أصدقاء الدكتور علي القاسمي

فضاءات القرية والطفولة والفقدان في مجموعة عراقية «رسالة إلى حبيبتي» لعلي القاسمي تستحضر زمناً طيباً مضى إلى الأبد




فضاءات القرية والطفولة والفقدان في مجموعة عراقية
«رسالة إلى حبيبتي» لعلي القاسمي تستحضر زمناً طيباً مضى إلى الأبد
نقلا عن موقع الشرق الأوسط
الرباط: عبد الرحيم العلام
صدرت، اخيرا، للكاتب العراقي المقيم بالمغرب، الدكتور علي القاسمي، مجموعة قصصية بعنوان «رسالة إلى حبيبتي»، عن دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 2003، وذلك بموازاة مع انشغالات هذا الكاتب الأخرى وتآليفه وأبحاثه العلمية، في مجالات علم اللغة والتربية والمعاجم.
تقع هذه المجموعة القصصية في 101 صفحة من القطع الصغير، وتضم عشر قصص قصيرة، بتقديم مركز للكاتب عبد الكريم غلاب، تعرض فيه بعجالة لبعض خصائص الكتابة القصصية في هذه المجموعة، في تفاعلها مع بعض العوالم والمكونات والدلالات التي تستوحيها مؤكدا بذلك نجاح علي القاسمي كقاص، كما نجح في نشاطه العلمي وأبحاثه. كما أن أهمية هذا التقديم، أيضا، تأتي من كونه يوفر لنا مجالا موازيا لتجديد علاقتنا مع عبد الكريم غلاب كقارئ، هذه المرة، للإنتاج الأدبي، بعد طول «قطيعة» مع هذا النوع من الكتابة، كما كان قد عودنا عليه غلاب في كتاباته النقدية وقراءاته الانطباعية الأولى للعديد من النصوص الأدبية المغربية، والعربية عموما.
تحقق هذه المجموعة القصصية، أيضا، مستويات متعددة وخاصة من التداخل والامتداد الحكائي والسردي فيما بين قصصها، بحيث نشعر، منذ نهاية قراءتنا الأولى لها. كما تبدو وكأنها قد كتبت بنفس المرجعية الوجدانية والحالة الشعورية التي تحكمت، بشكل عام، في عملية الاستيحاء والتخييل والتذكر والكتابة، ما دام أن جل هذه القصص تحقق، في ما بينها، مستويات أخرى موازية من التقاطع والترابط، متعدد المظاهر، أكثر مما تحقق من انفصال ومسافة.
هذا المستوى الأول، إذن، من انتفاء الغرابة، وتحقق التقاطع والامتداد في قصص هذه المجموعة، هو ما يجعل قراءتها، أيضا، مطبوعة بالتداخل بين مختلف العوالم والتيمات التي عملت هذه المجموعة علـى صوغها ونسجها، على عدة مستويات متشابكة فيما بينها، سرديا وحكائيا ودلاليا، وخصوصا على مستوى تشييدها لأربعة فضاءات أساسية فيها، ومتداخلة فيما بينها، وتحديدا على مستوى الترابط القائم فيها بين عمليتي إجراء التآويل وإنتاج الدلالات.
* فضاء القرية
* بالرغم من صعوبة الكتابة والحكي عن القرية عموما، وخصوصا حينما يتعلق الأمر باستيحاء بعض الأجواء المحددة فقط من تلك القرية التي كانت، كما في هذه المجموعة، حيث كان يعم الصفاء والصدق والسحر والبهاء والهدوء، بموازاة مع بعض التقلبات التي كانت تخيم، بين الفينة والأخرى، على هذه القرية التي عاش فيها السارد، ودارت داخلها جل أحداث هذه المجموعة القصصية، بالرغم من ذلك، فإن الريف، عموما، ما فتئ يفرض إغراءه الفاتن على المبدع العربي، في مختلف الأقطار العربية. وقد تمكن الكاتب علي القاسمي من استيحاء جوانب من القرية العراقية في فترات زمنية معينة، ببساطتها وطقوسها وعاداتها وتفاصيلها وحيوانها، باعتبارها أيضا الفضاء الذي يلملم جوانب خاصة من طفولة السارد، وفضاء محفزا على التذكر والحكي.
وبلغ الوفاء للقرية، في هذه المجموعة، درجة أضفى فيها الكاتب عليها طابعا بطوليا، وذلك في احتفائها الموازي والمكثف، أيضا، بالعنصر الحيواني فيها، وبلملمة بعض التفاصيل الصغرى واستيحاء الأجواء الطبيعية، وخصوصا ما يتعلق منها بفضاء «النهر»، هذا الذي تستثمره هذه المجموعة، كما تستحضره بتلويناته الرمزية وتأثيراته المختلفة.
