رواية (أحلام أنشتاين) وتبسيط العِلم بالأدب
نقلا عن موقع النور
رواية (أحلام أنشتاين) وتبسيط العِلم بالأدب
كيف ترجمتُ هذه الرواية؟
في منتصف العام الماضي، كنتُ أطالع العدد المزدوج 5و6 لشهري مايس ـ حزيران 2010 من مجلة Scientific American " العلوم الأمريكية"، في طبعتها العربية الصادرة عن مؤسَّسة الكويت للتقدُّم العلمي. لفتَ انتباهي المقالُ الافتتاحي وعنوانه "مغامرات في الزمكان المنحني" للعالِم البرازيلي أدوردو غيرون، الذي يتناول بعضَ أُسس النظرية النسبية لألبرت أنشتاين، ويقول عنها إنّه رغم مرور تسعين عاماً على ظهورها فإنّها ما زالت مذهلة. فقد ثبتتْ صحَّةُ مقولتها بأنَّ الزمان ـ المكان المنحني يسمح بنوع من الانزلاق. إذ يمكن لجسمٍ أن يسبح في فضاءٍ منحنٍ خالٍ دون أن يدفعه شيء، وأن يُبطِئ هبوطه. ويشير المقال في بدايته إلى أنَّ عالماً اسمه جورج غاموف George Gamow، نشر كتاباً عنوانه " مغامرات السيد تومبكنز" أوائل الأربعينيّات من القرن العشرين، يبسِّط فيه النظرية النسبية بقصصٍ ممتعة.
في الأسبوع ذاته، زارني، في الرباط، شابٌ أمريكي هو أريك نِكولز Eric Nichols، كان زميلاً لابنتي علياء في مرحلة الدراسات العليا لعِلم الحاسوب في جامعة إنديانا في بلومنغتون. وجلب إلي هذا الشاب بعض الكتب الرائجة في أمريكا هديةً، منها رواية Einstein's Dreams " أحلام أنشتاين" للدكتور ألَن لايتْمَن Alain Lightman التي تبسِّط النظرية النسبية لأنشتاين في شكلٍ سرديٍّ بديع.
استمتعتُ بقراءة الكتاب، وأعجبتني قدرة مؤلِّفه على تبسيط كثير من محاور النظرية النسبية، بشكلٍ روائيّ.
في تلك الأثناء، وبمصادفةٍ عجيبة، أهدتْ إليّ الشاعرة الأمريكية المعروفة الدكتورة مورين كرايسك، Maureen Crisick كتاباً عن حياة ألبرت أنشتاين، ألفّه كاتب سير المشاهير والتر إسحاقسون W. Isaacson بعنوان
": His Life and Universe Einstien" . والشاعرة كرايسك تقوم بتدريس الأدب الأمريكي في إحدى الجامعات الأمريكية فصلاً واحداً في السنة، ثمَّ تُمضي بقية شهور السنة في المغرب للتفرُّغ لكتابة الشعر. وقد ساعدتْ مشكورةً في مراجعة ترجمة بعض قصصي القصيرة إلى الإنكليزية التي يضطلع بها الصديق الدكتور موسى الحالول، أستاذ الترجمة في جامعة الطائف.
في هذا الكتاب " ألبرت أنشتاين" الذي يقع في 850 صفحة من القطع الكبير، يقول مؤلِّفه ما مضمونه أنّه لم يستطِع فهْم النظرية النسبية منذ نشرها وحصول صاحبها على جائزة نوبل حتى اليوم، سوى أفراد قلائل يُعدّون على رؤوس الأصابع.
ومن المصادفات العجيبة كذلك، أنَّني شاهدت في تلك الأثناء شريطاً سينمائياً عُرض على شاشة التلفزيون عن حياة أنشتاين، وعن دعمه لبحوثِ عددٍ من العلماء من أجْل اختراع القنبلة الذرية لفائدة الأمريكان قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية، وهو الدعم الذي تنصّل منه أنشتاين بعد أن ألقى الأمريكان القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، وقتلوا مئات الألوف من الناس المدنيِّين الأبرياء، ما يُعدُّ جريمةَ حرب وجريمةً ضد الإنسانية، فكتب مقالاً يزعم فيه أنَّ مساهمته في صنع القنبلة الذرية كانت محدودة.
