أصدقاء الدكتور علي القاسمي

الكتابة بلغة الذاكرة في"حياة سابقة" بقلم: د.محمد عز الدين التازي



للقاص علي القاسمي

الكتابة بلغة الذاكرة في"حياة سابقة" بقلم: د.محمد عز الدين التازي


-1-
"حياة سابقة"، هي الإضمامة القصصية الخامسة للقاص علي القاسمي، بعد مجموعاته الأربع: "رسالة إلى حبيبتي"، "صمت البحر"، "دوائر الأحزان" و"أوان الرحيل". وبهذه المجموعات الخمس، يكون الكاتب قد رسخ حضوره في الإبداع القصصي، لتغتني تجربته في هذا الجنس الأدبي بالتنويع في مواد المحكي، والتنويع في تقنيات الكتابة، وهما الأساس في صنع الخصوصية الأدبية للكاتب ومساهمته في تطوير مضامين وأساليب وتقنيات الكتابة القصصية.
كل كاتب مبدع لا يتميز من بين الكتاب الآخرين إلا بالخصوصية والنوعية، وهما يرتبطان كل الارتباط بخصوصية العوالم، وبنوعية تصويغ الكتابة لهذه العوالم، من خلال طرائق السرد، والاشتغال على الحبكة القصصية، ولغة الكتابة، والأٍسلوب، والصور التعبيرية. بذلك وبغيره يصنع الكاتب القاص ما يميز كتابته القصصية عما يكتبه القُصَّاصُ الآخرون.
وهو أيضا، شأن الشعراء والروائيين وكتاب المسرحيات، بل هو شأن كل المبدعين والفنانين الذين يمهرون أعمالهم بالمظاهر المضمونية والخواص الجمالية التي توفر لأعمالهم طابعها الخاص المميز، وسماتها الخاصة، وعبقها الذي هو عبق الإبداع.
أعتقد أن أعمال القاص العراقي علي القاسمي لا تخرج عن هذا المنحى، فهي بعيدة عن التقليد، ضاربة في بناء خصوصيتها الدلالية والجمالية. إن كتاباته القصصية، تطفح، في مشترك حميم بينها، رغم تنويع العوالم والفضاءات، بما يوحي بأن الكاتب وتجربته في الحياة هي المرجع الذي ترجع إليه مضامين القصص. لكن القاص لا يحكي تجارب معيشة إلا وهو يدفع بها نحو دروب التخييل، كما أنه يبني القصة على تجربة بطل تتشابه الكثير من ملامحه، بينما لحظات المعيش، والمتذكر، هي التي تُنَوِّعُ عوالم القصص، وتجعل من القصة حدا مفارقا مع القصص الأخرى.
ـ 2 ـ
القصة القصيرة فن يقوم على اختزال العالم إلى لحظة، وتكثيف تلك اللحظة، وبنائها على نحو بارق ومُوحٍ ومتوهج بوهج التجربة.
الرواية هي فن التفاصيل والبناء الذي يَلْحَمُ تلك التفاصيل ويشيد منها خصوصية العالم الروائي.
بناء على هذين الحَدَّيْنِ المُفَارِقَينِ بين جنس القصة القصيرة وجنس الرواية، أتساءل: لماذا فضل بعض الكتاب أن يبقوا مخلصين لجنس القصة القصيرة، ولماذا انتقل كتاب آخرون من كتابة القصة القصيرة إلى كتابة الرواية، ولماذا فضل آخرون أن يكتبوا في الجنسين معا، ودون تفضيل بينهما؟ تساؤل يمكن أن يجيب عنه الكتاب أنفسهم بإجابات متباينة واعتبارات شخصية وتبريرات ممكنة للإقامة في جنس القصة القصيرة أو في جنس الرواية، أو فيهما معا. كتاب عالميون كإرنست همنغواي وأرسكين كالدويل وتيسني وليامز وجدوا في الكتابة ما تشتغل عليه الأجناس الأدبية، ولا يمكننا اليوم، أن نتصور همنغواي، قد تفوق في كتابة القصة القصيرة، على حساب الرواية، أو العكس، فلقد كان همنغواي شديد الحساسية لما يكتب في الجنسين معا، ومتفوقا فيما كتبه فيهما. نجيب محفوظ كتب الرواية والقصة القصيرة ومسرحيات قصيرة وسيناريوهات الأفلام. يوسف إدريس كتب الرواية والمسرحية والقصة القصيرة. زكريا ثامر ومحمد خضير وموسى كريدي ، وفي المغرب، أحمد بوزفور،عرفوا كقصاص. محمد زفزاف كتب القصة القصيرة والرواية وبعض المسرحيات القصيرة وترجم بعض الأعمال.
