أصدقاء الدكتور علي القاسمي

عبد القادر كعبان، حوار مع الأديب العراقي علي القاسمي


حوار مع الأديب العراقي علي القاسمي

نقلا عن موقع رابطة أدباء الشام

عبد القادر كعبان
الأديب العراقي علي القاسمي المقيم حاليا في المغرب الأقصى، هواسم برز في عالم القصة و النقد الأدبي و الرواية و الترجمة و اللسانيات وعلم المصطلح صناعة المعجم و التنمية البشرية و حقوق الإنسان و غيرها من الاهتمامات في عالم الإبداع. كما ساهم في نقل عددٍ من روائع الأدب الإنساني الى اللغة العربية إذ ترجم بعض روايات "ارنست همنغواي" وغيرها من الروائع العالمية، حتى ناهزت أعماله الخمسين كتاباً.
ولعل أهم اسهاماته في صناعة المعجم العربي، إهداؤه " معجم الأستشهادات " الأول إلى المكتبة العربية، ثم سرعان ما أصدر " معجم الاستشهادات الموسَّع" و " معجم الاستشهادات الوجيز للطلاب". ويضم معجم الاستشهادات الأقوال التي يقتبسها المتكلِّم أو الكاتب لتعزيز رأيه، من الكتب المقدسة، والأمثال السائرة، والحكم المأثورة، والأشعار المشهورة، والقواعد المتّبعة، مرتبةً موضوعياً وألفبائياً. فهو خلاصة فكر الأمة وثقافتها. إضافة إلى أن الدكتور القاسمي هو منسق فريق اللسانيين العرب الذين ألّفوا " المعجم العربي الأساسي" الذي يعدّ من أفضل المعاجم العربية المعاصرة.
أمّا في مجال السرديات، فقد أعاد القاسمي للحكاية مكانتها في السرد، وواصل كتابة القصة والرواية الثقافية. وقد صدرت له مؤخراً في بيروت رواية " مرافئ الحب السبعة "،وكتاب "الأعمال القصصية الكاملة" الذي تناهز صفحاته الـ  500 صفحة من القطع الكبير. وفي الوقت نفسه صدر له في بيروت والجزائر والرباط (بالنشر المشترك) كتاب " مختارات قصصيةمن إعداد وتقديم الناقد المغربي المعروف الدكتور عبد الملك أشهبون.
وبمناسبة صدور هذه الكتب السردية الثلاثة، أجرينا معه الحوار التالي:
س 1 . في اطلالة موجزة من يكون علي القاسمي؟
ج ـ إنه طالب علم، يقتنص المعرفة أنّى وجدها ويتلذذ بالتهامها، ويأمل أن يشاركه الآخرون اللذة والمتعة.
س 2 ـكيف تفتحت براعم الكتابة لديك؟
ج ـ لا يُسأل الطير كيف تعلَّم الطيران، ولا الوردة كيف يفوح العطر منهاففرخ الطير ينبت لجناحيه  الريش، وذات يوم يجد نفسه محلّقاً في الفضاءولكن الكتابة ليست مجرد موهبة أو قدرة طبيعية فحسب، وإنما تحتاج  كذلك إلى المعرفة الغنية والتجربة المحرقة التي تتوهج بها الكلمات.
