محمد عز الدين التازي، مقال عن كتاب " عصفورة الأمير" للدكتور على القاسمي
محمد عز الدين التازي، مقال عن كتاب " عصفورة الأمير"للدكتور علي القاسمي ، نقلاً عن جريدة القدس.
جمالية التخييل واستعارة الواقع في عصفورة الأمير للدكتور علي القاسمي: حول الكتابة للأطفال والفتيان
د. محمد عز الدين التازيجمالية التخييل واستعارة الواقع في عصفورة الأمير للدكتور علي القاسمي: حول الكتابة للأطفال والفتيانمن دون شك فإن الكتابة للأطفال والفتيان لها خصوصيتها ومعاييرها الفنية والجمالية، كما لها خطابها التربوي والتعليمي. وباعتبار هذه الكتابة تنتمي إلي الأدب، فهي تستدعي الكثير من سحر الكتابة الذي ينعكس علي سحر القراءة، ذلك أن المرسل إليه في هذه الكتابة قارئ محدد بالسن والمستوي الثقافي والانتماء إلي البيئة والمحيط والعصر، مما يجعل مغامرة إنشاء خطاب سردي تخييلي ببعديه: الجمالي والتربوي، علي تشاكلهما، مغامرة لا يقتحمها إلا كتاب كبار يعون أنهم يكتبون لقراء صغار، وهم لذلك الوعي يدركون تمام الإدراك أسرار مخاطبهم وحاجاته العاطفية والعقلية واستعداداته التذوقية والجمالية. معني هذا أن الأدب الموجه إلي الأطفال والفتيان هو أدب يتخلف عن الأدب الموجه إلي عموم القراء من حيث إن قارئه معروف، وهو محدد بالسمات التي سبق ذكرها، بينما القارئ في الكتابات الأخري هو قارئ مفترض، لا يمكن التكهن بحاجاته واستعداداته.أعتقد دوما، أن من يخوض هذه المغامرة من الكتاب (الكبار) ليكتب ل (الصغار)، عليه أن يجد لنفسه مكانا في الكتابة وفي القراءة معا، بمعني أنه يكتب ما يكتب وكأنه يكتبه لنفسه وهو (صغير)، في سن متلقيه تماما، ومن ثم فإن عليه أن يدرك العالم إدراكا طفوليا ليكتبه بكل أحاسيس الطفولة ومتخيلها ومدركاتها للعالم، وإن نجح في ذلك المقترب فإن كل نزعة للتعالم والوعظ والإرشاد سوف تختفي لصالح أن يصبح عالم القصة عالما محفوفا بالرموز والإشارات والعلامات التي لا تنفك أن تعبر عن الفكرة من غير مباشرة ولا تعالم فوقي ولا كشف لما يجب ألا يكون مكشوفا، وهو البعد التربوي في مثل هذه الكتابات التي هي أدبية جمالية تحتفي باللغة والمتخيل وبطرائق متعددة في التعبير عن العالم وإدراكه، من بينها توظيف عالم الطبيعة، بما فيه من أرض وسماء، ونبات وحيوان وأنهار وبحار وصحار. والتوظيف هنا له تلقائيته التي تستدعي الرموز وهي ترمز إلي واقع ممكن، وإلي احتمالات، وربما اختيارات إن كان بطل القصة يوضع في مآزق تدفعه نحو الاختيار. لابد من عنصر التشويق الذي هو قائم علي عنصر المفاجأة، وعلي ما هو غير متوقع، والتشويق وإن كان مفتعلا فهو يفسد عمق المضمون القصصي ليتحول إلي ترهات سرعان ما يدركها الطفل القارئ بذكائه وفطنته فيخرج من لذة القراءة إلي طرح أسئلة غير ضرورية حول ما يقرأ، قد تبعده عن الأسئلة المغيبة التي هي جوهر النص ومكمن دلالته ومعناه. أي أن استدعاء عقل الطفل القارئ، ينبغي أن يتم من أجل فك الرموز وادخار المعني الثاوي في الأحداث والشخصيات والفضاءات، لا من أجل تصديق أو عدم تصديق ما يحدث في النص، لأن بلاغة النص لابد أن تكون مقنعة بتصديق الطفل لكل ما يحدث في عالم هو بالتأكيد، عالم خيالي.أتصور أيضا، أن هذا التصور يمكن أن يدخل في نوايا الكاتب (الكبير)، الذي يتحول إلي طفل يكتب لطفل (صغير). لكن الوعي بهذا التصور، في مجال الكتابة الأدبية للأطفال، هو خير من تغييبه، لأن تغييبه أو غيابه هما ما يوقع في الكثير من المحاذير، وعلي رأسها أن يخطط الكاتب (الكبير) بعقل مدبر (كبير) لأحداث وشخصيات وفضاءات ينسج من خلالها قصة يعتقد أنها مفيدة للقارئ (الصغير إفادة تعني أنها درس في الأخلاق أو السياسة أو غيرهما. ولست أدري إن كان ثمة سؤال جوهري تتفرع عنه عدة أسئلة، يجب أن يُطرح علي الكتابة الموجهة للأطفال: هل عليها أن تحتفي بالتربوي، أم بالجمالي، وأيهما يحوز درجة الأهمية، حتي لا نقول بذلك التعالق الهام والأساس بين هذين البعدين، والذي هو تعالق من قبيل الرهان، والمغامرة الصعبة، والمستحيل الذي لا يتحقق إلا في نماذج كتابية نادرة؟ فهل يستعيد الكاتب (الكبير) حاجته إلي الطفولة والفتوة وهو يشيّد عالما من الأخيلة والأفكار والقيم ربما كان القارئ (الصغير) في حاجة إلي الاستلذاذ بها وتأملها وهو صغير؟ هل الوظيفة جماليةً وتربويةً هي ما يدعو المؤلف إلي استدعاء قارئ محدد ومعين، هو القارئ (الصغير) من أجل تواصل وظيفي: جمالي وتربوي؟ ما هي قوانين الاشتغال النصية، التي تجعل من الكتابة الأدبية للأطفال والفتيان جُنَيْسًا داخل جنس القصة والرواية والشعر والمسرح؟ هل تراوح الكتابة السردية مكانها باعتبارها توصيفا لذات أو ذوات تحل في مجتمعها كما شأنها وهي تتوجه نحو قارئ مفترض لتبحث عن أفق لكتابة تتوجه نحو قارئ معين ومحدد، لتحفل بالطبيعة وعالم الحيوان وترميزاتهما الممكنة، من أجل إضفاء طابع السحر علي الموضوع، وهي تقترب من الأطفال والفتيان؟من غير شك فإن كل التنظيرات الممكنة، لأفق كتابة أدبية موجهة نحو الأطفال والفتيان، سوف تخونها الانجازات النصية، بشكل أو بآخر، ذلك أن المقاصد لا تتحقق في الغايات غالبا، إذا كانت تروم هذا الرهان الصعب بين التربوي والجمالي، وأما وإن كان الرهان علي التربوي، التثقيفي، التعليمي، فهو أيضا، يجب له بعده الظاهر، في نصوص لها أدبيتها، ولها أيضا مقصديتها التربوية، لكن الأمر يختلف بتملك بعض النصوص لجماليتها أو بذهاب نصوص أخري نحو جفاف المعني وجاهزية الأفكار واستسهال اللغة، ولعل مرد ذلك إلي طبيعة القلق والتردد اللذين يعرفهما التأسيس لأدب الأطفال، داخل مشهدنا الأدبي العربي. أمير وعصفورة، وعلي القاسمي:سوف تطوقني هذه المقدمة بمنحي قرائي خاص لكتاب الدكتور علي القاسمي الموسوم ب “عصفورة الأمير”، ومن حيث مساءلته، قرائيا، ومن خلال التحليل النصي. ذلك أنني لست مطلعا علي بعض النظريات الأدبية في مجال الكتابة للأطفال والفتيان، ولكني بحكم خوضي لهذه المغامرة، كتابيا، قد تأملت أبعادها وأهدافها وغاياتها التربوية والجمالية، وليس من حقي أن أجعل من تجربتي ومن أفكاري النظرية في الموضوع أداة لمحاكمة نص جميل مشرق، اجتهد كاتبه في إبداعه بإبداعيته الخاصة، بل إن التحليل الذي يفضي إلي المساءلة، هو تحليل واصف يستعين باللغة الواصفة، للوقوف علي عالم القصة، وخطابها، وجمالياتها، ورموزها التي تعبر بها عن الواقع.يحضر الكاتب الدكتور علي القاسمي بكتاباته المتنوعة بين المعجمية ومجال التربية وبين كتابة القصة القصيرة وترجمة عدة أعمال أدبية إلي العربية، وهو يحضر هنا، ككاتب يتوجه نحو الفتيان، ومن خلال “عصفورة الأمير”، مغامرا مثلما يغامر كل الكتاب الذين اقتحموا هذا المجال الصعب، بمحاولة تملك عالم حكائي تخييلي يجمع بين كتابة سيرة للأمير، وبين إقامة نموذج أخلاقي سلوكي اجتماعي وثقافي وسياسي لشخصية الأمير، فالبطل في القصة (الأمير)، ليس شخصية إشكالية وإنما هو شخصية بناها المؤلف علي نموذج أمثل، ليكون قدوة لقراء هم (الفتيان والفتيات) بالتحديد، أي من هم في سن (الأمير)، وإن كانوا ليسوا أمراء ولا وارثين للحكم مثل (الأمير)، فهم يشتركون معه في القيم والأفكار والمثل التي يحملها، وهو (فتي) مثلهم. ينطلق الكاتب من شخصية “نموذجية”، مثالية، ليست لها عاهات أو عيوب أو نقائص، ليجعلها في مواجهة تجربتين: أولاهما: رمزية، وهي علاقته بالعصفورة، التي طرحت عليه مسألة حريتها، أي إطلاق سراحها وتحريها من القفص، وهي تجربة تترادف مع رغبة الأمير نفسه من أن يتحرر من أسوار القصر ليخرج إلي مجالات الحياة الواسعة التي يعيشها الشعب، فيغافل الحراس ويحرر نفسه من “قفص” أخر هو الذي وجد فيه.