أصدقاء الدكتور علي القاسمي

النحو العربي وعلاقته بالمنطق للأستاذ الدكتور محمود محمد علي




النحو العربي وعلاقته بالمنطق للأستاذ الدكتور محمود محمد علي

336 مشاهدات

بقلم الأستاذ الدكتور علي القاسمي 

 1ـ 1. تمهيد:

تُطلِق معظمُ كتبِ تاريخِ الحضارةِ العربيةِ الإسلاميةِ مصطلحَ ” عصر الانحطاط” على الحقبة الممتدة من سقوط بغداد سنة 656هـ/1258م إلى النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر الميلادي، حينما أخذ العالم العربي يحتك بالثقافة الغربية عن طريق الاستعمار الأوربي والبعثات العلمية إلى أوربا وأمريكا. وقد اتَّسم عصر الانحطاط، الذي بدت إرهاصاته في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، بالركودِ الفكري، وتضاؤلِ البحث، وندرة  الإنتاج المعرفي، واقتصارِ التعليم على عددٍ محدودٍ من المراكز الدينية، وتحوُّل الفكر العربي من العقل إلى النقل ومن الإبداع إلى الإتباع، وأُغلِق باب الاجتهاد لدى الأغلبية، وساد التعصُّب الطائفي[1]، وأخذت دويلات الطوائف تحارب بعضُها بعضاً في المشرق والمغرب، ويتحالف بعضُها مع العدو.

وفي عصر الركود والجمود هذا، تأثَّرت سلباً التنميةُ اللغوية التي انطلقت بعد بزوغ شمس الإسلام. فتوقَّفت حركةُ تطويرِ الكتابة العربية، وتعثَّرت دراسةُ أساليبِ اللغة العربية وتعرقلت، وتمحورت حول قراءةِ متونِ النحوِ ونظمها، وتلخيصاتها، وشروحها، وذيولها، وحواشيها، والحواشي على الحواشي، من أجل حفظ القواعد النحوية عن ظهر قلب[2].

وفي القرن الميلادي العشرين، عندما أخذت المدارس على النمط الغربي تنتشر في البلدان العربية، أدى ذلك الجمود الذي أصاب التنمية اللغوية، إلى ازدواجيةٍ أليمةٍ في الكتابة العربية، إذ احتفظ رجال المعاهد الدينية برسمٍ غيرٍ مكتملٍ للقرآن الكريم ورثوه من عصر الانحطاط، وأطلقوا عليه اسم ” الرسم العثماني” وأضفوا عليه قدسية دينية؛ من دون أن يدركوا أنَّ (القرآن) هو كلام الله المسموع الذي ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[3] ، وأمّا (رسم القرآن) فهو صورة رمزية مرئية لذلك الكلام المسموع، يمكن تحسينها طبقاً لقدراتِ الرسّامِ اللسانيةِ والفنية وتبعاً لتطوُّر المعرفة في مجالِ الأنظِمة الرمزية والتقنيات الفنية للرسم. فـ (القرآن) هو كلام الله الذي أوحى به إلى رسوله الأمين (ص)، أمّا (المصحف)، فهو رسمٌ للقرآن أنجزه الناس. ولهذا نقول “رسم المصحف” تعبيراً عن كتابته التي هي رسم للقرآن المنطوق المسموع. ورسم المصحف ليس مقدساً إذ يمكن تغييره إلى الأفضل، فقد أُجرِيت تحسيناتٌ كثيرة على رسم المصحف عبر العصور. ولكن كلام الله في القرآن مقدَّس ثابت لا يجوز تغييره، بل يمكن تفسيره بشكل أفضل بتقدم العصر وتطوّر المعرفة. وهذا هو الفرق بين مصطلح (القرآن) ومصطلح (المصحف). فالقرآن قد يكون متلواً، أو مجوَّداً، أو مكتوباً. أمّا (المصحف) فهو القرآن مكتوباً. ولهذا فكلُّ مصحفٍ هو قرآن، وليس كلُّ قرآن هو مصحف.

 لم يأخذ أولئك الانحطاطيون الذين تمسّكوا بفكر عصر الانحطاط، بالتحسينات التي طرأت على الكتابة العربية أثناء ذلك العصر وبعده، في كتابة المصحف، على حين يتعلَّم أطفال المدارس الحديثة في بلداننا العربية اليوم، كتابةً أخذت بتحسينات كثيرة طرأت على الإملاء العربي. فأمسى هؤلاء الأطفال يواجهون صعوبة في تلاوة القرآن الكريم؛ ما اضطر بعض الأساتذة إلى محاولة كتابة القرآن الكريم بالإملاء العربي الحديث ونشره على الشابكة تيسيراً لقراءته على طلابهم. وهذه مبادرة خطيرة النتائج، تستوجب اضطلاع اتحاد المجامع اللغوية العربية والأزهر الشريف والمراكز الدينية الأخرى، إلى الاتفاق على إملاءٍ موحَّدٍ في الكتابة العربية، لا سيَّما أنَّ بلدان المشرق العربي لا تزال تكتب كلماتٍ مثل ” الرحمن ” و ” هذا” و ” لكن” ناقصةَ الرسم، على حين أنَّ بلدان المغرب العربي تكتبها كاملة: “الرحمان”، “هاذا”، “لاكن”[4]. وقد يقول قائلٌ: إنَّ خطاطي المصحف يضعون ألفاً صغيرة مكان الألف الناقصة، مثل ” لـٰكن”؛ نقول: إذن، لم تعُد تلك الكتابة رسماً عثمانياً كما يزعم بعضهم، إضافةً إلى أنَّها تعلِّم الأطفال التحايل، كما يخبرنا علم نفس الطفل.

ولا تجابه صعوبةُ ازدواجيةِ الكتابةِ العربية الأطفال العرب فقط، بل تجابه أيضاً جميع المسلمينَ، من الجبل الأسود والهرسك في قلب أوربا إلى ماليزيا وإندونيسيا في آسيا، الذين يتعلَّمون اللغة العربية الحديثة وكتابتها في المدارس ويقرؤونها في الصحف والكتب المطبوعة، ثمَّ يواجهون صعوبات في تلاوة المصحف الكريم.[5]

 لقد بقي درس اللغة العربية تحت وطأة تقاليد النحو التي سادت منذ عصر الانحطاط. وتشكّى الناس من صعوبة النحو وتعقيداته. وتنادى علماء اللغة العرب لتبسيط النحو، وعزا بعضهم صعوبته إلى تأثُّر النحاة القدامى بالمنطق اليوناني، وخلطهم النحو بالمنطق، وهو رأي كان عالم اللغة الأندلسي المغربي أبو مضاء القرطبي (ت 592هـ/1196م) من أوائل الذين نادوا به[6].

  وخلال القرن الميلادي العشرين، انبرى عددٌ من أساتذة النحو إلى تبسيط النحو وتيسيره. ولكنَّ معظم المحاولات انحصرت ـ مع الأسف ـ في الحذف والاختصار وإعادة ترتيب الأبواب النحوية والدعوة إلى استعمال طرائقَ تعليميةٍ جديدة ووسائل مبتكرة. ولعلَّ من بواكير الكتب المدرسية التي شاع استعمالها منذ الأربعينيات من القرن الماضي والتي حاولت تبسيط النحو بطرائقَ تعليميةٍ حديثةٍ، كتاب ” النحو الواضح في قواعد اللغة العربية” من تأليف علي الجارم ومصطفى أمين[7] اللذَين استعملا الطريقة الاستنباطية، أي إعطاء الأمثلة من النصوص أولاً، واستنباط القاعدة النحوية منها. وكذلك كتاب ” النحو الوافي ” من تأليف الدكتور عباس حسن.[8]

وفي أواسط القرن الماضي صدرت كتبٌ نظريةٌ كثيرة تحمل عناوين مثل: “تيسير النحو“، أو “تجديد النحو” لعدد من علماء اللغة العربية مثل مصطفى السقا، وإبراهيم مصطفى، ومحمد مهدي المخزومي، وشوقي ضيف، وغيرهم.

وفي القرن العشرين صدرت كتبٌ أخرى عن تاريخ النحو العربي. وانقسمت آراء الباحثين حول نشأة النحو العربي على فريقيْن:

الأوَّل، تابع هذا الفريقُ من عرب ومستشرقين، المؤرِّخين الإسلاميّين الذين قالوا بنشوء النحو على أيدي المسلمين أنفسهم.

الثاني، شايع بعضُ الباحثين العرب والسريان والمستشرقين الرأيَ القائل بأنَّ النحو العربي نشأ متأثرًاً بالمنطق اليوناني، إمّا مباشرة أو عن طريق ترجمات السريان له.

وكثيراً ما تتلوَّن آراءُ الباحثين بخلفياتهم وانتماءاتهم وميولهم الفكرية، وقلَّما يستطيع الباحث أن يكون موضوعياً خالصاً.

وهذا الكتاب الذي نقرأه اليوم يبحث في هذه المشكلة ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق“. وتعود أهمّية هذا الموضوع الذي يحتلُّ مكان القلب من ” فلسفة اللغة”، إلى أنَّ جميع الفلاسفة الغربيِّين، من اليوناني أفلاطون (427ـ347 ق.م.) إلى الأمريكي نعوم تشومسكي (1928 ـ  ) يدركون أنَّ اللغة هي تعبيرٌ منطوقٌ أو مكتوبٌ عمّا يدور في فكرِ الإنسان، وأنَّ تحليلَ اللغة ومعرفةَ كيفيةِ اشتغال ألفاظها وبنياتها للتعبير عن معاني الفكر، يساعدنا على فهمٍ أفضلَ لبنيةِ الدماغ وآليات اشتغاله.

1ـ2 . مؤلِّفُ الكتاب:

أحسبُ أنَّ قراءة أيِّ نصٍّ كان، هي عملية تواصلية بين مُرسِلِ النصَّ ومتلقّيه، وأنَّ استيعابَ مضامينِ أيِّ نصٍّ وفهمَ مقاصده ومراميه، يتيسران للقارئ بصورةٍ أفضل، إذا تعرَّف أوّلاً على كاتبِ النصِّ نفسِه، لأنَّ الكاتب عنصرٌ أساسٌ في العملية التواصلية. فالكاتب يُرسل مع النصِّ كثيراً من خلفيته التاريخية والجغرافية، وشيئاً من انتمائه الفكري، وبعضاً من ميوله النفسية، سواء أراد ذلك أم لم يُرِد.  ولهذا أبدأُ دائماً بالتعريف بمؤلّف الكتاب الذي أريد عرضه.

مؤلّف هذا الكتاب هو الأستاذ الدكتور محمود محمد علي الذي يُعَدُّ من أبرز المفكرين العرب المعاصرين، وأغزرهم إنتاجاً وعطاءً، وأكثرهم أصالةً وإبداعاً.

1ـ3. ميلاده ومدينته:

ولد مفكِّرنا، الدكتور محمود محمد علي، سنة 1966 في مركز مدينة (أخميم)، عاصمة محافظة سوهاج في صعيد مصر، التي تحوَّر اسمها من الاسم المصري (خَنت مِين)، إله الفلاحة لدى قدماء المصريّين. وتقع أخميم على نهر النيل جنوبي القاهرة بما يقرب من 391 كم ( وتبلغ المسافة على طريق السيّارات أكثر من 468 كم وتستغرق بالسيّارة قرابة خمس ساعات). وهاذه المدينة من أقدم المدن المصرية وعامرة بالآثار الفرعونية؛ “وقد سُرِق العديد منها واشترك في سرقتها الكثير من أصحاب السلطات في مركز أخميم[9] على حدِّ قول كاتب مادَّة أخميم في موسوعة ويكيبيديا. ولكثرة آثار أخميم، يوجد فيها متحفٌ فرعونيٌّ مكشوف، يزيّنه تمثال جميل للأميرة مِريت أمون، ابنة رمسيس الثاني، وهو أعلى تمثالٍ كاملٍ لملكةٍ أو أميرةٍ مصريةٍ قديمةٍ، إذ يبلغ طوله ثلاثةَ عشرَ متراً.

 1ـ4. دراسته:

حاز المؤلِّف الليسانس في الفلسفة سنة 1988 في كُلِّيَّة الآداب في سوهاج التي كانت تابعة إلى جامعة أسيوط (وهي رابع جامعة تؤسَّس في مصر بعد جامعات القاهرة والإسكندرية وعين شمس، إذ بدأ مشروع إنشائها سنة 1947 وافتُتحت رسمياً سنة 1957 في مدينة أسيوط عاصمة محافظة أسيوط التي تقع شمال محافظة سوهاج). ونال المؤلّف الماجستير بتقدير ممتاز في الفلسفة من الكُلِّيَّة ذاتها سنة 1992، برسالته المعنونة ” المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول في ضوء المنطق الأوربي الحديث”. وفي سنة 1995 نوقشت أطروحته للدكتوراه وعنوانها ” المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة” وأُجيزت بمرتبة الشرف الأولى في كلِّيَّة الآداب ذاتها التي صارت تابعة لجامعة جنوب الوادي آنذاك.

ومن عنوانَي رسالتَيه الجامعيَّتَين، ندرك أنَّ الرجل ملمٌّ بالمنطق: قديمه وحديثه، يونانيّه وإسلاميّه وأوربيّه.

 1ـ5. عمله الأكاديمي:

يشغل المؤلِّف الفاضل حالياً منصبَ رئيسِ قسمِ الفلسفة ورئيس مركز دراسات المستقبل في كلية الآداب بجامعة أسيوط في مدينة أسيوط، بعد أن انتخبه زملاؤه الأساتذة، سنة 2012، لرئاسة القسم، وهو منصب أكاديميٌّ رفيع. وكان في بداية ذلك العام قد ترقّى إلى مرتبة أستاذ في الجامعة.  ولكنَّه قبل أن يصل هذه المكانة الجامعية المرموقة، كان قد مارس التدريس الجامعي في عدّة جامعات. فبعد حصوله على الدكتوراه سنة 1995، التحق بجامعة حلوان قرب مدينة القاهرة، ليدرِّس المنطق وفلسفة العلوم في قسم الفلسفة في تلك الجامعة حتى أوائل سنة 1997، ثمَّ انتقلَ أستاذاً مساعداً في جامعة أسيوط. وفي سنة 2007، انتُدِب ليتولّى منصبَ رئيسِ قسمِ العلومِ السلوكية في جامعة السابع من أكتوبر في مدينة بني وليد في ليبيا. وعاد إلى جامعته ليتدرَّج في رتب الأستاذية حتّى يُصبح برتبةِ أستاذٍ في أوائل سنة 2012.

