أصدقاء الدكتور علي القاسمي

لا تنمية بشرية قبل أن يتبوأ المعلم أعلى مرتبة في الدولة بقلم الدكتور علي القاسمي



نقلا عن صحيفة المثقف

تحية للمعلم في اليوم العالمي للمعلم

علي القاسميلا تنمية بشرية قبل أن يتبوأ المعلم أعلى مرتبة في الدولة
ـ تجارب ملهمة ـ
قبل بضعة أشهر، صدر الجزء الأول من كتابي " طرائف الذكريات عن كبار الشخصيات". ويضم باقة من ذكرياتي عن الشخصيات التي التقيتُ بها بحكم دراستي أو عملي. وبعد أيام معدودة سيصدر الجزء الثاني من هذا الكتاب. وقد اخترتُ أن أقرأ لكم طرفة منه عن السفير الفنلندي في الرباط .
1 - سفير فنلندا لا يستطيع منح صديقه تأشيرة دخول
في سنة 1991 وصلتني دعوة من الدكتور راينهارد هارتمان (1938ـ) رئيس الجمعية المعجمية الأوربية للمشاركة في المؤتمر الدولي الخامس الذي ستعقده الجمعية هذه المرة في جامعة تمبرة في فنلندة في الفترة من 4 ـ 9 آب/ أغسطس 1992. ولكن هذا المؤتمر يختلف عن جميع المؤتمرات السابقة للجمعية. فثمة لجنة تنظيمية للمؤتمر ترأسها أستاذة فنلندية من جامعة تمبرة، بعثت إلينا، نحن المدعويين للمشاركة، بالتعليمات الخاصة بالدراسات والبحوث، وهي تعليمات لم أطلع على مثيل لها على الرغم من كثرة المؤتمرات الدولية التي شاركتُ فيها من قبل ومن بعد. ومن أمثلة هذه التعليمات:
أـ أن يُقدّم البحث المرشح للمشاركة في المؤتمر إلى اللجنة التنظيمية في أجل مُحدَّد، مرقوناً بالحاسوب، بمواصفات معينة من حيث الصيغة الطباعية، وحجم الصفحة، وعدد السطور فيها، ونوع الخط، إلخ.
ب ـ ستقدم اللجنة التنظيمية كل بحث مرشَّح للمشاركة إلى لجنة تقيمية للنظر في صلاحيته، وتتولى تنقيطه كما ينقط معلِّم التلاميذ أوراق امتحاناتهم، وإذا كان معدل التنقيط الذي يحصل عليه البحث أكثر من 8 من عشرة، فإن صاحبه سيدعى للمشاركة.
ج ـ تقوم اللجنة التنظيمية بطباعة البحوث المقبولة في شكل كتاب (من مجلدين) وتبعث به إلى المشاركين قبل بدء المؤتمر بستة أسابيع ليدرسه المشاركون، فيُتاح معظم وقت الجلسات في المؤتمر للمناقشة وتبادل وجهات النظر.
د ـ تقسّم جلسات المؤتمر الذي سيحضره حوالي 200 مشارك إلى ست قاعات وكل قاعة تختص بموضوع معين هي: المعاجم من وجهة نظر المستعمل، المصطلحية والمعجمية، الحاسوب وعلم المعجم وصناعة المعجم (بما في ذلك صناعة المعجم بمساعدة الحاسوب)، علم اللغة وصناعة المعجم، عمليات صناعة المعحم، المعاجم التاريخية والمدرسية وموضوعات معجمية أخرى.
وخلاصة القول، وعلى الرغم من استيائي من عملية تقييم دراستي، فقد قدَّمتُ إلى اللجنة التنظيمية دراسة بعنوان " هل معجم الاستشهادات معجم؟"، وأهم ما فيها رفض تعريف كلمة " معجم" الشائع في الغرب والشرق، وتقديم تعريف جامع مانع. وكنتُ في ذلك الوقت أشتغل على تأليف كتابي "معجم الاستشهادات" الذي يُعدُّه بعضهم جديداً في صناعة المعجم العربي التي عرفت معاجم الأمثال ولم تعرف معاجم الاستشهادات لأسباب ذكرتُها في مقدمة هذا المعجم.وقد أتْبَعْتُ هذا المعجم بمعجمَيْن آخرين هما " معجم الاستشهادات الموسع" و " معجم الاستشهادات الوجيز للطلاب" وهي معاجم يختلف أحدها عن الآخر من حيث الجمهور المستفيد والترتيب والمنهجية. وقد نالت دراستي رضا اللجنة التقيمية ودُعيت للمشاركة في المؤتمر.
قبل ستة أسابيع من موعد انعقاد المؤتمر، طلبتُ من كاتبتي أن تحصل لي على موعد للاجتماع بسفير فنلندا في الرباط بصفتي مديراً لإدارة الثقافة والاتصال في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو). بعد دقائق أخبرتني بأن السفير سيستقبلني في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي.
