أصدقاء الدكتور علي القاسمي

صباح الخير، أيُّها الشعر!


صباح الخير، أيُّها الشعر!

تم نشره في الجمعة 19 أيلول / سبتمبر 2014. 03:00 مـساءً
المقال من جريدة الدستور الأردنية

الدكتور علي القاسمي

    يُشرقُ وجهُكْ
        من بين عيونِ الكلماتْ
    أُدركُ أنّي أطوي صفحةَ رحلاتي
        وأقيّدُ خطوي
    لا غربةَ بعدُ ، ولا ترحالْ
        هأنذا أُلقي مرساتي
        أتشبّثُ باليوم الآتي
        فاروق شوشة
                         من قصيدة « عيون الكلمات»
المؤلِّف:
في الثامنة والسبعين من عمره المبارك، يتألق الشاعر الكبير فاروق شوشة مشعلاً من نشاط وإبداع وفكر ووطنية وعروبة وإنسانية. فهو الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة ومقررُ عددٍ من لجانه العلمية، وهو عضو في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وهو أستاذ جامعي، وهو صاحب البرنامج الإذاعي الشهير «لغتنا الجميلة»، وهو كاتب مقال ٍ في جريدة «الأهرام» يُشرق على القراء صباح كل يوم أحد، يمدّهم بشيء من ثقافة كاتبه الموسوعية، بلغته الجميلة المتدفقة الرقراقة مثل مويجات النيل المتهادية؛ ويعرّفهم بأهم الكتب الحديثة الصدور. ومعنى ذلك أنه يقرأ كتاباً واحداً على الأقل كلَّ أسبوع، ويعمل بجد ما لا يقل عن أربع عشرة ساعة كل يوم. وهو بذلك يدحض الخطأ الشائع بين بعض شبابنا والقائل إن الإبداع لا يتطلَّب سوى موهبة طبيعية وانتظار الوحي أو الإلهام.
عرض الكتاب:
دأب فاروق شوشة على أن يخص بمقاله الأسبوعي في جريدة «الأهرام» كتاباً يختاره بحسه الفني الأصيل، وذائقته الأدبية والحضارية المرهفة، ونظره الوطني الثاقب؛ فيعرض أهم ما فيه من أفكار وإبداع، ويقدّمه لقمة سائغة للقارئ الكريم، تفتح شهيته للثقافة وتغويه بالقراءة.
    وعرضُ الكتب فنٌّ أهمله الإعلام العربي، المقروء منه والمسموع، على حين أنه يحظى بعناية فائقة في البلدان التي تحرص على تثقيف المواطن وإغرائه بالقراءة.    فعرض الكتاب فن قائم بذاته، يُدرَّس في الجامعات الغربية وله أصوله وشروطه وتقنياته. فهو وصف للكتاب موضوع العرض، وتحليل نقدي له، وتقييم لنوعيته، ودلالاته، وأهميته؛ وليس تكراراً لمحتواه، ولا تلخيصاً له. وينبغي أن يركز العرض على هدف الكتاب، ومضمونه، ومرجعياته، وأن يُبرز موضوع الكتاب وإطروحة مؤلِّفه (وجهة نظره أو رأيه الخاص في المشكلة). ويتراوح العرض عادة بين 100و1500 كلمة، بحيث يغني القارئ عن قراءة الكتاب، أو يغريه باقتنائه إذا كان مهتماً بموضوعه.
وكتاب « ستون صباحاً» الصادر عن « دار غريب « في القاهرة، في 310 صفحة من الحجم المتوسط، يضمّ ستين مقالاً من مقالات المؤلِّف الأهرامية التي نُشرت منذ سنة 2010، وتتناول موضوعات فكرية ووطنية وقومية شاهدة على حياتنا وتحوّلات عصرنا. وفي هذه المقالات نلمس عناية المؤلّف بأدبية المقال، ولغته، وبنائه، إضافة إلى الثقافة التي تسربله.
عنوان الكتاب:
نفهم دلالة عنوان الكتاب من عتبة الإهداء التي يقول فيها: « إلى روح الناقد الكبير الدكتور عبد القادر القط الذي جمع عدداً من مقالاته التي كان ينشرها في جريدة
 «الأهرام» أسبوعياً، وأصدرها في كتاب عنوانه (أربعون صباحاً)، وأغراني بمتابعته في هذا العنوان الذي اخترته لكتابي، وهو « ستون صباحاً».
    ومن هذا الإهداء نقف على خصلتين من خصال المؤلِّف الأخلاقية: الوفاء والأمانة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب يمثل .حلقة ثانية بعد كتاب « جمر الكتابة» الذي أصدره شوشة عام 2010.
حرية الكاتب في بلادنا:
يتطرّق المؤلّف في مقدمة الكتاب إلى حرية الكاتب في بلادنا، فيقول عن زمن كتابة مقالاته : « وكان المناخ الثقافي والسياسي العام يؤكد لكل مَن يمسك بالقلم، وهو حريص على شرف الكلمة وأمانة المسئولية، بأنه كالقابض على الجمر في مواجهة تيارات وضغوط وأعاصير عاتية، تهب عليه من كل اتجاه» هدفها « أن تنجح  في دفع الكاتب المسئول دفعاً إلى المجاملة، أو الخروج على معايير الإنصاف وشروط الموضوعية، أو إرغامه على السكوت، إذا لم يكن بالإمكان إغراؤه بالسير في الطريق الذي يريدونه له، أو يحرضونه عليه.» ولعل المقصود بالإرغام على السكوت يشتمل على السجن أو النفي أو التصفية الجسدية.
الحس العروبي والديني في الكتاب:
تتناول أغلبية مقالات الكتاب أعمالاً شعرية لشعراء، ليس من مصر فحسب، بل من معظم  أقطار العروبة كذلك؛ حيث نجد، على سبيل المثال لا الحصر، عروضاً لمجموعات شعرية وكتب من مصر: قصائد لأحمد عبد المعطي حجازي، وكتاب تذكاري عن عز الدين إسماعيل؛ ومن العراق: ديوان « ذاهب لاصطياد الندى» لعلي جعفر العلاق، وكتاب « شهدتُ اختطاف وطن» لنيران السامرائي، و» ما يفوق الوصف» لسوزان عليوان؛ ومن اليمن: كتاب « الشاعر ذلك المجنون» لعبد العزيز المقالح؛ ومن لبنان : ديوان « ربيع الصيف الهندي» لهنري زغيب، وثلاثية تضم أعمال خالد زيادة؛ ومن سورية: « ديوان الفرح» لشوقي بغدادي؛ ومن السعودية: السيرة الذاتية « الفتى مفتاح» لعبد الفتاح أبو مدين، وديوان «الليالي وما طوته الليالي» لعمر كردي؛ ومن الأردن: ديوان « سماء أخرى» لمحمود شلبي، وغيرهم كثير.
    وعندما يكتب فاروق شوشة عن الشعر والشعراء، يتبدَّى لك  محباً لكل مَن يكتب عنهم، ومغرماً بكل ما كتبوا؛ يغمرهم بفيض من العواطف النبيلة، وبنسائم عليلة من الإطراء والثناء، بلغة تحمل صفاء اللؤلو النقي وأريج الخزامى الزكي. وتنتقل حرارة هذا العشق للثقافة من الكاتب إلى القارئ بشكل خفي، كما يسري الكلام الصادر من القلب إ لى القلب دون أن يطرق السمع أو يستأذنه. يقول، مثلاً ، عن صديقه عبد المعطي حجازي:
    «...فهو في قصائده الثلاث: إرادة الحياة، وعودة الروح، والطغاة، يصعد من مقام إلى مقام، ويختبر الوتر حالاً بعد حال، ماضياً في تجليات صعوده راقيا بلا توقّف،  بعد أن أحسًّ بأن الضربات الأولى تشي بنغم جديد وعزف فريد، وأن القيثارة حبلى بما لم يقله غيره، فليعزف على مسامعنا في تؤدة وثقة، وفي طرب وانفعال، وفي نشوةِ مَن اطمأن على امتلاك مستمعيه، والقدرة على تحريكهم، وغبطة من جرّب وذاق وعرف، مدركاً أنه لا يكتفي الآن بملامسة ما كان في السابق، وإنما هو يتجاوزه الآن، ويمعن في معراجه الشعري إلى الأقصى والأبعد قدراً وقيمة، وهو يلاحق شفقاً على سور المدينة، ....»
    ففي هذه الفقرة، يرسم لنا المؤلّف بريشته  الشعرية الفذة  لوحةً فنية، منظورها صوفي بمقاماته وأحواله وذوقه وعرفانه، وخطوطها دينية بأقصاها ومدينتها، وألوانها موسيقية بقيثارتها وأوتارها وعزفها. ففاروق شوشة لا يفارق الشعر أو لا يفارقه الشعر حتى إذا أراد أن يكتب النثر أو أن يتحدث إليك في شأنٍ عام.
أي شعر يحتفي به المؤلّف؟
عندما يتحدث إليك فاروق شوشة، يأتيك صوتُه منغَّماً، موقَّعاً، مموسقاً، كما لو كان قد انتشى لتوّه بالارتواء من  كتابَي عبقري العرب الخليل بن أحمد، «النغم « و»الإيقاع». وفي قصائده، العمودية منها والحرة، يتجلى  العروض العربي في أبهى صوره وأرقى أشكاله. فالوزن، عنده،  زهرة الشعر وشذاه. «واللافت للنظر أنَّ  فاروق شوشة من الشعراء القلائل الذين يتحكّمون في وزن الشعر، ولا يتحكّم فيهم الوزن، فهو لا يعجزه نمط من أنماطه، يستطيع السباحة في أيِّ بحرٍ بالتمكُّن نفسه والاقتدار ذاته.» كما يقول عنه صديقه الشاعر الناقد الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، أستاذ العروض في دار العلوم بالقاهرة. فالشعر الحر، لدى فاروق شوشة، ليس مطلق الحرية، بل هو منضبط بضوابط  التفعيلة، ولذلك يسميه بـ « شعر التفعيلة». أما ما يُسمى بقصيدة النثر فهو، في نظره، لون من الشعر الحر، لا ضابط له.