إنَّ هذا التنوّع في أماكن العمل الجامعية، وفي الموادِّ التي يضطلع بتدريسها، وفي اللجان الأكاديمية التي يشارك في أعمالها، والرسائل والأطروحات التي يشرف عليها أو يشارك في مناقشتها، والدعوات المختلفة التي تصله من كثير من الجامعات العربية لتقييم أعمال أعضاء الهيئات التدريسية لغرض ترقيتهم، أو من المجلات الأكاديمية لتقييم البحوث المرشحة للنشر فيها؛ جميع تلك الفعاليات التي ينشط فيها بكل اقتدار، وسَّع مجالات عمله واطلاعه على ما يثير اهتمامَ زملائِهِ الجامعيّين وطلابه الباحثين من قضايا ومشكلات.

1ـ6. إنتاجُه المعرفي في مجال تخصُّصه:

يصف الدكتور محمود محمد علي (أبو مصطفى) تخصُّصَهُ العامَّ بـ (الدراسات الفلسفية)، وتخصُّصَهُ الدقيقَ بـ (المنطق وفلسفة العلوم ومناهج البحث والابستمولوجيا).

وهذا الوصف للتخصُّص العامِّ والخاصِّ يصدق على الإنتاج العلمي لأبي مصطفى الذي يغطّي مجالاتٍ معرفيةً عديدةً تشملها عبارة “الدراسات الفلسفية“. فالفلسفة مشتقَّة من اللفظ اليوناني φιλοσοφία ( فيلو سوفيا) الذي يعني حرفيا (حبَّ الحكمة)[10]، ويشمل البحث في  الوجود والمعرفة والقيم والعقل والاستدلال واللغة؛ وبعبارة أخرى: كلّ شيء. فالوجود يشمل الكون كله، والمعرفة تشمل جميع المجالات التي نعرفها أو نبحث لمعرفتها.

وفي ضوء هذا التعريف للفلسفة، وفي ضوء تنوّع البحوث التي يجريها الدكتور محمود، نستطيع القول إنَّه فيلسوفٌّ حقيقي يعشق الحكمة بكلِّ جوانحه ويبحث في أمورٍ كثيرةٍ في مجالاتٍ مختلفة: من علاقة النحو بالمنطق إلى مفاوضات سدِّ النهضة بين إثيوبيا والسودان ومصر. وتُعدُّ مؤلَّفاته المطبوعةُ المنشورةُ بأكثر من ثمانين كتاباً وبحثاً[11]، وتتوزَّع على جميع مجالاتِ تخصُّصه المذكورة في أعلاه. ولنضرب بعض الأمثلة من كتبه المنشورة على ذلك:

في مجال مناهج البحث :

كتاب ” الاتجاه التجريبي عند ليوناردو دافنشي” (1999)

في مجال تاريخ العلوم:

كتاب ” الأصول الشرقية للعلم اليوناني” (1998)

في مجال فلسفة العلوم:

كتاب ” دراسات في المنطق المتعدِّد القيم وفلسفة العلوم” (2012)

في مجال السياسة قديمها وحديثها:

كتاب ” تطور الفكر السياسي الإسلامي منذ الينابيع حتى أواخر القرن التاسع الهجري” (2017)

وكتاب ” حروب الجيل الثالث ونظرية تفتيت الوطن العربي” (2017).

وكتاب ” أوباماً ونظريته في تغيير الأنظمة العربية تمهيداً للربيع العربي” (2019).

وينبغي الإشارة إلى أنَّ أيَّ كتابٍ من كتبه لا يقتصر على مجالٍ معرفيٍّ واحد، وما ذكرناه مجرَّد أمثلة؛ فالدكتور محمود (عالمٌ مشاركٌ)، كما كان علماؤنا القدماء يسمون الأفذاذ النوادر منهم، أي (عالمٌ موسوعيٌّ)، بالمصطلح المعاصر. فكتابه ليس مثل رافد أنتجه ينبوع واحد، بل مثل بحيرة بين جبال عملاقة تصب فيها روافدُ متعدِّدةٌ قادمةٌ من ينابيعَ وعيونٍ جبليّةٍ مختلفة. فأنتَ تجد في الكتاب الواحد أصولَ الفلسفة، والمنطق، ومناهج البحث، وتاريخ العلم، وفلسفته، وأهدافه، واتجاهاته، وغيرها من المعارف. ففكْرُ الرجلِ زاخرٌ بشتى العلوم النافعة، وينطبق عليه المثل ( وكلُّ إناء بالذي فيه ينضح)[12].

وبالإضافة إلى ميزتَي الدقَّة العلمية والتنوُّع المعرفي، فإنَّ الدكتور محمود يتحلّى بغزارة الإبداع والإنتاج والعطاء. ففي بداية سنة 2012 صدرت له خمسة كتب قيِّمة ومن دار نشر واحدة هي:

ـ ” منهج البحث في تراثنا العربي“،

ـ ” التفكير العلمي ومستجدات الواقع، قضايا وإشكالات“،

ـ ” دراسات في المنطق المتعدد القيم وفلسفة العلوم“،

ـ ستيفن تولمان. “البصيرة والفهم: دراسة في أهداف العلم” ترجمة محمود محمد علي.

ولهذا النشاط كله، لا غرو أن ينال الدكتور محمود في أوائل سنة 2012 ترقيته الجامعية من أستاذ مشارك إلى رتبة أستاذ، وينتخبه زملاؤه الأساتذة، بعد بضعة أشهر في تلك السنة، رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة أسيوط، كما مرَّ بنا.

ويلفت الكتابُ الأخير انتباهنا إلى أنَّ الدكتور محمود لا يزاول تأليف الكتب فحسب، وإنَّما يترجم بعض الدراسات الهامَّة لمشاهير الفلاسفة والمفكِّرين كذلك، مثل ترجمته لدراسة ” ليوناردو دافنشي: العلم والفن” من تأليف العلّامة البلجيكي الأمريكي المُستعرِب المؤرِّخ الكيميائي الصيدلي الفيلسوف جورج سارتون (1883ـ1956)، صاحب كتاب ” تاريخ العلم[13] الشهير؛ وكذلك ترجمته لدراسة ” مكانة ليوناردو دافنشي في ظهور العِلم الحديث” للمؤرِّخ الفيلسوف الأمريكي الشهير جون هيرمان راندال (1899ـ1980)، الذي تصعب ترجمةُ أعماله لغزارة علمه وكثافة المعارف التي يسوقها في أبحاثه. فهو صاحب الكتاب المشهور” تكوين العقل الحديث[14] الذي تُرجم إلى عدد من اللغات العالمية. ويقول عنه مترجمه إلى اللغة العربية المترجم الكبير الدكتور جورج طعمة (1922ـ20044) الحاصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة جورج تاون الشهيرة في واشنطن دي. سي.:

        ” لقد كان نقلُ هذا الكتاب للغة العربية رحلةً شاقةً في عالَم الفكر والثقافة والحضارة. ولكنّها رحلة ممتعة دون ريب.”[15] .

 ولهذا يمكن القول إنَّ الدكتور محمود محمد علي هو منطقي، فيلسوف، مؤرِّخ، تربوي، مترجم. بيدَ أنَّ المنطق له مكانته الأثيرة لديه ويحتلُّ الأولوية في دراساته. فنحن نجد أن لفظ ” المنطق” ومشتقاته، يظهر في عنوان رسالته للماجستير ” المنطق الإشراقي عند السهروردي المقتول في ضوء المنطق الأوربي الحديث” (1992)، وفي عنوان أطروحته للدكتوراه   ” المنطق وعلاقته بالفقه عند الأشاعرة” (1995)، وفي عناوين عددٍ من كتبه مثل كتابه ” العلاقة بين المنطق والتصوّف في تراثنا الفكري” (1999)، وكتابه “المنطق الصوري القديم بين الأصالة والتبعية ” (2013) ، وكتابه موضوع هذه القراءة ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق” (2016).

وظهر لفظ المنطق ومشتقاته في عدد من عناوين بحوثه المنشورة، مثلاً: في بحثه ” “موقف المناطقة الرياضيّين من القضية الحملية” (1998)، وفي بحثه ” الاستدلالات المنطقية في طوبيقا شيشرون” (1999)، وفي بحثه ” إرهاصات النسق الاستنباطي في المنطق الميجاري الرواقي” (2001) ، وفي بحثه ” تطور الاستدلال في المنطق الهندي” ( 2004).

ومَن يُمعِن النظرَ ويُعمِل الفكرَ في عناوين هذه الكتب والبحوث، يكتشف بسهولةٍ أنَّ مؤلِّفها الكريم أحاط بالمنطق إحاطة الخاتم بالإصبع، كما يقولون، فقد تناوله تاريخياً وجغرافياً وموضوعياً.

1ـ7. إنتاجه الفكري في مجال السير والتراجم:

وأخيراً وليس آخراً، للدكتور أبي مصطفى اهتمامٌ خاصٌّ بكتابة السير والتراجم، وهو فنٌّ عربيٌّ  قديم كان في الجاهلية شفويّاً يُعنى بسردِ حياةِ الشعراء المشهورين وذكرِ أشعارهم وأخبارهم ورواية أيام العرب، أي معاركهم وحروبهم. وبعد ظهور الإسلام وانتشار الكتابة دُوِّنت سيرةُ الرسول (ص)، ثمَّ تكاثرت الكُتب التي تتناول تراجم وطبقات الشعراء والمُحدِّثين والفقهاء والأطباء وغيرهم. ومما يؤخَذ على تلك الكتب أنَّ أصحابها لم يتناولوا أفكارَ المُترجَم لهم بالنقد والتحليل والتعليل.  وفي العصر الحديث اهتمَّ بهذا الفنِّ الماتع عددٌ من كبار الأدباء مثل طه حسين في سيرته الذاتية ” الأيام“، وعباس محمود العقاد في سِيَره الغيرية “العبقريات[16] وطوروه.

ونجد هذا الاهتمام لدى الدكتور محمود محمد علي، فقد اطلعتُ مؤخَّراً على عدَّة مقالات له في السيرة الغيرية، نشرها في “صحيفة المثقف“، تناولت عدداً من المفكرين المعاصرين في مختلف المجالات العلمية، ينتمون إلى بلدانٍ عربيةٍ عديدة. وأضرب فيما يأتي أمثلة من الأعلام الذين تناول سيرهم بقلمه الساحر:

الأعلام

التخصُّص الرئيس

القطر

المهدي المنجرة

علم المستقبليات

المغرب

جبرا إبراهيم جبرا

الأدب / الفن

فلسطين ـ العراق

عبد الواحد لؤلؤة

الترجمة / النقد الأدبي

العراق

حسين سرمك حسن

الطب النفسي/ النقد الأدبي

العراق

ميثم الجنابي

الفلسفة/ التاريخ

العراق

علي أسعد وطفة

علم الاجتماع

سورية

جورج طرابيشي

الفلسفة

سورية

ماجد فخري

الفلسفة

لبنان

سهير عبد السلام

الفلسفة

مصر

إبراهيم بيومي مدكور

الفلسفة

مصر

هاني الجيار

الفن التشكيلي

مصر

نوبي محمد حسن عبد الرحيم

الهندسة المعمارية

مصر

حسن طلب

الشعر

مصر

مصطفى النشار

تاريخ الفلسفة

مصر

عبد العزيز الطنطاوي

الجيولوجيا

مصر

صلاح فضل

النقد الأدبي

مصر

 

هذه مجرَّد أمثلة من السِيَر التي أطلعتُ عليها شخصياً، ويظهر فيها جلياً تعدَّد المجال المعرفي، وتنوع الانتماء القطري للأعلام الذين تناولهم الباحث الفاضل. وإذا كان يغلب على هؤلاء الأعلام، تخصُّصُهم في الدراسات الفلسفية، وانتماؤهم لمصر، فإنَّ ذلك أمرٌ طبيعيٌّ، لأن جميع الكتّاب يتأثرون بميولهم الوطنية والفكرية، ويسهل عليهم الكتابة عمَّن هم أقرب إليهم مكانياً وموضوعياً.

كما اطلعتُ ـ وأنا أعدّ هذا المقال ـ على رسالة من فالدمير بيلوف رئيس تحرير مجلة الفلسفة التي تصدر باللغة الإنجليزية في ” الجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب[17] في موسكو، موجَّهة إلى مَن يهمُّه الأمر، يشير فيها إلى أنَّ مقالة ” منصور فهمي، رائد الحركة النسوية الإسلامية في مصر الحديثة” لكاتبها الدكتور محمود محمد علي، ستُنشَر في مجلة الفلسفة، في المجلد 25، العدد 2 لسنة 2021.[18]

1ـ. 8. اهتمام المؤلّف بالقضايا السياسية الراهنة:

للدكتور محمود عشرات المقالات التي تتناول القضايا السياسية الراهنة بالتحليل والنقد وإبداء الرأي، تماماً كتلك التي يكتبها كبارُ المحلِّلين الصحفيّين المتخصِّصين. ولم تجد هذه المقالات طريقها إلى سيرته العلمية المنشورة في موقع أساتذة جامعة أسيوط. وفيما يأتي أمثلة من عناوين هذه المقالات التي نُشِر بعضها في “صحيفة المثقف“:

ـ لماذا اختار جو بايدن هاريس نائبة له؟

ـ اقتصاد المعرفة ودوره في تعافي الدولة المصرية،

ـ الإخوان المسلمون والخنزير الأحمر،

ـ حروب المياه والصراعات القادمة في الشرق،

ـ لماذا تصرُّ إسرائيل على التطبيع مع السودان.

