محمد آيت لعميم، العراق في القلب.. دراسات في حضارة العراق
(العراق في القلب.. دراسات في حضارة العراق)
نقلا عن موقع ستار تايمز
لا أحد يجادل في أن العراق أرض الحضارة والتمدن منذ آلاف السنين، وأنه مهد الديانات السماوية، وأرض النصوص والأساطير المؤسسة للخصوبة والانبعاث، وبلد تتعايش فيه الأعراق والديانات والعقائد والمذاهب والملل والنحل.
فالإنسانية مدينة للعراق وشعبه بالكثير. من خلال هذا العطاء الثر والمتجدد عبر الأحقاب، تكمن الصعوبة في الحديث عن العراق كحضارة خالدة. فعن أي عراق يمكننا الحديث؟ فالعراق مقام جمع: عراق السومريين والبابليين والآشوريين، وعراق العباسيين، وأخيراً العراق الحديث. يمكننا أن نتساءل عن الحضارة العراقية: اتصال هي أم انفصال؟ ما هو الخيط الناظم لهذه التنويعات الحضارية؟ ما القاسم المشترك بين العراق قديماً وحديثاً؟ سنحاول أن نجيب عن هذه التساؤلات، مستنطقين العمل الرصين والجاد للكاتب العراقي والمترجم والمعجمي الدكتور علي القاسمي الذي اختار لكتابه عنواناً ملائماً لوضعية المغترب:
(العراق في القلب) وعنواناً فرعياً يلائم مضامين الكتاب: (دراسات في حضارة العراق). دلالة العنوان العنوان هو العلامة الأولى التي تؤسس ميثاق القراءة، وتؤشر إلى طبيعة أفق الانتظار. والحالة هذه، فعنوان هذا الكتاب يتحمل وظيفتين: إحداهما موضوعية تشير إلى محتوى الكتاب، وهي موضوعة العراق وحضارته، والثانية وظيفة شكلية تحيل إلى شكل الكتاب، فهو عبارة عن دراسات.
فالعنوان الأساسي ذو حمولة عاطفية تشير إلى حقل الأحاسيس؛ فالكاتب، وهو بعيد عن موطنه الأصلي، يحمل عراقه في قلبه؛ والقلب مكان العواطف النبيلة ومكان الخوف. وعلى هذا الأساس، فالقاسمي أمام مشاهد الدمار في العراق، لا يسعه إلا أن يضع يده على قلبه خوفاً على هذا البلد العريق، محاولاً إنقاذه من خلال الذاكرة الحية.
فالمرجع المتحدث عنه لم يعد مرجعاً خارجياً، إنه مرجع باطني؛ إذ عراق القاسمي هو عراق الذاكرة والذكريات العالقة بذهنه عندما غادر العراق. ولما كان العنوان المركزي - كما أسلفنا ذا حمولة عاطفية وذاتية، فمن المرتقب أن نعثر على ذات الكاتب حاضرة في دراساته ومقالاته داخل الكتاب. أما الشطر الثاني من العنوان (دراسات في حضارة العراق) فهو ذو حمولة أكاديمية؛ فالدراسة من الدرس تقتضي الغربلة والتوثيق والتمحيص وممارسة النقد.
الريادة ورهان الكتابة
ابتداءً من التقديم الذي جاء بمثابة جواب عن سؤال مؤرق ألقته بنت الكاتب على أبيها حول الحب اللامشروط للعراق من طرف التلاميذ، يتجلى لنا رهان الكاتب؛ إنه رهان مزدوج حاول من خلاله أن يبرز الدور الريادي للعراق، والقدرة على النهوض من الكبوة كعنقاء الرماد الآشورية، وانتظار الخصب والنماء والحب الذي ستنشره عشتار.