* فضاء الطفولة
* تعتبر مرحلة الطفولة، كذلك، من بين أهم المراحل البيوغرافية التي يصعب الكتابة عنها والحكي عن أجوائها، كما يصعب استعادة تفاصيلها في صورها التي كانت. وقد تمكنت هذه المجموعة، إلى حد ما، من تبئير جوانب أساسية من الحكي فيها عن طفولة السارد، في العديد من أبعادها الواقعية ومحكياتها ووقائعها البسيطة والمنتقاة، في براءتها وصفائها الطفولي الأخاذ، وذلك بشكل سردي ونوستالجي ، جعل معه هذه المجموعة، وكأنها تحكي سيرة ذلك الطفل الذي كانه السارد وهو في قريته، وسط أسرته وعشيرته، يروي حكاية اكتشافه لبعض الأسرار والدلالات، كما يحكي عن سيرة ذلك الشاب الذي أصبحه، وهو بعيد عن قريته التي غادرها السارد في ما بعد.
* فضاء السيرة الذاتية
* من يقرأ هذه المجموعة القصصية دفعة واحدة سوف يلمس، منذ الوهلة الأولى، مدى تداخل أحداثها وتشابك مستوياتها السردية، كما تحقق كل قصة فيها جوانب معينة من الامتداد الحكائي في القصص الأخرى، وخصوصا على مستوى ما تجسده سيرة السارد فيها من حضور مكرور وممتد من قصة لأخرى، الأمر الذي يشي بأن ثمة حضورا مركزيا لذات السارد في قصص المجموعة ككل، وهو ما يؤشر على تحقق نوع من الحكي الذاتي الطفولي المتنامي، والمرتبط بشخصية السارد، هذا الذي تكشف لنا العديد من القرائن الحكائية، في هذه المجموعة، عن مدى تعالقه المرجعي ـ الذاتي مع شخصية الكاتب الواقعي، حتى على مستوى الإحالة المرجعية الاسمية، من خلال تعيين السارد بالاسم الشخصي «علي»، كما جاء في القصة السادسة: «الذكرى» (ص 62). إلى جانب استحضار هذه المجموعة أيضا لبعض المحكيات العائلية الصغرى لشخوص قريبة من السارد، حيث يحكي، هذا الأخير، عن الجد والأخ والأب والزوجة والحبيبة، هؤلاء كلهم، تبرزهم المجموعة في صورة ارتباط الفة وعشق وحنان مع السارد، وهو يحكي عنهم، في هذه المجموعة، من زوايا متباينة وبمنظورات مختلفة، الأمر الذي يفضي إلى تشكل نوع من المحكي الذاتي في هذه المجموعة، باعتباره محكيا مفتوحا، أساسا، على لعبة التذكر والانتقاء.
* فضاء الفقدان
* تعتبر تيمة الفقدان من بين أهم الثيمات وأكثرها هيمنة على الفضاء الحكائي والدلالي العام لهذه المجموعة، في تعدد صورها ومكرورية تجلياتها من قصة لأخرى، حيث تخيم أجواء الفقدان على جل قصص المجموعة، باستثناء قصة واحدة من مجموع عشر قصص، وذلك إما في صورته الأكثر مأساوية، عبر استثمار تيمة «الموت»، الذي يطال العديد من شخوص تلك القصص، والتي يتم التعبير عنها بشكل إيحائي ورمزي ودلالي بارز، أو تم ذلك في صورة افتقاد واختفاء للأشياء والمكونات والعلامات.
ففي القصة الأولى «البئر»، نتتبع فقدان الأم فجأة لابنها، بعد أن سقط في البئر، مع ما يستتبع ذلك من احتمالات موازية، مفتوحة على الملء والإضافة إلى هذه الحكاية. أما في قصة «وفاء»، فنقرأ عن افتقاد الطفل لبطته «وفاء»، بعد أن انسابت رفقة سرب من البط في وسط الماء، منحدرة مع المجرى دون أن تعود.
وفي قصة «الحذاء الانجليزي»، يبرز الفقدان في صورة افتقاد أخ السارد لحذائه الذي حمله معه من بريطانيا، وما خلفه ذلك من تأثير في نفسيته، وذلك في توازي صورة الفقدان، في هذه القصة، مع صورة الاستيلاب..
