الخيانة والانتقام قصة قصيرة للدكتور علي القاسمي
الخيانة والانتقام
- د. علي القاسمي
- نقلا عن صحيفة المثقف
حدّثني صاحبي وهو يلوك كلماته بتؤدة وتلَذُّذ كما لو كان يتلمَّظ قطعة شوكولاتة فرنسية فاخرة نادرة المذاق رآها في واجهة إحدى المحلات بباريس، فقال:
في ذلك الصيف الذي لن يتكرّر، كنتُ قد اخترت باريس ملاذاً لي، واكتريتُ شقَّةً مؤثَّثةً صغيرة في شارع الكاردنال لوموان في الحي اللاتيني، وذلك لقربه من شارع المدارس الذي تقع فيه بناية السوربون، جامعة باريس الأولى، حيث أتابع دورة صيفية في الأدب والحضارة الفرنسية..
بعد انتهاء دروسي بعد الظهر، كنتُ أعود إلى الشقَّة من أجل قيلولة قصيرة؛ وهي عادة ورثتُها من أجدادي البدو، طبقاً لنظرية عالم النفس السويسري الدكتور كارل يونغ، الذي يسمّيها بالعادات المتجذرة في العقل الجمعي اللاواعي. وبعد أن أستفيق من قيلولتي بنشاطٍ متجدِّد، أخرج لأتمشى على الضفة اليسرى من نهر السين، الذي تنتشر على رصيفها أكشاك بيع الكتب القديمة، فأُلقي نظرةً على بعضها حتى لو لم تكُن لدي نيّةُ الشراء. وإذا واتاك الحظّ فقد تعثر على طبعة قديمة بل حتى الطبعة الأولى لعملٍ من أعمال أديبك المفضَّل..
في مساء ذلك اليوم الرائع المتشبِّث بذاكرتي منذ أكثر من أربعين سنة، كنتُ أقف في طابور الانتظار لاقتناء تذكرتي في دار سينما (الأوديون) في شارع سان جرمان التي تعرض فيلم " قصر أمي” المُقتبَس من رواية الأديب الفرنسي الشهير مارسيل بانيول..
ومن المصادفات الجميلة، أنني كنتُ أقف في الطابور خلف شابة فرنسية لفت انتباهي إليها شعرُها الأشقر الطويل الذي تغفو خصلاته على منكبيها العريضين بوداعة، ويغطّي رقبتَها الطويلة وأجزاء من قميصها الأخضر الأنيق؛ وكان قوامها رشيقاً متناسقاً يميل إلى الطول قليلاً. فأطلتُ النظر إليها كأني أتزلّق بأرجوحةِ شعرها الحريرية، فأشعر بالدفء والنشاط، وتسري في أقانيم روحي موجات خفية من اللذَّة والنشوة. ولعلّها أحسّت بنظراتي تنفذ إلى داخل جسمها البضّ، فالتفتتْ بطريقةٍ مؤدّبة إلى الخلف كما لو كانت تنظر إلى الشارع، لا إلى شخصٍ معيّن. فأطلَّتْ عليَّ بوجهها المُشرِق الصبوح المتناسق القسمات، فبهرني جمالها، وسحرتني ابتسامتها عندما التقت عيناها الخضراوان بعينيّ المتطلِّعتين، فابتسمتُ بدوري.
اغتنمتُ هذه الفرصة الجميلة فحييتُها وسألتُها:
ـ "هل اطلعتِ، آنستي، على مراجعات صحفية عن هذا الفيلم؟"
- "نعم، كانت مراجعات إيجابية. فالفيلم مقتبس من رواية للأديب الكبير مارسيل بانيول."