لقد صيغ التقديم بطريقة عدد فيها الكاتب مظاهر وتجليات الحضارة العراقية، وكلها مظاهر رائدة؛ ففي العراق ظهرت الكتابة والقراءة والمدارس الرسمية، وعلوم الحساب والفلك والكيمياء والموسيقى والنحت والرسم، والقوانين، والملاحم الشعرية، والعراق هو مهبط الرسالات السماوية، ومنبع الأولياء والشهداء والصديقين. وفيه بُنيت أول المدن التي اختطها المسلمون وهي البصرة مدينة الحسن البصري، وواصل ابن عطاء، والفراهيدي، وسيبيويه، والجاحظ، وأبى نواس، ورابعة العدوية، وإخوان الصفا، وابن الهيثم. وفي هذه المدينة دُوّنت أولى كتب الفقه والحديث والمعاجم، وجُمعت أشعار العرب لأول مرة، ووضع علم العروض. ومن البصرة انطلقت السن لنشر الإسلام في آسيا، وخلال هذه الأسفار ظهرت بواكير السرد العربي (السندباد، وعلي بابا والأربعين حرامي). وفي بغداد ابتكر العربُ الورقَ الصقيل، وكتب الكندي فلسفته، ونظّم الرازي أرفع المستشفيات، وخرجت الموسيقى إلى الأندلس، وتُرجمت فلسفة اليونان، وحكمة الهند، وآداب الفرس، وأُنشئ بيت الحكمة، والجامعة المستنصرية، وأُلفت قصص ألف ليلة وليلة، وفُتحت أولى المقاهي العامة قبل ألف عام.
من خلال هذا التلخيص المكثّف لمظاهر الريادة الحضارية، يمكننا الإمساك بالنواة الصلبة لمجمل الكتاب؛ والخُطاطة التنظيمية لموضوعاته؛ فقد رسم الكاتب خطاً تنازلياً ابتداءً من إبراز المظهر الحضاري الذي تأسس مع الحضارة السومرية، والمظهر الفكري (أبو حنيفة)، والمظهر العمراني (بناء مدينة بغداد)، والمظهر السياسي (صلاح الدين الأيوبي)، والمظهر الأدبي (مجموعة من الرموز الأدبية في العراق تحمّلت عبأ الاغتراب والمنفى).
فهذه الخُطاطة تحتوي على بنية الكتاب المضمرة وعلى الآليات الذهنية التي تحكّمت في طبيعة انتقاء الموضوعات والشخصيات المُتناولة في الكتاب.
السومريون والتأسيس الحضاري خصَّص الكاتب ثلاث مقالات هي عبارة عن عرض وتلخيص لكتب تناولت أهم المظاهر التي شكلت اللحظة السومرية باعتبارها تجلٍّ تأسيسي للحضارة الإنسانية. ولحظة التأسيس هذه تعكس شبكة من المظاهر الريادية للتمدّن.
ف(السومريون قوم نوح)، المقالة الأولى في الكتاب، هي قراءة في كتاب (قوم نوح) للدكتور بهاء الدين الوردي الطبيب والرسام والشاعر المقيم في مدينة مراكش - وهو سليل أسرة علمية من مدينة الكاظمية، ومن أسرته عالم الاجتماع المرحوم الدكتور علي الوردي صاحب كتاب (وعاظ السلاطين) تعلم الوردي اللغة السومرية في مدينة مراكش على يد أستاذه الصيدلي سمير عبد الله. وقد ألّف الوردي معجماً للغة السومرية.
الكتاب الذي عرضه القاسمي هو تفسير لبعض الآيات القرآنية خاصة تلك المتعلقة بقصة الطوفان والفُلك الذي صنعه نوح لإنقاذ الصالحين من عشيرته، وهو تفسير مستحدث لم يُسبق إليه، لأنه تناول قوم نوح من حيث تاريخهم وأوضاعهم الاجتماعية وأحوالهم الاقتصادية، ومعتقداتهم الدينية، وعاداتهم، وطقوسهم، ولغتهم وآدابهم، مستنداً في ذلك إلى الأدلة العلمية مثل الحفريات، والرُقم والألواح، والآداب السومرية - الأكدية.
