غزالٌ يستجيرُ بفلاحٍ بقلم الدكتور علي القاسمي
غزالٌ يستجيرُ بفلاحٍ
نقلا عن صحيفة المثقف
في طفولتي في بلدة الحمزة الشرقي في محافظة القادسية، في الأربعينيات من القرن الماضي، لم تكن ثمة وسائل اتصال حديثة كالراديو والتلفزيون، فلم تكن الكهرباء قد وصلت بلدتنا بعد. والتسلية الوحيدة في النهار تتمثل في اللعب مع الأطفال الآخرين بالمدرسة أو في طرقات البلدة. وفي الأمسيات كان أبي وأمي يرويان لنا نحن الأطفال حكايات مسلية، ولكنّها واقعية. كانت أمي تحكي لنا عن بطولات أبناء قبيلتها خلال الثورة العراقية ضد المستعمر البريطاني، المسماة بثورة العشرين، لأنها وقعت سنة 1920. أما أبي فكانت حكاياته تدور حول دهاء البريطانيين، ومعاركهم الحربية في العراق ضد الجيش التركي العثماني، وحصار فرقة بريطانية في الكوت، وأحياناً حكايات من عمله. اليوم نسيتُ أغلبية تلك الحكايات. ولكن حكاية واحدة رواها أبي ظلّت نابضة في ذاكرتي، تراودني بين آونة وأخرى، فأشعر بمرارة وأحسُّ بالخسران. وعندما تذكّرتها اليوم تألَّمتُ، وعزمتُ على كتابتها لعلّي أتخلّص منها فلا تعودني مرة أخرى وتؤلمني. وهذه خلاصة الحكاية:
بعد أن استتب الأمر للبريطانيين في استعمار العراق، كانت ثكناتهم العسكرية منتشرة في أنحاء البلاد، وكانت المناصب الإدارية الرئيسة يتولاها بريطانيون، وكذلك القضاء، فالقضاة من بريطانيا، وكان معظمهم يجيد اللغة العربية فقد كانت الجامعات البريطانية الكبرى مثل كمبرج وأكسفورد ولندن تدرِّس اللغة العربية وآدابها والدراسات الإسلامية منذ أوائل القرن السابع عشر الميلادي. وكانت الدولة البريطانية قبل الحرب العالمية الأولى تبعث بالمُستعرِبين من الخرّيجين إلى البلدان العربية بصفة مبشرين أو رحّالة أو مخبرين لجمع المعلومات المختلفة.
ذات يوم عطلة، خرج أحد الضباط الإنجليز وحيداً للصيد في الريف العراقي، وهو يعلق بندقية الصيد على كتفه؛ وتكثر الظباء في تلك المنطقة القريبة من بادية السماوة، خاصة الغزلان، وهي أجمل أنواع الظباء. وفيما كان الضابط يحاول صيد بعض الطيور غير الداجنة، رأى غزالاً شادناً (أي صغيراً اشتد عوده وطلع قرناه واستغنى عن أمّه)، فاتجه إليه، وراح يطارده. ولم يشأ الضابط إطلاق النار عليه، فقد فضَّل أن يُمسك به حيّاً ويحتفظ به مدة في جنينة الثكنة. كان على وشك أن يضع يديه عليه لولا أن الشادن المذعور دخل كوخاً مشرع الباب.
كان الكوخ فارغاً، ليس فيه سوى فراشٍ بالٍ على الأرض، وصاحب الكوخ، وهو فلّاحٌ شابٌّ، يقف في وسطه، مرتدياً ثوبه (دشداشته) الأبيض ومعتمراً كوفيته (شماغه) وقد شدَّ خنجره بحزامه إلى جنبه. لا بُدَّ أنه كان يتأهب للخروج إلى عمله. فوجئ الفلاح بدخول الشادن وبعد لحظات دخل الضابط البريطاني محاولاً أخذ الغزال الصغير. رفع الفلاح يديه صارخاً بلغته العربية التي لا يفهمها الضابط:
ـ لا، لا، هو استجار بي، إنه دخيل.
قال الضابط الإنجليزي بلغته التي لا يفهمها الفلاح، إنه يطارد ذلك الغزال منذ مدة ومن حقِّه أن يأخذه. وعندما حاول الضابط وضع يديه على الغزال، منعه الفلاح بقوة، واشتد نقاش الطرشان بينهما، وهرب الغزال، واستشاط الضابط غضباً، واشتبكت أيديهما ونزع الضابط بندقية الصيد من كتفه، فعاجله الفلاح بطعنة من خنجره وأرداه قتيلاً.
أُلقي القبض على الفلاح ووضعت الأصفاد في معصميه واقتيد إلى المعتقل. وبعد مدَّة سيق إلى المحكمة ليمثل أمام القاضي البريطاني الذي كان يجيد اللغة العربية.