ونتيجة لهذا الموقف الفكري، فإن مقالات الكتاب لا تتناول أية  مجموعة شعرية تنتمي إلى قصيدة النثر، التي ازدهرت في البلاد العربية في المدة التي نُشرت فيها تلك المقالات ( اللهم باستثناء مجموعة « كل هذا الليل « للشاعر المصري محمد آدم). بل على العكس من ذلك نجد مقالة تحمل عنوان « تسميتان خاطئتان»، يقول فيها المؤلِّف: « تواجه قصيدة النثر منذ ظهورها في عالمنا العربي ـ حتى الآن ـ إشكاليتين أساسيتين: أولاهما، أن الاسم الذي أطلق عليها يتضمن تناقضاَ فادحاً بين كلمتي « قصيدة» و « نثر»، اللتين التحمتا معاً في صيغة لم تستسغها الذائقة العربية   وثانيتهما، افتقاد قصيدة النثر للمرجعية التي في ضوئها يمكن الحكم على القصيدة نغمياً وتمييز جيدها من رديئها، والتي بدونها لا يمكن اعتبارها فناً له ضوابطه وقواعده.»
    وهكذا ندرك أن مقياس المؤلّف للشعر الجيد هو الموسيقى وبخاصة النغم. فكل نص لا يدخل ضمن إطار الوزن، وابتعد عن الموسيقى، ليس من الشعر مهما كانت جمالياته.
مشكلة التعليم في بلادنا العربية :
في مقال عنونه « مجمع الخالدين يستلهم روح الشباب»  يتحدث المفكّر فاروق شوشة عن أسباب الاضطرابات الاجتماعية و» الثورات» التي تجتاح بلداننا العربية، وفي مقدمة هذه الأسباب التعليم باللغات الأجنبية في مرحلتي التعليم العام والتعليم الجامعي، وهو أمر مختلف عن تعليم اللغات الأجنبية الذي يعدُّ ضرورة من ضرورات التحديث والانفتاح على العالم وتبادل المعرفة والخبرات.
فالنظام التربوي في بلداننا العربية نظام طبقي يضم ثلاثة أنواع من المدارس : مدارس أجنبية تعلّم منهجاً أجنبياً بلغة أجنبية هي لغة المستعمِر القديم (الإنكليزية في بلدان المشرق والفرنسية في بلدان المغرب)، ويلج هذه المدارس أبناء رجال السلطة والمال؛ ومدارس أهلية أو حرة يملكها رجال الأعمال لأبناء الطبقة المتوسطة؛ ومدارس حكومية سيئة أو لا مدارس لأبناء عامة الشعب. وهذا النظام يتنافى وأبسط شروط التنمية البشرية التي تتطلب  قيام الدولة بتوفير تعليم جيد باللغة الوطنية المشتركة لجميع أبناء الشعب في كافة مناطق البلاد لتكوين مجتمع المعرفة ذي الهوية الوطنية الواحدة، القادر على تبادل المعلومات وتمثلها والإبداع فيها بسرعة ويسر.
ولمّا كانت الحكومات العربية مصرّة على استعمال اللغة الأجنبية في الإدارة والتعليم العالي العلمي والتقني والمؤسسات الاقتصادية والمالية كالشركات والبنوك، فإن خريجي المدارس الأجنبية هم الذين يتولون المراكز القيادية في الدولة على الرغم من جهلهم بلغة البلاد وثقافتها. أما خريجو المدارس الحكومية من أبناء عامة الشعب فمصيرهم البطالة بحيث يكونون وقوداً لأية اضطرابات اجتماعية أو «ثورات   شعبية.
يرى  فاروق شوشة أن التعليم باللغات الأجنبية « أمرٌ يحمل في طياته  خطراً مستقبلياً داهماً على هُوية المواطن المصري والعربي، وعلى انتمائه لثقافته وتاريخه وأمته، ويجعل من مجموع المواطنين أخلاطاً غير متجانسة عقلاً وفكراً وانتماء.   أي أن نظام التعليم عندنا يؤدي إلى انقسام مجتمعي بسبب اختلاف عقليات الخريجين في الأنواع المدرسية الثلاثة،  وهذا الانقسام المجتمعي يقود إلى اضطرابات اجتماعية، بلا شك.
خاتمة:
في هذه المقالات الستين، تلفت نظرنا ظاهرةٌ عجيبة بديعة، وهي أن المؤلّف لا يكرر نفسه، لا من حيث الأفكار ولا من حيث اللغة، فكل مقال يدور حول موضوع مختلف وفكرة مختلفة، ويُسبَك بلغة جديدة في ألفاظها، وتراكيبها، ومجازاتها، وأسلوبها. ففاروق شوشة كنهر النيل الذي لا يمكن أن تنزله مرتين، لأن ماءه متغيّرٌ دائماً، متجددٌ أبداً.

مقالات ذات صلة