س 3 ـ متى توجهت الى كتابة القصة القصيرة تحديدا؟
ج ـ بدأ ذلك في المدرسة الابتدائية. ولكن انغماسي في الدراسة، خاصة مرحلة الدكتوراه جعلتني ابتعد عن كتابة القصة.  فطلبة الدكتوراه في أمريكا يُدرَّبون على الموضوعية والتعامل مع الواقع، في حين أن القصة، والأدب عموماً، يتطلَّب التخلي عن الواقع والتحليق في فضاء الخيال الواسعفالأديب يشترك مع المجنون في ابتعادهما عن الواقع والحقيقي، والانخراط في الحلم والمتخيّل. وقد تطرقتُ إلى هذا الموضوع الشائق الشائك في كتابي " الحب والإبداع والجنون". وعلى كُلٍّ، كانت لي عودة قوية لكتابة القصة القصيرة في المدة من أواسط الثمانينيات إلى أواخر التسعينيات. وبعد ذلك استحوذ على اهتمامي مشروع اتحاد المجامع العربي لتأليف المعجم التاريخي للغة العربية، إذ أنيطت بي مهمة إعداد ( الخطة العلمية للمعجم التاريخي للغة العربية). وقد أعددتها بالفعل في 150 صفحة ونوقشت وأُقرت من حيث المبدأ، ومنذ عشر سنوات، وأنا أعطف على تأليف كتاب عنوانه " صناعة المعجم التاريخي" الذي بلغت صفحاته 850 صفحة والذي سأدفع به قريباً إلى المطبعة.
س 4 ـ من الذي قاد القاص فيك الى النقد الأدبي؟
ج ـ لا يُفترض في القاص أن يكون ناقداً، ولا في الناقد أن يكون قاصاً. ولكن، لكي يكون القاص قاصاً جيداً ينبغي أن يكون على دراية بأسرار حرفته، ويطلع على الدراسات النقدية ليستفيد منهاعليه أن يسأل أهل الذكر، كما يقولون، وإلا سينطبق عليه قول الشاعر أبو القاسم الآمدي:
    إذا كنتَ لا تدري، ولم تَكُ بالذي    يُسائل مَن يدري، فكيفَ إذن تدري؟!
ولهذا كنتُ أقرأ الدراسات النقدية التي تتناول السرد أثناء انهماكي بكتابة القصة والرواية. إضافة إلى أنني كنتُ قد درستُ النقد الأدبي في جامعة تكساس في أوستن على أستاذي المشرف على رسالتي في صناعة المعجم،  البرفسور أرتشبولد أي هيل، أحد رواد المدرسة النقدية البنيوية ورئيس الجمعية اللسانية الأمريكية آنذاك.
س5 ـ يُتهم النقاد دوما بإهمال النصوص الحقيقية والتركيز على أسماء معينة حتى تكاد تتخيل أن النقاد يتنافسون في ما بينهم في تناولهم للنص المحتفى به لكاتب أو كاتبة لا تنقصها الشهرة و لا النجومية الفنية كلما نشرت كتابا جديدا، في حين نجد كتابات وأسماء لا يكتب عنها سطرا واحدا... لماذا في رأيك؟
ج ـ  يمكن تفسير هذه الظاهرة بالقاعدة التي تقول: " النص الجيد هو الذي يولِّد فيك رغبة الكتابة." ولهذا فإن كثيراً من الكتّاب المحترفين، يخصصون الفترة الصباحية لقراءة أعمال أدبية جيدة، ويخصصون فترة المساء للكتابة. وقد دأب بعض الكتّاب الأمريكيين على  أنيذكروا في مقدِّمات أعمالهم الأدبية، عناوين الكتب التي كانوا يقرؤونها أثناء الكتابة خشية وقوعهم في التناص، ولئلا يتهمهم البعض بالتلاص. وتذكَّر أنه من اليسير الكتابة النقدية عن نص جيد. إضافة إلى أن كثيراً من النقاد يرغب في أن يقترن اسمه مع اسم كاتب كبير.
س 6 ـ تنتقل روايتك الموسومة "مرافئ الحب السبعة" بين المسالك البيانية و الطرائق الأسلوبية بلغة دقيقة لتكون مرآة عاكسة لملامح الغربة و الحنين الى الوطن، فهل يمكن اعتبارها سيرة ذاتية لكاتبها بطريقة أخرى؟
ج ــ سؤالك ذكي جيد ويتطلّب عدّة إيضاحات:
الأول، من الواضح أن  تجنيس رواية " مرافئ الحب السبعة" يدعونا إلى القول إنها " رواية سير ذاتية" أو " رواية سيرة". للتشابه الكبير بين سيرة الكاتب القاسمي وسيرة بطل الرواية الهاشمي. ولكننا لا نستطيع أن نقول عنها إنها سيرة ذاتية، لأنها عمل أدبي يشتمل على كثير من التخييل الذاتي، على حين أن  السيرة الذاتية نوع ينتمي إلى  جنس التاريخ الذي يتوخّى الدقة ونقل الوقائع بأمانة. فالفرق بينهما لا يقتصر على المضمون فقط، بل يشمل الأسلوب وتقنيات الكتابة كذلك.