ـ حوار الأديان، كيف نفهمه؟

ـ لماذا اندلعت الحرب الأهلية في إثيوبيا؟

ـ الأبعاد الحقيقية بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ.

وعندما كنتُ أقرأ مقالات الدكتور أبي مصطفى السياسية، استولت عليَّ الدهشة وسيطر عليَّ العجب لكثرة المراجع المتنوِّعة، غربيةٍ وعربيةٍ، موضوعةٍ ومترجمةٍ، التي يكدِّسها ببراعةٍ في كلِّ مقال، وتساءلتُ في نفسي: كيف يستطيع هذا الرجل ـ وفقه الله ورعاه ـ الرجوع إلى جميع تلك الكتب والمقالات، وتدوين الاقتباسات منها. بالإضافة إلى إبدائه الرأي الصائب في إشكاليّات الموضوع، مع الحيادية التامة والموضوعية العلمية اللتين يلتزم بهما. كنتُ أتساءل ما إذا كانت الجامعات المصرية قد بلغت شأوا عالياً من الرفاهية الأكاديمية بحيث يستطيع كلُّ أستاذ أن يختار عدداً من طلبة الدراسات العليا فيعيّنهم مساعدِين له للبحث، أو التدريس، أو تصحيح أوراق امتحانات الطلاب، كما هو الحال في الجامعات الأمريكية الكبرى. وقد عملتُ شخصياً مساعدَ بحث لأحد الأساتذة عندما كنتُ طالبَ دكتوراه في جامعة تكساس في أوستن، قبل عصر الشابكة. فكان الأستاذ يخبرني بموضوع البحث الذي يشتغل عليه وخطته، ويوجهني بجمع المصادر له والتأشير على الاقتباسات التي تتعلّق بموضوع بحثه. ثمَّ يتولّى الأستاذُ تحريرَ البحث واختيار الاقتباسات المناسبة وإدراجها في المواضع المناسبة.

 1ـ9. أسلوب الكاتب ولغته:

        نظراً لتمكُّن الدكتور محمود من المنطق واللغة وممارسته التعليم، فإنَّ إسلوبه يتسم بالوضوح والبلاغة والسلاسة. والوضوح ثمرة تمكُّن الكاتب من ترتيب أفكاره، وتصنيفها وتسلسها بشكل منطقي، وصبّها في تراكيبَ لغويةٍ بعيدةٍ عن التعقيد والغرابة، مؤطَّرةٍ بألفاظ مأنوسة متداولة قريبة من فهم القراء الذين يفترض فيهم أنهم طلابٌ في قسم الفلسفة. والتصنيف هو تقسيم الأشياء والأفكار وترتيبها في مجموعات طبقاً للخواص والصفات المشتركة بين أفراد كلِّ مجموعة، ما ييسّر للقارئ استيعابها وفهمها. وسنضرب أمثلة على التصنيف المنطقي للأفكار المتباينة في الكتاب عندما نناقش مضمونه. أمّا وضوح لغة المؤلِّف وسلاستها، فيمكن أن نضرب المثل عليها من أية فقرة في الكتاب. ولتكن هذه الفقرة الفلسفية الآتية التي تطرح قضية الصلة بين المنطق والنحو، لأنَّها تكمل الفكرة الأساسية في فلسفة اللغة التي طرحناها سابقاً في فقرة التمهيد في أعلاه،  لتوكيدها:

ويقال إن ” أرسطو”(384- 322ق.م) قد توصل إلى كثير من التصنيفات المنطقية خلال دراسته للنحو اليوناني؛ حيث ذهب إلى أن الكلام يعبِّر بدقة عن أحوال الفكر، وأن المرء في وسعه أن يستعين بالقوالب النحوية لكي يكشف عن أحوال الفكر.  فالنحو ينظر إلى الألفاظ من ناحيتين: من ناحية وجودها مفردة، فيقسّمها إلى أسماء، وأفعال، وحروف ؛ ومن ناحية ارتباطها في جملة معينة . ونفس الشيء يُقال عن الفكر الذي ينقسم إلى أفكار مفردة هي التصورات، والأفكار المرتبطة بها وهي القضايا والتصديقات. وعلى هذا فتقسيم أرسطو للأفكار إلى: تصوُّرات وتصديقات، هو تقسيم مأخوذ أصلا من النحو.”[19] (ص 2ـ3 من الكتاب).

وخلاصة الفقرة أن أرسطو استدل على تقسيمات الأفكار العقلية، بتقسيمات الألفاظ اللغوية. فهذه الفقرة الصغيرة تطرح فكرة كبيرة معقدة، ولكن الكاتب يسّرها للاستيعاب والفهم بفضل التصنيف المنطقي للأفكار الواردة فيها. فقسّم نحو اللغة إلى كلمات مفردة وجمل مركّبة. وقسم منطق الفكر إلى تصورات مفردة وتصديقات تتعلق بها، بطريقة تناظر نحو اللغة.

 2)   الكتاب: نشأة المنطق اليوناني تأثَّرت بنحو اللغة اليونانية،

فهل تأثرت نشأة النحو العربي بالمنطق اليوناني؟؟!

 2ـ1. عنوان الكتاب:

تنصُّ إحدى مقولات المدارس النقدية المعاصرة على أنَّ ” العنوان ثريّا النصّ” وكأنّها تردِّد القول العربي السائر ” الكتاب يُقرَأ من عنوانه“. وهذا يدلُّ على أن العنوان يلخِّص مضمون الكتاب. وتتمتع إستراتيجية اختيار عنوان الكتاب وصياغته بأهمِّيةٍ بلاغيةٍ ونفسيةٍ وتسويقية[20].

فعنوان كتاب الدكتور محمود ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق” يُمكن أن تُشكَّلَ ألفاظه الأساسية في أربع صِيغ:

ـ المنطق وعلاقته بالنحو العربي،

ـ النحو العربي وعلاقته بالمنطق،

ـ العلاقة بين المنطق والنحو العربي،

ـ العلاقة بين النحو العربي والمنطق.

ولكن هذه الصيغ الأربع ليست متساوية دلالياً، ولا بلاغياً. وقد اختار المؤلِّفُ عنوانه عن دراية وعناية. فتبوؤُ “النحو العربي” صدارةَ الجملة وتعلُّقُ بقيَّتُها به، يدلّان دلالة قاطعة أن الموضوع الأساسي في هذا الكتاب هو النحو العربي: نشأته، وتاريخه، وتطوره، ومدارسه الفكرية، وأبرز العلماء فيه، وأشهر مؤلَّفاتهم، والمرحلة أو المراحل التي تأثَّر خلالها بالمنطق. فالنحو العربي هو المسند إليه كما يؤكِّد النحويون، وهو الموضوع، كما يقول المناطقة. فالنحو العربي هو موضوع الكتاب.

 وقد يقول قائلٌ: من المحتمل أنَّ هذه الصياغة وقعت مصادفة. والجواب بالنفي، والدليل على ذلك وجودُ كتبٍ أخرى للمؤلف حملت عنواناً مشابهاً، ولكن صياغته اختلفت لاختلاف طبيعة البحث وأهدافه. ومن هذه الكتب: ” العلاقة بين المنطق وعلم أصول الفقه” (2012)، و” العلاقة بين المنطق والتصوف في تراثنا الفكري، السهروردي نموذجاً” (2013).

2 ـ 2. أغراض الكتاب:

في مقدِّمته، يحدِّد المؤلِّفُ أربعةَ أغراضٍ لهذا الكتاب هي:

أولا، يتوخَّى المؤلِّفُ أن يسدَّ هذا الكتاب فراغاً في المكتبة العربية، لأنَّها تكاد تخلو من الدراسات التي تتناول علاقةَ النحو بالمنطق في التراث العربي الإسلامي.

ثانياً، يرمي المؤلِّف إلى الإجابة على السؤال: هل تأثَّر النحاةُ العرب بالمناطقة؟ ومتى ؟ وإلى أيّ مدى؟

ثالثاً، معرفة نوعية الصلات القائمة بين النحو والمنطق، لا سيَّما أنَّ العقل هو الجامع بينهما.

رابعاً، تبيان إسهام العلاقة البناءة بين النحو والمنطق في تطوير الدراسات المنطقية في التراث العربي الإسلامي.

وأرى أن في وسع الأساتذة الجامعيّين أن يضيفوا غرضاً آخر هو توجيه طلابهم باتخاذ هذا الكتاب نموذجاً للبحث العلمي المثالي، فالدراسة التي يضمّها هذا الكتاب تتوافر على جميع شروطِ البحثِ العلميِّ الجيّد، لا سيَّما أنَّّ المؤلّف من المتخصِّصين القلائل في مناهج البحث. إنَّ هذا الكتاب نموذجٌ رائعٌ لإعداد البحوثِ الأكاديمية وكتابتها.

ومع أنَّ الكتاب ـ في نظري ـ قد حقَّق أغراضه الرئيسة وبلغ الغاية المتوخّاة منه، فإنَّ المؤلِّف يتَّصف بتواضعِ العالِم، ويقول بأسلوبٍ جزلٍ جميل:

ولا ازعم أنَّني قد بلغت الغاية في هذا البحث، أو أنَّ جميع جوانب الحقيقة في موضوعه قد تكشَّفت لي، وهذا يُعدّ شيئاً طبيعيّا لدارسٍ يكتب في موضوعات غير مطروقة، ويسير في طريقٍ بالغ الصعوبة والغموض.”[21] .

2 ـ 3. مضمون الكتاب:

يقع الكتاب في 425 صفحة من القطع الكبير، وتتوزَّع مادته على مقدمةٍ، وتسعة فصول هي:

  • البواكير الأولى للنحو والمنطق،
  • التأثير اليوناني والسرياني للنحو العربي بين الرفض والقبول،
  • التفسير الابستمولوجي لنشأة النحو العربي،
  • النـزعة التجريبية في كتاب سيبويه،
  • مدرستَي البصرة والكوفة وبدايات مزج النحو بالمنطق،
  • مشروعية العلاقة بين المنطق والنحو عند نحاة القرن الرابع الهجري،[22]
  • الجدل بين المنطق والنحو وكيف حاول الفارابي والغزالي تطويرهما،
  • ابن حزم وإشكالية الثقافة المنطقية عند نحاة الأندلس،
  • طغيان النـزعة المنطقية عند متأخِّري النحاة.

وتأتي بعد هذه الفصول التسعة، الخاتمةُ وقائمةُ المصادرِ والمراجع.

        2ـ 4. قائمة المصادر والمراجع:

        في الجامعات الغربية، عندما يقيِّم الأساتذةُ بحوثَ طلابهم في الدراسات العليا في العلوم الإنسانية، يبدأ معظمهم بإلقاء نظرة على آخر البحث، للوقوف على عددِ المصادر والمراجع التي اطلع عليها الطالب، ونوعيّتها، وشموليتها؛ فهي معيارُ الجهود التي بذلها الطالب لإعداد بحثه، أمّا مضمون بحثه فهو معِّيارُ فكرِه وفهمه.

        وتشكِّل قائمة المصادر والمراجع الموجودة في آخر كتاب ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق” مكتبةً متخصِّصةً كاملة. فهي تضمُّ قرابة 400 كتاب وبحث، معظمها بالعربية وبقيتها بالإنجليزية. واللافت للنظر أنَّ المؤلّف لم يضع قائمةَ المصادر والمراجع للتباهي فهو غني عن ذلك، بل استعملها فعلاً في بحثه كما هو واضح مما ورد في صفحات الكتاب من اقتباسات من معظمها، ومن هوامش تحيل على أغلبيتها.

        والجاري به العمل في الكتب العربية أن المؤلِّفين يفْصِلون في قائمة المصادر والمراجع بين الكتب المنشورة بشكل مستقل، وبين الدراسات والمقالات المنشورة في مجلات علمية أو صحف. بيدَ أنَّ الدكتور محمود لا يفرِّق في قائمة مصادره ومراجعه بين الكتب وبين الدراسات والمقالات. فهو يجمعها كلّها في قائمةٍ واحدةٍ مرتَّبة ترتيباً ألفبائياً تحت لقبِ المؤلِّف أو الباحث واسمه. وهذا ـ في رأيي ـ اجتهادٌ مفيد ينبغي أن يُحتذى، لأنّه ييسّر البحث في القائمة ويختصر الوقت.

2ـ 5. نشر الكتاب:

ناشر هذا الكتاب هو (دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر) في الإسكندرية[23]، وهي الدار التي نشرت الأغلبيةَ الساحقةَ من كتب الدكتور محمود محمد علي وبحوثه.

ويبدو أنَّ هذا الكتاب كان في الأصل بحثاً بعنوان ” تطوُّر العلاقة بين المنطق الأرسطي والنحو العربي” نشره الدكتور محمود في ” مجلة الآداب ” بجامعة أسيوط في عددها رقم 50، سنة 1999. ثمَّ اضطلعَ بتطويره ليجعل منه كتاباً مرجعياً شاملاً في الموضوع. ولا أشكَّ أنه أمضى جزءً كبيراً من وقته الثمين خلال قرابة 15 عاماً لإكمال هذا الكتاب، وإخراجه في الصورةِ العلمية التي يفتخر بها.