أكد الوردي أن قصة الطوفان هي جزء من تاريخ السومريين الذين استوطنوا جنوب العراق قبل آلاف السنين، مؤكداً عروبتهم، منتقداً الآراء التي تذهب إلى أنهم من أرمينية وشرق بحر قزوين. وقد أبرز ريادتهم الحضارية، فهم أول من ابتكر الكتابة، وأسس المدارس النظامية، وصنع العجلة، وقسّم الزمن إلى وحدات محددة، واخترع المحراث، وطوّر أنظمة الحكم وسنّ القوانين لضمان العدالة.
وهذا ما دفع العالم الأمريكي نوح كريمر إلى القول إن التاريخ يبدأ من سومر. عرفت اللحظة السومرية ظهور مجموعة من الرُّسل والأنبياء وهم نوح وإبراهيم وهود وصالح ويونس. فالنبي الأول هو الأب الثاني للبشرية بعد الطوفان، والنبي الثاني هو أبو الأنبياء.
هنا نلاحظ أن اللحظة السومرية هي لحظة تأسيس وريادة على المستوى الديني والعلمي والحضاري.
أكد القاسمي أن بهاء الدين الوردي من خلال تمكنه من اللغة السومرية برهن علمياً على إعجاز القرآن الذي تعرض لقصة الطوفان، وعلى أمانة النبي محمد(ص) الذي لم يكن بإمكانه الاطلاع على تلك المعلومات، لأن الخط السومري لم تُحلّ رموزه إلا في أواخر القرن .۱۹ وقد تجلى الإعجاز القرآني في الترتيب الزمني للكواكب التي عبدها السومريون، وفي الترتيب الزمني للأنبياء الذين عاشوا في المرحلة السومرية في سورة الفرقان، وهو تسلسل زمني تأريخي أثبتت البحوث الأركيولوجية العلمية الحديثة مصداقيته.
أما المقالة الثانية (هو الذي رأى: ملحمة كلكامش) فهي عرض وتلخيص لمجموعة من المصادر التي تناولت هذه الملحمة التأسيسية، ككتاب طه باقر (ملحمة كلكامش) الذي صدرت طبعته الأولى عام ،۱۹۶۱ وكتاب عبد الحق فاضل (هو الذي رأى: ملحمة قلقميش) الصادر في بيروت عام .۱۹۶۲ واعتمد القاسمي على ترجمتين إنجليزيتين للملحمة وعلى مراجع أخرى عن تاريخ السومريين وحضارتهم وخصائصهم.
عرض القاسمي جوهر الملحمة الطافحة بالإشارات والرموز والدلالات، إذ تصوِّر الملحمة صراع الإنسان ضد التسلط ومكافحته للعدوان، وسعيه الحثيث للبحث عن نبتة الحياة التي وجدها الملك السومري كلكامش بعد سفر مضن ولكنه ضيّعها في طريق العودة. ولهذا قالت صاحبة الحان له: ابكِ، ياكلكامش، واذرف العبرات لأن الآلهة التي آثرت نفسها بالحياة هي التي قضت على الإنسان بالممات.
بعد ملحمة كلكامش الخالدة، ستحضر أسطورة عشتار وتموز من خلال المقالة الثالثة (عشتار إلهة الحب والخصب والجمال) كقراءة في كتاب (عشتار ومأساة تموز) للدكتور فاضل عبد الواحد. فأسطورة عشتار وتموز من الأساطير السومرية التي تحكي عن الإدراك القديم للإنسان في أن بقاءه يتوقف على أمرين أساسيين هما الغذاء والتناسل، فقد جمعت عنانا في شخصها الخصب.
نلاحظ أن هذه الأسطورة كانت رائدة في نشر الفكر الأسطوري في أنحاء العالم، فقد انتقلت عبادة عشتار من السومريين إلى الكلدانيين الذين سموها (عشّار)، وشعوب جنوبي الجزيرة العربية الذين سموها (عثار أو عطار)، والكنعانيين والعبرانيين الذين سموها عاشرا أو عشتروت، وورد اسمها في التوراة (أستر)، والإغريق لقبوها (أفروديت)، والرومان (فينوس). إن هذا الامتداد لأسطورة عشتار السومرية يصحّح مجموعة من المغالطات كرستها المركزية الغربية التي تؤرّخ لبداية الحضارة من اليونان.