في الأسبوع التالي، وبمصادفةٍ أُخرى، شاهدتُ شريطاً سينمائياً آخر على التلفزيون عنوانه " العودة إلى المستقبل" ينبني على نظرية أنشتاين للزمان.
شعرتُ أنَّني ينبغي أن أستثمر جميع هذه المصادفات في عملٍ يرمي إلى تبسيط بعض محاور نظرية أنشتاين للقارئ العربي. وهكذا عزمتُ على ترجمة كتاب " أحلام أنشتاين". ولكن كان عليّ، في مرحلة الاستعداد لترجمة هذا الكتاب، أن أدرس سيرة أنشتاين، وأحاول فهم خلاصة نظريته الشهيرة، وأطَّلع على كتاب " مغامرات السيد تومبكنز" للدكتور غاموف الذي سبق كتاب " أحلام أنشتاين" في تبسيط النظرية النسبية، لأرى أيَّ الكتابيْن أفضل، وما إذا كان الدكتور ألَن لايتمَن مؤلِّف كتاب "أحلام أنشتاين" قد تأثَّر بكتاب الدكتور غاموف، وما الجامع بينهما.
طلبتُ من ولدي، حيدر، في الولايات المتحدة الأمريكية، أن يبعث إليَّ بكتاب الدكتور غاموف الذي لم أعثر عليه في المغرب. فبعث إليّ بكتاب " The New World of Mr. Tompkins" " العالَم الجديد للسيد تومبكنز"، وهو تحديثٌ لكتاب غاموف الأصلي، أنجزه الدكتور رُسيل ستانارد، عدَّل فيه بعض محتويات الكتاب في ضوء ما استجد من نظرياتٍ في علم الفيزياء، وأضاف بعض الفصول الضرورية. قرأتُ هذا الكتاب، ولكنّي رأيتُ أنَّه لا يُغني عن الإطِّلاع على كتاب غاموف الأصلي. ولهذا رجوتُ ولدي حيدر أن يبحث عنه في الشابكة(الإنترنت) في محلات بيع الكتب القديمة، ويبعث به إليّ، ففعل مشكوراً. إضافةً إلى ذلك، قمتُ بمراجعة خرائط المدن السويسرية المذكورة في كتاب الدكتور ألَن لايتمَن، ومشاهدة صور شوارعها ومعالمها مرَّةً أُخرى، في الشابكة، لإنعاش ذاكرتي؛ فقد سبق أن زرتُ تلك المدن السويسرية التي تناولها الكتاب: بيرن، زوريخ، فرايبورغ، لوتسرن، إلخ. عدّة مرات أثناء مشاركاتي في الاجتماعات السنوية للتعاون بين منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الأمم المتحدة التي كانت تعقد في مقرّ الأمم المتحدة في مدينة جنيف.
تبسيط العِلم بالأدب:
يُعدّ الدكتور غاموف (1904ـ1968) ـ وهو روسيُّ هاجر إلى أمريكا وتولى تدريس الفيزياء النظرية في جامعة ولاية كولورادو في مدينة بولدر ـ من ألمع علماء الفيزياء في القرن العشرين ومن واضعي نظرية " الانفجار العظيم" الخاصّة بتفسير نشوء المجموعة الشمسية، كما أنّه مِن أبرز مََن عمل على تبسيط العلم بالأدب.
يقول الدكتور غاموف في مقدّمة كتابه " مغامرات السيد تومبكنز" إنَّه كتب قصةً علميةً قصيرة (وليست قصة من قصص الخيال العلمي)، حاول أن يشرح فيها للقارئ العامِّ الأفكارَ الرئيسة في نظرية انحناء الفضاء والكون المتَّسع. وفيها يقوم بطل القصة السيد س.ج.هـ. تومبكنز، وهو كاتبٌ في بنكٍ، بمغامراتٍ في الفضاء. وبعث بقصته القصيرة إلى مجلة هاربرز Harper's الأمريكية، ولكنّها رفضت نشرها، لأنَّ الدكتور غاموف لم يكُن أديباً معروفاً، وإنّما أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة كولورادو. ثم بعث غاموف بقصته القصيرة إلى ستِّ مجلات أُخرى، بَيدَ أنّها جميعها رفضتها كذلك.
