أصدقاء الدكتور علي القاسمي

شاعرية الاشتباه في "حياة سابقة" لعلي القاسمي.



شاعرية الاشتباه في "حياة سابقة" لعلي القاسمي.


نقلا عن موقع ديوان العرب

بقلم: د. عبد الرحيم الإدريسي

(1)
إن كل قارئ أو ناقد يتوخى التصدي لواقع القصة القصيرة العربية سيشغله الإنجاز الأسلوبي والقصصي الذي اختاره الكاتب المبدع علي القاسمي في مجموعته "حياة سابقة"(1) التي يستلهم فيها ذاته المستخلصة من تجارب الحياة والقراءة والتأمل، قبل أن يستلهم النماذج الخارجية المهيأة سلفا. إن القاص علي القاسمي يصطفي حافزه الجمالي من ذاته ليهتدي به في مغامرته القصصية ويستشرف عمق معضلات الحياة ويستبصر أحوالها في صور قصصية لا تخلو من تجريب.
إن أهم ما تحقّقه الكتابة القصصية(2) عند علي القاسمي، في تصوري، ليست تلك الدقة المرهفة فقط التي نسلم بقدرتها على أسرنا وجذبنا إلى عوالم كائناته التخييلية إلى درجة التماهي أحياناً مع صورها الكونية والإنسانية المشتركة بين الناس جميعا، فتحل الدهشة كتلك التي تلقى بها الطفل عالمه في قصة "الحذاء" وتلك التي أشرقت في عيني الطفلة "الفراشة البيضاء" آلاف النجمات؛ فيصبح المنظور بكرا والحواس مرهفة تسعفنا على سماع الصوت صافيا ورؤية المشهد حيا ولمس الأشياء، فنحس حقا بنعومتها أو خشونتها.
كما إن أهم ما تنجزه هذه الكتابة ليس فحسب ذلك التوازن المحسوب بقدر من الذكاء والمعرفة يجعل حالنا كحال من شبه لهم فنرى إبداعه فطرياً و طبيعياً. والحقيقة أنه خلاصة تدبير دقيق و صفوة تمييز يراعي الفروق النوعية بين الأجناس التعبيرية و الفواصل الضيقة بين إحساس وآخر. وإذا كانت تلك الدقة الملاحظة في المجموعة ليست سمة جديدة في الإبداع القصصي، فإن اللافت في "حياة سابقة" هو الصحو الكامل لعنصر الحكي و تلك البلاغة القصصية المنزهة عن كل حشو لغوي وعن أدنى تفاصح، وتلك الصور الروحية المستبصرة وما يتفيض منها من مواقف وأحوال بحذق يتجاوز الصنعة ويكاد يصل إلى حدها الأقصى وهو الفطرة الحكائية الكامنة والمتأصلة في الطبيعة البشرية والتي لا تتأتى إلا من ألفة جوانية حقة بين المبدع و اختياره القصصي، ومن فرط التجويد في تفصيلات مكونات السرد، ومن تلك الحرارة الرقيقة غير الحارقة التي تشع من قصصه.
(2)
إن ما يلهم هذه الكتابة كلها هو أنها تصدر عن استشراف فكري ذاتي عميق لمعضلات الحياة يُظِل العمل كله ويقيم له عماده. ولعله هو الذي يستأثر بشغف الكاتب الجمالي. فهو مصدره و حافزه. إن القصة عند علي القاسمي ليست بوحا عاطفيا أو تصويرا لمواقف فقط، ولا شرعة لغوية أو ملتقى لأكثر من جنس أدبي، بل هي (القصة) بناء فكري متقد دؤوب ونزوع إنساني يميز صاحبه إبداعيا، لا يفلت السرد القصصي من قبضتهما لحظة واحدة إلى درجة يغدو معها التصوير بالكتابة القصصية مسألة في غاية الشفافية والإدهاش، خاصة أن العمل يجسد تجربة تعبيرية فريدة ومخصوصة وفق شرعة أسلوبية استبصارية شفيفة تتخاطر فيها الأرواح في نظام إشارات و تُنسَج الحياةُ السابقة في خريطة قيم إنسانية حميمة لكائن مبدع لا يفصل الفكر عن الروح، فيحل الحلم و التخاطر وأحلام اليقظة واللامعقول في الماضي المتذكَر على طريقة "شارل بودلير" في قصيدته "الحياة السابقة" فنصبح نتخيل مع الكاتب أن كينونتنا الماضية نفسها تُعاش ثانية. ولعل ذلك دأب المبدعين الذين اختاروا الإقامة في زمن عمودي حميم، بينما يتماهى آخرون بالزمن الأفقي وصيرورته الأبدية.