بغداد، التجلي الحضاري للعمارة الإسلامية في المقالة التي خصّ بها مدينة بغداد (تجليات العمارة الإسلامية في تخطيط مدينة بغداد القديمة)، نلمس نبرة المحقِّق الذي يتصدى للآراء الخاطئة حول مدينة بغداد.
صحّح القاسمي أخطاء شائعة حول تسمية المدينة، فجُلّ الذين أرخوا للمدينة توجهت أنظارهم إلى اللغة الفارسية لتحقيق اسم المدينة، حيث إن أكثر التفسيرات شيوعاً هو القائل إن (باغ) تعني بستان و(داد) تعني عطية، فيكون معنى الاسم (البستان العطية). يفنّد القاسمي هذا الزعم ويؤكد أن الاسم ذو أصول سومرية أكدية، فقد كشفت الحفريات في موقع بغداد العريقة عن واجهة كبيرة مبنية بالآجر البابلي وعليها اسم الملك البابلي الشهير نبوخذ نصر. فبغداد في المعجم السومري تعني (قلعة الصقر) أو (هيكل الصقر). لقد بيّن القاسمي الأسباب وراء جعل المدينة مدورة، مستشهداً بالمؤرخ ابن الأثير الذي علل الشكل الدائري بدمقرطة المدينة، فيقول: وجعل المنصور المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض ويضيف تعليلاً لتيتوس بوركارت الذي تحدّث عن المدينة العجلة: التي تكشف لنا عن المفهوم الحركي للعالم، فهي بمثابة انعكاس لحياة البدو والرحّل المتحولين إلى الحياة الحضرية المستقرّة
يرى القاسمي مع سيد حسين نصر أن المبدأ الإسلامي الذي يحكم العمارة الإسلامية هو مبدأ الوحدة. فالإسلام هو دين التوحيد، ووحدة الخالق هي الأساس في الوجود، وجميع الموجودات والكائنات تعتمد في وجودها وعلاقاتها على قدرة الواحد القهار ومشيئته.
ففي العمارة الإسلامية يتلاشى وهم الفصل بين الديني والدنيوي. ويرى بوكارت أن المدينة الإسلامية وحدة واحدة تتلاشى فيها فردية المنازل كما يذوب الفرد في الجماعة.
محمد آيت لعميم
فالإنسانية مدينة للعراق وشعبه بالكثير. من خلال هذا العطاء الثر والمتجدد عبر الأحقاب، تكمن الصعوبة في الحديث عن العراق كحضارة خالدة. فعن أي عراق يمكننا الحديث؟ فالعراق مقام جمع: عراق السومريين والبابليين والآشوريين، وعراق العباسيين، وأخيراً العراق الحديث. يمكننا أن نتساءل عن الحضارة العراقية: اتصال هي أم انفصال؟ ما هو الخيط الناظم لهذه التنويعات الحضارية؟ ما القاسم المشترك بين العراق قديماً وحديثاً؟ سنحاول أن نجيب عن هذه التساؤلات، مستنطقين العمل الرصين والجاد للكاتب العراقي والمترجم والمعجمي الدكتور علي القاسمي الذي اختار لكتابه عنواناً ملائماً لوضعية المغترب:
(العراق في القلب) وعنواناً فرعياً يلائم مضامين الكتاب: (دراسات في حضارة العراق). دلالة العنوان العنوان هو العلامة الأولى التي تؤسس ميثاق القراءة، وتؤشر إلى طبيعة أفق الانتظار. والحالة هذه، فعنوان هذا الكتاب يتحمل وظيفتين: إحداهما موضوعية تشير إلى محتوى الكتاب، وهي موضوعة العراق وحضارته، والثانية وظيفة شكلية تحيل إلى شكل الكتاب، فهو عبارة عن دراسات.
فالعنوان الأساسي ذو حمولة عاطفية تشير إلى حقل الأحاسيس؛ فالكاتب، وهو بعيد عن موطنه الأصلي، يحمل عراقه في قلبه؛ والقلب مكان العواطف النبيلة ومكان الخوف. وعلى هذا الأساس، فالقاسمي أمام مشاهد الدمار في العراق، لا يسعه إلا أن يضع يده على قلبه خوفاً على هذا البلد العريق، محاولاً إنقاذه من خلال الذاكرة الحية.
