سيمياء الشخصية العراقية في أوان الرحيل للقاسمي فيصل عبد الحسن
سيمياء الشخصية العراقية في أوان الرحيل للقاسمي
فيصل عبد الحسن
26 أكتوبر 2014، نقلا عن موقع الزمان
26 أكتوبر 2014، نقلا عن موقع الزمان
التجربة والعلامة القصصية من الكتب النقدية المتميزة التي تناول فيها الناقد د. محمد صابر عبيد تجربة قصصية عراقية متميزة ترعرت ونضجت في المنفى، فكان نتاجها القصصي عن البيئة العراقية بالرغم من أن القاص عاش خارج العراق منذ بواكير حياته وتنقل في دول كثيرة للدراسة أو بسبب عدم انسجامه مع الأنظمة السياسية التي مرت بالعراق خلال نصف قرن.
الكتاب النقدي للدكتورمحمد صابر عبيد تناول واحدة من أهم المجموعات القصصية للقاص د. علي القاسمي هي ” أوان الرحيل ” تتبع في فصوله سميائيات القصة القصيرة في هذه المجموعة القصصية وأبرز أهمية الإبداع الفني في الشكل والمضمون لدى هذا القاص. أن الكتابة عن القصة القصيرة في الأدب العربي في هذا الظرف الذي تمر به بلداننا العربية، وهو الظرف الأصعب، لأنه فترة مريرة تدافع فيها أممنا عن كنيونتها وهويتها الثقافية، ووجودها الفكري أمام موجة من الهجوم لتغيير الهوية، وفرض هويات أخرى على أذواقنا وتشكيل شخصياتنا من حيث يريد الآخر لا من حيث نريد.
والمعروف أن القصة القصيرة في أدبنا الحديث لها موقعها الخاص من أهتمام القارىء العربي بها منذ بداية القرن الماضي، لما وفرته الجرائد اليومية من فسحات في صفحاتها بشكل يومي أتاح لهذا النوع من النثر الأنتشار والشهرة، ومن خلال شهرة النصوص المُجِيدةِ، عرف القراء اسماء أدباء عرب اشتهروا بكتابة هذا اللون الأدبي من النثر.
قبر البياتي
الكتاب النقدي جاء بثمانية فصول وتقديم توضيحي لبنية الكتاب كتبه الناقد المغربي ” د.سعيد يقطين ” ومقدمة كتبها مؤلف الكتاب.
وتناولت فصول الكتاب التي عنونت: ” مدخل في مفهوم التجربة والعلامة، وسيميائية عتبة العنوان، عتبة الاستهلال وهندسة البدايات، عتبة الإقفال وشعرية المفارقة، التشكيل الشخصي وكثافة الصياغة، المقولة القصصية والرؤية السردية، جماليات الخطاب القصصي، والصنعة القصصية وسحر الحكي.
وجمعت رؤية موحدة فصول الكتاب حول القصة القصيرة التي كتبها د.علي القاسمي في مجموعته أوان الرحيل، لتؤكد على ان القاسمي كتب قصصه بناء على ثلاثة مصادر فنية خلطها معاً، أولها المعرفة وثانيها التجربة وثالثها الخيال. فقد دأب القاص علي القاسمي في معظم قصصه التي تميزت بلغة شعرية على تأثيث قصصه بلغة تم اختيار كلماتها، لتغني المشهد المعرفي وتؤسس لجماليات فنية تقترب من صياغة الواقع المتخيل ليصير واقعاً حقيقياً يؤثر في نفس القارىء، ويجعله مواكباً للحدث، ومشاركاً فيه من خلال اعادة صياغة لشخصيات القصة في ذهنه، ووضع الذات القارئة ضمن احداث القصة كمراقب أو كمشارك مع الأبطال الذين يتحركون تحت بصره من خلال لغة حية تعيد رسم الأشياء.