2ــ 6. هل تأثر النحو العربي في بواكيره الأولى بالمنطق اليوناني؟

         يحاول المؤلّف في الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب الإجابة على سؤال اختلف في إجابته الباحثون من مستشرقين وعرب معاصرين، وهو: هل تأثر النحو العربي في نشأته خلال القرن الهجري الأوَّل بالمنطق اليوناني؟

        ولكي تكون إجابتُه علميةً حاسمةً في الموضوع، يخصِّص الفصلَ الأوَّل للعلاقة الحميمة بين النحو والمنطق لدى مفكري اليونان، ولكيفية انتقال منطقهم إلى العرب قبل أن تنهض الدولة العباسية بترجمة فلسفة الإغريق وعلوم الهند وآداب الفرس إلى اللغة العربية خلال النصف الثاني من القرن الهجري الثاني وما بعده. ولهذا فإنَّه يقسِّم الفصلَ الأوَّل من كتابه على ثلاثة أقسام هي:      

أوَّلاً، خصوصية العلاقة بين المنطق والنحو عند اليونان،

ثانياً، النحو اليوناني وسبل انتقاله إلى السريان،

ثالثاً، المنطق الأرسطي وسبل انتقاله إلى العرب.

       فالعلاقة بين النحو والمنطق وثيقة جداً في الفكر اليوناني حتّى قبلَ أن يتوصَّلَ أرسطو ( 384ـ 322ق.م.) إلى صياغة قوانين المنطق الصوري. فقد نشأ الاهتمام بالمنطق والنحو في القرن الخامس وردحاً من القرن الرابع قبل الميلاد، أثناء الجدل الفكري والنحوي على يد أصحاب المدرسة الإيلية وجماعة السفسطائيين. وكان المفكرون اليونانيون القدامى قد ذهبوا إلى أنَّ الكلام تعبيرٌ عن الفكر، وأنَّ معرفةَ التراكيب النحوية تساعدنا على فهم كيفيةِ عمل الدماغ. وافترضوا خطأً أنَّ اللغة اليونانية مقياسٌ لجميع اللغات بحيث يصدق نحوُها على اللغات الأخرى.

        وتظهر هذه العلاقة القديمة الحميمة بين النحو والمنطق، في تعريف المنطق الذي كنا نحفظه في صغرنا وهو:” المنطقُ آلةٌ قانونيةٌ تعصمُ مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر[24]، كما أنَّ النحو آلةٌ قانونيةٌ تعصمُ مراعاتُها اللسانَ عن الخطأ في القول.”

       وكان المعلِّم الثاني الفارابي (ت 339 هـ)[25] ، قد صاغ مقولةً مماثلة في كتابه ” التوطئة في المنطق” على الوجه الآتي: ” وكما أنَّ النحو عيارُ اللسان، فيما يمكن أن يغلط فيه اللسان من العبارة، كذلك علم المنطق عيار العقل فيما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات[26]

        ولكن هذه المقولة، في صياغتَيها في أعلاه، لا تبيّن لنا كيفية قيام هذه الآلة بوظيفتها. ولهذا فإن الدكتور محمود يصوغ هذه المقولة بطريقة دقيقة فيقول ” النحو آلة يعرف بها صواب تركيب ألفاظ اللغة ومعانيها من خطئها، والمنطق آلة يعرف بها صحّة المعنى وتصديقه من خطئه[27].

        وتتَّضح لنا العلاقة الوثيقة بين النحو والمنطق، إذا ما علمنا أنَّ اسم “المنطق” مشتقٌّ من الجذر (ن ط ق) الذي يُشتَقُّ منه كذلك ” النُّطق” أي الكلام.

        وقد اشتغل إفلاطون (427ـ347 ق.م.) أستاذ أرسطو في النحو كثيراً، فعرّف الجملة بأنَّها تعبير عن أفكارنا بأسماء وأفعال. وعرّف الاسم بأنَّه اسم لفاعل الفعل، وعرّف الفعل بأنَّه اسم للفعل نفسه. وكذلك اشتغل أرسطو الذي يعدُّ أبا النحو الأوربي، في أقسام الكلم. واعتبر أن الأسماء والأفعال هي التي تحمل معنىً حقيقيّاً، أمّا بقيَّة الكلمات فأدواتٌ للربط. واعتبر أنَّ الوظيفة الأساسية للأفعال هي الإسناد، لأنَّ الفعل هو الوحيد من أقسام الكلام القادر على تشكيل الزمن. ونظراً لأن أرسطو كان يعتقد أنَّ القوالب النحوية تكشف عن أحوال الفكر، فإنَّه استفاد من دراسة النحو في أبحاثه المنطقية. فكما أنَّ الألفاظ تأتي مفردةً تارة فنقسمها على أسماء وأفعال، وتأتي تارة مرتبطة ببعضها لتشكِّل الجملة، فإنَّه طبَّق ذلك على الأفكار. فالأفكار المفردة هي التصورات، والأفكار المرتبطة هي القضايا أو التصديقات.

        ويرى بعضهم أن تقسيم ارسطو للمقولات إلى عشرة أقسام (الجوهر والكم والكيف والإضافة، والأين، والمتى، والفاعل، والمفعول، وأن يكون له، والوضع) هو تقسيمٌ مأخوذٌ من تقسيمِ أجزاءِ الكلام. فالجوهر يقابل الاسم، والكم يقابل العدد، والكيف يقابل الصفة، والإضافة تقابل التفضيل، إلخ.

        وعندما جاء الرواقيّون اهتموا اهتماماً خاصّاً بالنحو وأبوابه ومصطلحاته وزادوا في أقسام الكلام وموضوعاته. وبعد أن انتصر الإسكندر المقدوني الأكبر ذو القرنين (حكم من 336ـ323 ق.م.) على الإمبراطورية الفارسية، واستولى على البلدان الشرقية الواقعة غرب اليونان، ارتفع حظُّ اللغة اليونانية والاهتمام بدراستها.  وظهرت مدارسُ تهتمُّ بالمنطق والنحو اليونانيَّين في عواصم عديدة أهمُّها الإسكندرية في مصر (التي بناها الإسكندر الأكبر سنة 332 ق.م.).

وبعد وفاة الإسكندر الأكبر سنة 323 ق.م.، أتفق كبار قادة جيشه على تقسيم إمبراطوريته فيما بينهم. وكانت مصر من حصة بطليموس (366ـ285 ق.م.) وفي عصر البطالمة صعد نجمُ مدينةِ الإسكندرية في الفكر واللغة، فقد كان بطليموس الأوَّل، الملقب بالمُنقِذ (حكم من 323ـ285 ق.م.، وأعلن نفسه فرعوناً لمصر سنة 305 ق.م.) [28]، رجلاً محبَّاً للعِلم، يكرّم العلماء، ويبذل لهم الأموال، فتصدَّرت مدرسةُ الإسكندرية جميع مراكزَ البحوث الأخرى في الرها[29] ونصيبين[30] وإنطاكية[31]وأصبحت مكتبة الإسكندرية أشهر مكتبات العالم آنذاك. وغلب الفكر الأرسطي والرواقي، على بحوث علمائها. واضطلع السريان في الإسكندرية والمدارس الأخرى في القرن السادس الميلادي بترجمةِ كتبٍ من المنطق والنحو اليوناني إلى السريانية[32]. وصارت هذه الكتب معروفة لدي العلماء في الشام والعراق اللذين يعدان جزءاً من جزيرة العرب الكبرى، ومنها كتاب ” فن النحو” الذي وضعه أحد تلاميذ مدرسة الإسكندرية، العالم اليوناني ديونيسوس ثراكس (170ـ90 ق.م.)، والذي ترجمه إلى اللغة السريانية يوسف الأهوازي ( ت. 580م).

        و ” فنُّ النحو” كتيبٌ في قواعد اللغة اليونانية يقع في خمس عشرة صفحة، يقدِّم وصفاً لِبنية اللغة اليونانية، ويقسّم كلماتها على ثمانية أنواع هي: الاسم، والفعل، والمشترك، والضمير، والأداة، والحرف، والظرف، والرابط. ولم يقتصر تأثير هذا الكتاب على الدراسات النحوية للغة اليونانية ثمَّ اللغة الرومانية فحسب، بل تأثرت به اللغة السريانية كذلك في نحوها، وتطوير كتابتها كإضافة النقط والحركات.

        يراكم المؤلّف الحقائق التاريخية التي تثبت أنَّ اللغة السريانية تأثَّرت كثيراً بالنحو اليوناني الذي وصل إلى مدرسة الإسكندرية، ونقل علماء السريان عدداً من مؤلَّفاته إلى لغتهم.

  1. 7 ـ هل تأثر النحو العربي في نشأته بالمنطق اليوناني؟

يقول المستشرق ليتمان: ” أختلف العلماء الأوربيون في أصل النحو العربي، فمنهم من قال إنه نُقل من اليونان إلى بلاد العرب، وقال آخرون ليس كذلك، وإنما نبت كما نبتت الشجرة في أرضها، وأنه أنقى العلوم العربية عروبة[33].

        ولهذا تصدى الدكتور محمود إلى دراسة آراء الباحثين في هذا الموضوع، فوجد إجاباتهم على نوعين هما:

        أ ـ لا، النحو العربي صناعة عربية أصيلة.

يتَّفق المؤرِّخون المسلمون الأوائل أنَّ دافع الحركة العلمية النشطة التي عرفها العرب بعد ظهور الإسلام هو فهم مصدري الشريعة الإسلامية: القرآن والحديث. وهكذا وُجِدت علومٌ جديدةٌ عديدة لم يكُن للعرب عهدٌ بها من قبل، كالقراءات، والحديث، والنحو، والرياضيات (لضبط المواريث)، وغيرها.

ويجمع هؤلاء المؤرخون والنحويون القدامى على أن تقعيد النحو العربي بدأ في زمن الخليفة الراشد الرابع الإمام علي (ت 40 هـ)، بعد دخول غير العرب في الإسلام، وخشي أن يشيع اللحن في قراءة القرآن، فوجّه أبا الأسود الدؤلي أن يشتغل في نقط القرآن وإضافة الشكل. فالكتابة العربية التي أخذها اعرب الجزيرة من الكتابة النبطية عن طريق الحيرة والأنبار في العراق ، قبل البعثة النبوية قرابة قرنَين من الزمن[34]، لم تكُن فيها الحروف المتشابهة منقوطة ( مثل حروف بـ ، تـ ، ثـ ، يـ ،) ولم تكُن الكلمات مشكولة ( بالفتحة والكسرة والضمة). وهذه الحركات في آخر الكلمات تُسمّى بالإعراب الذي يساعد في فهم المعاني: الفاعل، المفعول، إلخ.

وفي رواية أخرى، أنَّ أبا الأسود الدؤلى أخبر الإمام علي أنَّ اللحن قد تفشى، فوجهه الإمام إلى كتابة نحو اللغة العربية، وقال له: الكلمات اسم وفعل وحرف، وانحو هذا النحو[35] . ومن الذين ذكروا ذلك أو ما يشبهه من المؤرخين والنحويين القدامى: محمد بن سلام الجحي (ت 232هـ)، وأبو الطيب اللغوي (ت 361 هـ)، وأبو سعيد السيرافي ( ت 368هـ)، وابن الأنباري (ت 577هـ)، والقفطي (ت 649هـ).

        وقد أيد كثيرٌ من المستشرقين والمستعربين هذا الرأي القائل بأصالة النحو العربي في نشأته وعدم تأثره بالمنطق اليوناني، مثل المستشرق الهولندي، الدكتور، تي. جَي. دي بور[36] (1866 ـ 1942)، الأستاذ في جامعة أمستردام وصاحب كتاب “تاريخ الفلسفة الإسلامية” الصادر باللغة الألمانية سنة 1901، الذي قال فيه:

احتفظ علم النحو العربي بخصائص له، ليس هذا مجال الإفاضة فيها، وهو ـ على كل حال ـ أثر رائع من آثار العقل العربي بما له من دقَّةٍ في الملاحظة، ومن نشِاطٍ في جمع ما تفرَّق، ويحقُّ للعرب أن يفخروا به، فلم يكن العرب يحبّون أن تعكّر عليهم الآراء الفلسفية العامَّة صفاءَ اللذة التي يجدونها في لغتهم، وكم نفر أساتذة اللغة المتشدّدون من صيغ لغوية أتى بها مترجمو الكتب الأجنبية.”[37]

ولعمري، إنَّ هذا النص الرائع يجعلك تقول إنَّ المتكلِّم ليس مستشرقاً هولندياً من القرن التاسع عشر يكتب في تاريخ الفلسفة الإسلامية، بل لسانيا معاصراً من القرن الحادي والعشرين يتحدَّث عن كيفية تدوينِ قواعدَ أية لغة، عن طريق ملاحظة استعمالاتها الفعلية بدقَّة، وتصنيف تلك الاستعمالات، بما يجمع بينها من خصائص إعرابية ودلالية، من أجل الوصول إلى وضع القواعد التي تحكم تلك الاستعمالات، من دون النظر إلى قواعد لغةٍ أخرى أو منطقها. وهذا في ظنّي ما فعله العلماء العرب الأوائل لوضع نحو اللغة العربية.

        ومن هؤلاء المستشرقين الذين أكَّدوا أصالة النحو العربي وعدم تأثره بالمنطق اليوناني عند نشأته، المستشرق الألماني العظيم غوستاف فلوجل (1802ـ 1870)، مبدع كتاب ” المدارس النحوية العربية[38] الذي أشاع فيه مصطلح “المدارس النحوية: مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة“. وكان النحاة العرب قبله يستعملون مصطلح ” نحاة البصرة ونحاة الكوفة” أو “مذهب البصريين ومذهب الكوفيين” أو “أهل البصرة وأهل الكوفة”.  وبتأثير هذا الكتاب، أخذنا نستعمل مصطلحات: المدارس النحوية: المدرسة البصرية، والمدرسة الكوفية، والمدرسة البغدادية، المدرسة الأندلسية، المدرسة المصرية.[39]

ومن هؤلاء المستشرقين العالِم الألماني اليهودي غوستاف فايل[40] (1808ـ1889)، الذي أورد له المؤلّف قوله:

“حفظت لنا الروايةُ العربية في مجموعاتٍ مختلفةٍ من كتب التراجم وصفاً لمسلمي هذا العلم الذي هو أجدر العلوم أن يُعدّ عربياً محضاً؛ وقد أخذ العلماء الأوربيون بهذه الرواية.”