مبارك ربيع كتب القصة القصيرة والرواية وقصص الأطفال. الطاهر بنجلون كتب الشعر والرواية دون أن يجد غضاضة في ذلك. في جواب له عن سؤال يتعلق بِتَرَحُّلِهِ بين كتابة الشعر والرواية وكتابات أخرى أجاب بأن هذا التنويع ينفض عن الكاتب حالة الملل، ويجدد من دماء الكتابة، ويغنيها بالمسافات القائمة بين كتابة وكتابة. ناهيك عن شعراء آخرين جاءوا من كتابة الشعر إلى الرواية، وهذا كاتب هذه السطور، كتب القصة القصيرة والرواية والمسرحية وقصص الأطفال وسيناريوهات بعض الأفلام. أدباء جمعوا بين الإبداع والترجمة والنقد الأدبي ومباحث في العلوم الإنسانية، في جُمَاع تجربة ثقافية وإبداعية ربما كانت لا تكتمل حلقاتها إلا بهذا التنوع في الاشتغال، ومن بينهم، الدكتور علي القاسمي، الباحث والناقد والمترجم والمبدع.
يبدو هنا، أن كتابة القصة القصيرة ككتابة الشعر، تستدعي ذلك الاستعداد الخاص للقبض على اللحظة وعلى جمرة الكلمات التي تعبر عن تلك اللحظة، وهو ما يتم في أماكن العبور، وفي زمن لا يستغرق وقتا كثيرا، بينما كتابة الرواية تستدعي بناء التفاصيل وتشييد العوالم في مكان معين هو المكتب، والمداومة اليومية على إخراج موضوع الرواية من حالة الانطباع الأولي إلى حالة
الإنجاز، مع ما تحتاج إليه تلك المداومة اليومية لزمن قد يستغرق السنة بكاملها. وضعية ذلك الجلوس اليومي إلى المكتب، ولساعات، تبدو مُنَفِّرَةً وباعثة على السأم، وهو سأم تُبَدِّدُهُ العوالم التي تُجَلِّيهَا الكتابة أمام الكاتب. من كتابة الرواية يتعلم الكاتب مذاق الصبر، فهو كصياد الأسماك يصبر على صيد المعاني وارتياد الأخيلة والعوالم.
مناسبة هذا التأمل في علاقة الكاتب بالجنس أو الأجناس الأدبية التي يكتب فيها، تستدعي مساءلة المجموعات القصصية الخمس، التي نشرها القاص علي القاسمي، وبينها من الروابط الداخلية، وخيوط النسيج، ما يجعل القارئ يجد فيها مواد حكائية تحضر ببعض التكرارات الملحة، وهو ما يدفع إلى مساءلة أخرى تتعلق بفهم القاص علي القاسمي لجنس القصة القصيرة، ومن حيث هو جنس مفارق للرواية، وجنس السيرة الذاتية، ففي قصصه القصيرة ذلك الناظم الداخلي، الذي يحيل، من خلال قراءة قصص المجموعات الخمس، على عالم تمتد بينه الجسور والروابط. في بعض روايات واسيني الأعرج ما يحضر كتكرارات ملحة، وفي قصص وروايات إبراهيم أصلان القصيرة ما يوحي بهذه التكرارات، وهو إشكال يمكن للقراءة أن تنظر إليه من زوايا نظر متعددة، لكن النظر إلى مثل هذه التكرارات في قصص مجموعة "حياة سابقة" يحيلنا على علاقتها بالبطل / السارد، وهو بين قصة وأخرى يحكي تجربة وأخرى، دون أن يدرك ربما أنه يقع في التكرار.
