صدى الصخب في "صمت البحر" لعلي القاسمي
صدى الصخب في "صمت البحر" لعلي القاسمي
نقلا عن موقع النور
"صمت البحر"عنوان شعري يعلواللوحة التشكيلية البديعة ،التي تعكس الوانها القاتمة الممزوجة بأنوار الامل ،مضمون المجموعة القائم على الإخفاق والإ حباط .
وشاعرية عنوان هذه الاضمومة القصصية 'اضافة الى عناوين أخرى تتضمنها مثل:"أخضرالعينين"و"إنه الربيع "و"الظلال الملتهبة"...الخ تذكرنا ببعض المجاميع الشعرية ،أذكر منها على سبيل المثال "يغير أمواجه البحر" لنازك الملائكة ،و"البحر موعدنا"لإبراهيم أبوسنة، و"بيني وبين البحر "لعبد المنعم عواد يوسف، وغيرهم ...
والمجموعة المشار اليها أعلاه، تعتبر العمل الإبداعي الثاني بعد أخت لها سابقة، أصدرها المبدع علي القاسمي تحت عنوان "رسالة الى حبيبتي" سنة 2003هذا إلى جانب مساهماته الجادة، والمثمرة في ميدان اللغة ، والتاريخ ،والترجمة، إضافة الى مقالاته النقدية حول أعمال بعض المبدعين المغاربة ،في مجالي القصة والرواية ،الصادرة سنة 2002 تحت عنوان "من روائع الأدب المغربي ..قراءات"
في هذاالكتاب وغيره ،تتضح لنا النتائج التي توصل اليها علي القاسمي في العلوم
اللغوية ،والتربوية ،والنقدية..عدا ترجمته الرائعة للأدب الأمريكي التي يهدف من ورائها العمل على تعريفنا بالأخر،وفهمه عبر طريقة يوضحها لنا الأستاذ في الورقة التي قدمها داخل منتدى أصيلة سنة 2003 تحت عنوان "دور الأدب في الحوار الحضاري"قائلا :"فنحن نستطيع أن نقترب من شيئ غامض لانفهمه،أولانثق بشخص أوأمر نجهله ،"لأن الناس أعداء ما جهلوا"كما قال الأمام علي بن أبي طالب ،وفهم الأخر يعني إدراكه ظاهرا وباطنا ،أي إدراك قواه الخارجية ،واستيعاب عقليته ،أوطريقة تفكيره ،أوما يطلق عليه بعضهم ب"ثقافته"{جريدة العلم "4شتنبر 2003}
والملاحظ من خلال ما سبق،ومن النمودج السابق أعلاه ،هو أن الدراسات النقدية لعلي القاسمي ،دراسات جادة ،تجعلك أسير جادبية فكر وأسلوب صاحبها ،حتى تعيش معهالحظات تستوعب فيها المعرفة الدقيقة ،وتستضيئ من خلالها بالأفكار العادلة المتزنة ،كما تنعم بمنهجها وموضوعيتها ...
أما عن "صمت البحر" فبداية يقدم لنا المبدع الأرملة ،بكل ما تتصف به من جمال وفتنة ونفس الأمر بالنسبة للرجل ..إذا، فهما يتصفان بالحيوية والنشاط ،والبنية السليمة ،وغير ذلك ممايشمل النواحي المظهرية التي لها "اهمية كبرى في سلوك الشخصية وتصرفا تها "لدى كل من المرأة والرجل ،اللذان يتعرفان على بعضهما ،حيث يعجب الرجل بها إعجابا شديدا ،بعد ما جذبه حزنها "المتدفق من عينيها "
أما المرأة فكانت تنشد من وراء علاقتها به ،نسيان ألم ذكرى زوجها الذي فقدته ،هذا الزوج الذي حاولت طرد طيفه من ذاكرتها ،إلاأن كل محاولة تخطوها في هذا الصدد ،تجعل الزوج الميت يزداد تسلطا وسيطرة على مخيلتها ..وقد عبرت عن حدة ذلك في نفسها عبر صوت باطني ،قائلة "وفي كل يوم أفقد الأمل ،وفي كل يوم أعيد المحاولة عل وعسى"ص11
لما ذا تفقد الأمل ؟ لأن الزوج الذي اختطفه الموت ،كان في عمر الورود التي ما تزال نظرة ،عطرة ..وفجيعتها فيه دلالة على أن زهرة حياتها قد ذوت قبل الأوان ،فثأثرت لذلك، ودام حزنها على رفيق دربها سنتين ..ومع ذلك لم تستعجل الوصال طيلة هذه المدة ،شأن غيرها من النساه اللواتي فقدن أزواجهن ..لأن الزوج الذي أرضا ها ،وزخرف أحلا م المستقبل وإياها ،قد نشبت المنية أظفارها فيه ،وانتزعته من بين أحضا نها .