استقبلني سعادة السفير بالترحاب البالغ وترك مكتبه ليجلس معي، وقدَّمت كاتبته القهوة لنا، وتلطَّف بالحديث معي. وحدّثته عن إعجابي بثقافة الشعوب الفنلنسكندافية، وعن دراستي مدة شهرين في صيف 1965 في جامعة أوسلو في النرويج، جارة فنلندة من الشمال وتشترك معها في أمور عديدة منها تشابه المناخ والطبيعة الجغرافية، وخضوع البلدين للسويد سنوات طويلة، والتقدُّم الذي تحرزانه. وكيف أنني ترجمتُ مسرحية " يبه الساكن على التل" لمؤلِّفها الفيلسوف المؤرخ القانوني لودفيغ هولبرغ (1684 ـ 1754)، الملقَّب بأبي المسرح الإسكندنافي، إلى اللغة العربية، بعد أن درستُها في جامعة أوسلو، وشاهدتها على المسرح، وأعجبتُ بها. وهي مسرحية هزلية ما تزال تمثّل على مسارح أوربا خاصَّةً الشمالية منها. وتسخر المسرحية من ذلك السكير الجلف الأمّي، الذي يصبح ملكاً ليوم واحد، وكيف تتسم تصرفاته بالطغيان والعدوان والتهور والجهل بحيث تثير الضحك والهزء. ولكنَّ المسرحية، في الوقت نفسه، تطرح قضايا فلسفية كالعلاقة بين الحقيقة والحُلم وبين الواقع والخيال وبين الممكن والمستحيل؛ وقدَّمتُ نسخة من ترجمتي هديةً للسفير، مع إنه لا يجيد العربية ولكنه يعرف المسرحية معرفة تامة.
بعد انتهاء أحاديث المجاملة بيننا، قال السفير:
ـ هل أستطيع أن أقدم أية خدمة لك؟
قلتُ:
ـ شكراً سعادة السفير. لقد قُبِلت لي دراسة في مؤتمر دولي في جامعة تمبرة سيعقد بعد بضعة أسابيع، وأنا في حاجة إلى تأشيرة دخول لفلندة.
وقدَّمتُ إليه نسخة من الدعوة الموجهة إلي وهي بتوقيع السيدة هـ . تومولا العضو في اللجنة التنظيمية . ولا أظنها بلغت رتبة الأستاذية، ولا أحسبها معروفة لدى سعادة السفير. ولكن سعادته حدّق في الورقة بعينين واسعتين وباحترام وإكبار بالغين، وكأنه ينظر إلى صك غفران وقعه قداسة البابا بنفسه. وخاطبني باحترام قائلاً:
ـ من فضلك، ناولني الجواز وسنمنحك التأشيرة خلال خمس دقائق.
وفيما كنتُ أخرج جواز سفري من حقيبتي اليدوية، ضغط السفير على زرَّ الجرس الذي بالقرب منه ليستدعي كاتبته.
ناولتُه جواز سفري وقد وصلت كاتبته ووقفت أمامه في انتظار تعليماته. فتح السفير جواز سفري، فتغيّر لون وجهه بسبب إحساسه بالإحراج والخجل وتلعثم في كلامه. ثم أشار برأسه إلى كاتبته بالانصراف، والتفت إليّ وكأن حصاة حادة في لهاته وقال:
ـ سعادة المدير، أعتذر، كما تعلم فإن مجلس الأمن في منظمة الأمم المتحدة قد أصدر قراره رقم 661 في آب 1990 بالحظر الاقتصادي على العراق لخلافه مع الكويت، وبناء عليه فإن وزارة الخارجية وجّهتنا بعدم منح التأشيرات لحاملي جوازات السفر العراقية إلا بعد أخذ موافقتها. وسأكتب اليوم برقية لوزارة الخارجية بهلسنكي أعلمهم فيها بأنك معروف لدى السفارة، بل إنك صديق السفير، فقد أصبحنا صديقين، يا سعادة المدير، بعد الحديث الممتع الذي دار بيننا. اطمئن ستصلنا الموافقة خلال يوم أو يوميْن.
(طبعاً، استخدم السفير لغةً دبلوماسية، ووصف ما حدث بإنه "خلاف" مع الكويت، ولم يصفه ـ كما أشعر أنا ـ بأنه قرار أهوج لطاغيةٍ أرعن بالعدوان والغزو، لم يلتزم بأخلاق الجوار ولا العروبة ولا الإسلام ولا الإنسانية).
وهكذا تركتُ جواز السفر مع السيد السفير وعدتُ إلى مكتبي.
بعد مرور أسبوع على ذلك اللقاء، طلبتُ من كاتبتي الاتصال بكاتبة السفير لمعرفة ما إذا كانوا قد توصَّلوا بالموافقة. أخبرتْها كاتبةُ السفير بأن الموافقة لم تصل بعد، وأن سعادة السفير قد بعث ببرقية ثانية للتذكير بالموضوع صباح ذلك اليوم.
بعد مرور أسبوع آخر اتصلتْ كاتبتي بكاتبة السفير تستفسر عن التأشيرة. وكانت كاتبة السفير محرجة، وبكل لطف أخبرتها أن سعادة السفير في غاية الحرج والخجل، وأنه أرسل ذلك الأسبوع برقية ثالثة، ولم يتلقَّ الجواب بعد.
أخبرتني الكاتبة بذلك، فقلت لها ان تطلب لي الأستاذة تومولا في جامعة تمبرة. بعد دقائق معدودة كنتُ أتحدث مع الأستاذة وبعد التحية الطيبة اعتذرتُ منها عن عدم مشاركتي في المؤتمر.
قالت باستغراب شديد:
ـ لماذا؟ لقد قُبِل بحثك.
قلتُ:
ـ لأن سعادة السفير الفنلندي حاول بإخلاص أن يحصل لي على موافقة لمنحي تأشيرة ولم يستطِع.
قالت: لماذا؟
قلتُ: سيدتي إن جواز سفري عراقي. ورئيس جمهورية العراق غزا بجيشه الكويت. ومجلس الأمن أصدر قراراً بفرض الحصار الاقتصادي على العراق . ووزارة الخارجية الفنلندية ...
قاطعتني الأستاذة بنوع من السأم من هذه التفاصيل المملة قائلة:
ـ وما شأننا بذلك، إننا نجتمع في مؤتمر علمي. اسمعني: بعد ساعتيْن ستصلك التأشيرة.
قلتُ في نفسي إن هذه المرأة المسكينة تهرف بما لا تعرف. وهي حسنةُ النية كمعظم المعلِّمين. وانصرفتُ لعملي ونسيتُ فكرة السفر إلى فنلندة، مواسياً نفسي بأن الدراسة قد قُبلت ونُشِرت في كتاب المؤتمر الذي وصلتني نسخة منه وتشتمل على دراستي:
Hannu Tommola et al. Euralex’ 92 Proceedings I-II (Tampere: University of Tampere, 1992), Ali M. Al-Kasimi, “ Is the Dictionary of Quotations a Dictionary?, Vol. 2, pp. 573 -580.
وفي حين استقرت أحاسيسي وقبلتُ الواقع الجديد، وشعرتُ بنوع من الارتياح لتخلُّصي من وعثاء السفر في هذه الرحلة، وردَّدتُ في نفسي القول السائر: " كم حاجةٍ قضيناها بتركها"، وانصرفتُ إلى ما كان بيدي من أعمال، وإذا بكاتبتي تدخل عليَّ لتقول إن كاتبة السفير اتصلت بها ورجتها إن ترسل السائق إلى السفارة الفنلندية ليأخذ جواز سفري الذي طبعوا عليه التأشيرة.
تردّدتُ في الجواب ثم رجوتها أن تحصل لي على موعد مع سعادة السفير لأذهب بنفسي لأشكره واستلم جواز السفر شخصياً.
في حقيقة الأمر، أردتُ رؤية السفير لا لأشكره، بل لأطرح عليه سؤالاً واحدا حيّرني: كيف تستطيع مدرِّسةٌ بسيطة أن تحصل لي على تأشيرة، في حين أنه، وهو الدبلوماسي العريق الذي تقلّب في مناصب وزارة الخارجية وله فيها الزملاء والأصدقاء، لم يستطِع تحقيق هذه النتيجة على الرغم من برقياته الثلاث؟
استقبلني السفير صباح اليوم التالي مرحِّباً بلطف وكرم، وطرحتُ عليه السؤال الذي حيّرني ونحن نتناول القهوة. فأجاب بقوله:
ـ إنها أستاذة. وقد هاتفتْ وزارة الخارجية بنفسها.
ونطق كلمة (أستاذة) بتنغيم خاص ممزوج بالهيبة والرهبة والاحترام، وكأنه يلفظ لقب (رئيس الجمهورية) وهو ماثل أمامه.
بعد حوالي عشر سنوات، تمَّ اختياري من لدن منظمة الأمم المتحدة لمراجعة الترجمة العربية لـ " تقرير التنمية البشرية" الصادر عن (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي).
وفي آخر التقرير ثمَّة سلّم رُتِّبت فيه الدول حسب تقدُّمها وكانت فنلندة على رأس القائمة متقدِّمة على الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وفرنسا وبقية الدول. فتذكَّرت الاحترام التي حظيت به الأستاذة تومولا في جامعة تمبرة، وفهمت التقرير والسلّم واستوعبتهما. فالسرّ يكمن في مكانة المعلم في تلك البلاد.
2 . مفهوم التنمية البشرية:
أ ـ مفهوم التنمية الاقتصادية مقابل مفهوم التنمية البشرية:
في أواسط القرن العشرين، شاع مفهوم "التنمية الاقتصادية" الذي يصبُّ اهتمامه على زيادة الانتاج القومي في البلاد ومعياره معدّل دخل الفرد. وبعبارة أخرى أن الهدف هو نمو الثروة بحيث يكون معدل الزيادة السنوية فيها أعلى من معدل الزيادة السنوية في عدد السكان.
أما مفهوم "التنمية البشرية"، فإنه يختلف عن مفهوم التنمية الاقتصادية، فهو لا يقيس تقدّم البلاد بما لديها من أموال وسبائك ذهب مكدسة في البنوك، ولا بما يتوافر لديها من أسلحة وذخيرة مخزَّنة في معسكراتها، بل بما توفّره الدولة من خدماتٍ لمواطنيها في مجالات التعليم والصحة والعمل والسكن بحيث تجعل معيشتهم تليق بالكرامة الإنسانية.
ب ـ تقرير التنمية البشرية:
أطلق مفهومَ "التنمية البشرية" الاقتصاديُّ الباكستاني السيد محبوب الحق في التقرير الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنة 1990. ويُعِدُّ هذا التقرير السنوي، في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، حشدٌ من الخبراء في الاقتصاد والعلوم السياسية والإدارية والإحصاء وغيرها، يحرِّرونه باللغة الإنجليزية، ثم يُترجم إلى اللغات الرسمية الخمس الأخرى في الأمم المتحدة وهي: الإسبانية والروسية والصينية والعربية والفرنسية.
ينصبّ مفهوم التنمية البشرية على رُقيّ حياة المواطن وغناها، بحيث أصبح الإنسان محور التنمية، وهدفها، ووسيلتها؛ فالإنسان أغلى ثروة في البلاد. وأصبحت التنمية تُقاس بدليل التنمية البشرية الذي يَعدُّ رفاهَ الإنسان هو الهدف ويقيسه بمعايير واسعة، أهمها ثلاثة:
أ ـ التعليم، ويُقاس بمتوسط سنوات الدراسة والعدد المتوقع لسنوات الدراسة ونسبة الأمية.
ب ـ الصحة، وتُقاس بمتوسط العمر المتوقَّع عند الولادة.
ج ـ المستوى المعيشي اللائق بالكرامة الإنسانية، ويُقاس بالنصيب الفعلي للفرد من الدخل القومي الإجمالي وكفايته لرفاهه.
ومن أجل قياس أشمل وأدق يتضمَّن التقرير أربعة أدلَّة مركَّبة أخرى هي:
أ ـ دليل التنمية البشرية معدَّلاً بعدم المساواة،
ب ـ دليل التتنمية البشرية معدّلاً بالجنس،
ج ـ دليل التنمية البشرية معدّلاً بالفوارق بين الجنسين،
د ـ دليل الفقر الذي يقيس أبعاد الفقر التي لا علاقة لها بالدخل (فالأميَّة، مثلاً، من أبعاد الفقر، فالأميُّ فقير حتى لو كان مليونيراً) (2).
مجالات التقرير وأهدافه:
مجالات تقريرالتنمية البشرية هي: المعرفة، والحياة الصحية المديدة، والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، والبيئة المستدامة، وحقوق الإنسان، والأمن البشري، والمساواة والعدالة الاجتماعية، والمستوى المعيشي اللائق.
ويرمي هذا التقرير إلى توسيع خيارات الدول والأفراد وتحسين الإمكانات، وتبيان الظروف المناسبة للتنمية البشرية وعلى الخصوص:
أـ تبيان كيفية تحسين الإمكانات البشرية، وتهيئة الظروف للتنمية البشرية.
ب ـ إلقاء الضوء على التجارب التنموية الجيدة في بعض الدول.
ج ـ قياس التنمية البشرية في الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وترتيبها في سلّم التنمية البشرية، من الأفضل الذي يحصل على المرتبة رقم 1 فنازلاً.
وأثناء عملي في مراجعة ترجمة التقرير، لحظتُ أن دولاً عديدة في أوربا وآسيا، كانت في أواسط القرن العشرين أقلَّ تنمية من البلدان العربية، ولكنها سرعان ما تقدّمت علينا في أواخر القرن (أي خلال جيلين فقط أو حوالي 50 سنَة). والسر يكمن في إعطائها الأهمية القصوى للتعليم ومكانة المعلم الرفيعة في مجتمعاتها.
3- مكانة المعلم في الدول التي حققت التنمية البشرية:
أ ـ سنغافورة الخامسة في سلم التنمية البشرية:
تحضرني حكاية عن لي كوان يو (1923 ـ 2015) الذي كان شاباً لا يتجاوز عمره خمسة وثلاثين عاماً عندما تولى رئاسة وزراء سنغافورة بعد استقلالها في مطلع الستينيات؛ وكانت أفقر دولة في آسيا، مجرد مدينة بلا موارد، فحوّلها إلى دولة راقية ذات اقتصاد رفيع، ترتيبها في سلم التنمية البشرية العالمي اليوم هو الخامس بين 189 دولة. ولهذا فهو يُلقَّب بالرئيس المعلّم الذي حوَّل التراب إلى ذهب.
يقول الرئيس لي كوان يو:
" إلى أي درجة كانت سنغافورة الستينيات تعيسة بائسة: فقر ومرض وفساد وجريمة. بيعت مناصب الدولة لمن يدفع، خطف رجال الشرطة الصغيرات لدعارة الأجانب، وقاسموا اللصوص والمومسات فيما يجمعون. أحتكر قادة الجيش الأراضي والرز، وباع القضاة أحكامهم. قال الجميع: الإصلاح مستحيل.
لكنني توجَّهتُ إلى المعلمين الذين كانوا في بؤس ويزدريهم الجميع، ومنحتُهم أعلى الأجور وقلت لهم: أنا أبني لكم أجهزة الدولة، وأنتم تبنون لي الإنسان."
سأل أحد الصحفيين لي كوان يو: ما هو الفرق بين سنغافورة ودول العالم الثالث الآسيوية؟؟