والثانية: واقعية، وهي علاقته بالراعية “شمس” وما نتج عنها من حب سوف يغيّر من مجري الأحداث وسوف يطرح المفارقة بين أمير وراعية اشتركا في الحب واختلفا في طبيعة تَكَوِّنِ الشخصية.من حيث البناء، سيكون كاتب القصة، قد وضع لها خطاطة تتمثل في تنامي شخصية الأمير، وفي بناء فضاء القصر الذي عاش فيه، وعلاقته بالسلطان، وبينما لا تكون له علاقة بالخدم والحشم، تكون له علاقة خاصة بالعصفورة، وحيث تتماهي حالته مع حالتها: السَّجْن: (القفص / القصر) فهو يحررها ويحرر نفسه ليخرج إلي العالم الخارجي. لكن مسار الأحداث في الخطاطة السردية يتوجه نحو اختيار لعلاقة الأمير مع راعية، كممثل لبساطة النموذج الشعبي المناقض لمسلكيات الحياة في القصر السلطاني. من ثم فالكاتب يقيم نوعا من المعارضة بين جرأة الراعية علي القول، لأنها لا تعرف أن مخاطبها هو الأمير، وبين دهشة الأمير لاكتشاف واقع تعليمي ومعيشي لم يكن يعرفه. التعارض في حد ذاته تشويقي، لأنه قائم علي المفارقة بين الراعية والأمير، وهي المفارقة التي تشرع باب العلاقة بينهما علي كل الاحتمالات، كما سوف نلاحظ مع النهايات الممكنة التي ترسمها القصة، مخصبة خيال قارئها في تصور المآل الذي سوف تنهي إليه هذه العلاقة، أهو الزواج أم هو الفراق الأبدي. قراءة العنوان:تسمي “عصفورة الأمير” نفسها: “قصة عاطفية من طي النسيان، للأذكياء من الفتيان والفتيان”. وعلي ما في العنوان الفرعي من نفحة تراثية، وحيث حفل تراثنا العربي بالكثير من القصص العاطفية وعبّر عنها شعرا ونثرا، فإن العنوان الأساس يضعنا أمام حقل دلالي تحضر فيها العصفورة بكل الإيحاءات الممكنة لها، والأمير بكل التصوّرات المسبقة والمكتسبة عنه، فثمة مشترك دلالي بين ما ينتمي إلي الطبيعة (العصفورة)، وبين ما ينتمي إلي الحياة السياسية ويحيل عليها (الأمير) وارث الحكم. تبدو العلاقة علي تنافر مكونيها ولأول وهلة موضوع ارتياب وفضول للقراءة، ويريد من هذا الفضول وهذا الارتياب أن القصة عاطفية، فكيف تقوم علاقة عاطفية بين عصفورة وأمير؟ ثم لماذا هي قصة من طي النسيان، هل لأنها آتية من ماض لا حاضر ولا مستقبل له، أم أنها تذكرة لأولي الألباب؟ ولماذا هي موجهة لقارئ محدَّد، معرف بجنسه وسنه: الفتيان والفتيات؟كل عنوان لنص هو نص صغير يتجاور مع نص كبير، لا لكي يتطابق معه تماما، أو ليعبر عنه أحسن تعبير، ولكن لكي يضيئه ربما، أو لكي يساهم في تعتيم حوله وهو ما يستدعي فضول القارئ. للأمير عصفورة! يفترض أيضا، أن العصفورة لها أمير. ما الذي يفعله الأمير مع العصفورة، وما الذي تفعله العصفورة مع الأمير، في القصة، لكي تكون هناك أحداث مشتركة بينهما؟هو سؤال العنوان الذي يطرحه علي القاري، وحيث يصبح العنوان، علي بساطته، ماكرا ومستدرجا لشغب القراءة.وباعتبار العنوان نصاً قصيراً يعبّر عن نص طويل، أو هو نص موازٍ له، فإن ما يحدث بين الأمير والعصفورة في القصة، هو نشدان الأمير لحرية العصفورة، أو تحريرها من مكوثها داخل القفص، بعد أن رأي عصافير أخري تطير في حديقة القصر حرة طليقة، وبعد أن رأي الأمير عصفورته تري تلك العصافير الطليقة، وتراه وهو يشاهد المفارقة بين طائر سجين في القفص وطيور أخري طليقة.ولن تنهض هنا، أفكار حول الحرية، بكل أبعادها الرمزية، في ذهن الأمير وتفكيره وتأملاته وحسب، بل ستنهض أفكار أخري عن الحب الذي جمع بين الأمير والعصفورة، وهل هو جبر أم اختيار، فيختار الأمير أن تحبه العصفورة وهي طليقة علي أن يُجبِرها علي الحب وهي سجينة. فكرتان تحضران في ذهن، ليختبرهما علي ضوء التجربة والواقع، وهما ما يشكّل بدايات التفكير السياسي لدي الأمير، في قضايا يحضر فيها الشعب، وحيث يتداخل المثالي مع الواقعي، والتأملي مع التجريبي، والنظري مع ضروب الممارسة في الحياة.