فالمرجع المتحدث عنه لم يعد مرجعاً خارجياً، إنه مرجع باطني؛ إذ عراق القاسمي هو عراق الذاكرة والذكريات العالقة بذهنه عندما غادر العراق. ولما كان العنوان المركزي - كما أسلفنا ذا حمولة عاطفية وذاتية، فمن المرتقب أن نعثر على ذات الكاتب حاضرة في دراساته ومقالاته داخل الكتاب. أما الشطر الثاني من العنوان (دراسات في حضارة العراق) فهو ذو حمولة أكاديمية؛ فالدراسة من الدرس تقتضي الغربلة والتوثيق والتمحيص وممارسة النقد.
الريادة ورهان الكتابة
ابتداءً من التقديم الذي جاء بمثابة جواب عن سؤال مؤرق ألقته بنت الكاتب على أبيها حول الحب اللامشروط للعراق من طرف التلاميذ، يتجلى لنا رهان الكاتب؛ إنه رهان مزدوج حاول من خلاله أن يبرز الدور الريادي للعراق، والقدرة على النهوض من الكبوة كعنقاء الرماد الآشورية، وانتظار الخصب والنماء والحب الذي ستنشره عشتار.
لقد صيغ التقديم بطريقة عدد فيها الكاتب مظاهر وتجليات الحضارة العراقية، وكلها مظاهر رائدة؛ ففي العراق ظهرت الكتابة والقراءة والمدارس الرسمية، وعلوم الحساب والفلك والكيمياء والموسيقى والنحت والرسم، والقوانين، والملاحم الشعرية، والعراق هو مهبط الرسالات السماوية، ومنبع الأولياء والشهداء والصديقين. وفيه بُنيت أول المدن التي اختطها المسلمون وهي البصرة مدينة الحسن البصري، وواصل ابن عطاء، والفراهيدي، وسيبيويه، والجاحظ، وأبى نواس، ورابعة العدوية، وإخوان الصفا، وابن الهيثم. وفي هذه المدينة دُوّنت أولى كتب الفقه والحديث والمعاجم، وجُمعت أشعار العرب لأول مرة، ووضع علم العروض. ومن البصرة انطلقت السن لنشر الإسلام في آسيا، وخلال هذه الأسفار ظهرت بواكير السرد العربي (السندباد، وعلي بابا والأربعين حرامي). وفي بغداد ابتكر العربُ الورقَ الصقيل، وكتب الكندي فلسفته، ونظّم الرازي أرفع المستشفيات، وخرجت الموسيقى إلى الأندلس، وتُرجمت فلسفة اليونان، وحكمة الهند، وآداب الفرس، وأُنشئ بيت الحكمة، والجامعة المستنصرية، وأُلفت قصص ألف ليلة وليلة، وفُتحت أولى المقاهي العامة قبل ألف عام.
من خلال هذا التلخيص المكثّف لمظاهر الريادة الحضارية، يمكننا الإمساك بالنواة الصلبة لمجمل الكتاب؛ والخُطاطة التنظيمية لموضوعاته؛ فقد رسم الكاتب خطاً تنازلياً ابتداءً من إبراز المظهر الحضاري الذي تأسس مع الحضارة السومرية، والمظهر الفكري (أبو حنيفة)، والمظهر العمراني (بناء مدينة بغداد)، والمظهر السياسي (صلاح الدين الأيوبي)، والمظهر الأدبي (مجموعة من الرموز الأدبية في العراق تحمّلت عبأ الاغتراب والمنفى).
فهذه الخُطاطة تحتوي على بنية الكتاب المضمرة وعلى الآليات الذهنية التي تحكّمت في طبيعة انتقاء الموضوعات والشخصيات المُتناولة في الكتاب.