وتبنى العلّامة الألماني الشهير كارل بروكلمان (1868 ـ1956) هذا الرأي في كتابه الموسوعي ” تاريخ الأدب العربي” وكذلك المستشرق الألماني إينو ليتمان (1875 ـ 1958).

ولعلَّ أعلاهم صوتاً وآخرهم عهداً المُستعرب البريطاني الدكتور مايك كارتر الذي نال الدكتوراه من جامعة أكسفورد سنة 1968 على أطروحته بعنوان “دراسة مبادئ سيبويه في التحليل النحوي”[41]، التي أكد فيها خلو النحو العربي في نشأته من أيِّ تأثيرٍ أجنبي، وأنَّ القياس الذي استخدمه النحاة العرب عند نشأة النحو العربي كان مقتبساً من القياس الفقهي وليس القياس الأرسطي.

ومعلومٌ أنَّ جامعة أكسفورد لا تجيز أطروحة دكتوراه، تفند ما ذهب إليه بعض المستشرقين، ومنهم البريطانيون، مالم يثبت لدى لجنة المناقشة صحَّة تلك الأطروحة.

ويأتي الدكتور محمود بمقتطفات موثقة من أقوال بعض هؤلاء المستشرقين التي تؤكِّد نشوء النحو العربي من دون أن يتأثَّر بالمنطق اليوناني أو النحو السرياني.

ب ـ نعم، تأثَّر النحو العربي في نشأته بالمنطق اليوناني.

وذهب بعضهم إلى أنَّ النحو العربي ولد بتأثير من المنطق اليوناني، ولكنَّهم اختلفوا في كيفية انتقال المنطق اليوناني إلى العرب: هل انتقل مباشرة من اليونان إلى العرب، أم انتقل عن طريق السريان؟ وهل أخذ أبو الأسود الدِؤلي نحوه كلَّه من السريان أم أخذ منه النقط للحركات والشكل فقط ؟

واضطلع الدكتور محمود بالبحث المعمق في هذين الطريقين لانتقال المنطق اليوناني إلى العرب المسلمين، كدأبه في دراسة القضايا الأخرى ذات العلاقة المباشرة أو غير المباشرة بالنحو العربي. وجرَّه هذا البحث إلى دراسة تاريخ ترجمة الفلسفة والمنطق من اليونانية إلى العربية التي تولّتها الدولة العباسية ابتداء من خلافة أبي جعفر المنصور باني مدينة بغداد (خلافته من 136ـ158هـ). وهكذا تطرَّق المؤلِّف الفاضل بالتفصيل إلى أهداف الترجمة، وأنواعها، ومدارسها، وأبرز المترجمين من السريان وغيرهم، ومنهجياتهم، وأساليبهم. ولهذا قلتُ في نفسي: إن هذا الكتاب، ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق”، ليس في تاريخ النحو فحسب، وليس في تاريخ المنطق فحسب، بل هو كذلك في تاريخ جوانب كثيرة من الفكر العربي الإسلامي.

ويسوق الدكتور محمود أسماء بعض العلماء العرب القدامى الذين قالوا بتأثُّر النحو العربي بالمنطق اليوناني مثل أبو الريحان البيروني (363ـ440هـ)، والعلامة عبد الرحمان بن خلدون (732ـ808هـ)، وبعض المؤرِّخين وعلماء اللغة العرب في العصر الحديث مثل جورجي زيدان (1861ـ1914م)، وأحمد أمين (1886ـ1954م)، وفؤاد حنا ترزي[42] ، وحسن عون، وغيرهم ممن أكدوا تأثُّر النحو العربي بالمنطق اليوناني.

ويخصِّص المؤلّف الفاضل حيزاً مهماً من كتابه القيم لإثارة قضايا مهمة  في اللسانيات الحديثة:

 ـ إن الدافع الأساس لنشأة النحو العربي هو حفظ القرآن من اللحن، وفهم معانيه.

ـ إن استعمال اللغة بطريقة عفوية لاواعية، تختلف عن تدوين نحو تلك اللغة بصورة علمية واعية.

ـ إن إضافة النقط والتشكيل الذي بدأه أبو الأسود يختلف عن النحو الذي وضع جزءً منه. لأن اللغة هي الكلام المنطوق أما الكتابة فهي رسم لذلك الكلام.

ـ إن الذين قالوا بنشأة النحوي نشأة عربية خالصة اختلفوا في واضع النحو:

        ـ يرى بعضهم أن الإمام علي هو الذي وضع النحو.

        ـ يرى آخرون ان أبا الأسود الدؤلي هو الذي وضع النحو.

        ـ يرى بعضهم الآخر ان أبا الأسود وضعه بمشاركة نصر بن عاصم الليثي وعبد الرحمن بن هرمز.

ثم يناقش هذه الأقوال، ويأتي بأقوال القدامى والمعاصرين من علماء اللغة الذين نفى بعضهم علاقة الإمام علي بالنحو، لانشغاله بما هو أهم من ذلك.

2ـ 8. تفنيد فكرة المعجزة اللغوية عند العرب:

وبعد أن يعرض المؤلّف نماذج من آراء القائلين بما يسميه ” فكرة المعجزة اللغوية عند العرب”، وحجج المعارضين لأصالة نشوء النحو العربي، يُعمِل فكره في الموضوع، ويضع استنتاجاته الخاصَّة في فقرات تحت عنوان: ” تفنيد المعجزة اللغوية عند العرب“.

.  ويقوم تفكير أبي مصطفى في هذه القضية على ما يأتي:

أوَّلاً، في مجال الفكر الإنساني عبر عصوره المتلاحقة ثمَّة ظاهرةٌ ضمن ظواهرَ عديدة تسترعى النظر وتجذب الانتباه، ألا وهى ظاهرة التأثير والتأثر بين الأجيال المتعاقبة، بحيث يؤثر الجيل السابق في الجيل اللاحق، ويتأثر هذا بذلك تأثراً تتعدَّد أبعاده أحياناً، وتختلف مجالاته، وتتفاوت درجاته بين طرفي الظ͜اهرة، أعنى بين المؤثر والمتأثر…”[43]

ثانياً،   “إن المكان الذي ظهرت فيه البدايات الأولى للنحو العربي على يد أبي الأسود الدؤلي، وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، هو ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين العرب، ومن سبقهم من النحو اليوناني والنحو السرياني، فلم تظهر البدايات الأولى للنحو العربي في أرض العرب ذاتها، كالجزيرة العربية، وإنما ظهرت في بلاد العراق؛ أي في أقرب أرض ناطقة بالسريانية، واليونانية، والفارسية، ذوات اللغات الأقدم عهداً، وهذا أمر طبيعي لأنَّ من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من العرب إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاق واسع، وتدخل معها أحيانا أخرى في حروبٍ طويلة دون أن يحدث تفاعل بين الطرفين.”[44]

ثالثاً، “إنَّه من المستحيل تجاهل المؤرِّخين العرب القدماء من أمثال عبد الرحمن بن خلدون (732ـ808هـ)[45]، وأبو الريحان البيروني (362ـ440هـ)، أو المعاصرين من أمثال جورجي زيدان (1861ـ1914م)، وأحمد أمين (1886ـ1954م)، وفؤاد حنا ترزي، وحسن عون، وغيرهم من الباحثين الأفاضل الذين أكَّدوا تأثُّر معظم نحاة العرب بالنحو والمنطق اليوناني والسرياني.”[46]

وبناء على هذه الحجج، صرح المؤلّف الفاضل برأيه قائلاً:

لذلك فإنَّي أعتقد أنَّه لم تكُن نشأة النحو العربي نشأةً خالصة، …وعلى ذلك فنحن ننكر ما يُسمى بـ ” المعجزة اللغوية  العربية[47]

        وقد يجادل في هذا الرأي الذي خلص إليه المؤلِّف الفاضل، بعضُ المتعصِّبين لقوميتهم العربية، من المولعين بالجدل والسفسطة، فيقول:

أولاً، صحيحٌ أنَّ المفكرين الذين اشتغلوا في مجال نظرية المعرفة وتحليل طبيعة المعرفة ووسائل إنتاجها، قالوا بالتراكم المعرفي والتأثير والتأثُّر بين السابق واللاحق، والتطوُّر العلمي، ولاكنَّهم قالوا كذالك بالطفرة المعرفية (أو الطفرة العلمية)، التي تحصل لدى الموهوبين والنوابغ والعباقرة، كالمخترعين مثلاً، وقوامها العقل والقلب وليس الحواس فقط، بفضل الإبداع. ويُعرَّف الإبداع عادة بأنَّه تصوُّر أو إيجاد بنياتٍ جديدة غير مسبوقة من عناصر موجودة[48].

وإذا استطاع إفلاطون أن يقسّم الكلمات اليونانية على اسم وفعل، واستطاع أرسطو أن يقسِّم الكلمات اليونانية على اسم وفعل ورباط، فإنَّ الإمام علي[49] وأبا الأسود الدِؤلي[50] استطاعا أن يقسَّما الكلمات العربية على اسم وفعل وحرف. والعناصر الأساسية موجودة في القرآن الكريم وشعر العرب الذي يحفظانه. ودافعهما قوي هو الحاجة الماسة إلى تيسير قراءة القرآن وفهمه. والحاجة أم الاختراع، كما نقول. وتقسيم الكلمات على اسم وفعل موجود في الثقافة العربية القديمة منذ زمن البابليين الأكديين، فقد كانت الرقم الطينية تميِّز بين الأسماء والأفعال، فتقتصر الألواح الخاصّة بالمهن على الأسماء، ولا تضمّ الأفعال. وكذلك الحال في المعاجم الثنائية اللغة (سومرية ـ بابلية) التي وضعها المعلِّمون البابليون لتعليم تلاميذهم اللغة السومرية، فقد كانت تلك المعاجم تميّز بين الأسماء والأفعال [51].

ثانياً، إنَّ الإمام علي وأبا الأسود الدؤلي ولدا في الحجاز. وصحب الإمام في طفولته وصباه النبيَّ (ص) في بيت أبي طالب، وتعلّم في فتوته وشبابه منه في مكة والمدينة، فكان أحد كتّاب الوحي. أما أبو الأسود الدؤلي فقد صحب الإمام علي طويلاً وتعلّم منه. إضافة إلى ذلك، ليس من الدقة وصف العراق بأنه ” أرض ناطقة بالسريانية، واليونانية، والفارسية، ذوات اللغات الأقدم عهداً،)، فقد استوطنت العراق، منذ الألف الثالث قبل الميلاد، قبائل عربية وهي تتكلَّم لغات/لهجات جزيرية /عروبية. واليونانية والفارسية ليستا “أقدم عهداً” من العربية الأم، فالبشرية كلها نَشأت من سلالة واحدة وُجدت وترعرعت جنوبي شبه الجزيرة العربية، كما أثبت آخر بحث أوربي نشرته ” المجلة الأمريكية للجينات البشرية[52]. فأهل العراق يتكلَّمون العربية أو إحدى لهجاتها/لغاتها منذ ما يقرب من خمسة آلاف سنة. وإذا احتُلَّ بلدٌ حقبةً من الزمن، فإنَّ عامَّة سكان لا يتكلَّمون، عادةً، لغةَ المُحتلّ بل نخبةٌ قليلة منهم فقط تفعل ذلك.

ثالثاً، لماذا ” من المستحيل تجاهل المؤرخين العرب القدماء … أو المعاصرين … وغيرهم من الباحثين الأفاضل الذين أكدوا تأثر معظم نحاة العرب بالنحو والمنطق اليوناني والسرياني” على حين ليس مستحيلاً تجاهل المؤرخين العرب القدماء والمعاصرين وكبار العلماء والمستشرقين الأوربيين الذين قالوا بأَّن نشأة النحو العربي عربية خالصة، وهم أكثر عدداً وأكبر علماً، وبرهن، بعضهم على ذلك بأطروحات دكتوراه أجازتها جامعات عريقة مثل جامعة أكسفورد؟؟؟  أضف إلى ذلك كلِّه، لا يوجد في العِلم شيئاً “مستحيلاً”.

رابعاً، من الممكن أنَّ أبا الأسود الدؤلي أخذ نقط الحروف من الكتابة السريانية. ونحن نعلم أن جميع لغات منطقة البحر المتوسط، أخذت الكتابة الأبجدية من العباقرة الفينيقيين[53]، بما في ذلك اللغة اليونانية القديمة. فما أسماء الحروف اليونانية: الفا، بتا، جاما، دلتا، إلخ. إلا الأسماء العربية للأبجدية الفينيقية: الأليف، الباب، الجمل، الدلو، إلخ.، كما هو معروف مشهور. بيد أن الكتابة ليست النحو، فالنحو هو قواعد الكلام، والكتابة رسم للكلام. كما ينص عليه كتاب المؤلّف الفاضل. ولهذا فمن الممكن أن يأخذ العرب كتابتهم من أبناء عمومتهم، ولكنهم يضعون نحو لغتهم اعتماداً على ما هو مستعمل في قرآنهم وأشعارهم وكلامهم.

أتخيل المؤلِّف الفاضل وهو يستمع إلى ذلك الحِجاج بروح سمحاء، ويجيب بفكر منفتح قائلاً:

أعتقد أنه لم تكن نشأة النحو العربي نشأة عربية خالصة، ولم يبدأ العرب في اكتشاف ميادين اللغة والنحو من فراغ كامل، بل إنَّ الأرض كانت ممهدة لهم في بلاد العراق التي عاصرت النحو اليوناني والمنطق اليوناني، والنحو السرياني، وبالتالي يتضح لنا أن الاعتقاد بضرورة أصل واحد للمعرفة العلمية وتصور واحد يرجع إليه الفضل في نشأة النحو العربي…ربما كان ذلك عادة سيئة ينبغي التخلص منها…”[54]

ويخلص المؤلّف الفاضل إلى أنَّ ” النحاة العرب في أوَّل عهدهم قد استلهموا التراث اللغوي اليوناني والسرياني السابق عليهم، واستحوذوا عليه بروحهم الفتية وحاولوا تجاوزه حينما صبغوه بصبغتهم النظرية النقدية … وحاولوا تطويعه مع مبادئ دينهم الحنيف في شتى الميادين، ثم تجاوزوه، بما قدموا من أفكار نحوية جديدة في مختلف قضايا اللغة العربية.” [55]

        وهكذا نرى أنّ المؤلّف الفاضل ينظر في القضايا الخلافية بروح حيادية منفتحة، وبصيرة علمية نفاذة، ثمَّ يعلن ما يتوصَّل إليه بكلِّ شجاعة وثقة بالنفس، همُّه المعرفة وغايته الحقيقة.