أتصور أن كاتب القصة القصيرة لا يكتب لحظات مبعثرة، موزعة في الأزمنة، من حياته الشخصية، على شكل قصص قصيرة، بل هو يتصيد اللحظة الموحية والمشرقة، البارقة ببرق خلب، التي تكون عادة، خارج تجربته الحياتية، ولكنه تقع داخل مرصده، وهي اللحظة التي تكون مناسبة ليجعل منها موضوعا لقصته.
موضوع القصة القصيرة هو الكتابة بالعين، والكتابة بالذاكرة، واقتناص اللحظات الشديدة الكثافة على ما توحي به من دلالات. في هذا المنحى، لا يمكن للقصة القصيرة أن تكون سيرة لحياة الكاتب.
مناسبة هذا الطرح، هي ما تختلج به قصص القاص علي القاسمي من تكرارات ملحة لحضور البطل / السارد، ولتكرارات أخرى ترتبط بتجاربه مع المرأة، كرغبة مستحيلة، ومع عالم ثقافي هو عالمه، ومع أسفار عبر العالم، هي أسفاره.
لعل من شأن مجموعة قصصية أن تضرب قصصها في عوالم جديدة ومبتكرة، يتمازج فيها التخييل بالواقع، والتنويع الذي يعني تنويع العوالم وتنويع الاشتغال على تقنيات الكتابة.
عندما نفترض ذلك، فإن هذا الافتراض لا يلغي أن تكون مدارات القصص ومناحي اشتغالها في مجموعة ما، تشكل نوعا من الوحدة والتجانس والانسجام، من حيث الاشتغال على تيمة معينة، أو تجريب الكتابة القصصية بتقنية من التقنيات، وفي غير قصة، بل في قصص مجموعة بكاملها. يبدو هنا كأن المجموعة القصصية تؤرخ لتجربة لها حدودها في الكتابة، التي تتمايز بها عن تجارب أخرى، لها حدودها، لنفس الكاتب.
ومن غير شك، فالقاص يكتب بحرية، وما ينجزه من تراكم، يستدعي منه أن ينظمه ويرتبه في مجموعات قصصية، كشأن الشاعر وهو ينظم قصائده في دواوين، وشأن الفنان التشكيلي وهو ينظم لوحاته ويرتبها في معرض تشكيلي.
في مجموعة "حياة سابقة"، يحضر هذا التنظيم والترتيب بما يجعل القراءة تقف عند مثل هذه التقاطعات والتكرارات.
ـ 3 ـ
في المجموعة أيضا، ما يتساوق مع معنى الكتابة بالذاكرة، فكل الأحداث التي تتعرض لها القصص، تشكل ذاكرة للسارد، وبمعنى آخر، فإن القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، تحفل بقضية الأطفال الذين يكونون قد عاشوا حياتهم في "حياة سابقة".
لذلك يبدو عنوان المجموعة دَالاًّ على مغزى العيش في الذاكرة، كما أن مضامين القصص السبعة عشر التي تحتويها، تقدم الكثير من العلاقة بين العنوان كنص صغير وبين قصص المجموعة كنصوص كبيرة. العنوان لا يخون محتويات القصص ولا يبتعد عنها كثيرا، وبالرغم من أنه عنوان آخر قصة في المجموعة، فإن دهاء القاص قد اختاره ليعبر عن مجموع القصص، وهو دهاء أدبي قد لا يكون القاص واعيا بمقصديته، وحيث إن "الحياة السابقة" تصبح موضوعا للاستذكار واستعادة تجارب الماضي واسترجاع لحظات من الماضي كما عاشتها شخصيات القصص، وهي تشهد على نفسها وعلى من عاشت معهم تلك التجارب.