السومريون والتأسيس الحضاري خصَّص الكاتب ثلاث مقالات هي عبارة عن عرض وتلخيص لكتب تناولت أهم المظاهر التي شكلت اللحظة السومرية باعتبارها تجلٍّ تأسيسي للحضارة الإنسانية. ولحظة التأسيس هذه تعكس شبكة من المظاهر الريادية للتمدّن.
ف(السومريون قوم نوح)، المقالة الأولى في الكتاب، هي قراءة في كتاب (قوم نوح) للدكتور بهاء الدين الوردي الطبيب والرسام والشاعر المقيم في مدينة مراكش - وهو سليل أسرة علمية من مدينة الكاظمية، ومن أسرته عالم الاجتماع المرحوم الدكتور علي الوردي صاحب كتاب (وعاظ السلاطين) تعلم الوردي اللغة السومرية في مدينة مراكش على يد أستاذه الصيدلي سمير عبد الله. وقد ألّف الوردي معجماً للغة السومرية.
الكتاب الذي عرضه القاسمي هو تفسير لبعض الآيات القرآنية خاصة تلك المتعلقة بقصة الطوفان والفُلك الذي صنعه نوح لإنقاذ الصالحين من عشيرته، وهو تفسير مستحدث لم يُسبق إليه، لأنه تناول قوم نوح من حيث تاريخهم وأوضاعهم الاجتماعية وأحوالهم الاقتصادية، ومعتقداتهم الدينية، وعاداتهم، وطقوسهم، ولغتهم وآدابهم، مستنداً في ذلك إلى الأدلة العلمية مثل الحفريات، والرُقم والألواح، والآداب السومرية - الأكدية.
أكد الوردي أن قصة الطوفان هي جزء من تاريخ السومريين الذين استوطنوا جنوب العراق قبل آلاف السنين، مؤكداً عروبتهم، منتقداً الآراء التي تذهب إلى أنهم من أرمينية وشرق بحر قزوين. وقد أبرز ريادتهم الحضارية، فهم أول من ابتكر الكتابة، وأسس المدارس النظامية، وصنع العجلة، وقسّم الزمن إلى وحدات محددة، واخترع المحراث، وطوّر أنظمة الحكم وسنّ القوانين لضمان العدالة.
وهذا ما دفع العالم الأمريكي نوح كريمر إلى القول إن التاريخ يبدأ من سومر. عرفت اللحظة السومرية ظهور مجموعة من الرُّسل والأنبياء وهم نوح وإبراهيم وهود وصالح ويونس. فالنبي الأول هو الأب الثاني للبشرية بعد الطوفان، والنبي الثاني هو أبو الأنبياء.
هنا نلاحظ أن اللحظة السومرية هي لحظة تأسيس وريادة على المستوى الديني والعلمي والحضاري.
أكد القاسمي أن بهاء الدين الوردي من خلال تمكنه من اللغة السومرية برهن علمياً على إعجاز القرآن الذي تعرض لقصة الطوفان، وعلى أمانة النبي محمد(ص) الذي لم يكن بإمكانه الاطلاع على تلك المعلومات، لأن الخط السومري لم تُحلّ رموزه إلا في أواخر القرن .۱۹ وقد تجلى الإعجاز القرآني في الترتيب الزمني للكواكب التي عبدها السومريون، وفي الترتيب الزمني للأنبياء الذين عاشوا في المرحلة السومرية في سورة الفرقان، وهو تسلسل زمني تأريخي أثبتت البحوث الأركيولوجية العلمية الحديثة مصداقيته.
أما المقالة الثانية (هو الذي رأى: ملحمة كلكامش) فهي عرض وتلخيص لمجموعة من المصادر التي تناولت هذه الملحمة التأسيسية، ككتاب طه باقر (ملحمة كلكامش) الذي صدرت طبعته الأولى عام ،۱۹۶۱ وكتاب عبد الحق فاضل (هو الذي رأى: ملحمة قلقميش) الصادر في بيروت عام .۱۹۶۲ واعتمد القاسمي على ترجمتين إنجليزيتين للملحمة وعلى مراجع أخرى عن تاريخ السومريين وحضارتهم وخصائصهم.