(وللبحث صلة)

3) سيبويه ليس ” أبو النحو العربي” كما ينعته بعضهم،

وكتابه ليس أوَّل كتاب في النحو العربي

 3 ـ تاريخ النحو العربي:

3ـ1. إهمال التاريخ الاجتماعي وتاريخ المدارس الفكرية:

        دأب الأَخباريون/ الإخباريون والمؤرِّخون القدامى على سرد أخبار الملوك والسلاطين والأباطرة، وتاريخ صعودهم إلى العرش، ومُدَد حكمهم، وحروبهم، وانتصاراتهم، وانكساراتهم، ومَن تولى الحكم بعد كلِّ واحدٍ منهم؛ على حين أهملوا أخبار المجتمع وأحواله المعيشية، ومستواه الفكري، ومؤسَّساته الاجتماعية والتربوية والقضائية والاقتصادية، وعاداته في الحبِّ والزواج والإنجاب والموت، وغير ذلك، مما يعطي القارئ فكرةً عن الحياة الفعلية لكلِّ شعب في تلك الحقبة من الزمن. وبعبارةٍ أخرى أنَّ التاريخ القديم كان تاريخاً ملكياً، أمَّا التاريخ المعاصر فيحاول أن يكون، في جانب منه، تاريخاً اجتماعياً كذلك.

        بيدَّ أن الدكتور محمود محمد علي عُني عنايةً كبيرةً في تتبُّع تاريخ المدارس النحوية العربية، وعلمائها، وتوجهاتهم، وإنتاجاتهم، وأفضل كتبهم، ومناظراتهم العلمية؛ أي أنَّه اهتمَّ بالحياة الفكرية والثقافية. وفي كتابه هذا، قسَّم مراحلَ تطوُّرِ النحو العربي على ثلاث مراحل:

أولاً، المرحلة الوصفية:

        أضطلع النحويون في هذه المرحلة بتدقيق النظر في استعمالات اللغة العربية، وإعمال الفكر فيها، لاكتشاف ظواهرها اللغوية، والقوانين التي تتحكَّم فيها، ووضع قواعدها، ” وقد استعاروا بعض مضامين النحو اليوناني الذي دوَّن منظومته (ديونيسيوس ثراكس)، وذلك بطرق غير مباشرة، عن طريق السريان.”[56]

        وتمتدُّ هذه المرحلة حوالي مئة عام، من أبي الأسود الدؤلي إلى الحضرمي وابن العلاء.

فقد كان نقط أبي الأسود الدؤلي للمصحف فاتحة النحو العربي والخطوة الأولى في نشوئه ومجسّدة للمرحلة الوصفية.”[57]

ثانياً، المرحلة التجريبية:

وتستغرق هذه المرحلة، هي الأخرى، مئة عام أو أكثر، وتغطي حقبة الخليل بن أحمد وسيبويه وكتابه الموسوم بـ ” الكتاب“. فقد اعتمد سيبويه الطريقة الاستقرائية، في دراسة استعمالات اللغة العربية، وتصنيفها والوقوف على العلاقات فيما بينها، على أساس التماثل الشكلي والوظيفي، من أجل الوصول الى القوانين التي تحكمها، ووضع قواعدها. والمقصود بالطريقة الاستقرائية أن سيبوية ينظر في كلام العرب وشعرهم، ويتتبع الفاعل، مثلاً، في جميع ذلك، فيجده مرفوعاً دائماً، في حين أنَّ المفعول به منصوبٌ دائماً، فيقرّر قاعدةً نحويةً عامَّةً هي : الفاعل مرفوع والمفعول به منصوب. ويرى بعض الفلاسفة ومنهم الدكتور محمود أنَّ الطريقة الاستقرائية منهجيةٌ موضوعيةٌ علميةٌ تجريبية.

ثالثاً، المرحلة الاستنباطية:

أفاد النحويون في هذه المرحلة مما أُنجِز في المرحلتَين الوصفية والتجريبية وما تمَّ خلالهما من تراكم معرفي أدّى إلى تطوُّرٍ في الدرس النحوي على ثلاثة مستويات: مستوى الوسائل المنهجية العقلية، ومستوى مفاهيم العلم، ومستوى نظرية العلم. وفي هذه المرحلة تمت صياغةُ قواعد العِلم ومبادئه، التي تُمكِّن النحويّين من التنبؤ المستقبلي بما يحدث في اللغة من تطوُّر وتغيُّر. وظهر في هذه المرحلة أثرُ المنطق في النحو نتيجةً لحركةِ الترجمة، لا سيَّما ترجمة الأورجانون الأرسطي[58] إلى اللغة العربية. ويُؤرَّخ لهذه المرحلة من أوائل القرن الثالث الهجري إلى ما بعد كذلك.

3ـ2.  سيبويه وكتابه:

خصَّ المؤلِّفُ الكريم سيبويه[59] بفصلٍ كاملٍ من الكتاب هو الفصل الرابع، كال فيه الثناء عليه بلا حساب، وأغدق عليه المديح بسخاء، ووشَّح صدره بالأوسمة والألقاب مثل ” سيبويه أبو النحو العربي” و “إمام النحاة“، وقال عن كتاب سيبويه:

وقد اتخذ كتابُ سيبويه مكانة لا يضاهيه فيها كتاب قواعدَ في أمَّةٍ من الأممِ ، فقد جذَبَ أعيُنَ النَّاظرين ، وتنافسَ في دراستهِ المتنافِسون وشرحه سبعةٌ وثلاثون شارحاً من كبار فقهاء النحو ومفتيه[60]

حتّى أنَّ علماء النحو سموه بـ ” البحر الخضم” لكثرة جواهره وصعوبة مضايقه، ووصفوه بأنه ” زينة لدولة الإسلام“، بل نعتوه بـ ” قرآن النحو“، إلخ. إلخ. ولهذا كان بعضهم يحفظه عن ظهر خاطر كما يحفظ القرآن الكريم.

وقدَّم المؤلِّف عرضا وافيا لكتاب سيبويه الذي يتكوّن من قسمين:

القسم الأول: في أبوب النحو، ويضمُّ أربعة أجزاء:

ج 1: إسناد الفعل،

ج2: اسناد الاسم،

ج3: الإسناد الذي بمنزلة الفعل: الحروف الخمسة، النفي بلا، والاستثناء.

ج 4: أحكام الإسناد مع بدائل الاسم المُظهَر التامّ المنوَّن: المُضمَر، الاسم الناقص، ما لا ينصرف، والأسماء في باب الحكاية.

القسم الثاني: في أبواب الصرف والأصوات، ويضمُّ:

ج 1: أعراض اللفظ عند النسب، التثنية، جمع التصحيح، إضافة الأسماء الستة وغيرها إلى الضمائر، الإضافة إلى ياء المتكلِّم، التصغير، حروف الإضافة إلى المحلوف به (القسم)، التنوين، التوكيد بالنون، تضعيف آخر الفعل، المقصور والممدود، الهمز، العدد، تكسير الواحد للجمع، بناء الأفعال ومصادرها وما يشتق منها.

ج 2: تأدية اللفظ، وما يجري فيه عند التلفُّظ به من تغييرٍ صوتيٍّ وصرفيّ. وفيه: تلفُّظ أمثلة الأفعال، والاسماء، والإمالة، وإلحاق الهاء فيما يصير حرفا ًنحو ألف الوصل، والوقفّ

ج 3: بناء اللفظ: كيفية بناء اللفظ، وعدد حروفه، وأحواله في الزيادة، والإبدال، والتصريف، والقلب، والتضعيف، والإدغام.

وتصدّى المؤلِّف الفاضل لتحليل منهجية سيبويه في الكتاب، فوجد أنَّها تقوم على استقراء النصوص العربية، وتصنيفها طبقاً للتماثل الشكلي والوظيفي من أجل التوصُّل إلى القواعد التي تحكمها. أما أسلوبه فيتراوح بين الوضوح والغموض. وأدى هذا الغموض إلى تدخّل شيوخ النحو بالشرح والتفسير. ولم يستخدم سيبويه الحدود المنطقية (التعريفات)، بل استعمل التمثيل، فيقول مثلاً:

” اعلم أنَّ من كلامهم اختلاف اللفظَين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظَين والمعنى واحد، واتفاق اللفظَين واختلاف المعنيَين.

ـ فاختلافُ اللفظَين لاختلاف المعنيَين هو نحو: جلس وذهب،

ـ واختلافُ اللفظَين والمعنى واحد نحو: ذهبَ وانطلقَ،

ـ واتفاقُ اللفظَين والمعنى مختلف قولك: وجدتُ عليه من الموجدة، ووجدتُ، إذا أردتَ وجدان الضالة.” [61] 

وهكذا فنحن نرى أن كتاب سيبويه يشتمل على الأغلبية الساحقة من موضوعات النحو العربي، بيدَ أنَّ ترتيب الموضوعات يختلف عن ترتيبِ النحويّين المتأخِّرين، إذ إنَّ سيبويه لا يذكر المرفوعات على حدة، وإنَّما يخلط بعضها بالاخر.

3ـ3.  هل كان سيبويه ” أبو النحو العربي” وكتابه أوَّل كتابٍ في النحو العربي؟!

وأنا شخصياً أشارك المؤلِّف الكريم أعجابه الشديد بسيبويه وبكتابه الرائع، فقد أحبَّ سيبويه المعرفة والتعلّم، وأغرم بلغة القرآن الكريم. ونحن ـ المؤلّف الفاضل وأنا ـ نشترك مع سيبويه في تلك المحبة وفي ذلك الغرام، و”شبيه الشيء منجذب إليه” أو كما يقول الفلاسفة: ” إن التماثل علّة الانضمام“.. بيدَ أنّي أثير بعض النقاط هنا:

أولاً ـ

لا بُد أن القارئ الكريم لحظَ في حياته باحثين حالفهم الحظُّ، فارتفع قدرُهم، وذاع صيتهُم؛ وواظب الناس على ذكرهم والإشادة بنتاجهم؛ في حين أنَّ باحثين آخرين، أفضلَ منهم علماً وأشدَّ اجتهاداً، لم يحالفهم الحظُّ، فخمل اسمهم، ونسي الناس أمرهم. وقد خصَّ كثيرٌ من الشعراء هذا الموضوع بروائعهم. ولعلَّ الطغرائي (ت 514/515هـ) كان أكثرهم تألُّماً لهذه الظاهرة غير المبرَّرة ولا المفسَّرة التي عاناها، هو نفسه، كثيراً، فنظم قصيدته المشهورة المعروفة بـ “لامية العجم“، ويقول فيها:

تقدَّمتني أناسٌ كانَ شــــوطهمُ … وراءَ خطويَ لوْ أمشي على مَهلِ

          … أهبتُ بالحظ، لو ناديتُ مُستمِعاً … والحظُّ عنّيَ بالجهالِ في شُــــغلِ [62]

         درس سيبويه النحو ـ بصورة رئيسة ـ على الخليل بن أحمد (100ـ170هـ) شيخ نحاة البصرة في ذلك الزمن. وينعت أصحابُ التراجم العربُ العلماءَ الأفذاذ بعبارة ” أذكى زمانه” أو ” أذكى القضاة” أو ما شابه ذلك، أمّا الخليل فيتفقون على نعته بعبارة ” أذكى العرب“. فقد كان الخليل عالماً بالموسيقى له مؤلَّفات فيها مثل كتابَيه ” النغم” و “الإيقاع“، وكان عالمَ رياضيات، وعالم صوتيات فريد أكمل ما بدأه أبو الأسود الدؤلي في إضافة النقط والشكل إلى رسم القرآن، ولكن بطريقة جديدة مبتكرة، تزيل اللبس بين النقط والحركات، ولا تحتاج إلى ألوان مختلفة. فقد حوّل النقط التي تدلُّ على الحركات إلى حروف صغيرة توضع تحت الحرف أو فوقه، مثل الواو الصغيرة التي توضع فوق الحرف لتدلَّ على الضمّة، والألف الصغيرة الأُفقية التي توضع فوق الحرف لتدل على الفتحة، والألف الصغيرة الأفقية التي توضع تحت الحرف لتشير إلى الكسرة.   وهذه الحركات هي التي نستعملها اليوم لتبيان الحركات. وابتكر الخليل ترتيباً جديداً للحروف العربية، غيرَ الترتيب الألفبائي والترتيب الأبجدي، يمكن تسميته بالترتيب الصوتي.  فقد رتب الحروف العربية ترتيباً خاصاً حسب مخارجها في علم الأصوات الذي طوّره، يبدأ بحرف العين الذي يخرج من أقصى الحلق ويتدرَّج صوتياً. ولهذا سمّى معجمه بـ ” العين” وهو أوَّل معجم عربي كامل في تاريخ صناعة المعجم في العالم. وقد اضطلع بتحرير هذا المعجم واستكماله أحدُ طلابه الأوفياء اسمه الليث بن المظفر الكناني. كما أنَّ الخليل هو واضع علم العروض لبحور الشعر العربي، وهو علم يقوم على الموسيقى والرياضيات واللغة وصوتياتها، وتشترك جميع هذه العلوم في كونها علوماً رمزية. وأخيراً وليس آخراً فالخليل شاعرٌ مطبوع، كلامه شعر وشعره كلام.