الثاني، أن الرواية لم تقتصر على موضوعة الغربة والحنين إلى الوطن فقط، بل تناولت كذلك موضوعات ثقافية واجتماعية، خاصة موضوعتي الانقلابات العسكرية والجهل المتفشي في البلدان العربية اللذين كانا وراء تخلّف البلدان العربية بحيث أصبح معظمها يحتل الرتبة 125 في تقرير التنمية البشرية الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة. في حين أن دولة مثل كوريا كانت عام 1960 أفقر دولة في آسيا، فأصبحت اليوم تحتل الرتبة 12 في هذا التقرير متقدِّمة على دولٍ عريقة مثل فرنسا وسويسرا وإيطاليا، بفضل إصرار النخبة السياسية على اتباع سياسات تنموية بشرية.
الثالث، أن الموضوعة الرئيسة في الرواية هي ثالوث الحياة والحب والموت. وتمّت معالجة هذه الموضوعات وسرد الأحداث بأسلوب يتراوح بين الشعر والمناجاة.، كما لاحظ الناقد المصري الدكتور منتصر أمين.
س 7 ـ هل يمكن اعتبار التنمية البشرية خلاصا للمشاكل الاجتماعية و الهموم النفسية في نظرك؟
ج ـ تعني التنمية البشرية أن جميع المواطنين يتمتعون بتعليم جيد، ويعيشون عمراً مديداً بصحة جيدة، ويحصلون على دخلٍ كافٍ يمكّنهم من العيش بصورة تليق بالكرامة الإنسانية. وفي خلال السنوات الأربعين الماضية، استطاع العديد من الدول التي كانت أكثر تخلفاً من البلاد العربية،من تحقيق التنمية البشرية، مثل فنلندة، وماليزيا، وكوريا، وتركيا وغيرها. ووصفة التنمية البشرية مشهورة معروفة ترتكز على ثلاثة إجراءات تتخذها النخبة السياسية في البلاد : أولاً، الالتزام بالديمقراطية والحريات المدنية وخاصة حرية التعبير، ثانياً، قيام الدولة بنشر التعليم الجيد على حسابها في جميع أنحاء البلاد باللغة الوطنية، وما يرافق ذلك من خدمات صحية وبنيات تحتية، وثالثاً، الأخذ بآخر معطيات العلم والتكنولوجيا في الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمات. ومعلوم أن تحسن صحة الفرد وتعليمه ودخله ستؤدي إلى اختفاء مشاكله الاجتماعية وكثيرٍ من همومه النفسية.
س 8 ـ هل يعتبر المثقف العربي اليوم فاقد لهويته؟ أم أنه في ازدواجية الهويات المتناقضة؟
ج ــ إن مفهوم السلطة في الأساس يعني جماعة اختارها الشعب لتدبير أموره، فهي تجمع المال من الضرائب وغيرها لتضطلع بالخدمات اللازمة من صحة وتعليم وبنية تحتية وغيرها. السلطة في البلدان العربية تقوم بجمع الأموال ولا تقدّم الخدمات الضرورية. فالحكومات العربية لا تنفق على التعليم أكثر من 2 بالمائة من الدخل. وأنظمتنا التربوية لا تتوافر فيها عدالة الفرص التعليمية على الإطلاق؛ إذ توجد ثلاثة أنواع من المدارس: مدارس أجنبية: أمريكية أو بريطانية أو فرنسية، لأبناء السلطة والمال، ومدارس خاصة حرّة تجارية لأبناء الطبقة الوسطى، ومدارس حكومية سيئة كماً وكيفاً لبعض أبناء الشعب. والمدارس الأجنبية تدرّس المنهج الأجنبي باللغة الأجنبية وثقافتها، فيتخرج الأولاد منها غرباء في وطنهم فيحبذون الهجرة إلى الغرب، أو يحكمون بلداً يجهلون لغته وثقافته. نظامنا التعليمي يخرّج أجيالاً مختلفة في ثقافاتها وتوجهاتها، وهذا يؤدي إلى الاضطرابات الاجتماعية والتناحر الاجتماعي، وهذا أخطر من الازدواجية الثقافية التي تفضلت بالسؤال عنها.