فأجاب:
" الفرق هو أننا نبني المدارس والمكتبات ودور البحث العلمي وهم يبنون المعابد. نحن ننفق موارد الدولة على التعليم، وهم ينفقونها على السلاح. نحن نحارب الفساد من قمة الهرم، وهم يمسكون اللصوص الصغار ولا يقتربون من المفسدين الكبار. "
وعندما أثنوا على لي كوان يو، بوصفه صانع المعجزة في سنغافورة، قال بكل تواضع:
ـ أنا فقط قمتُ بواجبي نحو وطني، فخصصتُ موارد الدولة للتعليم وغيرتُ مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة، والمعلم هو مَن صنع المعجزة، هو من أنتج جيلاً متواضعاً يحب العلم والأخلاق، بعد أن كنا شعباً يبصق ويشتم بعضه بعضاً في الشوارع."
ب ـ اليابان في الرتبة 17 في سلم التنمية البشرية:
وهذا ما فعلته اليابان من أجل نهضتها العملاقة بعد أن دكّتها القنابل الذرية الأمريكية في الحرب العالمية الثانية وأحالتها إلى تراب وخراب يدبُّ عليه مرضى ومعوقو حرب ومشردون وأرامل وأيتام. وهي اليوم الدولة رقم 17 في سلم التنمية البشرية.
يقول الأستاذ الدكتور عبد المنعم تليمة (1937 ـ 2017) أستاذ النقد الأدبي في جامعة القاهرة:
" كنتُ أعمل أستاذا للغة العربية باليابان خلال الثمانينات، وحصلتُ على راتب أعلى من راتب رئيس الوزراء الياباني، فخفتُ أن يكون هناك خطأ ويطالبوني برد المبلغ بعد ذلك، فذهبتُ إلى مسؤول الماليات في الجامعة فقال لي:
ـ إن قانون الرواتب في اليابان موحَّدٌ يطبَّق على الجميع، وإن درجتي العلمية أعلى من درجة رئيس الوزراء، وسنوات خبرتي أكثر منه، إضافة إلى تميُّز المعلّْم ومكانته، فرتبته أعلى من رئيس الوزراء الياباني، لذلك تستحق أنتَ راتباً أكثر من رئيس وزرائنا."
ج ـ كوريا الجنوبية في الرتبة 18 في سلم التنمية البشرية:
في عام 1985، شاركت بحكم وظيفتي في اجتماع اللجنة العليا للعلوم والتكنولوجيا في منظمة المؤتمر الإسلامي (أصبح اسمها منظمة التعاون الإسلامي) التي يرأسها رئيس جمهورية الباكستان.. انعقد الاجتماع في إسلام آباد بالرئاسة الفعلية للرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق (1924 ـ 1988). وكان يتناول طعامه في مقر الاجتماع، وفي كل وجبة كان يُدعى بعض المشاركين لتناول طعامهم على مائدة الرئيس. دُعيت مع ستة آخرين لتناول طعام الغداء مع الرئيس، وكان بيننا البرفسور عبد السلام المسلم الوحيد الذي حاز جائزة نوبل للفيزياء بعد أن اسهم في تطوير الطاقة الذرية في باكستان. عبّر أحد المدعويين عن إعجابه بأخلاق الباكستانيين ودماثة خلقهم، ليدخل السرور على قلب الرئيس. فقال الرئيس:
- صحيح. كل باكستاني رجل طيب، ولكن إذا وضعت ثلاثة باكستانيين معاً، يصعب عليك حكمُهم.
ولكي يغيّر الرئيس الموضوع حدّثنا عن زيارة قام بها في مطلع الثمانينيات إلى كوريا الجنوبية بدعوة من رئيسها شون دو وان. وكانت كوريا في النصف الأول من القرن الماضي، ثالث أفقر دولة في آسيا، واستعمرتها اليابان سنة 1909، وبعد الحرب العالمية الثانية، انقسمت إلى كوريا شمالية تحت النفوذ السوفيتي وكوريا جنوبية تحت النفوذ الأمريكي، واندلعت حرب أهلية بين الكوريتين مدة ثلاث سنوات (1950 ـ 1953) راح ضحيتها خمسة ملايين إنسان. ولكن في الستينيات بدات حكومتها تنمية بشرية سرعان ما أعطت ثمارها بعد جيل واحد. أما اليوم فهي تحتل الرتبة 18 في سلم التنمية البشرية.
أخبرنا الرئيس الباكستاني إنه أثناء زيارته خاطب نظيره الكوري قائلاً:
ـ أرجوك أخبرني بالسر وراء تطوّر كوريا الجنوبية؟
فقال له الرئيس الكوري مازحاً:
ـ لقد اخذنا خططكم الخمسية للتنمية وطبّقناها بأمانة.
وبعد أن ضحك الرئيسان، قال الرئيس الكوري:
ـ لقد استثمرنا في التعليم. تعليم إلزامي جيد لجميع الأطفال وعلى نفقة الدولة، ورمينا المناهج القديمة في البحر، وأعددنا مناهج علمية حديثة، ورقينا مكانة المعلم في المجتمع.
