سأعود.. يا أُمّي! قصة بقلم الدكتور علي القاسمي
نقلا عن صحيفة المثقف
سأعود.. يا أُمّي!
الشمس تتثاءب، تتمطّى، تفتح عينيْها، تزيح دثار اللَّيل الداكن عنها، تُلقي أوَّل خيوطها الذهبيَّة على جبهة الفجر الفضيَّة. أزِفَ الموعد مع الرفاق. تناولتُ حقيبتي، علّقتها على كتفي، وضعتُ يدي على مزلاج الباب لأفتحه، صاحتْ أُمّي:
ـ هذا أنتَ، يا بُني؟ إنّني أُعِدُّ لك الفطور فلا تغادر قبل أن تأكل.
ـ سأعود، يا أمي، بعد قليل.
لحقتْ بي أُمّي؛ وعلى عتبة الباب، ضمّتني إلى صدرها، شممتُ أريج الحناء المنبعث من شَعرها. طبعتْ قبلةً على خدّي. لثمتُ يدها، وانفلتُ خارجاً إلى الدرب.
توجّهتُ إلى النهر لأعبر الجسر حيث الرفاق. داخلني شعور بأنَّني قد لا أرى شروق الشمس ثانية على هذا النهر. سرتُ مسرعاً في طرقات بلدتنا، القادسية، الواقعة على ضفة نهر الفرات وسط العراق. كانت عيناي تمسحان تراب الأزقّة، وتقبّلان عتبات الأبواب الموصدة في هذه البلدة التي لم أفارقها من قبل. الحرائقُ ما زالتْ مشتعلة هنا وهناك، يتصاعد منها دخانٌ أسودُ كثيف. لقد مرّتْ بنا دبابات الغزاة ومدرّعاتهم ومصفّحاتهم اللَّيلةَ الماضية. وفي ظلمة الليل، بُحّ الضجيج وماتت الضوضاء.
أخذتُ أعبر الجسر، لمحتُ الرفاق متجمّعين على الضفة الأُخرى تحت أشجار النخيل. لوَّحتُ لهم بيدي محيِّياً. لم يبقَ لي سوى خطواتٍ قليلةٍ لأعبر إلى الضفة الأخرى وألتحق بهم، عندما تناهى إلى سمعي أزيز رصاصة، ورأيتُ وهجها يتَّجه نحوي، يخترق جسدي، يمزّق أحشائي، ويستقرُّ في مهجتي. أسقطُ على حافة الجسر مضرَّجاً بدمائي. تسيل قطراتٌ قانيةٌ من دمي إلى نهر الفرات، وتختلط بمياهه الجارية، وتنسابُ خيطاً أحمرَ على صفحة الماء. ترتفع روحي من جسدي مثل يمامةٍ بيضاءَ، وترفرف فوق الجسر. أشاهد الرفاق يهرعون إلى جسدي، محاولين إسعافي. صرخاتهم تصمّ سمعي. ومن الأعالي خاطبتْهم روحي:
ـ " لا تذرفوا عليّ الدموع، يا رفاقي. سأعود إليكم قريباً. وسِّدوا جسدي لحداً على حافة النهر، لأنَّني لم أرتوِ تماماً من مائه الفرات، وانثروا عليَّ الورد الجوري.".
كلماتي ترتعش في النسيم، وتبقى معلَّقة في الهواء، فلا تبلغ الأرض.
تحلِّقُ روحي في الأعالي. أتَّجهُ مع الشمس غرباً. أُطلُّ من علٍ على صحار،ٍ ووهادٍ، ورمالٍ، وأنهارٍ، وحقولٍ خضراءَ، ومُدُنٍ عامرة بأهلها؛ يُخيَّلُ إليَّ أنني مررتُ بها من قبل، ربّما وأنا أمتطي صهوة جواد، أو في قافلةِ جِمال مسافرة. لا أدري كم مضى عليَّ من الوقت وروحي مُحلِّقة في الأعالي. لم يعُد الزمن يهمّني، أو أنّ سريان الزمن قد تجمَّد، فالوقت صباح دوماً، لأنّني كنتُ أسافر بسرعة الشمس، أو بالأحرى بسرعة دوران الأرض. أتوقّفُ أخيراً في فضاءٍ أزرقَ أخضر. تحتي نهرٌ يصبُّ في محيط. إنّه مصبُّ نهر أبي رقراق في المحيط الأطلسيّ في المغرب. يجذبني هدوء المكان وروعة المنظر، أهبط بسلامٍ في حديقةٍ بمحاذاة النهر. أجلس على مسطبة فيها، أيمّم وجهي شطرَ الشرق: مدينة سلا من ورائي، ومعالم مدينة الرباط أمامي.