س 9 ـ ما الذي يثيرك في النص الأخر لترجمته؟لماذا وقع اختيارك  في الترجمة على أعمال "ارنست همنغواي"؟
أنا لستُ مترجماً محترفاً، على الرغم من أنني درستُ نظريات الترجمة ودرّستها. أنا مجرد عاشق للقراءة، وعندما أقرأ نصاًيترك أثره في نفسي، وأشعر بلذة ونشوة، أتمنى  أن يشاركني الآخرون المتعة، فأقدِم على ترجمتة كترفيه عن النفس وتنويعٍ على ما أفعله عادة من عمل وظيفي أو بحث في مجال تخصصي: علم المصطلح وصناعة المعجم. وترجمتي لبعض أعمال همنغواي يقع ضمن ذلك، فهمنغواي أشهر كاتب أمريكي بفضل فكره الإنساني وتطويره وتيسيره للأساليب الأدبية والسردية ، وتُعدُّ بعض مؤلفاته من روائع الأدب الإنساني الخالدة.
س 10هل الترجمة قادرة على نقل ثقافات الشعوب المختلفة وتقريب المسافات الجغرافية؟ً
لو نظرنا إلى النهضات االحضارية الكبرى في تاريخ الإنسانية في طوره الأخير، مثل النهضة الإسلامية ، والأوربية، والسوفيتية، لوجدنا أن الترجمة أدّت دوراً بارزاً فيها. فبعد بزوغ فجر الإسلام على الأمة العربية، اضطلعت الدولة خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين بنقل علوم الهند وآداب الفرس وفلسفة الإغريق إلى اللغة العربية ما ساعد على إيجاد حركة فكرية علمية واسعة. أما النهضة العلمية  الأوربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر فقد أفادت من ترجمة العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية لغة المعرفة في أوربا آنذاكوشهد الاتحاد السوفيتي تقدّماً علمياً هائلاً بفضل تكفّل الدولة البلشفية منذ البداية بترجمة مئات الآلاف من الكتب العلمية والفكرية من لغات العالم إلى اللغة الروسية، خلال سنوات قليلة واستمرت على ذلك. فتوطين العلم باللغة الوطنية هو سر إيجاد مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية. وما تقدّمت أمة بغير لغتها قط.
من المؤسف أن الحكومات العربية لا تأبه بالترجمة بتاتاً، ولا تعمل على إنشاء مؤسسات وطنية تضطلع بترجمة علوم الغرب وتقنياته إلى اللغة العربية طبقاً لخطة علمية مدروسة. بل على العكس من ذلك، تصرّ هذه الحكومات على إبقاء العلم أجنبياً، عن طريق تدريس العلوم والتقنيات في الجامعات بلغة أجنبية، لغة المستعمِر القديم، الإنكليزية أو الفرنسية. وينتج عن ذلك ظاهرتان خطيرتان: الأولى عدم تمكّن أبنائنا من إتقان العلوم والتكنولوجيا، لعدم إتقانهم اللغة الأجنبية التي استخدمت في التعليم، والثاني أن المعرفة العلمية والتقنية تبقى محصورة في تلك الفئة المحدودة من الشعب التي درست باللغة الأجنبية. وهذا أحد أسرار تخلّف البلدان العربية. وقد فصّلتُ ذلك في كتابي " الترجمة وأدواتها".

مقالات ذات صلة