قلتُ ونحن نتحرَّك إلى الأمام قليلا:
- "قرأتُ ثلاثيَّته الرائعة: مجد أبي، وقصر أمي، وزمن الأسرار، وأعجبتُ بها؛ ولكنْ كثيراً ما يُفسد السيناريو مقاصد الروائي، ويبتعد عن روح الرواية، ويركِّز على القضايا الثانوية فيها وليس الأساسيةـ"
- "أنتَ على حقّ؛ ولكن المراجعات التي قرأتُها، تُثني على الفيلم وتقول إنَّ السيناريو والإخراج والتصوير تمكّنت من نقل سحر الرواية وأسلوبها إلى هذا الفيلم الذي حاز جوائز مرموقة."
قلتُ وقد اقتربنا من شباك التذاكر وصرنا جنباً إلى جنب:
ـ "هل تسمحين لي باقتناء تذكرتَينا معاً؟"
قالت باسمة:
ـ "شكراً. ولكن لماذا؟"
- " لكي أسعد بالجلوس إلى جوارك، ومواصلة الحديث معك قبيل العرض."
ـ "بكلِّ سرور."
كان الفيلم يدور حول ذكريات الروائي مارسيل بانيول عن حبِّه الأوَّل عندما كان فتى يافعاً. وفي نهاية العرض السينمائي خرجنا معاً؛ وألفينا نفسينا في شارع سان جرمان الذي كان يعجُّ في تلك الساعة بالأضواء الخافتة المنبعثة من المطاعم والمقاهي المنتشرة على جانبَيه؛ ومعظم هذه المحلّات قد رتَّبتْ طاولاتها على الأرصفة وفي الداخل، ووضعت على كلِّ طاولةٍ باقةَ زهورٍ بهيجة، وشمعةً داخل زجاجةٍ حمراء اللون، وإلى جانبها مناديل مخطَّطة وصحوناً بيضاء تحيط بها الملاعق والشوكات والسكاكين وكأنَّها دعواتٌ مفتوحة للمارَّة لتناول طعام العشاء.
قلتُ لرفيقتي بلطف:
- "بدايةُ هذه الأمسية الجميلة سارَّة جداً بفضل رفقتكِ والفيلم الرائع؛ ولاستكمال المسرَّة، أودُّ أن أدعوك لتناول طعام العشاء معاً."
قالت بابتسامة أخّاذة:
ـ "بكلّ سرور."
وقع نظرنا على (مطعم اللقاء) الواقع في الجانب المقابل من الشارع، فقطعنا الشارع إليه. وفضّلتْ هي أن نجلس داخل المطعم بعيداً عن ضوضاء الشارع.. ولجنا المطعم فاحتضننا بأثاثه الأنيق، ونوافذه العالية المزينة بالزجاج الملوّن، ولوحاته الفنّية الرائعة.
وهناك تعارفنا أكثر. فأخبرتني جانيت ـ وهذا اسمها ـ أنَّها باريسية عريقة، درست اللغة الفرنسية وآدابها في السوربون، وبعدما تخرّجت قبل ثلاث سنوات حصلت على عملٍ لدى دار سوي (العتبة)، وهي من أكبر دور النشر الفرنسية. بدأتْ مُصحِّحة للتجارب الطباعية، وترقَّت في العام الماضي إلى محرِّرة، وهي سعيدة بعملها الذي يتيح لها الاطلاع على كثير من الأفكار والمعلومات المنبثَّة في الكتب التي تصحِّحها أو تراجعها.
وأخبرتُها بأنني سميرـ وهذا اسمي ـ أعمل استاذا جامعياً في إحدى الدول العربية، بعد أن حصلتُ على الدكتوراه في اللغة الإنجليزية وآدابها من الولايات المتحدة الأمريكية، وأنني أخذتُ أمضي عطلتي الصيفية الطويلة في باريس لحضور دورات صيفية في السوربون، إعجاباً مني بالأدب الفرنسي.