عرض القاسمي جوهر الملحمة الطافحة بالإشارات والرموز والدلالات، إذ تصوِّر الملحمة صراع الإنسان ضد التسلط ومكافحته للعدوان، وسعيه الحثيث للبحث عن نبتة الحياة التي وجدها الملك السومري كلكامش بعد سفر مضن ولكنه ضيّعها في طريق العودة. ولهذا قالت صاحبة الحان له: ابكِ، ياكلكامش، واذرف العبرات لأن الآلهة التي آثرت نفسها بالحياة هي التي قضت على الإنسان بالممات.
بعد ملحمة كلكامش الخالدة، ستحضر أسطورة عشتار وتموز من خلال المقالة الثالثة (عشتار إلهة الحب والخصب والجمال) كقراءة في كتاب (عشتار ومأساة تموز) للدكتور فاضل عبد الواحد. فأسطورة عشتار وتموز من الأساطير السومرية التي تحكي عن الإدراك القديم للإنسان في أن بقاءه يتوقف على أمرين أساسيين هما الغذاء والتناسل، فقد جمعت عنانا في شخصها الخصب.
نلاحظ أن هذه الأسطورة كانت رائدة في نشر الفكر الأسطوري في أنحاء العالم، فقد انتقلت عبادة عشتار من السومريين إلى الكلدانيين الذين سموها (عشّار)، وشعوب جنوبي الجزيرة العربية الذين سموها (عثار أو عطار)، والكنعانيين والعبرانيين الذين سموها عاشرا أو عشتروت، وورد اسمها في التوراة (أستر)، والإغريق لقبوها (أفروديت)، والرومان (فينوس). إن هذا الامتداد لأسطورة عشتار السومرية يصحّح مجموعة من المغالطات كرستها المركزية الغربية التي تؤرّخ لبداية الحضارة من اليونان.
بغداد، التجلي الحضاري للعمارة الإسلامية في المقالة التي خصّ بها مدينة بغداد (تجليات العمارة الإسلامية في تخطيط مدينة بغداد القديمة)، نلمس نبرة المحقِّق الذي يتصدى للآراء الخاطئة حول مدينة بغداد.
صحّح القاسمي أخطاء شائعة حول تسمية المدينة، فجُلّ الذين أرخوا للمدينة توجهت أنظارهم إلى اللغة الفارسية لتحقيق اسم المدينة، حيث إن أكثر التفسيرات شيوعاً هو القائل إن (باغ) تعني بستان و(داد) تعني عطية، فيكون معنى الاسم (البستان العطية). يفنّد القاسمي هذا الزعم ويؤكد أن الاسم ذو أصول سومرية أكدية، فقد كشفت الحفريات في موقع بغداد العريقة عن واجهة كبيرة مبنية بالآجر البابلي وعليها اسم الملك البابلي الشهير نبوخذ نصر. فبغداد في المعجم السومري تعني (قلعة الصقر) أو (هيكل الصقر). لقد بيّن القاسمي الأسباب وراء جعل المدينة مدورة، مستشهداً بالمؤرخ ابن الأثير الذي علل الشكل الدائري بدمقرطة المدينة، فيقول: وجعل المنصور المدينة مدورة لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض ويضيف تعليلاً لتيتوس بوركارت الذي تحدّث عن المدينة العجلة: التي تكشف لنا عن المفهوم الحركي للعالم، فهي بمثابة انعكاس لحياة البدو والرحّل المتحولين إلى الحياة الحضرية المستقرّة
يرى القاسمي مع سيد حسين نصر أن المبدأ الإسلامي الذي يحكم العمارة الإسلامية هو مبدأ الوحدة. فالإسلام هو دين التوحيد، ووحدة الخالق هي الأساس في الوجود، وجميع الموجودات والكائنات تعتمد في وجودها وعلاقاتها على قدرة الواحد القهار ومشيئته.
ففي العمارة الإسلامية يتلاشى وهم الفصل بين الديني والدنيوي. ويرى بوكارت أن المدينة الإسلامية وحدة واحدة تتلاشى فيها فردية المنازل كما يذوب الفرد في الجماعة.
محمد آيت لعميم