أصدقاء الدكتور علي القاسمي

حسان الطيان، الدورة العالمية الرابعة للسانيات



الدورة العالمية الرابعة للسانيات
 تونس (2 تموز - 2 آب 1979)

كانت هذه أول رحلة علمية لي وكنت حديثَ عهدٍ بالتخرج في جامعة دمشق والحصول على دبلوم الدراسات العليا – الشعبة اللغوية، وحديثَ عهدٍ بالعمل في مركز الدراسات والبحوث العلمية بدمشق بترشيح شيخنا علامة العربية في بلاد الشام الأستاذ أحمد راتب النفاخ رحمه الله وإشرافه وصحبته، وكان أن انتدبني المركز مع أستاذي النفاخ للمشاركة في الدورة العالمية الرابعة للسانيات بتونس (2 تموز - 2 آب 1979) غيرَ أن أستاذي أبى أن يشارك، ولأيًا ما حاولت إقناعه، فقد أصرّ على موقفه وفاءً لأصحابٍ له مسَّهم الضرُّ وابتُلوا بمحنةٍ عمَّت العباد والبلاد آنذاك.. بيد أنه أرسل معي علبتين فخمتين من فاخر الحلوى الشامية (من محل المهنا أشهر محلات الحلويات في الشام) لصديقين عزيزين هما الأستاذ إبراهيم شبُّوح والأستاذ الذي أنسيت اسمه!
وما كان أشدَّ فرحتي حين صدر قرارُ إيفادي من السيد رئيس الجمهورية، وتسلّمْت إثر ذلك أول جواز سفر أحظى به، وكان أخضر اللون، لأنه جواز مهمّة رسمية يصدر عن وزارة الخارجية، وحزمت أمتعتي لأركب الطائرة لأول مرة في حياتي، وكان من يمن طالعي أن السائق الذي يأخذني كل يوم إلى المركز أوصى بي صديقا له يعمل مضيفا على الطائرة نفسها، فأحسن الرجل وفادتي وبدّد دهشتي، واعتنى بي طول الرحلة التي استغرقت نحوا من سبع ساعات طوال!
على أن المفاجأة الأولى لي كانت في مطار تونس إذ تبيَّـن لي أن على متن تلك الطائرة أستاذي الحبيب د. محمود الربداوي رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة دمشق بصحبة زوجه، وعليها أيضا الأستاذ الدكتور بدر الدين القاسمي رئيس قسم اللغة الفرنسية في الكلية نفسها وهو موسوعة متحركة علمًا وأدبا ومعرفةً وثقافةً. وأكرمني المولى سبحانه بصحبة الرجلين شهرا كاملا في حضور المحاضرات، وشهود الندوات، وتناول الطعام، والنزول إلى الحدائق، والمشاركة في النزهات والرحلات، والصلاة في مسجد الزيتونة، والتَّسَكُّع في الأسواق، والمشاركة في النشاطات الثقافية والاجتماعات الإدارية لاستضافة الدورة الخامسة والسادسة في دمشق.
أما أستاذي الحبيب د. الربداوي فقد حباني وأكرمني غاية الإكرام، وما أذكر أنه دعي إلى اجتماع أو نشاط أو مشاركة أو خروج من السكن الجامعي دون أن يدعوني لصحبته، حتى لقد قالت لي زوجه أم معتز:" والله كبَّرتني يا حسان لأن الناس جميعا يظنونك ابننا".
وأما د. القاسمي فقد قاسمته غرفته، لأن الغرف التي خصّصت للمشاركين في الدورة، كانت غرفًـا ثنائية في المدينة الجامعية – وكان اسمها مدينة وسيلة بورقيبة – قرب بطحاء بستور في العاصمة التونسية. فكنت أنام وأصحو على ابتسامته العذبة.. وهدوئه النبيل.. وكلامه الجميل.. وأدبه الجمِّ.. وعلمه الغزير!
وأشهد أني لو لم أعد من تلك الدورة إلا بصحبة هذين العَلَمين لكفاني.
وقد بدأت الدورة في اليوم الثاني لوصولنا وكان البرنامج مكتظًّا، وكانت المحاضرة الأولى لشابٍّ وسيم فصيح اللسان، باسم الثغر، قويِّ الجنان، آسر الحضور، حَسَنِ التَّأَتي يدعى د. عبد السلام المسدِّي، وهو الذي أصبح ملء السمع والبصر فيما بعد في دنيا اللسانيات.. والأسلوبية.. والمعجمية.. والمجمعية.. والأمن اللغوي.. والسياسة.. والسفارة.. والوزارة.. والكياسة.. والدبلوماسية..!
وتناول في محاضراته – التي استمرت شهرا كاملا - أبرز المفاهيم اللسانية الحديثة، منقِّـبا ومفتشا عن علاقتها بما في تراثنا العربي من بذور لها، بل سبْـقٍ إلى معرفتها، وشرحٍ لأصولها، وإرساءٍ لمصطلحاتها، فكنت تراه يجول بين كتب الأئمة الأعلام من مثل أبي حيان وابن حزم وابن جني وابن خلدون ليبرز نصوصا في غاية الأهمية تُـثْـبِـتُ نظريته في سبق الحضارة العربية الإسلامية إلى كثيرٍ من المفاهيم اللسانية، ولعل هذا كان موضوع أطروحته التي نال بها درجة الكتوراه بجدارة واستحقاق، ونشرها فيما بعد في كتابه القيم:"التفكير اللساني في الحضارة العربية"