صورة أخرى للفقدان تقدمها لنا قصة «أصابع جدي»، حيث يفقد جد السارد خنصر يده اليسرى، وهو ما جعله يفقد الحركة.. إلى جانب ذلك، تهيمن على هذه القصة، أيضا، صور الفقدان، سواء من خلال حكاية فقدان الأصابع، أو عبر فقدان السارد لجده في نهاية القصة..
أما قصة «الذكرى»، فتخيم عليها أجواء الفقدان بكثافة شعرية لافتة، حيث يتمحور الحكي في هذه القصة، حول تيمة الفقدان أساسا. وفي قصة «البندقية»، يتم الحكي عن فقدان السارد «علي» لوالده، وهو الفقدان الذي جعل منه السارد مجالا للتأمل وللإحساس بالمسؤولية، والسارد لم يتعد بعد سنه العاشرة.
كذلك تحضر صورة الفقدان في قصة «الكلب ليبر يموت»، سواء عبر التساؤل عن مسألة الفقدان نفسه، أو من خلال افتقاد تلك الأرملة ديبون لكلبها ليبر، الأمر الذي يجسد، هنا، مجالا موازيا لإدراك بعض الأبعاد الإنسانية، من خلال هذه القصة.
وتقدم لنا قصة «الجذور في الأرض» تيمة الفقدان، في صورته الرمزية المعبرة عن شكل من أشكال الانفصال بين حضارتين، شرقية وغربية، وبين تفكيرين ومجتمعين، ويتم تجسيد ذلك من خلال انفصال السارد عن حبيبته هيلين، بعد تفاقم الشعور لديه ببعدها عنه.
نفس الصور تكشف لنا عنها آخر قصة، الحاملة لنفس عنوان هذه المجموعة: «رسالة إلى حبيبتي»، من خلال افتقاد السارد لحبيبته، في نهاية القصة، بعد الهجوم الذي تعرضت له قريته من قبل لصوص متوحشين، هجموا على القرية، وعاثوا فيها فسادا.
بموازة مع ذلك، تضع أمامنا هذه المجموعة، أيضا، العديد من المداخل لقراءة تيمة الفقدان فيها، سواء في بعدها الزمني والرمزي/ الطفولي، وما يستتبعه ذلك من تفجير للعديد من الإرغامات النفسية، بما يوازيها من دخول الذات الساردة في تجارب ذاتية مع عالم الاكتشاف، واستيعاب لعبة الحياة في هذا المجتمع الجديد الذي يعيش داخله السارد. وهو بذلك إنما يحول صور الفقدان فيه إلى لعبة امتلاك، ولو عبر لعبة السرد والحكاية والتذكر، أو تم ذلك في بعدها الإيحائي، أيضا، بما يوازيه من تكثيف للبعد الدلالي في هذه المجموعة، حيث يصبح الفقدان، هنا، مجرد تعلة لتفجير بعض أشكال التعارض بين الذات والآخر، كما في قصة «الحذاء الانجليزي»، وكذا تجسيد بعض القصص، من خلال تجليات صور الفقدان فيها، لمسألة الهوية وصراع الذات مع نفسها، في بحثها الدائم عن خلاص محتمل داخل مجتمع يشهد تسلط اللصوص المتوحشين فيه، يقتلون الشبان ويسجنون الشيوخ ويمتلكون الديار ويأخذون حبيبة السارد ويسيجون القرية ويوصدون الأبواب.. (ص101)، حيث لم يعد أمام السارد سوى انتظار الخلاص، من داخل أجواء الغربة والبعاد.
هكذا، إذن، يجسد الفقدان، في هذه المجموعة، صورة أخرى لتلك المسافة الوجدانية والزمنية الفاصلة بين زمن مضى، حيث كان يعم الشعور بالأمان داخل تلك القرية الوديعة، وزمن راهن، حيث يعم الشعور بالغربة والوحدة والفقدان، داخل وطن عليل، أمام مرارة الانتظار، كما تعبر عنه القصة الأخيرة «رسالة إلى حبيبتي»، بما هو انتظار لعودة «الحبيبة»، كما أنه مدخل لتحقق اللقيا بالوطن. على هذا النحو، إذن، تقدم لنا هذه المجموعة القصصية مجموع عوالمها بأسلوب «السهل الممتنع»، فوراء كل قصة العديد من الدلالات الموازية، ووراء كل قراءة إمكانيات مفتوحة للتأويل.. وعلى من يبحث عن نصوص أدبية لمقرراتنا التعليمية أن يلتفت إلى هذه المجموعة، ففيها تتقاطع متعة الحكاية بلذة القراءة بتعدد مستوياتها

مقالات ذات صلة