القصة إذا ،تقدم لنا ألارملة ،وهي تمر بلحظة من لحظات عمرها الحزين ..هذه اللحظات التي تزداد وضوحا بالمفارقة بين سعادتها الماضية ،ووضعها الآن ..فمن خلال الصراع والتداعي اللذان تعتمدهما القصة في استحضار الذكريات ..تحاول البطلة عبر ضمير المتكلم عقلنة حياتها فتقول "أدرك في قرارة نفسي أن طيفه مجرد وهم ،وأنا أسيرة هذا الوهم الجائر الذي سيتلاشى يوما بعد فوات الأوان ،كما تتلاشى ظلال الغيوم على صفحة هذا البحر بعد المغيب ،وحينذاك سأشعر بوحدة قاتلة "ص11 .الجملة الأحيرة المعتمدة على سين التسويف الدالة على المستقبل ،تدل دلالة واضحة على حسرتها ،وأسفها على حياتها إذا هي بقيت أسيرة وهمها ..صامتة "صمت البحر "وفي أحشائها أنين ،وفي أعماقها صراخ ..
أما بطل القصة المتجلي من خلال علاقته بها ،بقيم السمو والرفعة ،فقد كانت رغبته في امتلاك قلب الأرملة ،تصطدم بمرارة الخيبة والإحباط ..لأن المفقود الذي وجده فيها ،لم يتمكن من الإستحواذ عليه ،خاصة وأن الشهور الثلاثة التي مرت على علاقتهما ،لم تزده إلايقينا بعجزه عن اقتحام عالمها المستغرقة فيه ،والمرتبطة داخله بشبح زوجها الهالك ،الذي تذكر أشياءه التي ما زالت مكانها ..لتقوم بعد ذلك بالمقابلة بين الماضي {زوجها }وبين الحاضر {العاشق الولهان الذي هو انا }،وكأنها تتساءل مع نفسها :ايهما أحب الأن؟ وأيهما سيكون خليقا بقلبي ؟
ونحن أمام مشاعر الرجل تلك ،وتعابيره ،وصوره ،وأفكاره المتتالية والمتتابعة ..نلاحظ أنه لايعزف على نغمات حب شبقي ،بقدر ما يجعلنا نهيم معه ،ونسبح الآفاق لنعيش حبا صوفيا بينهما ..فذهابهما الى شاطئ البحر المفتوحة ششاعته بالرجاء والأمل ،على متن سيارته لمشاهدة الغروب ..يعد محاولة من البطل لردم الماضي ،وانتزاع الذات من ذكرياتها لتحقيق الألفة ،والإنتصار على الغربة التي تنتهك وحدتهما ،وتعكرصفو مكاشفة كل منهما للآخر ..
وبعد استحالة ما يطلبه منها ،وخيبته أمامها ،وشعوره العميق بالهزيمة ..كل ذلك وغيره ، دفعه الى النطق بكلمة "الصمت"شأن الأرملة في السابق ..والتجاؤه اليها ـ أي كلمة الصمت يعد تعبيرا دالا عما يمور به قلبه المشغوف على لفظة "حب"تخرج من بين شفتي الأرملة ..
ولما كان اليأس حليفه ،أصر على "صمت البحر"،ما دام الكل يلزم الصمت :النسيم عن الرفيف ،والأغصان عن الحفيف ،والطيور عن النشيد ..كل ما في الوجود التزم الصمت وأرهف السمع ،لكلمة تميط الحجب الكثيفة التي أسدلتها سنتا فراق الأرملة لزوجها على أسرارها ،على علاقتهما ..ليطمئن قلبه الولهان ..لكن أنى له ذلك ؟فالصمت الذي حاصرهما ليس بعصا موسى ،يستطيع بها تبديد كل الأفكار الكئيبة ، وطمس كل الأوهام البادية ،التي تحول بينهما ،وبين جنتيهماالأرضية المفقودة ،المنتظرة ..