وفي صيف ذلك العام، 1938، التقى غاموف بصديقٍ قديم له هو تشارلس دارون، حفيد العالم البريطاني تشارلس دارون، صاحب نظرية " أصل الأنواع"، الذي حثّه على العمل معاً لأجل تبسيط العلوم وإشاعتها. فأخبره غاموف بقصَّة قصَّته القصيرة التي لم تلقَ قبولاً من أصحاب الدوريات. فطلبَ منه تشارلس دارون أن يبعث بتلك القصة القصيرة إلى الدكتور سي. بي. سنو Snow رئيس تحرير مجلَّةٍ علمية اسمها " الاكتشاف " Discovery تصدرها مطبعة جامعة كمبرج في بريطانيا. وعندما أرسل غاموف قصته القصيرة إلى الدكتور سنو، نشرها في المجلَّة، وطلبَ منه أن يبعث إليه بقصص أُخرى تبسِّط المفاهيم العلمية بطريقة شائعة. وهكذا تجمّع للدكتور غاموف عددٌ من القصص نشرتها المطبعة سنة 1940 في شكل كتابٍ عنوانه " مغامرات السيد تومبكنز" . وأتبعه سنة 1944، بمجموعة قصصية أُخرى بعنوان
السيد تومبكنز يستكشف الذرّة" Mr. Tompkins Explores the Atom . وقد تُرجِم الكتابان إلى عدد من اللغات الأوربية. ولم يُترجم إلى اللغة الروسية ( ربّما في إشارةٍ إلى عدم رضا السلطات السوفيتية عن هجرة علمائها إلى أمريكا).
السيد تومبكنز يستكشف الذرّة" Mr. Tompkins Explores the Atom . وقد تُرجِم الكتابان إلى عدد من اللغات الأوربية. ولم يُترجم إلى اللغة الروسية ( ربّما في إشارةٍ إلى عدم رضا السلطات السوفيتية عن هجرة علمائها إلى أمريكا).
في سنة 1965، قررت مطبعة جامعة كمبرج دمج الكتابيْن في كتابٍ واحد مع تعديلات اقتضتها التطوُّرات العلمية وفصولٍ إضافية. وظلَّت كُتب الدكتور غاموف تسيطر على السوق حوالي نصف قرن فتصدر في طبعات متتالية، والكتب المنافسة لها تأتي وتذهب. وفي عام 1999، كلّفت مطبعة جامعة كمبرج الأستاذ رُسيل ستانارد Russell Stannard (1931 ـ ) بتحديث كتاب الدكتور غاموف في ضوء النظريات الفيزيائية المستجدة. والأستاذ رُسيل ستانارد هو عالم بريطاني متقاعد متخصِّص في فيزياء الجزيئات، وفي تبسيط العِلم للأطفال، فقد أصدر ثلاثية العم ألبرت السردية المكوَّنة من الكتب التالية: "الزمان والمكان والعم ألبرت"، و"الحُفر السوداء والعم ألبرت" ، و" العم ألبرت ونظرية الكم"، وهي كُتُبٌ ترمي إلى تبسيط نظرية أنشتاين النسبية ونظرية الكمِّ للأطفال الذين تزيد أعمارهم على أحدَ عشرَ عاماً. وقد تُرجِمت هذه الكتب إلى خمسَ عشرةَ لغةً من لغات العالم. ونتيجة لعمل الأستاذ ستانارد في تحديث كتاب غاموف المزدوج، أصدرت مطبعة جامعة كمبرج كتاب "العالم الجديد للسيد تومبكنز"، سنة 1993، الذي تُعاد طباعته حاليّاً كلَّ عام.
يعتمد غاموف في تبسيط النظرية النسبية لأنشتاين على كتابة قصص قصيرة عن شخصٍ حالمٍ يُدعى السيد " س. ج. هـ . تومبكنز" يعمل كاتباً في أحد البنوك. وذات يومِ عطلة، رغب في تمضية الأمسية في مشاهدةِ شريطٍ سينمائي. وفيما كان يبحث في الجريدة اليومية عن أفضل شريط يمكن أن يشاهده، وقعتْ عيناه على إعلانٍ عن محاضرةٍ عامةٍ في جامعة المدينة يلقيها أستاذ الفيزياء عن نظرية ألبرت أنشتاين. فيقرِّر حضور المحاضرة. وما إن يبدأ المحاضر كلامه، حتى يغلب النعاس السيد تومبكنز، ويحلم بأنَّه يسافر في مغامرةٍ في الكون المنحني عبر الزمان. وفي قصص الكتاب الأخرى، تستمر أحلام السيد تومبكنز في القطار، وعلى ساحل البحر، وفي كل مكان يغلبه النعاس فيه. وكلُّ قصةٍ أو حُلم من هذه الأحلام يتناول جانباً من النظرية النسبية.