أتلفَّتُ معجباً بجمال الطبيعة حولي. فجأةً، أشعر برعدةٍ في جميع حنايا روحي. فقد وقع بصري على شخصٍ يجلس على مسطبةٍ ليس بعيداً عني. هذا الشخص يُشبهني تماماً في كلِّ شيءٍ: ملامح وجهي، لون سحنتي، تصفيف شعري، بنية جسدي، الملابس التي أرتديها، ... حدّقتُ فيه مرَّةً تلو الأُخرى، فيما كان هو مستغرقاً في قراءة جريدته. نظرتُ إليه مراتٍ عديدةً، وفي كلِّ مرَّةٍ، يتأكَّد لي الشبه التام بيني وبينه، لدرجة تثير الذعر في أعماقي. أردتُ أن أقتربَ منه، وأتحدّث معه، ولكن الخوف شلَّني. حاولتُ أن أطمئنَ نفسي قليلاً قائلاً إن الله يخلق من الشبه أربعين.
شعرتُ برغبةٍ مُلِحّةٍ في التعرُّف عليه. أردتُ أن أسأله عن اسمه، وعمره، وعمله، وسكنه، وجميع ما يتعلق بحياته. فقد أحسستُ أنّ شؤونه تهمّني فهو شبيهي، بل شعرت أنّه نفسي. بَيدَ أنَّني تردَّدتُ في الإقدام على توجيه الكلام إليه، لئلا أُفسد عليه خلوته، أو أقطع عليه قراءته (كان والدي يصفني في صغري بالخجل وميلي إلى الانعزاليّة). في تلك اللحظة، طوى جريدته، ونهض من مقعده، خارجاً من الحديقة. لم أستطِع مقاومة غريزة حبِّ الاستطلاع التي انتفضت في أعماقي. فخطرتْ لي فكرة غريبة، هي أن أتبعه لأعرف شيئاً عنه، من غير أن أخاطبه. وعلى الرغم من كرهي المتأصَّل لرجال المخابرات الذين أذاقوني أمرَّ أيامي، قمتُ من مكاني، لأترسَّم خطواته، ولم يخطر ببالي أنَّ عملي ذاك في ترصُّد الرجل، يقع في دائرة التجسُّس.
سار ببطءٍ، واتّجه إلى مدينة الرباط القديمة (الوداية)، المطلَّة على مصبِّ نهر أبي رقراق في المحيط الأطلسي. مشى في دروبها، ثمَّ انتهى إلى زقاق، تبينتُ لدهشتي أنّه يُشبه زقاقنا في بلدتي القادسية وسط العراق، بجدرانه المطليّة باللَّون الأبيض، ومنازله المشيَّدة على الريازة العربيّة، وأبوابها الخشبية المزيَّنة بالمقرنصات، وأقواسها المرصَّعة بالزليج. إنّه يشبه زقاقنا هناك في القادسية، بل إنّه زقاقنا بعينه. هنا، أخذتُ أحثّ الخطى لأقترب من الرجل. رحتُ أتبعه كظلّه أو هو كظلّي. ثمَّ أقتربَ من منزلٍ تبيَّنتُ فيه دارنا، وتوقّف عند الباب. وعندما دنوتُ منه، أخذ جسده يتطابق مع جسدي ويندمج فيه عضواً عضواً، كما ينطبق الظلُّ على الأصل رويداً رويداً، بفعل تغيُّر المسار أو بسبب تعامد الشمس وقتَ الزوال، حتّى أصبحتْ يده القابضة على مطرقة باب الدار يدي. طرقَ أو طرقتُ الباب طرقتيْن متتاليتيْن، وبعد لحظةٍ طرقةً ثالثة، وهي العلامة المُتعارَف عليها بيننا نحن أبناء الدار.
فتحتْ أُمِّي الباب. تهلّل وجهها، وانبسطت أساريرها عندما رأتني، وهي تقول:
ـ عُدتَ، يا ولدي. نحن في انتظارك لتناول الفطور.
تبعتها وأنا أحملق في أرجاءِ الدار. هذه باحة الدار ذاتها. وها هم أخوتي متحلِّقين حول السفرة، في ظلِّ نخلتنا الباسقة. دلفتُ إلى غرفتي أوَّلاً. وجدتُ منضدتي كما تركتُها، وعليها دفتري الذي أدوّن فيه مذكِّراتي. كُتبي الأثيرة كما هي على الرفوف التي تعلو المنضدة: القرآن، نهج البلاغة، ديوان المتنبي، ألف ليلة وليلة، رحلات السندباد البحري. تساءلتُ في نفسي ما إذا كانت رحلتي هذا اليوم هي إحدى رحلات السندباد. لكنَّ السندباد انطلق من خليج البصرة إلى الشرق، أمّا أنا فرحلتُ مع الشمس إلى الغرب.
وعلى السُّفرة، قال لي أخي الصغير:
ـ قبل قليل سمعنا إطلاق نار على الجسر. جريتُ لأتبيَّن الأمر. ألفيتُ أنّ مسلَّحِين مجهولين أطلقوا النار على بعض الأهالي العابرين وأردوا أحدهم قتيلاً.
وقالت أمي:
ـ انتحبتْ روحي وحزنَ القلب.
وعلَّق أخي الكبير قائلاً:
ـ إنّهم ينحرون الناس الأبرياء، ويغتالون الفرح في عيون الأطفال، كلَّ يوم.
أمّا أنا فبقيتُ صامتاً، واجماً، في حيرةٍ من أمري.
***
قصة قصيرة
بقلم: علي القاسمي
جع
عا
دأ
م
عا
عا
قح
عا
اا
عا
دح
عا