كان المطعم متخصِّصاً في المطبخ الفرنسي الذي يُعدُّ هو والمطبخ المغربي والمطبخ الصيني من أشهر المطابخ العالمية من حيث تعدُّد أطباقها اللذيذة وأصنافها العديدة. كان اختيار جانيت لعشائها رفيقاً دقيقاً، فقد طلبتْ تلك الأطعمة الصحيّة اللذيذة ذات السعرات الحرارية المنخفضة: ست محارات، ثمَّ طبقاً رئيساً يتكوَّن من قطعة من سمك السلمون المشوي، مع قليل من الخضروات المنوَّعة المسلوقة بالبهارات؛ واعتذرتْ في آخر العشاء عن عدم تناول الحلويات. ولا شك أن اختياراتها تلك تنمُّ عن عنايتها برشاقتها وقوامها الجميل، وحفاظاً على صحّتها.
أثناء العشاء، حدثتني عن مطاعم ومقاهي شارع سان جرمان، قائلةً إنَّ تلك المحلات كانت تقوم قبل عصر التلفزيون خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات مقام التلفزيون، حيث يجلس في واجهتها كبار الأدباء والفنانين، وكان بعض المارة في الشارع يشيرون إليهم قائلين لرفاقهم: ذلك هو الفيلسوف جان بول سارتر وتلك هي رفيقته الأديبة سيمون دي بوفوار، وذلك هو الكاتب جان كوكتو بجانب رفيقه الممثل المسرحي جان ماريه، وهكذا..
خرجنا من المطعم حوالي الساعة العاشرة والنصف، وشارع سان جرمان ما زال عامراً بالساهرين، والمنتزهين. وأخبرتني أنها تسكن في حيٍّ بجزيرة المدينة ( لِيل ده لا سيتيه) بالقرب من الضفة اليمنى من النهر عبر جسر سان ميشيل، وهو جسر جميل مضاء بقناديل رومانسية الشكل يربط الجزيرة العريقة بالمنطقة الخامسة حيثُ أسكن، وأنَّها عادةً ما تذهب إلى شقَّتها سيراً على الأقدام. فأعربتُ عن رغبتي في مرافقتها حتى شقّتها. فأنا أحبُّ المشي بوصفه رياضتي المفضلة في أيام الأسبوع. أمّا في عطلة نهاية الأسبوع، فأزاول إما لعبة كرة المضرب (التنس) أو ركوب الخيل.
سرنا في الهواء العليل في شارع سان جرمان باتجاه الضفة اليسرى، بعد أن قطعنا شارع الجامعة، ثم عبرنا الجسر الذي أفضى بنا إلى الحي الذي تسكن هي فيه. وكان منظر الأضواء المتلألئة في النهر بهيجاً، والقوارب العامرة بالسياح غاديةً رائحةً في النهر، والجسر غاصاً بالمنتزهين، وعليه كثير من الفنانين والرسامين الذين قدموا من جميع أنحاء العالم يستلهمون باريس، ويعرض بعضهم لوحاتهم للبيع، أو يقومون برسم بورتريه أو كاريكاتير لمن يريد من السياح مقابل ثمن مقبول. وبعد حوالي عشرين دقيقة وصلنا إلى البناية التي تسكن فيها.
وفي الطريق عرضتُ عليها أن نشاهد معاً في اليوم التالي فيلم “ الجملية والوحش” الذي رأينا الإعلان عنه عند مدخل سينما (دانتون) التي مررنا بها في شارع سان جرمان نفسه، إن لم تكن قد شاهدَته من قبل، فأكدتْ أنها لم تشاهده سابقاً، وقبلت الدعوة مسرورة...
وعندما وصلنا إلى البناية التي تسكن فيها، وقفنا قليلاً للوداع، وقّبل بعضُنا بعضاً على الخدِّ على عادة الفرنسيين، وانصرفتُ عائداً إلى شقتي.