ألَن ليتمَن وكتابه " أحلام أنشتاين":
ولِد العالِمُ الأديبُ الأمريكيُّ ألَن لايتمَن Alan Lightman في مدينة ممفِس في ولاية تنسي سنة 1948. وتلقّى تعليمه العالي بجامعة برنستون الشهيرة ومعهد كالفورنيا التكنولوجي حيث نال شهادة الدكتوراه في الفيزياء النظرية. وراح ينشر دراساته العلمية وأبحاثه التقنيَّة في أرقى المجلات الأكاديمية. ولم تقتصر مؤلَّفاته على الكتب المرجعية الخمسة التي تتناول قضايا العلم والتكنولوجيا، وإنّما اشتملت كذلك على مجموعتيْن من المقالات الأدبية، ومجموعةٍ شعرية، وخمسِ روايات. وقد تولّى لايتمان التدريس في جامعة هارفرد، ثمَّ انتقل إلى معهد ماسشوست التكنولوجي الذائع الصيت، الذي أسند إليه تدريسَ موادَ علميةٍ وأدبيةٍ في آنٍ واحد، وهذا ما لم يحدث من قبل في تاريخ هذا المعهد المرموق.
حققتْ روايته " أحلام إنشتاين " نجاحاً هائلاً، فتُرجِمت إلى أكثر من ثلاثين لغة في العالم. وتتألَّف هذه الرواية من مجموعةِِ قصصٍ قصيرة، تمثّل كلُّ واحدة منها حُلماً من أحلام العالِم إلبرت إنشتاين الذي وضع النظرية النسبية، حينما كان يعمل في مكتبٍ لتسجيل براءات الاختراع بمدينة بيرن في سويسرة سنة 1905. فعندما كان ذلك الشابُّ العبقريُّ منهمكاً ببناء نظريته النسبية، التي هي بمثابة مفهوم جديدٍ للزمان، راح يتخيّل عوالمَ متعدّدةً ممكنة. ففي أحد هذه العوالم يكون الزمان دائرياً فيُكتَبُ على الناس فيه إعادة نجاحاتهم وإخفاقاتهم المرَّة تلو الأخرى. وفي عالم آخر يقف الزمان ساكناً، وفيه مكان يزوره الأحباب وهم متعانقون، والآباء وهم يحتضنون أطفالهم، دون حراك. وفي عالمٍ ثالث، تكون فيه دورة الزمان سريعة لدرجة أنَّ حياة المرء لا تزيد عن يومٍ واحد. فَمَن يولد بعد غروب الشمس، يميل إلى حياة الليل ويزاول المهن المنزلية ويزعجه ضوء النهار، وأمّا مَن يولَد بعد شروق الشمس، فيولَع بمزاولة المهن في الهواء الطلق كالزراعة، ويخيفه ظلام الليل.
وكما هو واضح من العنوان، فإنَّ الدكتور ألَن لايتمَن استخدم تقنية " الحُلم" في روايته " أحلام أنشتاين"، وهي نفس التقنية التي سبق أن استخدمها الدكتور غاموف قبله في كتابه " مغامرات السيد تومبكنز". إضافة إلى ذلك، فإنَّ البناء السردي في كلتا الروايتيْن متماثل. فكلُّ روايةٍ تتألَّف من مجموعةٍ من الأحلام، كلُّ حلمٍ في قصةٍ قصيرة، وتكوِّن هذه القصص بمجموعها روايةً كاملةً عمودها الفقريّ المشترك هو النظرية النسبية ذاتها.
وهنا يتساءل المرء ما إذا كان الدكتور لايتمَن قد تأثَّر بكتاب الدكتور غاموف.
يقول العالِم الفيزيائي الأستاذ ستانارد في مقدِّمته للطبعة الجديدة المزيدة لرواية غاموف، إنَّه على الرغم من أنَّ غاموف ألّفَ روايته لعامَّة المثقَّفين غير المتخصِّصين، فإنَّه ما مِن عالِمٍ فيزيائيٍّ لم يقرأ رواية غاموف في فترةٍ ما، من فترات حياته. والسؤال الذي يطرح نفسه، كما يقولون، هو: هل اِطَّلع الدكتور ألَن لايتمَن على رواية غاموف؟ وما مدى تأثُّره بها عندما كتبَ روايته " أحلام أنشتاين" ؟
من المحتمل جداً أنَّ لايتمَن قرأ رواية غاموف في شبابه. ولكن من التسرُّع بمكان أن نستنتج أن لايتمَن قد تأثَّر بغاموف على الرغم من أن لايتمَن قد استعمل تقنية الحُلم التي استخدمها غاموف قبله، وهيكلَ روايته على منوال روايته.