قراءة قصص المجموعة برمتها، تستدعي تأمل بطل نموذجي، له مواصفاته التي تصفه بها القصص، فهو كهل، أرمل، له ابنة تدرس بالخارج، أستاذ جامعي يحضر المؤتمرات الدولية، كاتب يرسل كتبه إلى أصدقائه الكتاب وإلى الدوريات التي يرغب في أن تُعَرِّفَ بإصدارته الجديدة. هو بطل سارد، يسرد بضمير المتكلم، مما يوحي بشكل أو بآخر، بسرد سير ذاتي، أو بمحكي ذاتي، ما دام هذا البطل يتخذ له عدة أسماء ويجوب في أصقاع عوالم متباينة ومتعددة، أغلبها يعود إلى معايشته لتجارب وقعت في الماضي. هذا النموذج للبطل، يتكرر حضوره بين قصة وأخرى، وهو يتنقل عبر مساحات من الواقع والتخييل، ورغم هذا التنقل، فهو يستعيد تجارب من الماضي، من "حياة سابقة"، من دفق من ضروب المعاناة وتذبذب المواقف وصراع العقل والعاطفة وتوتر شخصية هذا البطل السارد. إنه وبذاكرة ما عاشه في "حياة سابقة" يستعيد جراح الذات ووميض ذلك الضوء الآتي من الماضي. إنه وهو يحضر في جميع قصص المجموعة، وبهذه المواصفات، يُلَمْلِمُ شتاتها، وينسج بين قصة وأخرى نسيجا داخليا، رغم تباين التجارب وتنوعها وتعددها، مما يجعل حَدًّا للوقائع وضروب التخييل يقوم بين قصة وأخرى، يمنحها استقلاليتها وحدودها الخاصة. لكن هذا البطل السار، بضمير الأنا، والمستعمل لضمير الماضي، يدفع بالقراءة التي تقرأ المجموعة القصصية بكاملها إلى تأمل هيمنة حضوره، كبطل وكسارد، وهو السارد البطل المشارك في الأحداث، الفاعل فيها، بل إنه أيضا، سارد عالم، عارف بكل شيء. يتحول البطل / السارد بمحكيات تجاربه من مكان لمكان، ومن فضاء لفضاء، ومن لحظات حلمية، تخيلية، تجعل الفضاء يتناسل مع فضاء آخر ويدخل فيه، كما هو حال قصة "سأعود يا أمي"، وحيث يدخل فضاء القادسية في العراق في فضاء الرباط وسلا، ويدخل نهر الفرات في نهر أبي رقراق. إن مثل هذه اللحظات الحلمية، لا تخلو من تذكر، كما أن غيرها من التجارب والمواقف التي تحضر في القصص الأخرى، هي أيضا، تحضر مُتَذَكَّرَةً من قبل البطل / السارد.
ليس غريبا، أن تكون القصة التي تحمل عنوان المجموعة، تطرح موضوعا غريبا هو الأطفال الذين يتذكرون "حياة سابقة"، وهو تقول القصة، مبحث يسمى علم النفس الموازي، يبحث الظواهر النفسية الخارقة كالتخاطر والاستبصار. ولا عجب، فهي حالة بعض شخصيات القصص، والتمثيل عليها من قصتين هما: "المدينة الشبح"، و"سأعود يا أمي"، وحيث يمكن للتحليل المفصل أن يبرهن على القدرات الخارقة لبطلي هاتين القصتين.
في تعالق بين ما تسترجعه شخصيات القصص من عوالم متذكرة، تكون قد عاشتها، وبين فكرة الأطفال الذين يتذكرون "حياة سابقة"، نستشف الكثير من العلاقات الممكنة. لذلك، فقد وجدت مدخلا لقراءة هذه المجموعة، وهو ما تصل عنوانها: "حياة سابقة" بمواد المحكي في القصص التي تتضمنها، والتجارب التي عاشها بطلها السار، المشترك بين كل القصص، وهو "الكتابة بالذاكرة".