في اليوم التالي، التقينا بالقرب من شباك التذاكر في دار سينما دانتون، وقطعتُ تذكرتينا وولجنا دار السينما. وفيلم " الجميلة والوحش" مقتبسٌ من حكاية شعبية أوربية دُوِّنت مرات عدّة وصدر أفضلُ نصٍّ لها عن الكاتبة الفرنسية جين ماري لوبرانس دي بومونت في القرن الثامن عشر، ثمَّ أنتجتها السينما الأوربية والأمريكية مرَّات عديدة. وتدور الحكاية حول أمير كان معروفاً بأنانيته وقسوته، وقد أصابتْه ساحرةٌ بسحرها فحوّلت مظهره إلى وحش قبيح المنظر، ولم يكُن في مقدور هذا الأمير أن يتخلَّص من ذلك السحر اللعين ويستعيد شكله الأصلي إلا إذا تعلَّم كيف يحبُّ الآخرين ويتعاطف معهم ويجعلهم يحبُّونه. وذات يوم اعتقل الأميرُ رجلاً تاه في الغابة القريبة ودخل أراضي الأمير، فسجنه. وكانت لذلك السجين ابنةٌ جميلة تُدعى "بيل" راحت تبحث عن أبيها حتى اهتدت إليه، فعرضت على مساعدي الأمير أن يأخذوها سجينة بدلاً من أبيها، فوافق الأميرُ الوحشُ على أن يسجنها طوال حياتها. وفي أثناء بقائها في القلعة وخلال التواصل بينها وبين الوحش، أخذا ينجذبان أحدهما إلى الآخر، وطرأ التغيُّر على الأمير وجعله الحبُّ يصبح أكثرَ تفهُّماً ومودَّةً وإنسانية، فاستعاد شكله الوسيم السابق.
وعند خروجنا من دار السينما، دعوتها لتناول العشاء في مطعم الأطلس الذي يقع في الشارع نفسه، وهو مطعم متخصص في المطبخ المغربي. فقبلت الدعوة مسرورة. ولفت انتباهي في ذلك المطعم أنَّه يقدّم أَكلةَ الكسكس المغاربية في وجبة العشاء في حين أنَّ المغاربة أنفسهم لا يتناولونها إلا في وجبة الغداء لا سيَّما يوم الجمعة. كما أن المطعم حوّر كثيراً من طعم الأطباق المغربية لتوائم الذوق الفرنسي. وتحدّثنا أثناء العشاء عن أوربا التي كانت تؤمن بالسحر والخرافات في أثناء القرون الوسطى مأ أثَّر في أدبها..
وفي نهاية وجبة العشاء سرنا معاً في اتجاه شقَّتها على رصيف الضفة اليسرى من النهر الذي كانت تمخر مياهَه قواربُ السيّاح المسماة بـ (باتو موش) وكانت على بعضها فرقٌ موسيقية تعزف ألحاناً راقصة. وعبرنا جسر سان ميتشيل في اتجاه عمارتها، ومررنا بكاتدرائية (نوتر دام دي باريس) وكانت ساحتها الأمامية عامرة بالسيّاح الذين يمعنون النظر في هندستها المعمارية التي هي خليط من مدارس معمارية متنوعة، لأن بناء الكاتدرائية أستغرق قرنَين من الزمن تقريباً، من أواسط القرن الثاني عشر إلى أواسط القرن الرابع عشر. وكانت حديقتها الجانبية المطلّة على نهر السين حافلة بالمتنزهين والعشاق الذين افترش بعضهم الأرض.
...
وفي الطريق، عرضتُ عليها أن نلتقي في اليوم التالي لمشاهدة مسرحية “ الآباء المرعبون” التي كتبها الأديب الفرنسي الشهير جان كوكتو في أواخر الثلاثينيات وأخرجها على أحد مسارح باريس، واستمر عرضها طوال الوقت على مسارح فرنسية عديدة. وكانت آنذاك تُعرَض في (مسرح شاتليه) الواقع عبر نهر السين من الجهة الثانية من جزيرة المدينة ( ليل ده لا سيتي) حيث تسكن جانيت . قبلت الدعوة مسرورة.