فالحُلم هو التقنية الروائية المناسبة لسرد أحداث خيالية أو افتراضات تتعلّق بالكون والزمان. وحتى لو استخدم هذان الروائيان هيكلةً سرديةً واحدةً وبناءً روائياً واحداً، فإِنَّهما يختلفان في المضمون والأسلوب. فمع أنَّ مضمون الروايتيْن يستند إلى نظرية أنشتاين، فإنَّهما تناولا محاور من هذه النظرية، بعضها مشتركٌ وبعضها مختلفٌ. أمّا الأسلوب فهو متباينٌ تماماً في الروايتيْن.
يميل أسلوب غاموف إلى نوعٍ من التقريرية والمباشرية، إِذ إنّه يضطرُّ أحياناً إلى إيرادِ بعض المعادلات الرياضية داخل فصول الرواية. وحتى الحروف الأولى من اسم بطل رواية غاموف، "السيد س.ج.هـ. تومبكنز"، ترمز في اللغة الإنكليزية إلى ثلاثة ثوابت فيزيائية هي s = ثابت سرعة الضوء ، و g= ثابت الجاذبية، وh = ثابت الكم؛ وهي ثوابت يجب أن تحلَّ محلَّها عواملُ لا حصر لها قبل أن يستطيع المرء ملاحظة تأثيرها وأثرها. وفي نظري أنَّ الرموز العلمية والمعادلات الرياضية والفيزيائية هي من خصائص لغة العِلم، وليس لغة الأدب التي تحلّق في الخيال وتتحرر من الضوابط الدقيقة الوجيزة. كما أنَّ هذه المعادلات الرياضية والفيزيائية التي استعملها غاموف، تتنافى قليلاً مع غاية تبسيط العلم ومع الأسلوب الأدبي الذي يختلف عن الأسلوب العلمي. وهذا يذكّرني بالعالِم البريطاني الشهير ستيفن هوكنز Stephen Hawkins أستاذ الرياضيات والفيزياء النظرية والفلك الكوني في جامعة كيمبرج، والمتخصّص في الحفر (أو البقع ) الكونية السوداء، الذي أُصيب بمرض أدّى إلى شلل بدنه بأكمله، ما عدا دماغه وبعض أصابعه، فصنعوا له كرسيّاً خاصّاً مزوداً بحاسوب وبرامج تحوِّل ما يختاره من كلمات وعبارات مكتوبة على شاشة الحاسوب إلى جملٍ صوتيةٍ مسموعة، لتمكينه من إلقاء محاضراته على كبار العلماء في جامعتي كيمبرج البريطانية وهارفارد الأمريكية. وذاتَ يومٍ، قابله أحد الناشرين الكبار، واقترح عليه تبسيط نظرياته في علم الفلك والحفر السوداء في كتابٍٍ لعامَّة المثقَّفين، وليس للعلماء المتخصّصين. فوافق هوكنز على تأليف الكتاب، فاشترط الناشر أن يكون الكتاب خالياً من المعادلات الرياضية والفيزيائية . فوافق هوكنز على ذلك باستثناء معادلة واحدة. وهكذا ألّف كتابه الذائع الصيت " التاريخ الوجيز للزمان" Brief History of Time. الذي تُرجِم إلى أكثر من ثلاثين لغة في العالم.
إذا كان أسلوب غاموف متأثّراً بالأسلوب العلمي في موضوعيته وتقريريته ومباشريته، فإنَّ أسلوب لايتمَن قد جمع بين الموضوعية العلمية والخيال الأدبي الجموح، تماماً كما جمع صاحبه بين البحث العلمي من جهةٍ، وكتابة الشعر والرواية والمقالة الأدبية من جهةٍ أُخرى. وهو جمع بين الأضداد لا يتأتّى إلا للعباقرة من العلماء الأدباء الأفذاذ.