كل كتابة هي كتابة بالذاكرة، لكن سلطة الذاكرة وخصوصيتها هي ما يميز بين كتابة وأخرى.
في المجموعة أيضا، سلطة وخصوصية للذاكرة، وقراءة قصصها تحيل على بطل / سارد يسرد بأفعال الماضي، ويستحضر لحظات ومواقف من تجاربه في الحياة، وهي تجارب تتجول في الأماكن، بِسَعَةِ الفضاءات والأمكنة التي تَتَبَوَّأُهَا المحكيات، لكنها تجارب، وعلى تنوعها واغتنائها بزخم المعيش، تُقَدَّمُ كَمُتَذَكَّر آت من الذاكرة، ومعنى علاقة الكتابة بالذاكرة، كانفجار بركاني تخرج منه المخبوءات وكأنها الحمم، وكَتَزَّيُّنٍ جمالي يَتَزَيَّنُ ويغتني باستقطار ماء الكتابة من ينابيع تلك الذاكرة.
الخيط الناظم بين العنوان والقصص في مجموعها هو ماضي الحياة، أو الحياة كما عاشتها الشخصيات في الماضي. إن ذلك الاستحضار للتجارب المعيشة في الماضي لا يحفل بقيم ماضوية تمجدها ملفوظات الشخصيات القصصية، بل يعني إقامتها في الحاضر، فمعانيها الإنسانية تشكل منبعا عميقا لإنسانية الإنسان، ودفقا من الصور والأخيلة وأنماط العيش، بما فيها نوعية التفكير في الذات وهي تتحول إلى موضوع، وبما فيها بعض الخطابات التي تنتجها شخصيات القصص وهي تتأمل تجارب الماضي، تأملا لا يخرج عن طبيعة السرد نفسه، واعتماده على الأحداث.
ـ 4 ـ
تتألف المجموعة من سبع عشرة قصة قصيرة، تكاد تتساوى في عدد الصفحات، وهي ما يقع بين سبع وثمان صفحات، وكأن القاص علي القاسمي يحدد إنجازه للقصة القصيرة في عدد صفحاتها، وهذا ما لا أختلف معه فيه، بل أراه ضروريا لجعل القصة القصيرة قصة قصيرة، على الأقل من حيث عدد صفحاتها. وطبعا، يبقى السؤال الكبير، هو كيف يملأ القاص تلك الصفحات، وبماذا، وهنا يختلف قاص عن قاص آخر.
يبدو ذلك العدد من الصفحات مواتيا لجنس القصة القصيرة، لكن الحبكة القصصية، وتطوير المواقف، والنهاية التي سميت بلحظة التنوير، كلها مظاهر لاشتغال القاص على تطريز قصته ونسجها بنسيج لغوي شفيف وجميل يدفع بالوصف نحو التخييل ويوجه الأحداث والتفاصيل بتدبير حكيم يسعى نحو الاقتصاد والتكثيف والإيحاء.
في مثل هذه السمات ما يسم المجموعة القصصية الخامسة "حياة سابقة" لعلي القاسمي، كما يختص الإنجاز القصصي وتشكيل اللحظات وبناء العوالم والصناعة اللغوية، في هذه المجموعة، بخصائص جمالية تعبيرية تغري بمتعة القراءة وتجذب القارئ إلى سحر الموضوع.
ـ 5 ـ
لكل قصة قصيرة في المجموعة مَيْسَمُهَا الخاص، وتجربتها في الكتابة، ومنحاها نحو الموضوع. ومع ذلك، فبعض القصص تلتقي في تقابل عجيب بين الرجل والمرأة، وتدرج لحظات العلاقة الممكنة والمستحيلة في آن، وهو ما نلاحظه في قصتين على الأقل، هما "لقاء" التي تتصدر المجموعة، و"العِقاب" رابعة القصص من حيث الترتيب، وحيث يوجد نوع من اللعب بين غريزة الرجل والمرأة وبين عاطفة الأبوة والبنوة، وهو لعب يتحول إلى أسلوب في الكتابة القصصية، يقوم على المراوحة، والتشويق، واجتراح اللحظة القصصية التي يشارك فيها القارئ بتطلعه إلى النهاية المحتملة، وجعل النهاية لحظة تنوير.