هكذا يمتد عنوان القصة إلي أحداثها. وهو عنوان رغم غلالته الطفولية البريئة، التي لا توجه القراءة إلا لعلاقة بين عصفورة (حيوان صغير طائر) تتحول إلي موضوع رمزي لفكرة الحرية، تحضر فيه ثنائية ضدية هي السَّجن والحرية. وليتحوّل الأمير من (صغير لاَهٍ)، إلي متهيئ لممارسة الحكم وارث للسلطة، وبينهما مسافة من اللقاء والفراق، ومسافة أخري من الشعور وتنامي الأفكار. مفارقات المحكي:تتشكل أحداث القصة من أوضاع مُفَارِقة، بين الواقعي والأسطوري، وهما تجليان لصوت واحد، مساحته وفضاءه هما إبداع مواقف سردية حكائية تجعل للعملة وجهين: وجه واقعي يقترب من عاطفة الأمير، ومن مواقفه من الحياة والكون، ومن براءة نظرته للحياة وللعلاقة بين الحاكمين والمحكومين علي عمقها وتبصرها للأمور، ووجه أسطوري تحضر فيه الكثير من الأحداث التي تنتمي إلي ما فوق الواقع، وحيث يتحرر الأمير كإنسان قبل أن يكون أميرا من ضغوط وإكراهات حياة القصر، سواء عن طريق الحلم، أو عن طريق بعد الاستيهامات، وبواسطة ذلك التحرر الذي يذهب فيه الأمير نحو عالم أسطوري تتم ترجمة المشاغل والأفكار والمواقف، وبصورة متبادلة، من الواقع إلي الأسطورة، ومن الأسطورة إلي الواقع.ولضبط الخط السردي للقصة، يتوجب الانتباه إلي أن عشق الأمير للعصفورة، قد نتج عنه تأمله لحبسها في قفص بينما تحلق الطيور والعصافير في فضاء القصر وترقد علي أشجاره ثم تطير بحرية، وهو ما تولد عنه تفكير الأمير في مسألة الحرية، حرية العصفورة، فبادر إلي إطلاق سراحها مختبرا حريتها في حبه ورغبتها في الإقبال علي شرفة غرفته الخاصة وباختيار منها إن كانت تحبه كما يحبها. ثم سوف تتحول العصفورة عند الأمير إلي مجال للخوف عليها، وعلي مستوي انتقال هذا الخوف من الواقع إلي الحلم فثمة ثلاثة نسور تهاجم العصفورة، لتصبح حريتها موضوعاً للخطر المحدق بها…مسار سردي تأخذه القصة ليبدأ مسار سردي آخر مع الفتاة الراعية، وحيث دأب الأمير علي مغافلة حراسه والخروج إلي حياة الناس برغبة منه في اكتشاف مجتمعه الواسع والتعرّف علي قضايا الناس، وفي فضاء الطبيعة يتعرف علي الراعية، ويبدأ نوع من التدرّج في الأحداث، وحيث يتحول العشق من العصفورة إلي الراعية. نكتشف أن اسم الأمير هو “طه” وأن اسم الراعية هو “شمس”.تبدو هذه النقلة طبيعية بحكم انتقال الأمير من وضعيه الرومانسي إلي وضعه الواقعي. يعشق الأمير “طه” الراعية “شمس” بعد أن تدرّجا في علاقة العشق بينهما. ثمة تعارض كبير بين أمير يتربّي في قصر والده السلطان علي استيعاب فنون الحكم وتحمل المسؤولية، وبين راعية بريئة وجريئة لا تعرف أن الأمير هو مَن يحبّها بل تحسبه متنكراً رجلا من عامة الناس، وهل الحبّ يمكن أن يردم هذه الهوة بين عاشقين؟ مع هذا الانتقال الهام في حياة الأمير فالقيم التي يبثها فيه والده السلطان، والتي يتعلمها من الحياة، لا تشكل قيما له وحده كأمير، بل قيم للمتلقي ومن حيث هي محاورات أو خطابات حول الأخلاق والقيم والمفاهيم، وبذلك تصبح القصة جغرافية نصية متعددة الأنحاء، فهي مجال للمحكي عن حياة الأمير كما يقدمها السارد، بكل ما تمارسه هذه الحياة من لحظات يومية وأخري حُلْمِية وأخري تتشكل كَرُؤًي ذات أبعاد أسطورية؛ وهي، أيضا، مجال لتقديم الأفكار والمفاهيم والقيم، سواء من خلال شخصية السلطان أو من خلال مُدَرِّسِ الأمير أو من خلال ما يتلفظ به الأمير نفسه من أفكار وإضاءات للمفاهيم والقيم.