أما على مستوى التكوين النصي للمجموعة، فإن تلك الصور الجوانية لم تسكب في دوائر الاستيهام والرمز بسطوحهما اللغوية الملساء و المجافية للتصعيد الدرامي المنحوت بحيوية الموقف أو الحدث في سياق القصة، بل أخضعها الكاتب للتكيّف الجمالي المناسب للسياق القصصي المخصوص. وهو التكوين الذي تحولت فيه الصور الحلمية والتخاطرية والرمزية والاستيهامية من الإطلاق ولتجريد، كما هو عليه واقع فئة عريضة من كتّاب القصة، إلى تكوينات أسلوبية مخصوصة تنتقي مواقف لها القدرة على مد الصور القصصية بالتوتر والتفصيل السردي الواحد الذي يتسع لإمكانية التردد بين أحاسيس متقابلة .
ذلك ما نتبينه في معظم القصص التي تتصدى لإنجاز تكوينها السردي بصور تجادل التوازن والاختلال حيث تنسج الصور بسمات إنسانية ونفسية قاسية لا تستمد رحيقها من الدفقة المجازية للألفاظ، بل من تكوين قصصي درامي متوازن ومشحون بحرارة التماس الحسي المباشر القائم على تجسيد صدمات الرغبة المعاقة كما نجد في نصوص "الآنسة راجية" و"الحذاء" و"الفراشة البيضاء" مثلا، و في نسق حيوية السرد القصصي لأجل توتير صور الشخصيات ونسج إيقاع تحولاتها بالمفاجآت الخارقة أحيانا "سقاني القهوة" و"حياة سابقة" و"سأعود يا أمي" وبالانكسار والفجيعة أحيانا أخرى، فيأسر قراءتنا كابوس متربص وصاح، ماثل أمامنا وفي داخلنا، كلما انطلق محكي قصة و امتدت صوره بحياد صارم و وباتزان الإيقاع فتنأى عن جيشان العاطفة، لكنها تُوتِّر القراءة وتسحق النفس لأنها تشي بانفعال محكوم ومكتوم وغضب دفين. ذلك ما تستسره قصص "الفراشة البيضاء " و"المشاكسة" و "يوم الحفل" مثلا. وفق ضوابط أسلوبية تذعن لسمة الاشتباه.
(3)
والاشتباه هو أن تحتمل الإمكانات الأسلوبية التردد بين معان متقابلة وهي مسندة بإطار سياق قصصي واحد ولا يُرجَح منها معنى أو إشارة إلا بمضاعفة وسائط القراءة وتشغيل القدرة النقدية وطاقة تذوقها. مثل اختلاط مشاعر الأبوة والبنوة بالرغبة النزوية في قصتي " اللقاء" و"العقاب". أما في قصة "المجابهة" التي تستوحي إشاراتها من مكوِّني الحلم والتخاطر اللذين حصل بموجبهما دخول الحنش إلى بيت الباحث اللغوي ساعة تحريره مادة "حنش" في المعجم المدرسي؛ فإن اختباء الثعبان بين الكتب جعل الشخصية تحس بتحول في مشاعرها تجاهه. نقرأ في الصورة : 
"في تلك اللحظة شعرت بتحوّل في مشاعري، مثل تحوّلات الضوء عند الغروب. لا أعرف شيئا عن كيفية نشوء العواطف أو تبدل الأحاسيس، فليست لي دراية في علم النفس أو الطب النفسي. كنت قد حاولت ذات مرة دراسة كتاب فرويد عن تفسير الأحلام، فبدا لي مختلطا كما لو كان أضغاث أحلام ، فانصرفت عنه وعن كتب التحليل النفسي الأخرى. كل ما أحسست به بعد أن هرب الثعبان واختبأ خلف الكتب أنه هو الآخر مذعور مثلي، خائف على حياته" (ص 33).