بمعنى من المعاني، فمثل هاتين القصتين، يذكرنا بالاشتغال على المفارقة، ويذكرني بقصة لجي دي موباسان وضع فيها بطلا جائعا يركب عربة القطار مع امرأة مرضع تشكو من تخثر الحليب في ثديها، فانتهى الموقف إلى أن توافق الرجل والمرأة على أن يحل كل واحد منهما أزمة الآخر، فرضع الرجل من ثدي المرأة ليخفف عنها الألم، وليشبع جوعه. مفارقة القصتين المشار إليهما من نوع آخر، تتجلى في فارق السن بين كهل وشابة، الكهل أرمل له ابنة تدرس بالخارج، والشابة في القصة الأولى "اللقاء"، فتاة "في مطلع ربيعها العشريني وهو في أواخر خريفه الخمسيني" [1]. يقول السارد: " أزال قميص النوم الوردي الذي كانت ترتديه، فظهرت له فتنة جسدها بكل أنوثته وشبابه وتضاريسه المثيرة.
وبدت له مثل حصن مليء بالمجوهرات، استسلم حراسه وكفوا عن المقاومة، وبمقدور أي غَازٍ أن يقتحم بابه المشرع بفرسه. وعندما هَمَّ هو بالتوجه إلى الحصن، لم يتمكن من التقدم، فقد مثلت له ابنته وهي نائمة بوداعة في السرير" [2]. وكذلك الحال في قصة "العِقاب"، فبطلة القصة تقول: "لا أدري لماذا أحس تجاهه بشعور البنوة ذاك. جميع ما فيه يذكرني بوالدي" [3] وهي نفسها وفي لحظة الاقتراب من التماس الجسدي تقول: "لا، ما هكذا.. يتصرف الأب مع ابنته" [4]. تتشابه القصتان بما يوحي بتكرار ملح على هذا النوع من المفارقة، كما تتشابهان في اللعب على لعبة المباح والمحرم، المقدس والمدنس، الإنساني والغريزي الحيواني، بين الممكن والمستحيل، بين الرغبة والعقل الكابح للرغبة، بين المثال والواقع، بين الصورة والتمثال، الذي هو تمثال البطل / السارد، المتحلي بطهرانية ونقاء وخلوص، وكلها قيم تمنعه من تلقائية العلاقة بينه كرجل وبين النساء (فتيات غريرات رأين فيه صورة الأب). سياج أخلاقي يحاصره، فيميل إلى اختيار صورة الأب، لا صورة العاشق، رغم ما يمتزج في الصورتين معا من جيشان عاطفي وصراع نفسي عميق.
لكن قصصا أخرى من المجموعة، تحيل على ذلك البطل / السارد، وهو كهل معشوق، مرغوب فيه من قبل المرأة، والمرأة تحلم به وتتمناه زوجا. ثمة مسلك نرجسي في تصور البطل / السارد لموضوعه كرغبة، وحيث يرى صورته كموضوع للرغبة الأنثوية، وهو ما يتمثل في قصص من قبيل: "الآنسة راجية"، التي تُسْقِطُ وهم رغبتها في الكاتب الذي يأتي إلى مصلحة البريد لإرسال كتبه إلى أصدقائه الكتاب والنقاد وإلى دوريات ينتظر منها نشر خبر عن إصداره الجديد. عانس تحلم بزوج مفترض، ثم تجده في صورة متوهمة عن الكاتب نفسه.