وإذا كانت القراءة قد عايشت تفاصيل حياة الأمير، وخاصةً من خلال فتاته التي كان يهرب إليها من حراس القصر ليلتقي بأفراد الشعب، فإن ملمحاً أسطوريا يتشاكل مع الأحداث الواقعية في القصة، من أمثلته صراع النسر مع العصفورة، ومن أمثلته أيضاً، ما جاء في ص 50 من القصة، وحيث تتماهي الراعية “شمس مع العصفورة، ف”ينبت لساعديها ريش زاه، يكسوهما ويغدوان مثل جناحي العصفورة”. ثمة علي مستوي خطية الأحداث تعالق بين الرمز (العصفورة) وبين الواقع (الراعية شمس)، بينما يساعد هذا التعالق، علي مستوي الدلالة، علي إبراز الأفكار والمواقف التي يعيشها الأمير. عبر هذه المفارقة بين الواقعي والأسطوري ينهض عالم القصة، مستثمرا كلا الحدين، ودون فصل بينهما، فأحلام الأمير واستيهاماته تتداخل مع المواقف التي عليه أن يتخذها من التعليم والصحة وكل ما يعني المواطنين. ونلاحظ أن أحلام الأمير ما هي إلا وسيلة يحتال بها السرد للانتقال من عوالمها إلي ما يمكن أن نسميه ب “التصحيح” علي طريق العمل السياسي وواجبات الدولة تجاه المواطنين. صورة السلطان وصورة الأمير:ترسم القصة صورة مشرقة وإيجابية للسلطان والأمير، فالسلطان كما تقدمه القصة ” جليل القدر والشأن، عظيم الحكمة والعرفان (…) اشتهر بشجاعة فائقة وبأس شديد، حارب الغزاة والطامعين، وطرد من بلاده المحتلين، وأكمل استقلالها ووحدتها. كما اشتهر بتمسكه بالحق، فأقام العدل في البلاد، وسن لقطره دستورا، وأنشأ مجلسا للشوري، يختار المواطنون أعضاءه بالانتخاب، ليتولي تشريع القوانين. وسعي السلطان المهيب إلي تطوير قطره، وترقية أبناء شعبه، وتحسين حياتهم ومعيشتهم…” (القصة ص 2). كما أن هذه الصورة المشرقة، الإيجابية، والمثالية ربما، لا تكتمل إلا مع بناء السلطان للسدود والاهتمام بالعِلم وأهله، وتربية الأمير مع فئاتٍ من عامة الشعب في المدرسة الأميرية…أما صورة الأمير فتبدو حاملة لقلق الاهتمام بالفقراء وما يعتري المواطنين من أحوال مزرية يكتشفها وهو ينفلت من الحراس ليختلط بالشعب ليعرف أحواله ومشاكله حتي يسعي مع وزير التعليم ووزير الصحة لمحاولة حلها. وعلي حداثة سنه فهو “ذكي وسيم، يتمتع بقوة جسدية فائقة، وقدرات فكرية نادرة، وأحاسيس إنسانية مرهفة. وكان يرتدي الأزياء المختلفة التي يرتديها أبناء الشعب (…) يولي اهتماماً كبيراً للفقراء والمعوزين، والشرائح المهمشة في المجتمع من المعوقين، والشيوخ، والأطفال واليتامي، فكان كثيرا ما يقصد أحياءهم الفقيرة، متفقدا أحوالهم، سائلا عما يعوزهم، مقدما المساعدات اللازمة لهم، حتي أحبه الناس، وأطلقوا عليه لقب “الأمير المحبوب”، أو “أمير الفقراء” (القصة ص 6).يستدعي بناء هذه الصورة للسلطان والأمير تأملاً نقديا خاصا وحيث إنها تتماهي مع فعله مؤرخو بلاطات الملوك من كتابة تاريخ مشرق يتجاوز كل أنواع الإحباط والفشل، وأنواع النقص والخطأ، مستويات التذبذب في شخصية العظيم، أو العبقري، من أجل تكوين صورة ناصعة عن الحاكم، وعن رجالات السلطة من قادة عسكريين ورجال علم ومدبرين للشأن العام. وغالبا ما كانت هذه الصورة التاريخية للتاريخ الرسمي تسعي إلي التعرض لبعض مظاهر الفساد وإرجاعها إلي تقصير الوزراء أو فسادهم أو إلي مؤامرات خارجية يتصدي لها السلطان أو الحاكم. وفي مجال الأدب، وقد استفاد تاريخه من كتابة التاريخ، فقد دعا “سانت بوف” إلي كتابة سير الكتاب، بكل ما يُلَمِّع هذه الصورة، حتي وبالرجوع إلي تفاصيل الحياة الخاصة، فالعبقري لا يمكن أن يكون عبقرياً إلا بتفوقه علي كل الصعاب الجسدية والنفسية، وإلا فلا يمكن تشييد مفهوم للعبقرية. وفي هذا السياق ترسم “عصفورة الأمير” صورة ناصعة للسلطان والأمير، وحتي مع افتعال بعض لحظات القلق التي يعيشها الأمير، من أجل تنمية البعد الدرامي للقصة، فالأمير يبقي خالصاً نقياً صفياً لنفسه وللفقراء من أبناء الشعب.من ثمة يحضر البعد التربوي في القصة، فهي تقيم حجاجا حول المفاهيم، ولا تقيم حجاجا آخر حول معارضة ممكنة لسياسة السلطان كما أنها تستبعد كل نقصان في شخص الأمير. يتشكل هذا البعد من خطاب مقصود، موجه “للأذكياء من الفتيات والفتيان”. إنه مشروع خطاب يقوم علي مثل عليا وقيم إنسانية توخاها المؤلف لكي يُوجه بها إدراك ووعي من يخاطبهم من خلال “قصة”، أو أدب رفيع المستوي، أو كتابة لا غبار عليها، فليس ثمة من ضمير نقدي يراجع المواقف والأحداث التي تحل في المجتمع ما عدا ضمير الأمير اليقظ بتوجيهات السلطان، وليس ثمة من حضور للشعب إلا في ضمير الأمير كما يتصوره.