هنا انتهت حكاية الرئيس الباكستاني.
وسر التنمية لم يعُد سراً. فكثيرٌ من الدول الفقيرة المتخلّفة طبّقته وحققت تنمية عالية جداً خلال جيلين (حوالي خمسين سنة). ولم يذكر لنا الرئيس الباكستاني أمرين عن التعليم في كوريا:
الأول، أن المعلمين يحرصون على غرس ثلاث قيم أساسية في نفوس التلاميذ منذ نعومة أظفارهم هي: الصدق في المعاملة، والجد في العمل، والإبداع في الإنتاج. والمعلم هو القدوة لتلاميذه في ذلك. وهذا القيم مخطوطة بوضوح على جدران كل مدرسة.
 الثاني، إن التعليم في كوريا يتم باللغة الوطنية (طبعاً مع تعلم اللغات العالمية، ولكن ليس بوصفها لغة تعليم)، فجميع الدروس من رياض الأطفال حتى البحث العلمي بعد الدكتوراه، تتم باللغة الكورية الفصيحة المشتركة. وتقوم مئة محطة تلفزية وإذاعية في كوريا الجنوبية كلها أهلية إلا واحدة حكومية، بالبث باللغة الكورية الفصيحة المشتركة. فتعزز اللغة التي يتعلّمها الأطفال في مدارسهم، لتكون أداة إدماج وتماسك اجتماعي وأساسَ هُوية واحدة، ولتكون كذلك أداةَ نفاذٍ إلى مصادر المعرفة، وأداةً لتكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية.
ويعرَّف "مجتمع المعرفة" بأنه ذلك المجتمع الذي يستطيع أفراده تلقي المعلومات بسرعة وسهولة، واستيعابها، وتمثلها والإبداع فيها ؛ بحيث لا تبقى المعرفة الطبية، مثلاً، التي يمتلكها الطبيب محصورة فيه، بل يستطيع نقلها إلى الآخرين. فهو ينقل معرفته مباشرة إلى الممرضة، والمساعد الطبي، والتقني الطبي، والمريض؛ وإلى المجتمع بأسره عن طريق وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
ولكن من سوء حظ باكستان إنها لا تمتلك لغة وطنية واحدة. فلغة باكستان الوطنية المسماة بالأوردية هي لغة مصطنعة ليست لغة أم لأحد، بل يتعلمها الأطفال في المدارس، وجعلتها الحكومة بعد استقلالها لغة وطنية، وتشترك مع الإنجليزية في كونهما لغتين رسميتين. فللباكستان أكثر من خمس عشرة لغة وطنية أخرى، مثل البنجابية، السرايكية، البشتوية، السندية، البلوشية، الكشميرية، البلتية، إلخ. ولهذا تلجأ الحكومة الباكستانية إلى استخدام لغة المستعمِر القديم، الإنجليزية، لغةً لتعليم العلوم في المدارس. ولكن هذه اللغة لا تستطيع أن تكون أداةً ميسّرة للنفاذ إلى مصادر المعرفة ولا لتكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية، لأنها محصورة بين المتعلمين فقط الذين لا يستطيعون استيعاب العلوم وتمثّلها والإبداع فيها من خلال تلك اللغة الأجنبية.
ولكن المؤسف والمؤلم حقاً أن معظم دولنا العربية التي تمتلك أقدم وأغنى لغة قومية راقية، هي اللغة العربية الفصيحة المشتركة، المعترف بها عالمياً بوصفها إحدى اللغات الرسمية في منظمات الأمم المتحدة، تعمل على تهميش اللغة العربية، بطرائق عديدة، منها تشجيع العامية بحجة تيسير الفهم على المستمع، وتعليم العلوم والتقنيات بلغة أجنبية: الإنجليزية أو الفرنسية.
وهذا من أسباب تخلّف معظم بلداننا العربية ذات الكثافة السكانية إذ ظلّت على مر السنين في خانة البلدان ذات التنمية المنخفضة، فرُتبها على سلم التنمية البشرية الذي يضم 189 دولة هي على سبيل المثال: تونس 97، مصر 111، العراق 121، المغرب 123، سوريا 149، موريتانيا 157، اليمن 160، السودان 165. . وهذه رتب مقاربة لرتب الهند 130، وبنغلاديش 142، وباكستان 147، والسنغال 170، ومالي 179 وغيرها من الدول الإفريقية والآسيوية التي لا تمتلك لغة وطنية مشتركة.
فقد قمت بتجربة إحصائية بسيطة على سلم التنمية البشرية، توصلتُ بها إلى الحقيقة التالية:
جميع الدول التي تستخدم لغتها الوطنية في التعليم هي في رتبة الدول ذات التنمية البشرية العالية، وجميع الدول التي تستخدم لغة أجنبية في تعليم ابنائها هي في رتبة الدول ذات التنمية البشرية المنخفضة.