ملاحظة أخرى تتعلق بحضور اسم الكاتب علي القاسمي في المجموعة، وفي قصتين، إحداهما هي: "العِقاب" التي يغيب عن بطلتها الأب، وهي تستحضره وهو يقرأ لها: "عصفورة الأمير" للكاتب علي القاسمي. يقول النص على لسان الفتاة وهي تخاطب والدها: "لا تذهب قبل أن تقرأ لي شيئا من قصتي. يتناول قصة (عصفورة الأمير) للكاتب العراقي علي القاسمي، من المنضدة بجانب سريري..." [5] والأخرى هي قصة "الآنسة راجية" التي تجد في" رسالة إلى حبيبتي" توجه خاصا نحوها، وتتوهم أن الكاتب علي القاسمي قد كتب هذه الرسالة لها بالذات: " الآن وقد قرأت قصته "رسالة إلى حبيبتي" تأكد لها بشكل قاطع أنه كتب الرسالة إليها، هي بالذات..." [6]. إن حضور اسم الكاتب، المعروف لدى القارئ، في هاتين القصتين، يدفع بالقراءة إلى مساءلة خاصة لطبيعة هذا الحضور. معروف أن المجموعة القصصية "حياة سابقة"، هي من تأليف علي القاسمي، كما هو مكتوب على ظهر الغلاف. لكن حضور هذا الاسم العلم، في ثنايا قصتين، يعني إرباكا للقراءة لا تتجاوزه إلا بإقامة مسافة مفترضة بين اسم الكاتب علي القاسمي الذي يوجد على واجهة غلاف المجموعة القصصية "حياة سابقة"، وبين مؤلف عملين آخرين هما: "عصفورة الأمير" و"رسالة إلى حبيبتي". تلك المسافة سرعان ما تتقلص، لتعني شيئا آخر، وهو تثقيف الكتابة القصصية بثقافة أخرى تحيل على مرجعية من المرجعيات، وهذه المرجعية هنا، تعني كتابات أخرى لنفس مؤلف "حياة سابقة"، علي القاسمي.
إننا لا نستحضر شيئا من سمات شخصية علي القاسمي التي ربما كنا بعرف بعضها، بل نستحضر معنى أن يوجد اسم الكاتب نفسه في ثنايا ما يكتب، بل إننا نوجد أمام علي القاسمي الآخر، الذي يحضر داخل عوالم السرد القصصي ومتخيله باسمه وبعنوانين من عناوين كتبه. تلك لعبة اختارها الكاتب، ليورط القارئ في شركها، بحثا عن مسافة لا تسعى إلى التطابق عوالم النص وبين المرجعية الخارجية التي يحيل عليها النص.
ـ 6 ـ
ثمة عشر ملاحظات حول جمالية الكتابة القصصية في مجموعة "حياة سابقة"، وما تطفح به من طرائق في السرد وتخييل العوالم وبناء الأشكال.
أولها: أسلوب القاص، السهل الممتنع، القوي العبارات، المفعم بالمعاني، وهو أسلوب على أناقته اللغوية يجنح في بعض المواقف نحو نزوع رومانسي لا يفسد ما توحي به الأحداث من واقعية وإيهام بالواقع، ويمكن تقديم عدة أمثلة من المجموعة على ذلك من قصص المجموعة.
وثانيها: اعتناء القص بتصوير المواقف، وبالوصف الخارجي والداخلي لعوالم الشخصيات: "غض بصره، ولكنه سرعان ما عاد يتطلع إلى ذلك الوجه المشرق إشراقة شمس دافئة في يوم ممطر شديد البرد. وجه يجمع بين فتنة الأنوثة وبراءة الطفولة. وَجْهٌ اجتمع الحسن كله فيه. له عينان نجلاوان يعلوهما جاجبان مقوسان مثل سيفين مشهرين، وخدان أسيلان التقت عليهما حمرة الخجل بتورد الشباب، وشفتان قرمزيتان ممتلئتان تزيدهما إغراءً انفراجة خفيفة كأنها دعوة للتقبيل والضم. أسره قوامها الرشيق، وشعرها المنسدلة خصلاته على كتفيها وظهرها، مثل سنابل الذهب المبتلة" [7]. في هذا الوصف الخارجي، الكاتب يرسم بالكلمات رسما مفعما بأحاسيس بطله. أما الوصف الداخلي لانفعالات الشخصيات فنلتقط نموذجا منه، على النحو التالي: "... حنان قد لا تدركه كل فتاة، ولكني أنا وحدي أحس به في أعماقي، يسري إلى قلبي كما تنساب الدماء فيه من وريدي. حَرَّكَ عوالمي الداخلية برقة منذ اللحظة الأولى مثل نسيم عليل يَهُبُّ على شجيرة أزهار صغيرة" [8]. فهذا الاعتناء بوصف الشخصيات، ملامحها الخارجية ودواخل نفوسها، هو تصنيع من صنعة الكتابة في المجموعة.
