الفرص أمام المواطنين، وتوفير لعدالة الاجتماعية، وإحقاق الديمقراطية التي هي ليست مجرد صناديق الانتخاب. إن الواقع البائس الذي يعيشه الفقراء والمهمشون والمظلومون والمستضعفون في البلدان العربية يؤجج في أعماقهم الغضب والحقد ولا يترك لهم خياراً إلا التمرد عليه. والثورة، لغةً، تعني الغضب والهيجان؛ وتعني في السياسة وعلم الاجتماع، أعمال عنف يقوم بها شعبٌ من الشعوب تؤدي إلى إسقاط السلطة السياسية القائمة أو طرد المستعمر من البلاد، من أجل أن يسترد الشعب حرياته الطبيعية والمدنية والاقتصادية، بقيادة جديدة، ونظام سياسي اجتماعي واقتصادي جديد قائم على إيديولوجية جديدة، يدعمه الشعب ويصونه، لأنه يحقق العدالة الاجتماعية.
ثورات الربيع العربي
أما ما سُمّي بثورات الربيع العربي، فلا ينطبق عليها الوصف الأكاديمي للثورة، فقد كانت مجرّد انتفاضات أوهبّات شعبية سلمية، لا تؤطّرها قيادة معلومة، ولا توجهها فلسفة محددة، وكل ما استطاعت تحقيقه هو تنحي الطاغية، وبقاء السلطة السابقة قائمة بأجهزتها وتوجهاتها المعهودة. ويؤكّد المؤلّف أن الفن عموماً، والشعر خصوصاً، هو شبيه بالثورة إن لم يكن صنوها وتوأمها. فالفن بطبيعته يرفض الواقع ويتغيّا إلغاءه وإعادة صياغته برموز وعلامات جديدة ومعانٍ جديدة وقيم جديدة، تماماً كالثورة. ولا يتدفق إلهام الفنان فعلاً فنياً إلا عندما يبلغ درجة عليا من القلق والتوتر، إن لم نقل الهيجان النفسي والجنون، تماماً كالثائر الذي يكتسح كل شيء يقف بوجهه. وينبئنا التاريخ أن الأدب عموماً ــ والشعر خصوصاً ـــ كان دوماً محرضاً على الثورات، وممهداً ومؤججاً لها، ومتغنياً بها، وممجداً لفكرها وشهدائها. بعد هذه المقدمة النظرية يختار المؤلف عدداً من الشعراء العرب المعروفين بكتاباتهم الثورية، من غير الأسماء المعروفة التي دُرست كثيراً من قبل، كأبي القاسم الشابي، وعبد الوهاب البياتي، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور.
حسن طلب شاعر الثورة المصرية
للدكتور حسن طلب أستاذ الفلسفة في جامعة حلوان، كتب في الفلسفة واثنا عشر مجموعة شعرية، معظمها ثوري التوجه مثل مجموعته التي يدين بها احتلال أمريكا للعراق وعنوانها ” هذه كربلاء وأنا لست الحسين”. ولم يمنح المؤلفُ الشاعرَ حسن طلب لقب “شاعر الثورة” لأنه كتب قصائد ديوانه ” إنجيل الثورة وقرآنها” (القاهرة، 2011 ) المكوَّن من ثلاثة أجزاء في ساحة التحرير مع الثائرين، بل لأنه حرّض على الثورة وتنبأ بها في ديوانه ” عاش النشيد” ( القاهرة 2006 ) الذي تضمن قصائد نارية ضد رئيس الجمهورية آنذاك، حسني مبارك، وهو على كرسي الحكم، مثل قصيدته الساخرة ” مبروك مبارك ” التي كتبها الشاعر بمناسبة إعادة ترشح مبارك لفترة رئاسية جديدة، ويقول فيها:
” مبروك مباركْ/ أنت ستنجح لا شكْ/ ستبقى لسنواتٍ ستٍ قادمةٍ/ إن شاء الله تباركْ…/
لا ريب ستنجحْ/ فليفرح نجلاكَ وسيدة القصر/ وليسُ يهمّ إذا حزنتْ مصرْ/ فمبروك مبارك …/
هنيئاً لك للغلمانِ وللصبيانِ / هنيئاً للشيخِ وللمطرانِ/ هنيئاً للأمريكان/ فسوف تظلُّ كما كنتَ لهم/ تصدعْ إن أمروكْ/ وتزدجر إذا رجروكْ/ مبروك مبارك مبروكْ…/
أنتَ ومن حولكَ…/ يعيثون فساداً في البلدِ/ فكم نهبوا وكم سلبوا/ أنا لا أذكر مليارات ذويكَ وقنطاركْ.”