شروط تحقيق التنمية البشرية:
تنصُّ تقارير التنمية البشرية على أن تحقيق التنمية البشرية منوط بالسياسات التنموية التي تنتهجها الحكومات المكلَّفة بتدبير الشأن العام، خاصة في الدول التي تعاني تنمية منخفضة. وتحدِّد عناصر هذه السياسات الناجعة في ما يأتي:
أ ـ في المجال الثقافي: نشر تعليم إلزامي ذي جودة باللغة الوطنية المشتركة، على نفقة الدولة، في جميع أنحاء البلاد ومختلف المناطق، بحيث يتساوي جميع الأطفال، ذكوراً وإناثاً، في فرص الالتحاق بالمدارس. فالتعليم هو أساس التنمية البشرية واكتساب المواطنين مهارات تقنية، تيسّر لهم القيام بالعمل المثمر، والحصول على أجرٍ مُجزٍ يمكّنهم من العيش بصورة تليق بالكرامة الإنسانية.
ب ـ في المجال الصحي: توفير الخدمات الصحية والطبية، كإنشاء المستشفيات والمستوصفات، ومجاري الصرف الصحي، والماء، والكهرباء، إلخ. في جميع البلاد وليس في المدن الكبيرة فقط.
ج ـ في المجال السياسي: توفير مناخ مشبَّع بالعدالة الاجتماعية التي تقوم على مبدأ الحرية والمساواة، تُحترَم فيه حقوق الإنسان الطبيعية، والمدنية، والسياسية، والاقتصادية؛ ويسود التعاون والتكامل بين مكوِّنات المجتمع أفراداً ومؤسساتٍ. وهكذا تقلُّ التوترات الاجتماعية في البلد، ويسود السلم الأهلي والاستقرار، ما يتيح للإنسان تحقيق ذاته، وإطلاق إمكاناته المبدعة وقدراته الخلاقة، فيسهم في عملية التنمية.
هـ ـ في مجال الإنتاج والخدمات: استخدام أحدث التقنيات في الإنتاج الزراعي والصناعي وفي الخدمات.
خلاصة واستنتاج:
تدلّنا هذه الحكايات والأقوال على أن سرّ تقدّم البشر والدول يكمن في العملية التعليمية. وعناصر هذه العملية ـ كما تعلمون ـ ثلاثة: المعلم والتلميذ والمنهج. ولا نغالي إذا قلنا إن مقياس تقدّم الأمم هو مكانة المعلم في المجتمع. فإذا رفعت الدولة من مكانة المعلم، واعتنت عناية خاصة بإعداده وتدريبه، ووفرت له وسائل العيش الكريم، فإنها ستحقق الرقي والتقدم لجميع أبناء الشعب خلال جيلين فقط، لأن المعلم هو صانع البشر.

