السياسي الدكتور عبد الهادي بوطالب يكتشف خطأ في الدعوة الملكية
- نقلا عن صحيفة المثقف
- د. علي القاسمي
تأسَّست المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) بالرباط في مايو/ أيار 1982، بوصفها وكالة متخصصة من وكالات منظمة المؤتمر الإسلامي (التي أصبح اسمها منظمة التعاون الإسلامي)، وهي منظمة دولية تضم حالياً سبعاً وخمسين دولة ذات أغلبية مسلمة.
افتتح العاهل المغربي الملك الحسن الثاني (1929 ـ 1999) مؤتمر الإيسيسكو التأسيسي في مدينة فاس، ونبّه في خطابه إلى ضرورة أن تعمل هذه المنظمة في التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكأنَّه كان يتوقع أن يعمل أعداء الأمة على إثارة صراعات طائفية فيها. وقد أُسند الملك الحسن الثاني منصب المدير العام للمنظمة إلى الدكتور عبد الهادي بوطالب (1923 ـ 2009).
الدكتور عبد الهادي بوطالب من قادة الحركة الوطنية الذين كان لهم دور بارز في النضال من أجل استقلال المغرب. إضافة إلى كونه مفكراً وباحثاً مرموقاً. تخرّج مطلع الأربعينيات في جامعة القرويين بمدينة فاس، وهي أقدم جامعة في العالم لا زالت عاملة منذ تأسيسها سنة 245هـ / 859م. وكان عميدها آنذاك العالِم الوطني الغيور محمد الفاسي (1908 ـ 1991)، الذي التمس من السلطان محمد الخامس (1909 ـ 1961) رعاية حفل التخرج، تأكيداً للذاتية المغربية في زمن الحماية الفرنسية. وكانت التقاليد الجامعية تقتضي أن يلقي الطالب المتخرِّج الأوَّل في الجامعة خطاباً في حفل التخرَّج. وعندما ألقى عبد الهادي بوطالب خطابه، أُعجب به السلطان محمد الخامس، فعيّنه مدرِّساً في المدرسة المولوية بالرباط حيث كان ابنه ولي العهد الأمير الحسن (الملك الحسن الثاني فيما بعد) يواصل دراسته. ومن هنا توطدت علاقته بالملكين فأصبح مستشاراً لهما، إضافة إلى أنه صار منسّق البرنامج الدراسي في كلية الحقوق بالرباط لولي العهد سيدي محمد بن الملك الحسن الثاني (الملك محمد السادس فيما بعد)، لأن بوطالب كان أستاذا بارزاً في كلية الحقوق في الرباط. وقد تسنَّم مناصب سياسية ودبلوماسية عديدة مثل : وزير الخارجية، وزير التربية الوطنية، وزير العدل، وزير الإعلام، رئيس مجلس النواب، سفير المغرب في واشطن.
له ما يربو على 60 كتاباً باللغتين العربية والفرنسية، ومنها ما يُدرَّس في الجامعات المغربية مثل:
ـ المرجع في القانون الدستوري والمؤسسات الدستورية.
ـ النظم السياسية المعاصرة.
ـ ملامح الدبلوماسية العالمية.
أعدُّ الدكتور عبد الهادي بوطالب من شيوخي، فقد صحبته قرابة عشر سنين عندما كان مديراً عاماً للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة واستخدمني فيها خبيراً ثم مديراً لإدارة التربية، وسعدتُ بقراءة العديد من كتبه، وتعلّمتُ منه كثيراً، وكان يعاملني كولده، ورافقته في معظم مهماته الخارجية للمنظمة.
وكان الملك الحسن الثاني يبعث به في المهمات الصعبة حاملاً بعض رسائله الخطّية أو الشفهية إلى بعض رؤساء الدول. أخبرني ذات مرة أنه حمل رسالة شفهية من عاهل المغرب إلى شاه إيران في أوائل السبعينيات عندما توترت العلاقات بين إيران والعراق، بسبب دعم السلطات الإيرانية لتمردٍ الملا مصطفى البرزاني، بالسلاح والعتاد والمال، وكادت الحرب تنشب بين البلدين.
عندما وصل أبو طالب إلى البلاط الإيراني كان عليه أن يستمع أولاً إلى شرح مطوَّل حول مراسِم وبروتكول مقابلة الشاه. وحينما دخل إلى صالة العرش، وجد الشاه ببزته العسكرية ونياشينه تغطي صدره وهو جالس على عرش عالٍ جداً. وعندما وقف أمام الشاه لإبلاغه الرسالة كان وجهه في مستوى جزمة الشاه.