عند دخول القاضي المحكمة ألقى السلام باللغة العربية على الحاضرين، فرد الفلاح التحية بأحسن منها. وكان أوَّل سؤالٍ وجهه القاضي الى المتهم:
ـ لماذا قتلتَ الضابط؟
أجاب الفلاح بكل عفوية وأمانة:
ـ لأن الغزال استجار بي ودخل داري، والضابط يريد أخذه من داري، وسيبقى هذا عاراً عليَّ وعلى قبيلتي كلها. كيف لا أحمي غزالا صغيراً لجأ إلى داري؟ وشرحتُ للضابط ذلك ولكنه أصرَّ على اقتناص الغزال الصغير.
وكان القاضي ينصت إليه باهتمام، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة حنون، وكأنه يشجعه على الكلام. فواصل الفلاح كلامه قائلاً:
ـ لم أكن أنوي قتله مطلقاً. ولكنه القدر الذي ساق الغزال والضابط إلى داري. حاولت إفهام الضابط، ولكنه كان غاضباً وأوشك أن يستعمل بندقيته، وفي أثناء دفاعي عن نفسي، وقع ما وقع قضاءً وقدراً. وأسأل الله تعالى أن يغفر لي في الآخرة.
قال له القاضي:
ـ الإنكليز لا يفهمون اللغة العربية، ولا تقاليدكم وقيمكم. أنا أفهمك لأنني درستُ اللغة العربية وآدابها في الجامعة. وأنا أقدّر تقاليدكم وعاداتكم الحميدة. فحماية المستجير والدخيل والضيف واجبٌ مقدس في الثقافة العربية حتى قبل الإسلام. وقد أقرَّ الإسلام ذلك العُرف. وأنا لا أزال أحفظ قصيدة الشاعر الجاهلي السموأل:
تـُعيّـرنا أَنـّا قـلـيـلٌ عـديـدُنـا ... فـقـلـتُ لها: إنَّ الكرامَ قـلـيـلُ
وما ضرُّنا أنّا قليلٌ، وجارُنا ... عزيزٌ؛ وجارُ الأكثرينَ ذليلُ
ـ الحمد لله.
حمد الفلاح ربه بعد أن استوعب مجمل كلام القاضي، لأن هذا القاضي يتفهَّم الأسباب، ويعطيه الحقَّ في الدفاع عن الغزال. وقد يخفِّف الحكم، فينجو هو من الإعدام شنقاً.
أطرق القاضي برأسه برهة، ثم رفعه وقال:
ـ نظراً لشهامتك العربية وشجاعتك النادرة في الدفاع عن الغزال الصغير الذي استجار بك ودخل دارك، فإن حكومة جلالة الملك جورج الخامس، تقدِّر هذه القيم الإنسانية الأصيلة المتمثّلة فيك، وستكرّمك بصرف راتب شهري لك قدره ثلاثة جنيهات إسترلينية، وهو مساوٍ لراتب الضابط القتيل الذي لم يفهم قيمك الحقّة. وسيقوم كاتب المحكمة بتسليمك راتب الشهر الأوَّل حالاً.
لم يصدّق الفلاح ما سمعه، وشكَّ في أنه لم يفهم كلام القاضي. ولكن كاتب الضبط في المحكمة، نهض من مكانه واتجه صوب الفلاح وهو يحمل صرّة صغيرة سوداء اللون وسلّمها له. كانت ثقيلة على الرغم من صغرها. جلس وحلّ الصرة، فوجدها مليئة بالروبيات الفضية (كانت الروبية الهندية هي المستعملة في العراق أثناء الحكم البريطاني حتى استقلال العراق سنة 1932، حين صدر الدينار العراقي). لم يكُن الفلاح قد رأى روبية من قبل سوى مرَّةٍ كانت في يد شيخ القبيلة (كانت الأراضي الزراعية ملكاً مشتركاً لأبناء العشيرة وفي أواخر الحكم العثماني، أخذت الحكومة بتسجيل أرض العشيرة باسم شيخها لاحتوائه، فتحوّل أبناء العشيرة إلى فلاحين أجراء في أرضهم. وتبنى المستعمرون البريطانيون تلك السياسة فترسَّخ الإقطاع وشبه الإقطاع).
وأخيراً قال القاضي:
ـ أنتَ حرٌّ الان. يمكنك أن تعود إلى أهلك. ولكن لا تنسَ أن تأتي في نهاية كل شهر إلينا لاستلام راتبك الشهري.
خرج الفلاح حراً طليقاً غير مصدِّقٍ ما حصل، وهو يتمتم بكلمات الشكر والدعاء. وعندما وصل إلى كوخه. قعد أرضا ليعدَّ روبياته، فوجدها أربعين روبية بالتمام والكمال. إنها ثروة كبيرة في مقاييس الزمان والمكان. ففكَّر وأخذ يخطط لما سيفعله بتلك الثروة: أولاً، بناء دار جميلة له؛ ثانياً، شراء جوادٍ كريم وبندقية؛ ثالثاً، وبراتب الشهر القادم، سيخطب الفتاة التي كانت تعجبه في القرية وتغازله بعينيها دون كلام؛ وأخيراً القيام بواجب صلة الرحم ومساعدة الأقارب. حمد الله مرات عديدة على هذا الرزق الوفير.