كان الخليلُ زاهداً متقشِّفاً متعفِّفاً في حياته ومسكنه وطعامه، لا يعبأ بشيء في هذه الدنيا، ولم يتكسَّب بعلمه ولا بشعره. يقول عنه تلميذه النضر بن شُمَيل: ” أقام الخليل في خصٍّ ( بيتٍ من قصب) من أخصاص البصرة، لا يقدر على فَلسَين، وأصحابه (طلابه) يكسبون بعلمه الأموال.”[63]

 وكثير من الأساتذة الشيوخ، يغادر هذه الدنيا من دون أن ينشر دروسه في كتاب؛ فينبري بعض مريديه بنشر بحوثه بعد وفاته، محبة في العلم وتخليداً لذكرى شيخهم. وهذه ظاهرة معروفة حتى في العصر الحديث؛ فأحد رواد اللسانيات الحديثة، عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير(1857ـ1913م) لم ينشر كتابه الشهير ” دروس في اللسانيّات العامَّة ” (1916م) ، بل نشره بعد وفاته مجموعة من طلابه باستخدام مذكراتهم التي كانوا يدوِّنون فيها خلاصات أقوال الأستاذ قبل عصر المُسجلات الكهربائية الحديثة[64].

وأحسب أنَّ سيبويه كان طالباً مجتهداً عمل على تدوين دروس شيخه الخليل في النحو، فكانت عماد كتابه ” الكتاب“.

والخليل من رواد اللسانيِّين في العالم الذين أرسوا علم اللغة على أساس (المدوَّنة) لاستقراء الاستعمال العربي الفعلي، لا في القرآن الكريم والحديث والشعر الجاهلي فحسب، بل كذلك في كلام فصحاء الأعراب في بواديهم، من أجل استقراء استعمالات اللغة العربية، لوضع قواعدها وتصنيف معجمها على أُسس علمية. فعندما سأله تلميذُه علي بن حمزة الكسائي (ت 180هـ)، أحد أئمة القراء من أهل الكوفة:

ـ “من أين أخذتَ علمكَ هذا؟”

أجاب الخليل صادقاً:

ـ “من بوادي الحجاز ونجد وتهامة”.

ولم يقُل: من السريان واليونان. ولهذا رحل الكسائي إلى البادية عدة مرات، ومكث فيها ذات مرة حتى “أنفدَ خمسَ عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب، سوى ما حفظ[65]. ولو أجابه الخليل بأنَّه أخذ علمه من اليونان لرحل الكسائي إلى بلادهم، طبقاً لمقولة ” اطلبوا العلم ولو في الصين، فإنَّ العلم فريضة على كل مسلم“. ومن أولئك العلماء الذين رحلوا إلى البادية، النضر بن شُمَيْل (ت 204هـ)، أحد تلاميذ الخليل، الذي نشأ في البصرة ورحل إلى البادية عدة مرات حتى بلغ ما أمضاه في البادية قرابة 40 عاماً. ومنهم عبد الملك بن قُريب الأصمعي (ت 216 هـ)، أحد تلاميذ الخليل. وغيرهم وغيرهم كثير.

ولديّ كتاب بعنوان ” الأعراب الرواة[66] أهداه إليّ مؤلِّفه الجليل، صديقي، الدكتور عبد الحميد الشلقاني. وقد تتبع فيه أخبار جميع علماء اللغة العربية من النحويّين والمعجميّين الذين رحلوا إلى البادية لتدوين كلام الأعراب الفصحاء، وأخبار أولئك الباحثين، والمدَّة التي أمضاها كلُّ واحد منهم بعيداً عن أهله؛ من أجل العودة بمدونةٍ خاصَّة به، يستخرج منها قواعد اللغة العربية ومعجمها، أي ألفاظها ومعانيها. ولم يتوقّف علماء اللغة العربية عن الرحلة إلى البادية لجمع مدوَّناتهم إلا في عصر الانحطاط، حينما أخذوا ينقلون قواعدهم النحوية ومعاجمهم من الذين سبقوهم، فأمست كتبهم لا تواكب تطوُّر اللغة العربية وتغيّراتها، ولا تأخذ بما يستجدُّ فيها من مصطلحات واستعمالات؛ وسبَّب ذلك مشاكلَ لا نزال نعاني منها حتى اليوم.

وتؤكّد اللسانيّات الحديثة على دور المدوَّنة في تقعيد اللغة وتعجيمها. وأصبحت المدوَّنات اليوم إلكترونية بالحاسوب ويبلغ عدد ألفاظ المدوَّنة النصيَّة الجيدة بليون/مليار أو أكثر. ولا يمكن أن نستنبط نحوَ لغةٍ من اللغات بصورةٍ علميةٍ أو نصنِّف معجماً أحادي اللغة أو ثنائي اللغة، من دون الاعتماد على مدوّنة نصيّة شاملة بُنيت على أُسُسٍ علميةٍ، وتتَّصف بالشمولية الموضوعية والتاريخية والجغرافية. وأصبحت دراسة المدوَّنات النصية وأنواعها وطرق بنائها وكيفية استعمالها في علوم اللغة والترجمة والنقد وغيرها، عِلماً مستقلاً يتطلَّب مهاراتٍ في علوم هندسة الحاسوب والبرمجة واللغة. ويستطيع القارئ الكريم الاطلاع على فصل ” المدوَّنة” في كتابي ” صناعة المعجم التاريخي للغة العربية[67]

 ويعود الفضل في تأسيس علم المدوَّنة إلى العلماء العرب الأوائل الذين أمضوا الليالي الطوال في بناء مدوناتهم الشخصية لضبط معلوماتهم في اللغة والفقه وغيرهما من العلوم، مثل الخليل ابن أحمد، وسحنون (ت 240 هـ) صاحب ” المدونة الكبرى” في الفقه المالكي.  

لم يرِد في كتاب الدكتور الشلقاني، ” الأعراب الرواة“، ذِكْرٌ لسيبويه. فهو لم يرحل الى البادية لمشافهة الأعراب، وتسجيل كلامهم، من أجل بناء مدوّنته الشخصية لاستخدامها في استقراء استعمالات اللغة العربية، واستنباط القواعد النحوية منها، بل اكتفى بدروس أستاذه الخليل.

ثانيا، إنَّ كتاب سيبويه ليس من ابتكاره، كما ابتكر الخليل علم العروض، أو البرنامج الحاسوبي المسمى بـ (التقاليب) لإحصاء جميع الجذور العربية والألفاظ المشتقة، المستعمل منها والمهمل، أو نظرية العامل التي يقوم عليها جميع النحو العربي في ” الكتاب” وغيره من كتب النحو؛ وإنَّما يمثِّل “الكتاب” تراكماً معرفياً لما يقرب من قرن ونصف القرن من الدرس والبحث الذي اضطلعتْ به كوكبة من العلماء النحويّين. صحيحٌ أنَّه لم تصلنا كتب متكاملة في النحو من تلك الحقبة، ولكن العلم في صدور الرجال تناقلوه عالماً عن عالم ولهم تدوينات متعدّدة فيه. وكانوا يجتمعون في حلقاتٍ في المسجد للدرس والتعلم منذ زمن النبي (ص). وكان لبعضهم مجلسان في المسجد والمنزل، كالحسن البصري. فتلاوةٌ صحيحةٌ لآيةٍ أو لجزءٍٍ من آية من القرآن الكريم تشتمل على معلومات لغوية نحوية مثل ﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [68] ولقد قمتُ برسم مخطط لهؤلاء العلماء الذين أخذوا المعرفة اللغوية كابراً عن كابر، وذلك دعماً لجهود صديقي الدكتور محمود في الكتابة عن تاريخ العلم والمدارس الفكرية، وانتهيت إلى المخطط التالي:

النبي (ص) (ت 11هـ)

الإمام علي (ت 40 هـ)

أبو الأسود الدؤلي (ت 69 هـ)

( بدأ بنقط المصحف وإضافة الشكل بلون مختلف عن النقط …)

 الحسن البصري (ت 110هـ)                نصر بن عاصم الليثي ( ت 89  هـ)

  (حديث، فقه، علوم القرآن واللغة)                (أكمل عمل شيخه الدؤلي في نقط المصحف)

          أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ)                 عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117هـ)                        

(أحد القراء السبعة، عالم بلغات العرب وغريبها)                ( أول من فرّع النحو، واشتق قواعده وطرّد القياس فيها وعلّلها)

عيسى بن عمر الثقفي (ت 149هـ)                                  يونس بن حبيب (ت182هـ)

الخليل بن أحمد (ت 173هـ)

الكسائي (ت 189هـ)، الليث بن المظفر(ت؟)، الأصمعي (ت 216 هـ)،  سيبويه(ت 180هـ)، النضر بن شميل(ت203 هـ)

( نحوي، من القراء ال 7)،  (معجميّ )           (راوية )              ( نحويّ )             (لغويّ وفقيه)

ثالثاً، يقوم كتاب سيبويه على علم الخليل. فمن حيث الأساس النظري الذي تقوم عليها جميع مباحث ” الكتاب“، فهو نظرية العامل التي ابتكرها الخليل بن أحمد باعتراف سيبويه في “الكتاب” عندما تحدَّث عن عمل ” إنَّ، وأنَّ، وكأنَّ، ولكنَّ، وليتَ، ولعلَّ”.  فالنحو يُعنى أساساً بالإعراب، أي حركة أواخر الكلمات في الجملة، رفعاً ونصباً وجراً وجزماً، وسبب ذلك أو علّته.  ونظرية العامل هي التي تفسّر لنا العلّة التي أدَّت إلى تغيّر تلك الحركات الإعرابية. فمثلاً في الجمل الآتية: جاء زيدٌ، ورأيتُ زيداً، ومررتُ بزيدٍ؛ نجد أنَّ العامل الذي عمل على تغيير حركة آخر كلمة زيد، هو: الفاعلية، والمفعولية، وحرف الجر، على التوالي. فنقول (زيد) مرفوع في الجملة الأولى لأنه فاعل، ومفتوح في الجملة الثانية لأنه مفعول به، ومجرور في الجملة الثالثة لأنه مسبوق بحرف جرٍ. ويقوم النحو العربي كلُّه على نظرية العامل التي هي نظرية عربية أصيلة من ابتكار الخليل بن أحمد، وتستعمل التعليل المنطقي، وليست متأثرةً بالنحو اليوناني ولا السرياني. أمّا اقتباس نقط الحروف أو الحركات من الكتابة السريانية فلا يُعدّ نحواً، بل رسماً أي تصوير الأصوات برموز مكتوبة هي الحروف.

رابعاً، ومن حيث المصطلح، استخدم سيبويه مصطلحات الخليل، بشكل عام[69].. و”المصطلحات هي نصف العِلم” كما يُقال، ولهذا اتخذت (الشبكة العالمية للمصطلحات) في فيينا شعار ” لا معرفة بلا مصطلح“.[70] وقد اضطلع أستاذنا الدكتور محمود محمد علي بتحليل مصطلحات سيبويه وتوصَّل إلى أنَّ سيبويه لم يأتِ بمصطلحات جديدة بل استخدم مصطلحاتِ شيخِه الخليل فقال:

نقل سيبويه إلى الأجيال مصطلحات الخليل بن أحمد واستعمالات أسانيدهوفسَّر بعض المصطلحات ببعض[71]

وتتَّضح لنا دقة ما استنتجه المؤلِّف الفاضل بسهولة إذا ما قارنا بين ما ورد من مصطلحات وتعريفات وأمثلة واستشهادات في كتاب سيبويه وبين ما ورد منها في معجم “العين” للخليل، الخ.

خامساً، ومن حيث التعريفات استعمل سيبويه تعريفات الخليل القائمة في أغلبها على التمثيل، فاستعمل أمثلة الخليل. والتمثيل هو أحد أنواع التعريف[72].

سادساً، من حيث الأسبقية في تدوين النحو، نعلم أنَّ أبا الأسود الدؤلي كتب فصولاً من النحو ولم يكملها، فقد” وضع باب الفاعل، المفعول به، المضاف وحروف النصب والرفع والجر والجزم،” كما ذكر الحافظ الذهبي[73]. أمّا عيسى بن عمر الثقفي البصري (ت 149هـ)، أحد شيوخ الخليل، فقد صنّف كتابَين في النحو هما: ” الجامع” و ” الإكمال“؛ ولعلَّ الكتاب الثاني يُكمل فصول الأوَّل. ويروى أنَّ تلميذه الخليل أثنى عليهما بقوله:

ذهـــبَ النحو جــميعـــاً كله … غير ما أحدث عيسى بن عمر

ذاك ” إكمال” وهذا “جامع”… وهـــما للناسِ شمـــسٌ وقمر

        وتذكر مراجعُ معتمدةٌ عديدةٌ أنَّ سيبويه ألَّفَ كتابه على غرار كتاب ” الجامع” لعيسى بن عمر[74]. وهذا يعني أن كتابي عيسى بن عمر كانا متوافرَين في أثناء حياة سيبويه. ولكن كُتُب عيسى بن عمر كلَّها أتت عليها آفة من آفات الزمان، فلم يبقَ لنا منها شيء إلا ما ذكرته المظُان المختلفة عرضاً نقلاً عنهما.[75]

سادساً، روى سيبويه في “الكتاب” 22 مرة عن عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، فظن بعضهم أن عيسى من شيوخ سيبويه، ونصَّت على ذلك بعض المراجع، كمعجم ” الأعلام ” للزركلي، وشبكة المعرفة، وموسوعة ويكيبديا التي قالت في مادة ” عيسى بن عمر”: ” وهو شيخ الخليل وسيبويه وابن العلاء”[76] ،  على الرغم من أن هذه المراجع جميعها تذكر أن عيسى بن عمر توفي سنة 149هـ، ما يجعل من المستحيل أن يكون سيبويه قد تتلمذ على عيسى بن عمر، لأن سيبويه وُلِد حوالي تلك السنة التي توفِّي فيها عيسى بن عمر الثقفي. ولا تفسير لرواية سيبويه لأقوال عيسى بن عمر إلا أحد احتماليْن:

ـ إمّا أن يكون الذي روى عن عيسى هو تلميذُه الخليل، وقام سيبويه بنقل أمالي الخليل في ” الكتاب“؛

ـ وإمّا أن يكون سيبويه قد اقتبس تلك الأقوال من كتاب ” الجامع” في النحو الذي ألَّفه عيسى بن عمر. وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى القول بأنَّ سيبويه ألَّفَ كتابه على غرار كتاب عيسى بن عمر ” الجامع” الذي لم يصلنا. [77]

سابعاً، نجد في كتاب سيبويه، عندما يتكلّم عن الحرف “ما” وغيره، عبارات مثل:

ـ ” وأمّا بنو تميم فيُجرونها مجرى أمّا وهَلْ، …”[78]

ـ ” وأمّا أهل الحجاز فيشبّهونها بليسَ إذا كان معناها كمعناها.”[79]

ـ ” وسمعنا من العرب مَن يقول ممن يوثق به: اجتمعت أهل اليمامة…”[80]

وأنتَ وأنا، نعلم أنّ سيبويه لم يرحل إلى البادية، ولم يشافه الأعراب في بوادي الحجاز وبوادي بني تميم، وإنَّما الذي فعل ذلك هو شيخه الرئيس الخليل بن أحمد، أو شيخه الثانوي يونس بن حبيب. لقد كان سيبويه ينقل أقوالهما في ” الكتاب” ، سواء وضع سيبويه تلك المعلومات بعد عبارة “قال شيخنا:” أو لم يضعها. فعُمْرُ سيبويه المبارك القصير لم يتجاوز حوالي 32 عاماً (148؟ـ 180هـ)، فأعمار العباقرة قصار، ومرضه المزمن ( الداء الزلاقي أو الداء البطني وهو مرض يصيب الجهاز الهضمي منذ الصغر) لم يسمحا له بالرحلة المُرهقة إلى البوادي؛ وإذا كان قد ذهب إلى الحجاز، فذلك لغرض الحج أو العمرة، ولم يذهب لبادية الحجاز لمشافهة أعرابها.