وعندما وصلنا العمارة التي تسكن فيها جانيت، وقفنا للوداع وتبادلنا القبل على الخدَّين، ثم سرت عائداً إلى شقتي في الضفة الأخرى من النهر.
في اليوم التالي، التقينا بالقرب من شباك التذاكر في مسرح شاتليه. وكنت قد اقتنيتُ تذكرتَين من كشك التذاكر في ساحة دي لامادلين. وبعد تبادل التحية والقبلات على الخدَّين، دخلنا صالة المسرح، واتخذنا مقعدينا جنباً إلى جنب. وتدور هذه المسرحية حول عائلة باريسية تتألَّف من أبوَين وابنهما ميشيل وخالته العانس. ويلتقي ميشيل بزميلة له في الجامعة ويحبّها وتحبّه. وكانت يتيمة الأبوين، ولكن أحد أقاربها كان يُنفق على دراستها في الجامعة بباريس، كما أخبرته. وعندما سمع والدا ميشيل ثناءَه على حبيبته وسموِّ أخلاقها وجمالها وذكائها، شجَّعاه على اصطحابها معه إلى المنزل للتعارف. ولكن عندما رآها أبوه، أبدى معارضةً شديدة لعلاقة ابنه بها، لأنَّ الأب هو ذلك القريب غير القريب الذي كان ينفق عليها لكونها عشيقته، مع أنه كان في الوقت نفسه على علاقة باخت زوجته التي كانت تسكن معهم في المنزل. وكان الممثل الفرنسي المعروف جان ماريه يقوم بدور الابن في شبابه عندما عُرضت المسرحية أوَّل مرَّة سنة 1938. ولكن عندما شاهدناها بعد حوالي أربعين سنة من عرضها الأول، كان جان ماريه يقوم بدور الأب.
خرجنا من المسرح ومشينا إلى أحد المطاعم الجميلة المنتشرة في تلك المنطقة، وكان مطعماً روسياً، قالت هي أنها أكلت فيه من قبل وأن أطباقه لذيذة، وأنَّ أصحابه في الأصل من أولئك النبلاء الروس الذي لجأوا إلى فرنسا بعد الثورة البلشفية سنة 1917. وفي ذلك المطعم الصغير العريق، وعلى أنغام موسيقى باليه (بحيرة البجع) للموسيقار الرومانسي الكبير تشايكوفسكي، أخذنا نناقش المسرحية. قلتُ:
ـ "يبدو أن تحرُّر المرأة في فرنسا سبق تحرُّرها في أمريكا.، فحركة تحرير المرأة الأمريكية ازدهرت خلال الحرب الفيتنامية لا سيَّما في الستينيات والسبعينيات، في حين أن جان كوكتو كتب مسرحيته تلك في أواخر الثلاثينيات. وأتساءل متى بدأ تقليد العشيقة في فرنسا."
ـ قالت:
ـ "إن الولايات المتحدة الأمريكية بلد بلا تاريخ، فمعظم تاريخه قبل القرن العشرين يتمحور حول قتل السكان الأصليين للبلاد، الهنود الحمر، وجلب السود من أفريقيا واستعبادهم في حقول القطن، ولهذا يُطلَق على تلك البلاد أحيانا اسم العالم الجديد. أمّا في أوربا فهناك قرون عديدة من التقدُّم والرخاء والرفاه، التي انتجت نوعاً من التطوُّر والتحرُّر بما فيه تقليد العشيقة والعشيق.
قلتُ
ـ " ليس كل تغيّر هو تطور، فقد يكون التغيّر إلى الأسوأ فيسميه الفلاسفة بالفساد،"
ثم تساءلتُ عن الأسباب والعوامل التي شجعت على تقليد العشيقة.