وقد لقيناه بعد المحاضرة الأولى وكان في غاية اللباقة والكياسة والتهذيب، فأهدى لكل منا نسخة من كتابه "الأسلوبية والأسلوب" الذي صدر آنذاك، وزوَّد أستاذنا الربداوي بعدد من النسخ، ثم دعانا بعد أيام لزيارة بعض المعالم السياحية الجميلة في تونس فزرنا بمعيته سيدي بوسعيد، وتناولنا عشاءً لذيذا لا زال طعمه في ذائقتي، وكان صوت أم كلثوم يصدح في تلك الأرجاء مؤكِّدا أن الشعب التونسي شعب طروب فضلا عن حبه للثقافة وشغفه بالحرية!
والشيء بالشيء يذكر، أذكر أني تأخرت مرةً عن صلاة الجمعة بسبب زيارة ضيف رفيع المستوى ألمَّ بنا، فخرجت أستقل أول سيارة لتقلني إلى أقرب مسجد للسكن الجامعي، فكان أن أخذني السائق إلى مسجد أم كثوم، وقد علمت فيما بعد أن الستّ بنَـتْـه بحرِّ مالها إبَّـان زيارتها لتونس.
وأعود إلى إلى دورة اللسانيات لأحدثكم عن المحاضر الثاني فيها، وهو الدكتور العراقي علي القاسمي الأديب الأريب الـمِفَنُّ العجيب، وهو واسع الاطلاع، غزير الإنتاج، حاضر البديهة، سريع النكتة والخاطرة، فبينا يحدثك عن المعجمية إذا به يتناول المصطلح والمصطلحية، وبينا يجول بك في عالم الأدب والقصة والرواية إذا به يحدثك عن الرجال والأعلام والعلماء وكبار الشخصيات الذين لقيهم ولم ينج أحدٌ منهم من موقفٍ طريف أو جواب سريع أو نادرة من النوادر أو مأثرة من المآثر ( وله في هذا كتاب سمَّاه طرائف النوادر عن أصحاب المآثر لا يمل القارئ من قراءته).
أذكر أنه عندما دخل القاعة وزَّع استبانات طلب منا أن نملأها لكتابة بعض المعلومات واختيار المساق الذي نرغب فيه، ثم جمع الأوراق ففوجئ بورقة تحمل اسم د. بدر الدين القاسمي أحد أساطين العلم والمعرفة، وهو الذي ترجم عدة كتبٍ مهمة في اللسانيات مثل: تايخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين للغوي الفرنسي جورج مونان، ومدخل إلى اللسانيات للغوي الشهير رونالد إللوار فما كان منه إلا اعتذر من د. بدر بأدب بالغ، وأنزله منزلته معجبًا بتواضعه الجمِّ  وخلقه الرفيع إذ يحضر دورة في اللسانيات مع الشداة من أمثالي!
وقد جال فينا في عوالم المصطلحية والمصطلح العربي والمعجمية والمعجم العربي والمعجم التاريخي، ولا زلت أذكر أنه ما يأتي على فكرة أو معلومة إلا ويشفعها بقائمة من المراجع لا يفوته فيها ذكر شيء من توثيقها بدءًا من اسم الكتاب وصاحبه، ومرورا بالدار الناشرة ومكانها، وانتهاءً بتاريخ النشر وزمانه.
على أن أطرف موقف جرى لي في تلك الرحلة كان مع دكتورة من قسم اللغة الفرنسية، التحقت بالدورة متأخرةً، وكانت من تلامذة د. القاسمي، وقد شاركت في أول نزهةٍ دعت إليها إدارة الدورة لزيارة سوسة والحمامات، ولفت نظرنا أنها التقت بأحد الباحثين الأسبان (وهات ياحديث بالفرنسية) وكأنها وجدت ضالَّـتها فيمن تظهر معه مقدرتها اللغوية، فما عادت تلتفت إلى أحد منا، وزاد في الطين بلَّة أنها أجلسته معنا على الطاولة التي خصصت لنا لتناول طعام الغداء، واستمرَّ كلامها وبصوت عال بالفرنسية وكلنا عرب إلا هذا العلج الثقيل، وكان أن قُـدِّم لنا طبقُ المقبلات وهو عبارة عن بيضٍ مقلي بطريقة مبتكرة، ومضينا شوطًا في الأكل وكان الطبق كبيرا، فما كان منها إلا أن قطعت حديثها بالفرنسية ووجهت إليَّ الكلام قائلة بلهجة عربية متعالية: "حسان تكمِّل صحني؟" فأجبتها للتوِّ: "أنا ببيضاتي مو نافد" فاحمرَّ وجهها وخجلت بينما غرق الجميع بضحك هستيري سالت له دموعهم!
وأحسب أني صنعتُ عكس ما صنع الشاعر في توريته المشهورة:
فقالتْ رُحْ بربِّـكَ من أمامي***** فقلْتُ لها بربِّكِ أنتِ روحي

الكويت – الجابرية
5 ذو الحجة 1441ه
26/7/2020م أ. د. حسان الطيان

مقالات ذات صلة