إن صورة الأمير في القصة، هي صورة لما ينبغي أن يكون عليه الأمير، وحتي يكون قدوة ومثالاً. وما دام الأمر كذلك في القصة، فشخصية الأمير وإن استفادت من حياة أمير معروف في المغرب، تمثلت فيه كل القيم التي جعلت المغاربة يسمونه أمير الفقراء. وإننا لن نذهب مع هذه المرجعية بعيدا، لأنها من غير شك سوف تؤدي إلي نوع من التصادي بين واقع القصة المتخيل وبين واقع الواقع. ومع مثالية التصور الذي بنيت عليه شخصية الأمير، فما ضر كاتب القصة لو أفصح عن مقصديته، وماذا كان سيكون في ذلك من عيب، سيما والرسوم المصاحبة للقصة تفضح تلك المقصدية؟ هل هي “قصة عاطفية من طي النسيان” حقا، أم أنها عبارة تنتمي إلي الخداع الأدبي الذي يسمح للواقع حتي وإن كان معروفا لدي القارئ أن يتشكل من جديد وأن تضاف إليه قيمة جمالية أخري هي قيمة ما يمكن أن يضفي عليه من أبعاد أسطورية؟ البعد التعليمي والتربويلن نُغْمِطَ القصة حقها في أن تتوجّه نحو هذا المنحي، فالبعد التربوي كان حاضرا، من خلال تشكيل الخطاب الذي هو خطاب شخصيات أراد لها المؤلف أن تكون لها نمطيتها: السلطان والأمير والراعية والصراع بين مصلحة الدولة وبين المصلحة الفردية، وحيث يعشق الأمير الراعية ثم يكتشف أنها لا تليق بحياة القصر وحياة القصر لا تليق بها، فالأمير بتوجيهات والده السلطان ينبغي له أن يتزوج زواج مصلحة، مع أميرة هي ابنة سلطان بلد مجاور، لتقوم المصالحة بين البلدين. صورة عن المخاتلة بين الحب الإنساني العميق، وما يستوجبه من وفاء وتضحية، وعن زواج المصلحة، كما يقترحه السلطان علي الأمير. الأمير لا يختار في نهاية القصة، لأنه ينتظر حلاً قد يأتي لهذه المشكلة.وقصة الدكتور علي القاسمي تبرع في رسم صورة للدفق الإنساني وحرارة المشاعر، لكي تردم الهوة بين خطاب السياسة وبين خطاب الذات العاشقة الملتهبة بحرارة العشق. فهل كان تردد الأمير يعني تعارضاً بين ذات الأمير وبين ما هي موكولة إليه، لتولّي السلطة والحكم؟في المنحي التربوي للقصة، وعلي مستوي القراءة والتلقي، سوف نجد أن بناء حكائياً ينهض علي تغليب المصلحة العليا للبلاد علي كل أنواع الفردانية، وحيث الأمير هو ولي عهد البلاد، ومصلحة البلاد يجب أن تعلو علي كل مشاعره الشخصية وإحساساته الفردية، لأنه صاحب مقام ومسؤولية. يقدم لنا هذا الاختيار، و”للأذكياء من الفتيات والفتيات”، شيئا مما يعني التضحية بالعواطف الفردية مقابل عواطف أخري أشمل وأعم، وهي التي تهم الذات الجماعية لا الذات الفردية.قد يكون ذلك ممكنا في مصالحات رجال السياسة مع ذواتهم من أجل ترميم الهوة بين الذات الفردية وبين الذات الجماعية، وقد يكون ذلك، هو قلق الأمير، الذي لا تحسم فيه نهاية القصة بشيء، وتتركه لانتظار القارئ. القصة وتمثل الأفكار والأخلاق والقيم والمفاهيم:كما سبقت الإشارة، فالقصة وعلي احتفائها بمعيش الأمير وأحلامه واستيهاماته سواء من خلال عشقه للعصفورة أو من خلال عشقه للراعية، تقدم للقارئ سردا تخييلياً لذات فردية غير معزولة عن فضاء القصر وعن توجيهات السلطان التهيؤ للحكم، ولكنها ذات تمتلك خصوصيتها وتمردها واستعدادها لاستكناه الحقائق وفي الميدان، من حيث هو ميدان لحياة مجتمعية يعيش فيها الشعب الكثير من ضروب قسوة الحياة، ولا غرو، فليس ثمة من تناقض بين الذات الفردية والذات الجماعية وهما يشخصان حياة الأمير. إنها حياة منذورة للقيم، والأخلاقيات، وتمثل المفاهيم ومساءلتها.