ثم نشر قصيدته الشهيرة ” نشيد الحرية” في العام ذاته 2006 يحرِّض فيها على الثورة :
” لا مبروك بعد اليوم وليس مباركْ…/ فتشجّعْ واستجمعْ جأشكَ/ وأقمْ ـــ أنتَ بنفسكَ ــــ/ في وجه الفئةِ الفاسدةِ المفسدةِ/ جداركْ/ لا تتركْ منهم فِسلاً يتسلَّق أسواركْ/ وستصبح ما أفرطتَ ولا فرَّطتَ/ إذا سلطتَ عليهم إعصاركْ…”ويعلِّق المؤلِّف على هذه القصائد التي تسبّ رئيس الجمهورية وتشهّر به قائلاً:
“وحتّى إذا افترضنا أنَّ السلطة الحاكمة آنذاك أخذت تتبع مبدأ ” خليهم يقولوا اللي عاوزين، واحنا نعمل اللي عاوزين”، فإنَّ كتابة مثل هذه القصائد الملتهبة، تحتاج إلى جرأةٍ نادرةٍ وشجاعةٍ خارقة، مثل جرأة وشجاعة هذا الشاعر الصعيدي الأسمر الطويل، الضامر الجسم مثل أسد هصور.”
ويلاحظ المؤلف أن قصائد ديوان ” إنجيل الثوًرة وقرآنها” قد كُتِب معظمها، إن لم تكن كلها، في ميدان التحرير، مستنتجاً ملاحظته هذه من مضامين القصائد. فالشاعر يصف هجوم قوات الأمن على شباب ميدان التحرير بدقَّةٍ كما لو كان يرسم لوحةً بالكلمات أو يصوِّر شريطاً سينمائياً بالألوان:
“سقطَ الشهداءُ/ على أرصفةِ الميدانِ/ فلم يطرِف للطاغيةٍ الفاسدِ رمشْ!/ ظلَّتْ قواتُ الأمنِ تطاردنا/ ساعاتٍ/ بخراطيمِ مياهٍ وهراوى/ وقنابلِ غازاتٍ/ قلنا سنواجهُ هذا الوحش. لكنّا فوجِئنا برصاصٍ حيٍّ/ وبنادق رشْ/ فحملنا الشهداء/ وأسعفنا الجرحى…”
وعندما يتبيَّن للشاعر والثوّار أنَّ المجلس العسكري يتلكأ في تلبية مطالب الجماهير في محاسبة أقطاب النظام السابق، وفي تسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنية، يعود الشاعر إلى التحريض لتستمرَّ الثورة:
” لا تصبروا يوماً على طغاتكم/ لا تصمتوا من أدبٍ/ فالصمتُ ما كان/ ــ كما قيل لكم ـــ/ من ذهَبٍ/ كلا/ وليسَ الصبرُ/ مفتاحَ الفرَجْ.”
ويظهر من عنوان الديوان وإهدائه، حرصُ الشاعر على التآخي بين المسلمين والأقباط في مصر. فالشاعر مدرك أن أعداء الأمة العربية قد وضعوا الخطط لضرب التضامن العربي التي أظهرته البلدان العربية إبان حرب رمضان 1973 لتقسيم البلدان العربية عن طريق إثارة النعرات الدينية والطائفية والعرقية والعشائرية، وإثارة الحروب الأهلية في كلِّ دولة، ثمَّ تقسيمها بعد ذلك. وهكذا اشعلوا البغضاء والعداء في السبعينيات بين المسلمين والمسيحيّين في لبنان، وبين الأكراد والعرب في العراق، وبين الشماليِّين والجنوبيِّين في السودان؛ كما افتُعِلت خلافات بين الأقباط والمسلمين في مصر، وبين الأمازيغ والعرب في بلدان المغرب العربي ( مع ضرورة التنبيه إلى مسؤولية الأنظمة العربية غير الديمقراطية في ذلك). وفي التسعينيات اشتغلت كثير من برامج وسائل الإعلام على تأجيج الخلافات بين السنة والشيعة، وافتعال البغضاء بين الأقباط والمسلمين في مصر التي كان يستغلها النظام المصري الحاكم، فحُرقت كنائس قبطية واختُطف بعض الأفراد لانتمائهم الديني.