فأجابت قائلة:
ـ "الأغنياء والديانة الكاثوليكية التي تحرّم الطلاق. فالأغنياء ابتداًء بالملوك والنبلاء كانوا يبحثون عن متع الحياة والملذّات، فاتَّخذوا العشيقات من الجميلات المتفرِّدات بالحسن العارفات بفنِّ إرضاء الرجال، وأنفقوا عليهن بسخاء. ففي القرن الخامس عشر مثلاً كان للملك الفرنسي فرانسوا الأول عشيقات معروفات في البلاط، ولبعضهن تأثير في قراراته السياسية. وكان البابا الكسندر السادس في روما يحتفظ بعدد من العشيقات وقد اعترف بأبنائه منهن. أمّا تحريم الطلاق في الديانة الكاثوليكية، وفرنسا كاثوليكية في الأغلب، فقد أجبرَ الزوجَين اللذَين لم يُعد الحبُّ يربطهما على البقاء معا في بيت الزوجية ورعاية الأولاد، دون أن تكون بينهما علاقة جنسية، وهذا ما يسمى بـ (الانفصال الجسدي)، ثم البحث عن الحبِّ خارج بيت الزوجية. قاطعتها قائلاً:
ـ اتفق معكِ، لأن الديانة البروتستانتية لا تحرِّم الطلاق بل تسمح به عند الضرورة، ولهذا لا نجد تقليد العشيقة في الولايات المتحدة ، على الرغم من وجود علاقات خارج إطار الزوجية.
واصلتْ كلامها قائلة:
ـ وقد أصبح تقليد العشيقة والعشيق شائعاً في المجتمع الفرنسي اليوم ومقبولاً، دون التصريح به في الغالب. وقد تكون العشيقة عزباء أو متزوجة. وينفق عليها العشيق بما يرضيها. وقد تكون للرجل أكثر من عشيقة واحدة كما قد يكون للمرأة أكثر من عشيق.
ـ وفي الحالة الأخيرة كيف نفرّق بين العشيقة والمومس؟
ـ يكمن الفرق في العاطفة، فعادةً ما تكون هناك عاطفةٌ إعجابٍ ورغبة متبادلة بين العشيق وعشيقته، في حين أن المومس تبذل نفسها في سبيل المال فقط لمن أراد.
خرجنا من المطعم بعد أن اتفقنا على اللقاء في اليوم التالي لمشاهدة مسرحية فكاهية، وتناول طعام العشاء بعد ذلك. وتمشّينا في اتجاه شقتها، وكان نسيم نهر السين في صيف باريس ينعش وجوهينا، ويُدخل الفرحة في قلبينا. وعندما وصلنا الساحة الأمامية لكاتدرائية نوتردام دي باريس، تنزَّهنا قليلا على ضفة نهر السين ونحن نمتِّع ناظرينا بالقوارب السياحية التي تجوب نهر السين وعلى بعضها فرقٌ موسيقية تعزف الألحان الراقصة، والأنوار المنعكسة على نهر السين تتراقص على صفحة الماء بجذل.
.
وكانت هذه الأمسية الثالثة لا تقل روعة عن الأمسيتَين السابقتَين. فقد استمتعتُ فيها بجمال جانيت الرائع وبحديثها الماتع المحمَّل بثقافة عميقة مجنّحة تحملني إلى عوالم الفكر الفرنسي في عصوره المختلفة خصوصاً عصر النهضة وعصر التنوير.
وتذكرتُ ونحن نتمشى على رصيف الضفة اليمن لنهر السين، أن العادة في الجامعات الأمريكية آنذاك، كانت تخوِّل للشابِّ أن يدعو رفيقته التي واظبت على قبول دعواته للمرة الثالثة، أن يعرض عليها الذهاب معه إلى مسكنه. ولهذا عندما وصلنا إلى جسر سان ميتشيل، قلتُ لجانيت:
ـ تعرفين أننا نستطيع أن نصل إلى شقَّتي بعد عشر دقائق إذا عبرنا الجسر كذلك، فهل تودين اليوم عبور الجسر ومرافقتي إلى شقتي؟
صمتت لحظة ثم قالت:
ـ "لا، شكراً. ولكننا سنلتقي غداً مساء إذا شئت.."