بقلم: الدكتور علي القاسمي
....................
أهم المصادر:
ـ البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة . تقارير التنمية البشرية السنوية منذ سنة 1990.
ـ علي القاسمي. طرئف الذكريات عن كبار الشخصيات: الجزء الأول (الرياض: دار الثلوثية، 2018). الجزء الثاني (المدينة المنورة: نادي المدينة المنورة الأدبي، 2018)    

    تعليقات (4)

    الاخ الصديق الاديب الاستاذ الدكتور علي القاسمي

    سلامٌ عليكم من الله ورحمة وبركات
    مقالتُك موجز لمنهج عمل لووجد مخلصين يعملون لوطنهم ولكن
    اين نجد المخلصين والفاسدون قد جعلو منه كما يقول الشاعر :
    باعوا العراقَ بشعبه كي يجعلوا
    وطنًا إذا وصفوهُ قالوا مقبرَهْ

    خالص تحياتي واحترامي وتقديري لك مع أطيب التمنيات .

    الحاج عطا

    1.  
    استاذي الفاضل ...إن هذا المقال اوجع نبضي .و.تلك المقارنات اثقلت الحقيقة باليقين ...نعم المعلم هو الزارع لبذرة الوطن تلك البذرة التي ستكون جنته واساس خلوده ..فالمعلم هو منطلق اطارات الدولة فهو ينتجها ويبقى هو معلما مربيا فتراه يلتقي بطلابه وقد أصبحوا من اعمدة الدولة ..ذاك هو الهدف والثمرة اذا هو النبع الذي يُنهل منه ..هو البدء ..الدول الغربية فهموا هذ وعملوا من أجله .. بدأوا بالنواة و اهتموا بها ...مااروع أن تطرح تجارب عينية تاريخية فنتألم ونتامل ..ونأمل بأن نخطو خطاهم فيكون معلمنا سيد الدولة الحقيقي..اجمل التحايا والشكر والتقدير ..

    1.  
    عزيزتي الشاعرة الفنانة المتألقة الأستاذة لمياء عمر عياد،
    يطيب لي أن أزجي إليك خالص الشكر على تكرمك بالإطلالة على تحيتي للمعلم، وتكرمك بتوجيه الضوء الكاشف على اسرار مهنة التعليم، كما لو كنتِ تقومين بالتقاط صورة زاهية للوطن، كما يغفو بين أزاهير أحلامك وأمالك وحبك.
    أكرر شكري مقروناً بمودتي واحترامي.
    علي القاسمي

    1.  
    صديقي الوفي الشاعر الأديب الأستاذ الحاج عطا الحاج يوسف منصور،
    أشكرك وأتفق معك تماماً أن ما يحتاجه الوطن اليوم هو الأخلاق، واستنباتها يحتاج إلى معلم واعٍ تم إعداده وتدريبه بعناية. بحيث ينشا الطفل على قيم الصدق والإخلاص وحب الوطن والاحتفاء بالتنوع فيه، وخدمة أبنائه.
    شكري ومودتي واحترامي.
    محبكم: علي القاسمي

    مقالات ذات صلة