ولهذا فإنَّ الشاعر حرص كلَّ الحرص، في ديوانه، على التأكيد على وحدة المصريِّين على اختلاف طوائفهم الدينية. فالعنوان، ” إنجيل الثورة وقرآنها”، لا يعني فقط أنَّ هذا الديوان هو أهمّ عملي شعري عن الثورة المصرية، (كما نقول مثلاً أن كتاب “أصل الأنواع″ هو إنجيل أصحاب نظرية التطوّر)، بل يلمِّح كذلك إلى التآخي بين الدينيْن المسيحي والإسلامي في مصر وثورتها.
بيدَ أنَّ هذا لا يعني أن الشاعر يزكّي قادة رجال الدين الذين استخدم النظامُ المصري السابق بعضَهم في خدمة أغراضه، فعملوا على خنق حرّية التعبير باسم الدين، فالشاعر يعلن في قصيدة ” الشيخ والمطران”:” الدين للديّان/ والميدان كلّه لنا/ لا الشيخ قد شاركنا فيه/ ولا المطرانْ! كلا/ فنحن ما رأينا من كليهما/ سوى الجحودِ والنكرانْ! الفضلُ للسلطانِ/ في الذي أفادا منه/ أو حازا/ فلا غروَ إذا انحازا إلى السلطانْ!” فالشاعر الدكتور حسن طلب من المفكرين العرب المؤمنين بفصل الدين عن السياسة بحيث تكون علاقة الدولة بالمواطنين علاقة قانونية ترتب واجبات وحقوقاً على الطرفين ولهما، ولا تقوم على انتماء المواطن الديني أو المذهبي أو العرقي أو العشائري، بحيث يشعر الجميع بالمساواة.
كتابات ثورية خارج أسوار العالم
ينتقل المؤلف في الفصل الثاني من مصر إلى المغرب، ليتناول ديوان ” كتابات خارج أسوار العالم” ( بغداد 1987 ) للشاعرة المغربية المناضلة مليكة العاصمي التي تعدّ من رواد الشعر الحر في المغرب. وكان عبد الوهاب البياتي قد أعجب بشعرها وكتب قصيدة عنها، ورد فيها: ” ساحرةٌ في الدار البيضاء/ وفي الأندلس المفقود، افتضت/ ختم الشعر/ وقالت للطلسم العسلي بعينيها/ أنتَ مريدي/ فاخترني من بين ملكات الأطلس ملهمةً/…”
ففي هذا الديوان، ترسم الشاعرة مليكة العاصمي خارج أسوار هذا العالم التعيس الزاخر بالفقر والجهل والمرض، عالماً جديداً على مقاس طموحها وتطلعاتها، حيث تُصان كرامة الإنسان وتُحفظ حقوقه:
” قتامتي اكتسبتها من الحياة القاتمة/ من جوع جارتي التي تعيش في الغصص/ من الصغار البؤساء يقتاتون ” بالمخاط”/ قتامتي/ من دَكنة الحياة في كهوف الفقراء/ في بلدتي / من أدمع الأرملة التي بلا قمح ولا طاحون/ من جهل بلدتي كيف تقود طفلها التعيس…”
وفي قصيدة ” الداء” من هذا الديوان تنحى الشاعرة على المثقفين من حملة المشاعل ونافخي الأبواق وقارعي الطبول، ممن يتهافتون على الخنوع والركوع أمام الطغاة حتى فقدوا إنسانيتهم، وأمسوا مطية للأسياد تحمل الأوزار:
” الداءُ ينتشر/ داءُ التحامر/ ينفثه المريض في النهيق/ ثم تموت النظرة الحنونة/ وتستطيل الآذانُ / ويبتُ الشعرُ على الجلود/ ثم يصير الشخصُ من فصيلة الحمير/ يليق للركوب/ يحمل أثقال السادة الكبار/ يظل خانعاً وظهره مطيةٌ للآخرين…” وإذا كانت الشاعرة قد شبهتهم بالحمير، فإن محمد مهدي الجواهري في قصيدته الثورية ” أطبق دجى” قد شبه الجماهير الخانعة بالذباب والمِعزى والمسوخ والكلاب …