نعم، يتميّز أسلوب السرد لدى ألَن لايتمَن بخصائص الأسلوب العلمي من حيث: الإيجاز، ووضوح اللغة، وبساطتها، وقصر الجمل، ودقَّة التعبير أي التطابق بين المفهوم واللفظ الذي يعبِّر عنه، وضبط طول كلِّ فصلٍ من الفصول الخمسة والثلاثين في روايته، فكلُّ فصل يقع في ثلاث صفحات فقط، لا أكثر ولا أقلّ. كما أن توزيع فصول الرواية (أو الأحلام أو القصص القصيرة) جاء على نسق هندسي دقيق، يتمثّل في المعادلة التالية:
مدخل + 8 أحلام + فاصلة + 8 أحلام + فاصلة + 6 أحلام + خاتمة = 35 قصة قصيرة = رواية
بَيْدَ أنَّ أسلوبه يتحرّر من خصائص اللغة العلمية وانضباطها، من حيث إيرادُ ألفاظٍ مجازيةٍ مبتكرة غير مبتذلة، ورسمُ صورٍ مجازيةٍ نادرة غير مستهلكة، والإتيانُ بلغةٍ شعريةٍ شفّافةٍ حالمة. وعندي، أَنّ المجاز هو الفيصل بين العلم والأدب، بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم، بل حتى بين العقل والجنون. وكما تتعانق القصص القصيرة في " أحلام أنشتاين" وتلتحم لتلد روايةً جميلة، فإنَّ الصور المجازية في كلِّ قصَّةٍ تتضافر وتتشابك لتشكّل صورةً مجازيةً هائلةً متكاملة، أو بالأحرى، لوحةً تشكيليةً فنِّيَّةً خلابة، مطرَّزةً بلمساتٍ شعريةٍ رقيقةٍ رشيقةٍ أنيقةٍ، بريشةِ فنّانٍ ماهرٍ ماكرٍ ساحرٍ.
لقد استخَدمَ الدكتور ألَن لايتمَن في روايته تقنياتٍ سرديةٍ، معروفةٍ من قبل أو جديدةٍ خاصَّةٍ به. استخدم هذه التقنيات بفطنةٍ ومهارة لينتج الأثر المطلوب في نفس القارئ. فقد استعمل تقنية التكرار بأشكال متعدّدة، كأن يكرِّر فاتحة القصة في خاتمتها لتعطي الانطباع بالدوران والاستمرار. وفي الفصل الموسوم بـ " 25 حزيران/يونيو 1905"، مثلاً، استعمل التكرار: تكرار الكلمات، وتكرار العبارات، وتكرار الجمل الكاملة؛ ليكثّف الانطباع بالهدوء والسكون والخمول في يوم العطلة الأُسبوعية، تماماً كما تتكرّر أنغام آلة السيتار الهندية لتبعث على الاسترخاء والنوم، فقال:
" عصر يوم الأحد. الناس يتنزّهون في شارع الآر، وهم مُتلفِّعونَ بملابس يوم الأحد، وقد امتلأت بطونهم بغداء يوم الأحد، ويتحدَّثون بصوتٍ خفيض بجانب خرير النهر. الحوانيت مغلقة.... صاحبُ نُزُلٍ ... ، يتّكئ على الحائط الحجري، ويغمض عينيْه. الشوارع نائمة. الشوارع نائمة، وتطفو في الجوِّ أنغامٌ موسيقيةٌ منسابةٌ من آلةِِ كمان."
لاحظ التلاعب المقنَّن في طول العبارات، وهو تقنية أُسلوبية أُخرى. ففي آخر النصّ أعلاه تجد عبارتيْن قصيرتيْن مكرَّرتيْن، تتلوهما عبارةٌ طويلةٌ جداً. تماماً كما لو كنتَ تشاهد الأمواج على شاطئ البحر: موجةٌ صغيرةٌ، فموجةٌ صغيرةٌ، تتبعهما موجةٌ طويلةٌ عالية فتجتاحهما تماماً. منظرٌ يأسرُ انتباهك، ويغريك بمتابعة التأمُّل. فالكاتب يريد أن يعطي الانطباع بالكسل والخمول في تلك المدينة عن طريق تكرار الألفاظ؛ ولكنّه، في الوقت نفسه، يريد الإبقاء على انتباه القارئ وانجذابه إلى النصِّ المتدفِّق كأمواج البحر، عن طريق التفاوت في طول العبارات.