والمؤلف د. محمد صابر عبيد كتب عن اللغة ودورها في القصة القصيرة” فمن دون وجود لغة تحمل حساسية التجربة إلى النص المكتوب تبقي التجربة رهينة التصور المعلق في فضاء الذاكرة المجردة. ” ص19 وتابع المؤلف النص الابداعي لدى د.علي القاسمي ابتداء من عنوانات قصصه معتبراً ” أن عتبة العنوان في سياقاتها الخطية والتشكيلية عتبة مركزية وأساسية مكوِّنة من عتبات النص الأدبي، لذا وصف عند أكثر المشتغلين في حقل عتبات الكتابة بالنص الموازي ” ص23 ورأى أن القاص علي القاسمي اختار لمجموعته اسماً جمع فيه كل عنوانات قصصه، فقد اختار عنوان ” أوان الرحيل ” ليعبر بشكل سيميائي عن المحتوى العام للقصص ” إن مفردة ــ أوان ــ تنتمي إلى صيغة زمنية غير محددة ضمن مقياس زمني معروف ومتفق على زمنيته، إذ يمكن أن تكون دقيقة واحدة، ويمكن في الوقت نفسه أن تكون عاماً كاملاً أو أكثر أو أقل ولا شك في أن هذه المخاتلة الزمنية لها ما يبرّرها على مستوى الإيهام السردي. ” ص27
فيما يحمل المضاف إليه ــ الرحيل ــ شبكة من الدلالات والقيم والمعاني، وتنفتح على مجموعة من المسارات من بينها التدليل المباشر على الموت، وعلى السفر البعيد والفراق، وغير ذلك من المعاني الفقدية، ففي نص ” البحث عن قبر البياتي ” يحكي فيها القاص بحثه عن قبر هذا الشاعر العراقي في مقبرة بدمشق بدافع الأنتماء الوطني للعراق، وقد سافر كاتب النص الى سوريا للقاء أحد اشقائه هناك بعد فراق ثلاثة عقود” ص30 ولكنه يؤطر هذا النص بعتبة ” ما يشبه المقدمة / ما يشبه القصة ” فهي ليست مقدمة وهي ليست قصة في آن معاً ” ولكنها حسب الناقد ” ترسم من جهة حساسية القاص الإنسان وهو يحكي عن ذاته من دون مواربة فنية ويروي مشهداً سير ذاتياً زار فيه قبر البياتي حين زار دمشق، بعد بحث مضن عن قبره بجوار قبر الشيخ محي الدين بن عربي. “
ويرد على لسانه ديالوج مع أخيه عن تحقق نبوءة ولادة البياتي قرب شيخ صوفي هو ” الشيخ عبد القادر الجيلاني ” ودفنه قريباً من قبر صوفي آخر هو بن عربي ” ص31
قصص عراقية
ويختم القاص مجموعته بعنوان دال آخر هو ” ما يشبه الخاتمة، ما يشبه القصة ” ويضع سؤالاً: هل تداوي الكتابة الطفولة الجريحة ؟ ” ص32 فيكتب عن مشهد سيرذاتي له علاقة وثيقة بالرؤية السردية، التي تشتغل عليها قصص المجموعة أجمالاً ” وذلك عن دعوة تلقاها القاص د.علي القاسمي لقراءة بعض قصصه على الحاضرين في احدى الاحتفالات الثقافية، وفوجىء القاص حين وصوله بأن جمهوره كان من الأطفال، وهكذا أُريد للحفل أن يكون لمدعوين صغار في العمر، فارتجل القاص لجمهوره قصصاً من طفولته، وقد فرح بتقبل جمهوره لقصصه، وفهمهم لها ولكن حين فتح باب السؤال بين القاص والجمهور، سألته طفلة صغيرة من دون أن تقرأ في ورقة، أنها سرّت بقصصه عن مشاغاباته حين كان طفلاً في المدرسة، وقصصه عن مطارداته للبطات قرب النهر، لكنها سألته إن كان قد كتب قصصاً عن أطفال العراق، ومعاناتهم للحصول على الحليب والدواء في فترة الحصار المضروب على العراق في التسعينات ؟ ! ص33
ويستقرىء الناقد عنوانات قصص المجموعة وناقشها كسيميائيات دالة في عالم القاص القاسمي، وحدد وظائف كل عنوان من خلال قراءة المتن السردي لكل قصة من قصص المجموعة. ص48 ودرس دراسة متأنية قصص المجموعة: ” أصابع جدي “، ” الوصية “، ” جزيرة الرشاقة “، ” الحمامة “، “الكلب لير يموت”، ” الساعة ” و” النجدة ” ص55. مستنتجاً ” أن التركيزعلى عتبة الاستهلال ستبدو للقارىء وكأنه ازاء قصة، فهي تتوافر على الكثير من عناصر القص والحكي، وتزخر في باطنها بحساسية المكان والزمن، والموروث الشعبي والمقولة الإنسانية بأنموذجها العاطفي الراقي ” ص57
وينقل الناقد عن المشاهد الشعرية في استهلالات قصص ” أوان الرحيل ” موضحاً ذلك بنموذج دال من استهلال قصة ” الظمأ ” التي أهداها القاص إلى روح الفنان الكبير د.خالد الجادر، الذي توفاه الله تعالى في مدينة الرباط بعد عقود من الغربة عن وطنه العراق: ” سقطت سماعة الهاتف من يده قبل أن يسمع بقية كلام مخاطبه، وهبّ يهرول متعثراً في اتّجاه الباب، مغالباً الدمع المنحبس في مآقيه، وهو في طريقه إلى شــقـــــة صديقه الرسام الكبــــير. ” ص62
ومن الاستناجات المهمة التي يعينها الناقد د. محمد صابر عبيد في سياحته الجمالية والفكرية في العالم القصصي للدكتورعلي القاسمي وهو يتناول مجموعته القصصية ” أوان الرحيل “: ” أن القاص هدف إلى إعادة طرح الأسئلة الكبرى في الحياة عن طريق فن القصة القصيرة بوصفها أداة راقية وفعالة للمضي قدماً في إعادة الاعتبار للإنسان وهو يصنع الحياة ” ص 84.
الكتاب النقدي ” التجربة والعلامة القصصية ــ رؤية جمالية في قصص ” أوان الرحيل ” لعلي القاسمي ” للدكتور محمد صابر عبيد يعد أحد المراجع النقدية المهمة لمعرفة عالم من الجمال في قصص عراقية مكتوبة بعيداً عن الوطن وتغوص عميقاً في تحليل سيمياء الشخصــية العراقـــية.
{ كاتب عراقي مقيم في المغرب