في نهاية الشهر الثاني، سافر إلى المدينة، وتوجّه إلى كاتب الضبط بالمحكمة، وبعد السلام، أخرج الكاتب صرة سوداء وسلمها له، وطلب منه أن يطبع بَصْمة إبهامه على ورقة الاستلام، كما فعل في المرة السابقة.
عندما رجع الفلاح إلى قريته أخذ يتفقد أحوال أهل القرية وجلّهم من أقاربه، ويساعدهم. وعندما يجلس معهم كان يركن بندقيته الجديدة إلى الحائط. وبعد اكتمال الدار الجديدة التي جلب إليها الأثاث من المدينة، تقدم إلى خطبة الحبيبة، ونظم حفل زفاف بهيج، ووقف خلاله بباب الدار يستقبل جميع أبناء القرية ويرحب بهم. وتخلَّل الحفل طعام عشاء فاخر لجميع أهل القرية الذين لم يعودوا ينادونه باسمه "محمد"، بل يخاطبونه بلفظ " محفوظ"، تعبيراً عن احترامهم له. والمال يغير الإنسان وتصرفاته، ويغير نظرة الآخرين إليه أو كما قال الشاعر:
إنَّ الـدراهمَ في المواطنِ كلِّها ... تكسو الرجالَ مهابَةً وجلالا
فهي اللسانُ لمَنْ أرادَ فصاحةً ... وهي السِّلاحُ لمَنْ أرادَ قتالا
وشهراً بعد شهر، كان محمد يذهب إلى المدينة ويستلم راتبه كالعادة؛ فيزداد ثراء وفرحاً، ويواصل مساعداته لأهل قريته، وتعلَّم القراءة والكتابة. وأصبح شيخ القرية، برضا الجميع بمَن فيهم الشيخ السابق. ولم تمضِ تسعة أشهر على زواجه حتى وضعت زوجته مولودها البكر ذكراً. فنظم محمد في اليوم السابع لميلاد الطفل حفلاً بهيجاً حضرته القرية كلها.
بعد مرور حوالي سنة على استلامه للرواتب الشهرية السخية، سافر إلى المدينة كالعادة لاستلام راتبه الشهري من كاتب المحكمة. وفيما كان يسلِّم على الكاتب، تقدم نحوه شرطيان، أمسكا به ووضعا الأصفاد في معصميه، وهو في غاية الدهشة والاستغراب. وعندما ألحفَ في السؤال عن السبب، أخبروه بأن القاضي سيشرح له.
أودعوه في المعتقل، وظل ينتظر على أحرّ من الجمر مقابلة القاضي، وبعد ثلاثة أيام اقتادوه إلى المحكمة وأدخله شرطيان وهو مصفَّد اليدين القاعة في انتظار قدوم القاضي. وأخيراً دخل القاضي البريطاني نفسه، واتخذ مجلسه المعتاد وراء المنصة. ونظر إليه وقال:
ـ حكمتْ عليك المحكمة بالإعدام شنقاً حتى الموت عقاباً لك على جريمة القتل التي اقترفتها بحق الضابط الإنكليزي.
سكتَ القاضي قليلاً ثم استأنف كلامه قائلاً:
ـ والآن لا بُدَّ أنك تتساءل لماذا لم أحكم عليك بالإعدام بعد الجريمة مباشرة في جلسة المحكمة قبل أكثر من سنة. والجواب: لأن الحكم يومذاك سيكون منافياً للعدل؛ فحياتك آنذاك لم تكن مساوية لحياة القتيل. فذلك الضابط كان يملك داراً جميلة في بريطانيا، وله زوجة شابة، وعندهما ابن صغير، وله رصيد هام في البنك، وكان على رأس فصيلة عسكرية. أما أنت فلم تكن تملك شيئاً، وحيداً فريداً، لا زوجة تنتظرك في المساء، ولا ابن صغير يفرح برؤيتك ويلاعبك وتلاعبه، ولا أحد يعتمد عليك أو يهتم بك. لو أعدمناك آنذاك لما خسرتَ كثيراً. أما الآن فحياتك تساوي حياته تقريباً، وستكون خسارتك مقاربة لخسارته. والحكم عادل.
ثم ضرب القاضي بمطرقته على المنضدة التي أمامه وقال " خُتمت الجلسة"، وغادر القاعة.
***
قصة قصيرة:
بقلم: علي القاسمي
(23)
صا
عا
اا
عا
سا
عا
ا
عا
عح
عا
ج
عا
ص
عا
دح
عا
سا
د
عا
دا
عا
فا
عا