وفي قصة "حياة سابقة" تحتاج الشخصية تمضية العطلة الصيفية في بلدة "بني مدين" الواقعة على شواطئ جنوب إسبانيا بعد أن شغل فكرَها وروحها أمرُ التخاطر والحياة السابقة. وهو ما يوحي بأن الشخصية دخلت بدورها تجربة التخاطر.
(4)
بل إن تكوين قصة "الآنسة راجية" الدرامي قائم أساسا على الاشتباه والاستيهام النفسي من جراء خلط الآنسة الموظفة في مصلحة البريد بينها وبين حبيبة كاتب لمجموعة قصصية عنوانها: "رسالة إلى حبيبتي".
كما يصل الاشتباه القصصي غاية الشفافية والتخاطرية في قصة "سأعود يا أمي" حينما تحلّق روح الشهيد في الأعالي، تطوي المسافات من القادسية إلى الوداية، فيُخيَّل إليها أنها مرت من هناك من قبل، ويشتبه نهر الفرات بأبي رقراق، وروح الشهيد بشخص وقع عليه بصره جالس في حديقةٍ بمحاذاة النهر، كما يشتبه زقاق الوداية ودروبها بزقاق بلدة القادسية وسط العراق، بل يتناهى الاشتباه إلى حد تماهي المدينتين وتطابق دار الشهيد بدار الرجل، ويصبح الشخصان رجلا واحدا. نقرأ في الصورة:
"عندما دنوت منه أخذ جسده يتطابق مع جسدي ويندمج فيه عضواً عضواً، كما ينطبق الظل على الأصل رويداً رويداً بفعل تغير المسار أو بسبب تعامد الشمس وقت الزوال حتى أصبحت يده القابضة على مطرقة باب الدار يدي. طرقَ أو طرقتُ الباب طرقتين متتاليتين وبعد لحظة طرقة ثالثة وهي العلامة المتعارف عليها بيننا أبناء الدار. فتحت أمي الباب، تهلل وجهها، وانبسطت أساريرها عندما رأتني وهي تقول: عدت يا ولدي. نحن في انتظارك لتناول الفطور". (ص 99 ).
ويصل مكوِّن الاشتباه في المجموعة حدا أقصى من الكثافة والإضمار في تكوين شاعرية المحكي القصصي. إن هذا التكوين عند علي القاسمي تكوين كامن، إشاراته مضمرة وغير مدركة بصورة تامة، وترتبط بخلفية تخييلية غير موسومة في مستوى السطح، وإنما تنهج خطة إلغاز وظيفي تستدعي بصيرة المتلقي وفراسته، ليصبح مدعوا إلى اصطفاء الإشارات الخفية لكلمة "القهوة" مثلا في قصة "سقاني القهوة" واستبصار أحوال الشخصية في بلدة "بني مدين" التخاطرية في قصة "حياة سابقة". كما يصبح القارئ مدعوا للبحث في كتب علم النفس وتفسير الأحلام لفك غموض حالة تحول مشاعر الشخصية تجاه الثعبان حين اختبأ خائفا وراء الكتب في قصة "المجابهة".
هكذا تبين الطاقة القصصية في "حياة سابقة" بما هي منزع جمالي وإنساني، قدرة فائقة على توتير الأداء الأسلوبي الاستبصاري المشتبه ليجسِّد تجربة تعبيرية فريدة ومخصوصة. تلك التجربة التي تتخاطر فيها الأرواح والأفكار والصور في نظام إشارات قصصية تتخيل الحياة السابقة في ضوء قيم إنسانية حميمة و تستشرف معها معضلات الحاضر أيضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 -علي القاسمي. حياة سابقة. قصص.دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء. الطبعة الأولى.2008
2- رسالة إلى حبيبتي(2003)- صمت البحر(2003)- دوائر الأحزان(2005)- أوان الرحيل(2007).

مقالات ذات صلة