الثورة الجزائرية في الشعر العراقي
في الفصل الرابع، تناول المؤلف كتاب ” الثورة الجزائرية في الشعر العراقي” للدكتور عثمان سعدي الذي كان أمين مكتب جيش التحرير الجزائري في القاهرة أبان الثورة الجزائرية ( 1954 ـــ 1962) ثم أصبح سفير الجزائر المستقلة في بغداد، فاغتنم فرصة وجوده في العراق ليدرس في جامعة بغداد، ويجمع أشعار العراقيين في الثورة الجزائرية لتكون أطروحته للماجستير.
تقع الطبعة الثالثة للكتاب (الجزائر (2001 في 803 صفحات من القطع الكبير، وتضم 255 قصيدة أبدعها 107 من شعراء العراق يقيمون في أكثر من 20 مدينة وبلدة في أنحاء العراق المختلفة. ويعلق القاسمي قائلاً:
” في تقديري الشخصي أن هؤلاء الشعراء الـ 107 لا يمثلون إلا نسبة صغيرة من شعراء العراق آنذاك، فالشعر سمة العراقيين منذ عهد السومريين… كما أن هذه القصائد الـ 255 التي حصل عليها الدكتور عثمان سعدي لا تستقصي جميع القصائد التي قيلت في الثورة الجزائرية. فكل شاعر عراقي كتب عن الثورة الجزائرية قصيدة أو أكثر؛ ومن الشعراء مَن كتب مجموعة شعرية كاملة عن الثورة أو أحد أبطالها. فللشاعر الكبير علي الحلي مجموعتان شعريتان كاملتان عن الثورة الجزائرية.”
ويستخلص القاسمي من الكتاب بعض الأمور أهمها:َ
أن الشعر يظل حياً في أرض الرافدين، وهو بحق ديوان العرب، فالشاعر هو الناطق باسم أمته المعبّر عن مشاعرها وآلامها وآمالها. وإن الشعراء العراقيين الذين أبدعوا قصائدهم في الجزائر وثورتها، ذوو انتماءات سياسية متباينة، من أقصى اليسار إلى أدنى اليمين، وينتمون إلى مختلف الشرائح الاجتماعية ومتباين المناطق الجغرافية. تناول الشعراء العراقيون في قصائدهم عن الثورة الجزائرية موضوعات متعددة مثل وصف بطولات الثوار وتضحياتهم وأمجاهم، وفرنسا وحلفائها وطبيعة الاستعمار، وتقاعس الأنظمة العربية عن دعم الثوار ( مع أن جميع الأقطار العربية قدّمت الدعم المادي والمعنوي للثورة)، وجميلة ونضال المرأة الجزائرية، فقد أصبحت الثائرة جميلة ومدينة وهران وجبال الأوراس رموزاً للثورة ( هناك ثلاث ثائرات يحملن هذا الاسم: جميلة بوحيرد، وجميلة بوباشا، وجميلة بوعزة، وأمضين سنوات طويلة في السجن حتى وقف إطلاق النار سنة (1962 تكمن قيمة كتاب الدكتور عثمان سعدي في أنه يضم مجموعة من قصائد كبار الشعراء العراقيين في الثورة الجزائرية، مثل محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف، والشواعر نازك الملائكة وعاتكة وهبي الخزرجي ولمبعة عباس عمارة ، وغيرهم وغيرهن، فموضوعة قصيدة الجواهري هي تشجيع الثوار ودفعهم للتضحية من أجل الحرية ومطلعها: ردي علقم الموت لا تجزعي / ولا ترهبي جمرة المصرع/ فما سَــعُرتْ جمراتُ الكفاح/ لغير خليـــقٍ بهـــــا أروعِ أما موضوعة قصيدة نازك الملائكة فهي السخرية المرة مما قدمته الدول العربية لدعم الثورة الجزائرية: ” جميلةُ! تبكين خلف المسافات خلف البلادْ/ وترخين شعركِ، كفكِ، دمعكِ خلف الوسادْ/ أتبكين أنتِ؟ أتبكي جميلهْ؟/ أما منحوكِ اللحونَ السخيات والأغنيات؟ / أما أطعموكِ حروفاً؟ أما بذلوا الكلمات؟ / ففيم الدموع إذن يا جميله؟ ” ونجد هذا النقد اللاذع الذي يعبّر عن عجز المثقف العربي في قصيدة عبد الوهاب البياتي المهداة إلى جميلة: كل ما قالوه كذبٌ وهراءْ/ اللصوص الشعراءْ/ الحواة الأغبياءْ/ إنني أحسستُ بالعارِ لدى كلِّ قصيدةْ/ نظموها فيكِ، يا أختي الشهيدةْ …” ويتحدث القاسمي عن الآلام التي سببتها له قراءة كتاب صديقه الدكتور عثمان سعدي، ويعللها بثلاثة أسباب: الأول، إن قراءة الكتاب أعادت إلى نفسه بشكل غريب تلك المعاناة النفسية المبرحة والمشاعر الحزينة التي كانت تنتابه وجميع الشباب العراقيين أيام الثورة الجزائرية، بسبب ما يسمعونه في الأخبار من إجراءات وحشية قمعية يقترفها الجيش الفرنسي ضد المواطنين الجزائريين. الثاني، خيبة الأمل التي أصابت جيله الذي كان يحلم بتحرير الجزائر وفلسطين وتحقيق الوحدة العربية والتنمية البشرية، ولكن أحلامه تبخّرت في هذا الوقت الذي يقوم فيه أعداء الأمة العربية بتقطيع بلداننا وتقسيم المقسَّم..الثالث، أنه قرأ في الكتاب قصيدةً لصديقِ الصبا الشاعر الراحل حميد فرج الله، وكانا يعدان نفسيهما بمثابة أخوين، وتعاهدا على أن يظلا متحدين مدى الحياة، ولكن يد الموت اختطفت الشاعر فرج الله في عز شبابه، في حين كان القاسمي في ديار الغربة ولم يستطع حتى حضور جنازته ومواساة أطفاله.
الشاعر فاروق شوشة والإرهاص للثورة
ضمُّ الكتاب في فصله الخامس دراسة معمَّقة لديوان الشاعر الكبير فاروق شوشة ” النيل يسأل عن وليفته” ( القاهرة 2009). ويُعدُّ شوشة هرمًا من أهرام الثقافة العربية المعاصرة، فهو صاحب برنامج ” لغتنا الجميلة ” الإذاعي الشهير، وهو كاتب مقال أسبوعي في جريدة الأهرام القاهرية، وهو الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة.
وفي هذا الديوان قصائد تعرّي الأوضاع الاجتماعية المتردية في مصر قبل الثورة، وتجأر بالشكوى المرة من الطغيان والطغاة، وتنطلق الشكوى من العنوان الذي يلمّح إلى سؤال النهر العاشق (النيل) عن وليفته المريضة (مصر)، وتنتهى بخطاب يوجهه الشاعر الى نهر النيل: أنتَ هل تصلح ما أفسده الدهر؟/ وهل تمحو من السيرة أيامَ طغاةٍ وعصاةٍ/ أشعلوا النيران في الأجرانِ/ والأحزانَ في الأزمانِ/ والأحقادَ في القربانِ/ وانحازوا إلى الطاغوتِ/ جبارين../ شاهدٌ أنتَ على الظلمِ/ الذي طال عميماً وعتياً/ وظهورٍ فتكتْ فيها سياط القهر…