الصمت ساد فضاءهما ،كأن روحا "أورفيوشية "انسابت في فضاء المكان ،فخيم الصمت عليه ..
"صمت البحر "مشهد بصري ،أبدع لوحته التشكيلية المبدع علي القاسمي ،ليطلعنا على أبعادها الفنية ،عبر جمل منحوتة نحتا جميلا ،وصور مركبة تركيبا فسيفسائيا عظيما ..يسع قلبين خاشعين ،وجلين في صلواتهما أمام هيكل الحب ،فكان الصمت ،والصمت كما هو معلوم خروج على الذاكرة ،كما قيل ،لأنه "لايمكن أن تخرج على الذاكرة إلاإذاصمتت "بل ربما الصمت هو نوع من اللغة "
ومن المعلوم أن للغة الصمت مكانة في فكرنا المعاصر ،الشيء الذي أدى إلى تباين تصور المفكرين له "فهورسل ،وهيدجر ،وسارتر ،وغيرهم من مفكري الوجودية "يعدونه من مبادئ الذات ،والذاتية "أما المفكر "فتجنشتاين "فيرى "فيه حالة من استحالة التفاهم الكامنة تحت قواعد اللغة "
وحتى لانمضي بعيدا في متابعة ما قيل عن لغة الصمت ،في النقد ،واللغة ،والأدب ،فإني أكتفي في هذا الصدد بما قاله عنه الكاتب الفرنسي "موريس بلانشو"حينما قال عن "إيروديس"زوجة "أورفيوش ": "إنها تمثل الصمت الذي كان يجب أن يتحلى به "أورفيوش" ولكنه لم يستطع ،لأن الصمت مرتبط بالموت ،فهو يغري الأديب ،ويحثه على إعدام جميع أشكال الفن ،بل إن "بلانشيو" يتنبأ بعصر يخلو من الألفاظ ،ويعج بأصوت جديدة " {مجلة "الهلال "أكتوبر 1995}
وعبر صوت باطني آخر ،نكتشف نمو بعض عناصر التمرد لدى الأرملة بعد ماأخدت على نفسها تساؤلات تحاول من خلالها "فلسفة "مواقفها من الموت ،باعتبارها السبب في عظمة مصيبتها ،وهول خسارتها ..وقبل العمل على إبراز موقفها ذاك ،نتساءل عن الموت ما هو ؟
بداية أشير أني لاأتوخى من سؤالي الوقوف أمام مفهوم لدى المفكرين ،والفلاسفة الغابرين،وإنما أحاول اقتناء ،وإثبات قولة عنه ،تركها لنا فيما ترك الفيلسوف "أبيقور "{361ق م ـ270ق م }جاء فيها قوله "الموت وهو أعظم الشرور"لايعني شيئا بالنسبة لنا،حيث إنه طالما كنا موجودين ،فإنه غير موجود،ولكنه حينما يحل فإننا لانكون موجودين،وهكذا لايثير القلق في الأحياء ولاالموتى،فهو بالنسبة للأوائل ليس موجودا،أما الأخيرون فإنهم لايصح لهم وجود حينما يحل .."
أما عن علاقة ثقافتنا العربية بالموت،فإن البحث القيم الذي ذبجه يراع علي القاسمي حوله ،أثناء تحليله لظاهرة الموت في رواية "وعاد الزورق إلى النبع "للأستاذ عبدالكريم غلاب ،الذي اعتمد فيه على البراهين العقلية ،والنقلية ،والنصوص الدينية أيضا ،التي صاغها في عبارات دقيقة وموجزة ،تتسم بالوضوح ،والذكاء ،وقوة البيان ،وبنزعة تأملية حول مصير الإنسان ..إن بحثه ذاك يغنينا عن تتبع دلالة هذه الظاهرة في ثراتنا العربي ، والعمل على استقصائها ..