إضافة إلى التقنيات السردية المتنوّعة، فإنَّ الدكتور ألَن لايتمَن، متمكّنٌ من لغته، عالِمٌ بأسرارها، حاذقٌ في استعمالها. فهو يطوِّع الألفاظ والصيغ والتراكيب اللغوية لخدمة فرضياته العلمية ومراميه الروائية. فصياغة العبارات والجُمل تختلف من نصٍّ إلى نصٍّ في الرواية. فمثلاً، في قصة " 15 أيّار/ مايو 1905" ، حيث يتصوَّر عالَماً خالياً من الزمان، نجد أنَّ نصَّ القصَّة بأكمله خالياً من أيِّ فعلٍ من الأفعال: لا الفعل الماضي، ولا الفعل المضارع، ولا الفعل الدالِّ على المستقبل. مجرّد أسماء وصفات وحروف. لماذا؟ لأنّنا إذا أخذنا تقسيم النحو التقليدي للألفاظ على: اسم وفعل وحرف، أو كما يقول ابن مالك في مطلع ألفيّته:
كلامُنا لفظٌ مفيدٌ كَـ "استقمْ"، واسمٌ وفعلٌ ثُمَّ حرفٌ، الكَلِمْ
فإنَّ الاسم ما دلَّ على معنىً مستقلٍ بالإدراك غيرِ مقترنٍ بزمنٍ معيَّن. والحرف ما دلَّ على معنىً غيرِ مستقلٍ بذاته، وإنَّما يربط معاني المفردات بعضها ببعض. أمَّا الفعل فهو ما دلَّ على حدثٍ مقترنٍ بزمنٍ معّين: الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل.
ولهذا فعندما يتصوَّر أنشتاين في حُلمه، أو بالأحرى الدكتور لايتمَن في قصته المذكورة، عالماً خالياً من الزمان، فإنَّه يكتب النصَّ بأكمله خالياً من الأفعال على النحو التالي:
" طفلةٌ على الشاطئ، مسحورةٌ برؤيتها المحيط أوَّل مرَّة. امرأةٌ واقفةٌ على شرفةٍ في الفجر، بشعرها المسدل، ومنامتها الحريرية الفضفاضة، وقدميْها الحافيتيْن، وشفتيْها. والطّاق المقوّس في الرواق بالقرب من نافورة زاهرنغر في شارع كرام، من صخرٍ رمليٍّ وحديد. رجلٌ جالسٌ في مكتبه الهادئ، حاملٌ صورةَ امرأة، ونظرةٌ أليمة على وجهه. عُقابٌ معلَّقٌ في السماء، جناحاه مبسوطان، أشعةُ الشمس نافذةٌ من خلال ريشه. فتىَ جالسٌ في قاعةٍ فارغة، خافق القلب، كما لو أنّه على خشبة المسرح. آثارُ أقدامٍ على الثلج في جزيرة شتوية. قاربٌ على الماء في الليل، وأضواؤه خافتةٌ على البُعد، مثل نجمة حمراء صغيرة في السماء الداكنة. صندوق حبوب طبيّة مقفل. ورقةُ شجرةٍ على الأرض في الخريف، حمراءُ، ذهبيةٌ داكنةٌ، رقيقة. امرأةٌ جاثية بين الشجيرات، متربصةٌ بالقرب من منزل زوجها الذي هجرها، الذي لا بدَّ من الحديث معه. غبارٌ على عتبة النافذة..."
وهكذا يستمرُّ النصُّ حتى نهايته، صوراً بلا حَدَثٍ، بلا حركة، أي بلا فعل، بل بأسماءَ وحروفٍ فقط، لأنَّ صاحب الحُلم يفترض، في هذه القصّة بالذات، وجودَ عالَمٍ خالٍ من الزمان. ولذلك يخلو النصُّ من زمنٍ معيّن: ماضٍ أو حاضر أو مستقبل، وإنّما مجرِّد ذوات وكائنات متجمِّدة لا حركة لها. فالحركة من فِعل الزمان. وهذا العالم المفتَرَض بلا زمان. وفوق ذلك كلِّه، فإن لايتمَن يكتب هذا النصَّ في فقرة طويلة واحدة دون أن يقسِّمه إلى فقرات، لأن التقسيم يوحي بشيءٍ من الحركة، وهذا العالم المفترض يخلو من الزمان، أي أنه يخلو من الحركة.