القصة تشبه قصة ” الأمير” لميكيافيل، لا من حيث القيام علي مبدإ الغاية التي تبرر الوسيلة، ولكن من حيث تشبع شخص الأمير بالمفاهيم والقيم والأخلاقيات. تشبه أو لا تشبه، ولمنها أيضا خطاب لا يرصد حياة معيشة أو مفترضة للأمير، بقدر ما يوجهها بالأخلاقيات العامة، وبضرورة تأمل حقول معرفية قد تعود في أصلها إلي الحق والخير والحرية والجمال، كما أشارت إليها فلسفة القيم مستعيدة أفكار الفلاسفة اليونان في هذا المجال. والقصة وهي تنتج خطابها التعليمي، التربوي، حول المفاهيم والقيم، تروم نوعا من العصرنة لهذه الأفكار والقيم، حتي تكون نبراسا لناشئة عصرنا، من “الأذكياء من الفتيات والفتيان”. وهذا الخطاب التعليمي ينهض علي استقطاب واسع لشتي القيم السياسية والأخلاقية والقافية والسلوكية العامة، نجد من بينها:ـ الحرية، كمعطي فلسفي يمكن أن يحل في الحياة الاجتماعية، وحيث تتمثل في أطلاق الأمير لسراح العصفور من قفصها، وحيث أرادها أن تحبه وهي حرة طليقة لا وهي محجوزة في قصفها، ليرصد الحراس حركته، فيخبرون السلطان بما فعل الأمير، ولتأتي التوجيهات السامية من قبل السلطان وهو يتحدث للأمير عن الشابين اللذين تجادلا في أمور وراح أحدهما يعزز أقواله بحركات جسدية حتي مست إصبعُه أنفَ الآخر، فقال له: “إن حرية إصبعك تنتهي، حيث تبتدئ حرية أنفي” (القصة ص 12). والإحالة علي جان بول سارتر في تقديمه لمعني الحرية: (تنتهي حريتي حيث تبتدئ حرية الآخرين).ـ السلطة: ” عَلَّمَهُ أبوه السلطان في دروسه الخاصة أن السلطة، لغةً، تعني القهر والهيبة والنفوذ والحُكم، ولكن السلطان الحكيم العادل يمارس سلطته برضا شعبه” ( القصة ص 18). لا يتم تداول مفهوم السلطة بين الشخصيات وحسب، وإنما نلاحظ له تجسيداته في تصرفات ومواقف السلطان والأمير. وسواء علي مستوي المفهوم أو علي مستوي الممارسة فإن الصورة التي تقدمها القصة للسلطة هي صورة تقع في المثال الذي يحاول أن يَحُلَّ في الواقع، لا في الواقع كما هو، وذلك من أجل الهدف التربوي الذي تنشده القصة، فلا مجال للنقد السياسي لتجاوزات السلطة في قصة موجهة لقارئ لم يِتَسَيَّسْ بعد.ـ التعليم: إن كانت القصة تصور رغبة السلطان في تعليم ولي عهده الأمير في المدرسة الأميرية مع فئات من الشعب، فإنها، وبلقاء الأمير مع الراعية، تفتح مجالا واسعا لطرح مسألة تعميم التعليم في المدن والقري، بدءا من أمية الراعية التي ترجع كما تقول إلي رجال السلطة الذين يفتحون المدارس في المدن وينسون القري والأرياف (القصة ص 20). وهو ما سوف يؤدي بالأمير إلي الاتصال بوزير التعليم من أجل تعميم التمدرس علي سائر المواطنين.ـ العدل: إنه من القيم التي تحضر في ثقافة الأمير، وتشكّل في وعيه مفهوما للسياسة والرياسة، وهو يعني الإنصاف والمساواة بين الناس: ” …إن من واجب السلطة إقامة العدل بين العباد في البلاد. والعدل معناه معاملة جميع المواطنين بالإنصاف، والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات” (القصة ص 22).ـ الحب: إن حب الأمير للراعية هو يدفعه إلي تأمل هذه العاطفة الإنسانية النبيلة، ولذلك فهو يحضر كقيمة من القيم داخل التجربة والممارسة كما يحضر كتأمل: “تري هل هذه العاطفة النبيلة التي تختلج في أعماقه هي التي يسمونها (الحب)؟ فالحب شيء كالنسيم نحس بوجوده ولا نستطيع رؤيته. نعرفه من الشوق المبرّح واللهفة لوصال المحبوب”. (القصة ص 27).ـ الجمال: وهو مرتبط بالحب، لكن ماهيته تظل موضوع تأمّل للأمير، بقدر ما تتساوق تأملاته مع تجربته فهي أبضا تقيم نوعاً من العلاقة بين العقل والعاطفة، بين الفكر والوجدان، بين التأمل وتجربة المعيش “وراح يواصل التفكير والتساؤل: ولكن لماذا أحببتها من دون جميع الفتيات؟ ألأنها جميلة؟ وما هو الجمال؟ وهل يكمن في الموضوع الذي نراه أم ينبع من ذاتنا؟ وبمعني آخر، هل الجمال موضوعي بحيث يكون الشيء جميلا إذا توفرت فيه صفات معينة كالاتساق والبساطة والتناسق وتألق الألوان وصفاء الصوت؟ أم أنه ذاتي بحيث نري الشيء جميلا إذا وافق أذواقنا وميولنا وخلفياتنا؟ هكذا كتب الأمير في مذكراته تلك الليلة”. (القصة ص 28 / 29).ـ الأُمّة: باعتبارها مفهوماً جامعا لكل مكوّنات المجتمع، وهي موضوع آخر لحب الأمير: “كان قد أحب الأمّة قبل أن يعرف معناها. فعندما سمع هذه الكلمة أول مرة ينطقها أبوه بشغف ووله وتقديس، تبادر إلي ذهنه، وهو طفل لم يتجاوز الخامسة من العمر، أن (الأمة) تعني (الأُم). ولكن بمضي الزمن وبعد أن استخدمها أبوه مراراً في سياقات مختلفة ومقامات متباينة، توصّل ذهنه المتيقظ الصغير إلي أن (الأمة) ليست هي (الأم) تماما، وتمثلت له (الأمة) في خاطره الصغير كما لو كانت فتاة جميلة لا مثيل لها، كان أبوه يسعي لإسعادها وكسب رضاها وحبها له” (القصة ص 29). ولسوف يستمر في القصة الوقوف عند هذا المفهوم وعلي امتداد الصفحات التالية (من 30 إلي 32) قصد تحليله وتعميقه وإقامة بعض الحوارات حوله. وثمة أخلاقيات تعني الشخص في علاقته بالآخرين، تقف عندها القصة، مثل: “الكتمان” و”الحكمة” و”حب الحوار”، وكلها تصنع للأمير شخصية مثالية يصوغها الكاتب من أجل بناء صورة للأمير، تكون قدوة للفتيان الذين تُوجه إليهم القصة. تثقيف النص:إن القصة تحفل بضرورة عديدة من أشكال التدعيم للأفكار التي تقدّمها، وحيث تصبح مثقفة بثقافة الأمير، أو ثقافة السارد، أو هي نظرات ثقافية أراد الكاتب أن يمنحها للنص، لكي يَتَثَقَّف. معني ذلك أن “عصفورة الأمير”، ليست قصة خيالية إلا بقدر ما يسمح الخيال بالدخول في واقع ثقافي، ومعني ذلك أيضاً، أن القصة ليست عاطفية إلا من حيث تحضر العاطفة في مواجهة العقل، ويحضر الوجدان في مواجهة الفكر، وتحضر الخواطر في مواجهة الخلفيات الفكرية والثقافية التي تجعل منها تأملاً.علي مستوي تثقيف النص، نلاحظ حضور الكثير من الآيات القرآنية، ونصوصاً من الحديث النبوي الشريف، وأشعارا متناثر لدعم المناسبة والسياق الاجتماعي الذي يتدعَّم بالسياق الثقافي.إن حضور هذه النصوص، القرآنية والحديثية الشريفة والشعرية، يتلاحم مع مستوي آخر من مستويات تثقيف النص، يتجلي في الخطابات التي تزخر بها القصة، حول مفهوم الحرية ومفهوم السلطة ومفهوم الأمة ومفاهيم أخري. ملاحظات:علي ما يدعيه العنوان، بأن القصة هي “من طي النسيان”، فإنها تقوم علي تذكّر جميل للقيم الجمالية والأخلاقية والتربوية التي تنهض عليها الحياة الإنسانية. كأن القصة تعيد للنسيان تذكّره، أو كأنها أيضا، وهذا شأن من شؤون الكتابة الإبداعية، تبني عالما تخييلياً يحفل بالقيم والمثل العليا، كتابة أبدع فيها الكثير من الكتاب الذين حفلوا ببناء الواقع علي المثال. ورغم ما تعرضت له هذه الكتابة من نقد، فإن ما يعفي “عصفورة الأمير” من هذا النقد، هو أنها موجهة للفتيان، وأنها تقوم علي التخييل الجمالي لما يستعير الواقع، لمساءلته وبنائه علي نحو مثالي.ثم إن الكثير من لحظات القصة تحيل علي مرجع واقعي، يعرفه المغاربة جميعاً، وتدعمه الرسوم التي احتفت في القصة بالفضاء السياسي والديني والثقافي المعروف في المغرب، وهو أمر يدعو القراءة إلي اكتشاف آخر لشخصية الأمير، وهي تتنامي عبر تفاصيل وحكايات وشائعات تداولها الشارع المغربي. لكن إحالة شخصية الأمير، علي أمير معين، وإحالة شخصية السلطان علي ملك معين، قد تبددان الكثير من رمزية القصة، وهي الرمزية التي حرص عليها عنوانها الفرعي نفسه، وعباراتها المسكوكة عن سلطان عاش في قديم الزمان، وحرص عليها كذلك، البعد التخييلي للقصة.لن يقرأ فتيان الوطن العربي هذه القصة، بمرجعية القارئ المغربي، حتي والرسوم تقيم في فضاء القصر المغربي، بفسيفسائه وبنوع اللباس وبالطقوس إياها. يبقي أن جملة من الإشارات النصية، علاوة علي فضاء الصفحة المزين برسوم لها ما تحيل عليه من فضاء، إنما هي اقتراب من واقع يمكن أن يكون موجودا، ويمكن أيضا، أن يوجد في خيال القارئ.روائي وناقد من المغربق0