وثالثها: ابتداء القصة من نهايتها، وتطوير الموقف ليعود إلى النهاية، في بناء دائري، وهو ما نلاحظه في قصة: "الآنسة راجية".
ورابعها: اعتماد السخرية، باعتبارها مفارقة بين وضعين أحدهما قائم في واقع الحكاية والآخر متضمن يستشفه القارئ ويكتشف تعارضه مع الواقع. إن من يقرأ قصة: "الكاتب الكبير" يجد فيها نموذجا رائعا للسخرية من الارتزاق بالكتابة وتبني الكتابة لأغراض أخري غير ما هي مرصودة له.
وخامسها: اعتماد القص على المباشرة والتقريرية، وهو يُقَرِّبُ أسلوبه من الكتابة المقالية، وحيث يحضر الخطاب المتالي ويكاد يغيب السرد وما يعنيه من أحداث، كما نلاحظ ذلك في قصة: "موعد في كراتشي". ولإن كان هذا النوع من الكتابة يتقدم بنزعته المباشرة التقريرية، على مستوى اللغة والخطاب، فإنه يوحي أيضا، بنزعة تجريبية تختبر إمكانات أخرى لكتابة نص قصصي حواري يتخذ من عقد مؤتمر عالمي حول "التعليم للجميع" موضوعا له.
وسادسها: استخدام بعض القصص لعوالم تخييلية تتجافى مع الواقع، أو ترتفع عن إلى مستوى ما فوق الواقع، في مَدٍّ لآفاق وممكنات التخييل، كما هو الحال في قصة: "المدينة الشبح"، التي تنذر بما سوف يصبح عليه عالم الغد، وقصة: "المجابهة"، التي تخلق أجواؤها للبطل المحارب ارتفاع الروح إلى المحل الأرفع، ثم هبوطها للحلول في الجسد من جديد.
وسابعها: تكرار بعض الأطر التي تؤطر المحكي في المجموعة، من قبيل اللقاء الذي يتم بين شخصيتين على متن الطائرة، كما هو الحال في "موعد في كراتشي"، و"حياة سابقة"، ومن قبيل علاقة البطل بالأنثى كما لاحظناه في قصتين سلف ذكرهما. وهذا التكرار يعيدنا إلى ما سبق أن طرحته، من أن ذلك يؤدي بالقراءة إلى النظر في تلك المظاهر التكرارية في القصص، وكأنها تحيل على ما يوحي بتجارب بطل / سارد واحد يحضر في جل القصص، إن لم نقل في مجموعها.
وثامنها: لجوء بعض القصص إلى خطابات فوقية تجعل الكتابة القصصية كتابة مقالية بعيدة عن التشخيص.
وتاسعها: أن صراعا بين العقل والعاطفة، يعيشه البطل / السارد، كما تعيشه الكثير من شخصيات المجموعة.
وعاشرها: أن المجموعة تحقق لذة القراءة بجمالية الأسلوب وأناقة القص، والرشاقة، والابتعاد عن الترهل اللغوي وترهل الأحداث والتفاصيل. إنها توحي بالمعاني الإنسانية، وتخلق معنى القص الجميل، المفتعم بالمعاني والصور والأخيلة

مقالات ذات صلة