قال الدكتور بو طالب بالفرنسية التي كان الشاه يجيدها ما معناه إن أخاكم الملك الحسن الثاني يبلغكم أحرَّ تحياته وخالص مودَّته ويقول لكم أن إيران بلد إسلامي وعمقها المادي والمعنوي هو بقية البلدان العربية الإسلامية ومنها العراق، وإذا تعرّض العراق لعمل عسكري فإن المغرب يجد نفسه ملزماً، بمقتضيات ميثاق جامعة الدول العربية، بالوقوف إلى جانبه. ولهذا فإن أخاكم الملك الحسن الثاني يعتمد على حكمتكم وبُعد نظركم في حلِّ الخلاف بالطرق السلمية.
فأجاب الشاه بما معناه: إن ما ذكره جلالة الملك الحسن الثاني هو ما يجعلني أتردد في إنهاء الخلاف عسكرياً، وإلا ففي مقدوري أن أسحق العراق بأقل من أسبوع.
وهنا رفع الشاه قدمه اليمنى وضرب بجزمته قاعدة العرش لتأكيد كلامه، فاندفع الهواء الناتج من الضربة إلى وجه الدكتور بوطالب.
وقال لي الدكتور: ومن تلك اللحظة كرهتُ الشاه.
[ولعل رسالة العاهل المغربي تلك من العوامل التي ساعدت على عقد اتفاق الجزائر 1975 بين شاه إيران وصدام حسين نائب رئيس جمهورية العراق آنذاك، بوساطة الرئيس الأسبق هواري بومدين (1932ـ1978) رئيس الجمهورية الجزائرية (1965ـ 1978)].
كان الملك الحسن الثاني يقول عن الشاه إنه من أصدقائه، " ولكنه ارتكب خطيئة التكبّر، وقد لاحظتُ ذلك لأول مرة عندما أقام احتفالا ضخماً بمدينة برسيبوليس التاريخية، حيث أراد أن يتباهى بألفي سنة من التاريخ، ناسياً بضعة قرون من الإسلام، ذلك أنه في ذلك العهد لم تكن إيران مجرد موظن للثقافة والديانة الإسلامية، بل غدت مركز إشعاع للفكر والحضارة الإسلاميين. إذن فعندما رأيتُه يقيم جداراً من الصمت على الفترة الإسلامية ليظهر الأسطورة الآرية، احجمتُ عن الاستجابة لدعوته [لحضور ذلك الاحتفال]."
ومع ذلك فإن وفاء الملك الحسن الثاني لصديقه شاه إيران، جعله يحاول إنقاذه من الثورة التي كان يخطط لها الإمام الخميني من منفاه في النجف، فأوفد مستشاره عبد الهادي بوطالب في مهمة سرّية لمقابلة الخميني ومحاولة إجراء الصلح بينه وبين الشاه، ووجَّهه بمقابلة الرئيس العراقي حسن البكر لتسهيل اجتماعه بالخميني. ولكن الاجتماع مع الخميني لم يتم، لأن البكر أخبر بوطالب أنه لا فائدة من الاتصال بالسيد الخميني لأنه سيغادر العراق بطلب منا، ولم يبق على موعد مغادرته سوى أيام معدودات.
وعندما اندلعت الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، وطلب الشاه اللجوء إلى المغرب، كان الدكتور بوطالب من بين المستشارين الذين نصحوا الملك الحسن الثاني بعدم استقباله، ولكن شهامة الملك جعلته يستقبل الشاه. وبعد وصول الشاه إلى الرباط، تلقى الدكتور بوطالب بطاقة دعوة ملكية لحضور وليمة عشاء يقيمها الملك الحسن الثاني تكريماً للشاه، فلم يحضرها.
فأخبر أحدهم الملك أن المستشار بوطالب لم يحفل بتلبية الدعوة الملكية لحضور العشاء. فاستقدمه الملك وسأله عن السبب في عدم تلبية الدعوة:
فقال الدكتور بوطالب المعروف بحدّة ذهنه وسرعة بديهته:
ـ سيدنا، ثمة خطأ فاضح في الدعوة التي وصلتني.
فسأل الملك مستغرباً:
ـ وما هو؟
أجاب بوطالب:
ـ لأن النقطة الأولى في الدعوة تقول: السلام على الملكَيْن، وأنا عندي ملك واحد هو الملك الحسن الثاني فقط.
فتبسَّم الملك.*
د. علي القاسمي
.........................
* الطرفة رقم 43 من كتاب:
ـ علي القاسمي. طرائف النوادر عن أصحاب المآثر (الشارقة: منشورات القاسمي، 2019)
تعليقات (17)