بعد هذه الإشارات الواضحة لبعض إشكاليات قصة "صمت البحر "أعود من جديد لأسترق السمع لصوت الأرملة الباطني ،حتى أتمكن من استيعاب الكلمات التي تبث فيها لوعتها وحرقتها حول ما أصابها من الموت الذي فاجأها ،فتمردت عليه بما مضمونه :غالبا ما يكون الموت جاهلا لقصده ،غير منضبط وعاجز عن التصويب ..وبذلك فهو لاينقض على هدفه فحسب ،لأنه كالأعمى الذي يخبط ،ويضرب في كل اتجاه ..تقول الأرملة :"لم غادرنا إذا ؟يا إلهي :لماذا لم يمكث معي يغدق الهناء على حياته بكرمه ،ويملأ وقتي متعة بلطفه ؟لما ذا اختطفته يد المنون وهو في ريعان الصحة والشباب ،وفي قمة العطاء ؟ أما كان لها أن تأحذ روحا غير روحه ؟أما للقدر أن يختار واحدا غيره ؟ كانوا هناك بالعشرات ،وكان بوسع الرصاص الطائش أن يصيب شيخا في آخر عمره ،لاشابا في مطلع حياته ،كان بمقدور الرصاصة التي قتلته أن واحدا من أولئك الأشرار الذين لانفع فيهم ولاخير ،لاأن تقضي على طبيب كانت يده تواسي المرضى ،وتعيد البسمة للشفاه المحرومة ،كان بمقدورها أن تصيب رجلا لازوجة له ،أورجلا لاتحبه زوجته على الأقل .أما أن تصيبه هو بالذات من دون الآخرين ،من دون الآخرين فهذا هو الظلم بعينه "ص9
إن صرختها تلك ،المليئة بالأحزان ،والذكريات في وجه الموت ،واتهامها بالظلم والطغيان للقدر لتذكرنا بشكوى ضائعة ، للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي التي جاء فيها بتصرف قوله :
ياليل ما تصنع النفس التي سكنت هذا الوجود ،ومن أعدائها القدر ؟
فإنما الموت ضرب من حبائله لايفلت الخلق ما عاشوا ،فما النظر ؟
هذا هو اللغز ،عماه وعقده على الخليقة وحش فاتك حذر
لاالموت ينقذهم من هول صولته ولا الحياه ،تساوى الناس والحجر
أمام هذه الهموم والأحزان الجاثمة بتقلها على كاهليهما ،جد في نهاية القصة جديد ، يتمثل في الحدود الشائكة التي أقامها العسكريون ،باعتبارها صورة مرعبة ،وقاهرة أتت لتدميرقيمة الحب الروحية ،والسامية عن باقي العواطف الأخرى ..كما أن إقامتها تعد أيضا، إجراء مانعا لاستمرار ارتيادهما لهذا المكان الجميل الهادئ.. والإجراء الذي جد دون سابق إيحاء أوتلميح ،يحتمل ـ في نظري ـ أن يكون نهاية مفتوحة ـ رغم إشارتي إلى الإحباط الذي منيا به ـ تترك للقارئ استنتاج ما يتصوره ،وهذه سمة من سمات الفن العظيم ،الذي لايبوح لك بكل شيء ،بل يدع القارئ يكشف بنفسه الخمار عن الجزء الذي لم يظهر بعد من "جبل الجليد"على حد قول همنجواي ..إذا ،هل ظهور السياج سيغير من وضعها النفسي ؟وهل تستطيع الأرملة الإنتصار على كآبتها وتبديد أحزانها ؟تلك بعض الأسئلة التي قد تطرأعلى ذهن القارئ ،وهو يأتي على نهاية القصة ..
وبعد تبياني لما قد تثيره نهاية القصة ،أصل إلى الشيء المفقود فيها ـ من وجهة نظري ـ فأقول :إذا كان المبدع على القاسمي قد أضاء لنا عن طريق التداعي جانبا من عالم الأرملة ، وخاصة فيما يتعلق بسبب حزنها ،وكآ بتها ..فإنه قد حرمنا من هذه الإضاءة لدى الرجل ، حيث لم يكشف لنا عن همومه ، وأسباب الخيبة التي مني بها في حياته ، لأن شعوره بكون الأرملة ستكون هي المنقذة مما هو فيه ،قد باء بالإحباط أيضا ،رغم أواصر الألفة التي حاول إقامتها طيلة الشهور الثلاث التي جمعت بينهما ..
والمتأمل لأسلوب القصة ،يلاحظ أن لغتها قد سبكت بأسلوب أدبي موح ،يحمل بين ثناياه مجازه وفتنته الخاصة به ،مما جعل أحداثها تأتي كاملة التطور ،أي أن كل حالة فيها ،تؤدي الى أختها ، دون أن تشعر بشرخ بين مراحلها ، الشيء الذي يثير رغبة القارئ ، فتشبعها .. وهذه أيضا ،ميزة من مميزات تفوق العمل الفني على باقي الأعمال الأخرى.