قلتُ:
ـ طبعاً. بيد أني سأرافقك حتى تبلغين شقَّتك.
وسرتُ معها في اتجاه العمارة التي تسكن فيها، ووقفنا عند بابها للوداع وتبادلنا القبل على الخد كالعادة، ورجعتُ عائدا إلى شقتي.
في اليوم الرابع، بعد أن شاهذنا مسرحية " خيّاط للسيدات" المضحكة التي كتبها المسرحي الفرنسي لابيش، وضحكنا كثيرا وتعشينا عشاء لذيذاً في أحد المطاعم الراقية، سرت معها حتى وصلنا الموضع نفسه، سألتها ما إذا كانت تود أن ترافقني إلى شقتي. قالت بابتسامة:
ـ " لا، شكراً." وأضافت متسائلةً: "هل سنلتقي غدا؟"
قلتُ:
ـ " طبعاً، ألم نتفق على مشاهدة الفيلم الأمريكي ( القتلة) المقتبس من قصة إرنست همنغواي والذي يعرض في سينما (الوفاق) بشارع سان جرمان؟ "
قالت: فعلاً، اتفقنا على ذلك. إلى اللقاء إذن.
في اليوم الخامس، كنا عائدين بعد أن شاهدنا ذلك الفيلم الرائع الذي ينتقد فيه همنغواي تفشّي العنف وسيطرة العصابات في المجتمع الأمريكي، وتناولنا عشاء لذيذاً،" وقبل أن نعبر جسر سان ميشيل، في اتجاه العمارة التي تسكن فيها، سألتها ما إذا كانت تود أن تذهب معي إلى شقتي، فأجابت بلطف وهي مبتسمة:
ـ "لا، شكراً."
واصلنا السير في اتجاه شقتها وقد لفّنا الصمت.
بعد ما يقرب من خمس دقائق، التقينا بشابٍ وفتاةٍ يسيران في الاتجاه المعاكس. كان الشاب طويلا وسيماً ذا ملامح فرنسية والفتاة طويلة جميلة شرقية القسمات.. ما إن اقتربنا منهما حتى رفع الشاب صوته قائلاً:
ـ "مساء الخير، جانيت. دعيني أقدم لكِ زميلتي دُنيا، هي من لبنان."
قالت جولييت وهي تمدُّ يدها لمصافحة الفتاة اللبنانية:
ـ " مساء الخير موريس، وأنا أقدِّم لك رفيقي سمير، وهو عربي كذلك."
وتصافحنا جميعاً، ثمَّ واصلنا السير في اتجاهين متعاكسين.
بعد دقيقتين من الصمت، التفتت إليّ جوليت، وقالت:
ـ "هل تودُّ أن نذهب معاً إلى شقَّتكَ؟"
قلتُ لها بلطف مصحوبا بابتسامة راضية:
ـ " لا، شكراً."
ـ " لماذا؟! "
قلتُ بلطفٍ وأنا أحافظ على ابتسامتي:
ـ " أربأ بنفسي أن أكون أداةَ انتقام."
صمتت جوليت لحظةً كأنها تستجمع أفكارها أو تستدعي عزيمتها لتبوح بسرٍّ ثم قالت:
ـ "صحيح أن موريس كان صديقي منذ شهور طويلة، ولكنه في الأيام الماضية أخذ يعتذر عن الخروج معي في الأمسيات التي اعتدنا على تمضيتها معاً. وداخلني الشك فيما إذا كان يريد إنهاء علاقتنا، ولهذا قبلتُ دعواتك، ثم وجدتك أفضل منه بكثير. واليوم تأكَّدت لي شكوكي. فأنا لكَ إن أردت."
علي القاسمي
مراكش في 20/12/2020