وفي حلم آخر، " 11 حزيران 1905" يتصوُّر عالَماً بلا مستقبل، فيخلو النصُّ من الأدوات الدالة على المستقبل مثل " السين" و " سوف".
إنّ لغة الدكتور لايتمَن في هذه الرواية مشرقة، واضحة، بسيطة، تخلو من الألفاظ الحوشية والتراكيب المعقَّدة التي قد تحجب المعنى. ولكن مع ذلك، فإنَّ ترجمتها ليست بالهيِّنة، لعدّة أسباب، أهمُّها أنَّ نصوصه ذات حمولةٍ علميةٍ ترتبط بالنظرية النسبية المعقّدة؛ ومنها أنَّ النصوص تتعلّق بعوالم مفتَرضة غير مألوفة للقارئ. ومنها أنَّ الكلمات الإنكليزية بسيطة قد يفهمها القارئ/المترجم بمعناها العامِّ، في حين أنَّ المؤلِّف استعمل بعضها بمعناها العلميّ الخاصّ. وأقلُّ أسباب الصعوبة شأناً نابعةٌ من أنَّ الكلمة الأساسية في هذه الرواية هي Time . وهذه الكلمة، في اللغة الإنكليزية، مشتركٌ لفظيُّ، تقابله في العربية ثلاثُ كلماتٍ تخلتفُ في دلالاتها واستعمالاتها، وهي: الزمان، والزمن، والوقت، دون الدخول في مفاهيم الأبد والدهر وغيرهما. ففي الاستعمال العربي الأصيل، يُعدُّ (الزمان) لفظاً عاماً شاملاً يدلُّ على حركة الكون؛ وهو يتألَّف من (زمنٍ) ماضٍ، و(زمنٍ) مضارع، و(زمنٍ) مستقبل؛ فـ (الزمنُ) فترةٌ من الزمان، كما في قولنا: " زمن الصِّبا ولّى" أو كما يقول نزار قباني في قصيدته " إلى نهدَيْن مغرورين:
"عندي المزيدُ من الغرور
فلا تبيعيني غرورا...
من حُسنِ حظِّكِِ
أَنْ غَدَوتِ حبيبتي
زمَناً قصيرا".
و(الوقت) جزءٌ صغير من (الزمن)، كما في قولنا: "وقت الصبح " أو " دخل وقتُ صلاةِ العصر" أو كما قال الشاعر ديك الجن الحمصي الذي قتل حبيبته بسبب وشايةٍ كاذبةٍ، ثمَّ قتله الندم والأسى:
قولي لِطَيْفـِكِ يَنْثَني عنْ مَضْجَعي وَقتَ الرّقادْ
كَي أَستَريحََ وتَنطَفي نارٌ تأجَّـجُ في الفـؤادْ
وقد يقع الخلط في الاستعمال مجازاً، أو بسبب استعمال العامِّ للخاصِّ وبالعكس.
فإذا لم يكُن المترجم ملمّاً بالمبادئ العلمية التي تدور حولها الرواية، ولم يوجّه انتباهاً شديداً إلى كلِّ لفظةٍ في معانيها المركزية والهامشية والمجازية والمختّصة، ولم يبذل عنايةً خاصةً بالتقنيات السردية الموظَّفة في النصوص، فقد يفوته الشيءُ الكثير (والله أعلم كم فاتني شخصياً من مقاصد المؤلِّف). تصوّر فقط، كيف يمكن للمترجِم أن يُفسِد مقاصد المؤلِّف الأصلي الذي يكرّر اللفظ نفسه عدَّة مرات لإنتاج أثرٍ معينٍ في نفس القارئ، فيأتي (المترجِمُ) بمترادفاتٍ مختلفة لذلك اللفظ، تمشياً مع الذائقة العربية.
لقد تُرجِمَتْ رواية " أحلام أنشتاين" إلى أكثر من ثلاثين لغة، وألهمت الكتّاب، والسينمائيين، والموسيقيين، والمسرحيين، والرسّامين في جميع أنحاء العالم. وإذا كان الدكتور لايتمَن، في هذه الرواية، قد سبح بخياله المتوثِّب في عوالم عجائبيةٍ محتملةٍ لا محدودة، ووضع أُسساً جديدة تقوم عليها علاقة العِلم بالأدب؛ فإنّه بَيَّنَ لنا كذلك، بأسىً وحزنٍ عميقيْن، مدى هشاشة الحياة البشرية وضعف الإنسان.
التعليقات
|
|