ثامناً، إنَّ الشواهد الشعرية التي وردت في “ الكتاب” كثيرة تبلغ أكثر من 1050 شاهداً  منسوبة جميعها إلى قائليها، ما عدا قرابة 50 بيتاً مجهولة القائل،  ولا يتقن حفظَها بدقَّة إلا شاعرٌ عروضيٌّ عبقريٌ ذو ذاكرة مذهلة كالخليل، أو لغوي أديب معروف بحفظه لشعر العرب ونقده ، مثل يونس بن حبيب النحوي البصري ( 94ـ 182هـ؟) الذي تتلمذ عليه سيبويه مدَّة (من المحتمل جداً بعد وفاة الخليل وجلوس يونس مكانه) وروى عنه في “الكتاب” حوالي 200 مرة. ويونس بن حبيب هو الذي يُؤثَر عنه قوله في تقييم شعراء العرب عندما سُئِلَ عن أيّهم أشعر: “لا أومئ إلى رجلٍ بعينهِ، ولكني أقولامرؤ القيس إذا رَكِبَ، والنابغة إذا رَهِبَ، وزهير إذا رَغِبَ، والأعشى إذا طَرِبَ”.

ومن كُتُب يونس بن حبيب التي وصلتنا: ” اللغات ” و” الأمثال” و ” النوادر” و ” معاني القرآن“.

أستنتجُ من كلِّ ذلك أمرَين:

الأوَّل، إنَّ سيبويه لم يكُن ” أبو النحو العربي ” كما نعته بعضهم، بل سبقه كثيرون، كما بيَّنا في المخطط التقريبي لسلسلة النحاة العرب الذين سبقوا سيبويه.

الثاني، إنَّ كتاب سيبويه ” الكتاب” لم يكُن أوَّل كتاب في النحو العربي، فقد سبقته كتيبات أو كتبٌ عديدةٌ لم يصلنا بعضها، ودلّ عليها ما نجده من اقتباسات منها أو إشارات إليها في بعض المراجع المعاصرة لها وما بعدها.

وفي تقديري أنَّ سيبويه فعل في ” الكتاب” ما فعله الليث بن المظفر الكناني في معجم” العين“، فكلٌّ منهما نقلَ إلينا علم الخليل من أماليه على تلاميذه، في تقعيد اللغة وفي معجمتها على التوالي، غير أنَّ سيبويه حرَّره بشكلٍ يوحي بأنَّه من تصنيفه، وأمّا الليث فأكمل معجم ” العين” وحدّثه وحرّره ونسبه إلى شيخه الخليل، حباً ووفاءً.

وملحوظة أخيرة تتعلَّق بكتاب سيبويه، وهي أنَّنا لا نستعمله اليوم لتعلُّم قواعد اللغة العربية أو تعليمها، بسبب الخلل الذي أشار إليه أستاذنا الدكتور محمود محمد علي، وبفضل تطوّر الطرائق التعليمية، بيدَ أنَّ له أهمّية في تاريخ علم النحو العربي. أمّا معجم ” العين” الذي أكمله وسهر على نشره الليث بن المظفر فلا يزال مفيداً كمعجم مرحلي لتلك الحقبة من حياة اللغة العربية. ودليلي على ذلك أنَّ مُعالجي ومُحرّري ” معجم الدوحة التاريخي للغة العربية[81] يضطرون إلى اقتباس كثير من تعريفات ” العين ” وشواهده، على الرغم من أنَّنا ـ نحن أعضاء المجلس العلمي لمعـجم الدوحة ـ نحثُّهم على أن يعتمدوا على المدوَّنة النصية مصدراً أساسياً، وألّا يستعملوا المعاجم إلا بوصفها مراجعَ ثانوية عند الضرورة القصوى، ولكنَّهم يجدون في ” العين” ما لا يجدونه في المدونة ولا المعاجم الأخرى[82].   

ولم يفُت استنتاجي وما أدعيه من أنَّ سيبويه مجرَّد ناقلٍ لعلم الخليل وإبداعاته، العلّامةَ بروكلمان حين قال:

وكان سيبويه أشهر تلامذة الخليل، ومصنّف أول كتاب جمع فيه ما ابتكره الخليل إلى محصول السابقين.

(لاحظ كلمة “مصنِّف” أي مرتّب المعلومات ومؤلِّفها، وكلمة “جمعَ”، وعبارة ” محصول السابقين“، التي تنمّ عن دقّةِ كلام بروكلمان).

        وقال أحمد أمين عند كلامه عن الخليل:

” …وأكتفي في ذلك بما أوحى إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده وألَّف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدّم قبله، كما امتنع على من تأخَّر بعده.”

        فهذان العالمان، بروكلمان وأحمد أمين ـ اللذان اضطلعا بتأريخ الثقافة العربية وآدابها، حصرا فضل سيبويه في الجمع والحمل. أما التفكير والإبداع، وفلسفة علم النحو ومنهجيته، وإنشاء المدوَّنة اللغوية التي يعتمد عليها النحوي في تقعيد اللغة، والتنظير العلمي المتمثِّل في نظرية العامل التي ينبني عليها النحو العربي أجمعه، فهي جميعاً من إبداع الخليل وابتكاره.

        وفي حقيقة الأمر، لم تفُت الدكتور محمود محمد علي تلك الحقيقة، فقد أورد مقولتَي العالِمَين أعلاه في كتابه القيم ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق“. فإذا أخذنا برأيهما لم يبقَ لسيبويه من فضل سوى الحمل والنقل، وتصنيف وترتيب ما حمل ونقل، في مكان الوصول، أي الكتاب.

 ومع ذلك، فإنَّ هذا الترتيب الذي قام به سيبويه، مختل وغير دقيق، كما يلاحظ الدكتور محمود، حين يقول:

وكثيراً ما نجد سيبويه يمزج أبواب النحو في صورة عجيبة (أي: غريبة) فهو ينتقل من الباب إلى غيره قبل أن يستوفي أحكامه، فمثلاً نجد الكلام على الفاعل قد ابتدأ من الصفحات الأولى في الكتاب، ونثر الحديث عنه في صفحات الكتاب في قفزات غير منتظمة، بحسب تداعي المعاني الذي أثَّرَ على منهجه، فهو لا يحدّثك عن أحوال الفاعل مع فاعله تذكيراً وتأنيثاً إلا عند حديثه عن الصفة المشبّهة… وتتعجب من منهجه وهو يقدِّم لك المادة النحوية، المرفوع إلى جانب المنصوب والمجرور!!!”[83]

        فإذا علمنا أن فضل سيبويه يكاد ينحصر في النقل والترتيب، ولكنَّه كناقل البيض  المستعجِل وهو يجري بعربة خشبية في طريق وعرة، ما يسبّب تكسُّر كثيرٍ من البيض، وعند وصوله يقوم بترتيب ما بقي من البيض بطريقة مختلة، نتساءل عن سر إطراء النحويّين سيبويه وكتابه: أهو الحظ، أم أنَّهم كانوا يدركون أنَّ ” الكتاب” يحمل علم الخليل وينقله إليهم؟! والله أعلم.

        وأختم كلامي في هذا القسم من المقال، بالترحُّم على سيبويه والليث لما بذلاه من جهد كبير في خدمة لغة القرآن الكريم، ونشر علم شيخهما الخليل بن أحمد رحمه الله

4) هل مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة مدرستان أم مدرسة واحدة؟

  1. مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة في النحو:

تعني المدرسة، هنا، مجموعة من الباحثين يجمعهم فكرٌ مشتركٌ واحد أو خصائص مشتركة متعلّقة بمجالٍ واحدٍ أو أكثر من مجالات المعرفة، وتتجلّى هذه الخصائص المشتركة في الأساس النظري لأبحاثهم، ومنهجيته، وتوجُّهاته العامّة.

يقلّل الدكتور محمود محمد علي من الفروق أو الاختلافات بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، لإنَّهما متفقتان في الأصول العامَّة للنحو، ولأنَّ أئمة النحو الكوفي درسوا على نحاة البصرة. فالكسائي، مؤسّس مدرسة الكوفة في النحو، قد تتلمذ على الخليل بن أحمد البصري. وأبو زكريا الفراء (ت 207 هـ) من أئمة مدرسة الكوفة أو رئيسها الثاني بعد الكسائي، رحل إلى البصرة وتتلمذ على يونس بن حبيب (ت 208 هـ) الذي جلس في موضع الخليل بعد وفاته للتدريس. وكان الفراء “يقرأ كتاب سيبويه خلسة، ووجدوا “الكتاب” تحت وسادته بعد وفاته“، كما يقول الدكتور محمود. ومن ناحية أخرى، فإنَّ مدرسة الكوفة استخدمت في الأغلب مصطلحات مدرسة البصرة في النحو. ومعروف أنَّ ” المصطلحات هي مفاتيح العلوم” وأنَّ “فهم المصطلحات نصف العلم”، لأنَّ المصطلحات تعبّر عن مفاهيم ذهنية مترابطة، وهذه المفاهيم المترابطة تشكِّل المنظومة المعرفية لكلِّ علم. وعلاوة على ذلك فإنَّ المدرستين البصرية والكوفية تتمسك بنظرية العامل التي هي من ابتكار الخليل بن أحمد البصري، رأس مدرسة البصرة. ويضيف المؤلِّف الفاضل:

” ومن يرجع إلى كتاب ” الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين” لابن الأنباري، يجد أنَّ عامَّة المسائل التي خالف فيها الكوفيون البصريين، لا يمكن أن تجعل من الكوفيين نحاةً من نمط جديد، أو تجعل آراءهم التي جاءوا بها تؤلِّف مدرسة نحوية متميزة، وبهذا يصبح كلُّ ما قيل في عصرنا هذا من كلامٍ ومن صيغ في الثناء على الكوفيين لتميُّزهم في العمل النحوي أمراً مبالغاً فيه.”[84]

وإذا كانت مدرسةُ الكوفة قد نالت شهرةً في ذلك العصر بوصفها مدرسةً مستقلةً عن مدرسة البصرة، فإنَّ الدكتور محمود يُرجع السبب إلى أنَّ الخلفاء العباسيين (نسبة إلى جدّهم عباس بن عبد المطلب، عمّ النبي(ص))، قرّبوا أعلام الكوفة في اللغة والأدب، بفضل المعرفة والعلاقة الودية بين أولئك الخلفاء وأعلام مدرسة الكوفة. فأوَّل خلفائهم، أبو العباس السفّاح، كان يسكن الكوفة حينما تولى الخلافة سنة 132هـ ومعه أخوه وليُّ عهده أبو جعفر المنصور الذي تولى الخلافة بعد زهاء أربع سنوات، والذي بنى مدينة بغداد (بين سنتي 145ـ150 هـ) واتخذها عاصمة له[85]. فهما وكبار العباسيين يعرفون الكوفة وعلماءَها وتربطهم بهم علاقات ودية؛ إضافة إلى أنَّ الكوفة أقرب من البصرة إلى بغداد، فالمسافة بين بغداد والكوفة 172 كيلومتراً، أما المسافة بين بغداد والبصرة فهي قرابة 530 كيلومتراً.

ولهذا نرى أنَّ الخليفة أبا جعفر المنصور يجعل عالمَ اللغة الأديب الراوية المُفَضَّل الضَّبّي (ت 168؟ هـ) مؤدباً لولده المهدي. وكان الضبّي شيخ الكسائي والفرّاء في الكوفة. ويضمُّ الخليفة المهديُّ الكسائيَّ (ت 189هـ)، رئيسَ مدرسة الكوفة في النحو وأحد القراء السبعة، إلى حاشية ولده هارون الرشيد. وعندما يتولى هارون الرشيد الخلافة، يكلِّف الكسائي بتعليم ولديه الأمين والمأمون. وعندما مرض الكسائي، اختار تلميذه أبا الحسن الأحمر (ت 194هـ) ليخلفه في تلك المهمة. أمّا الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد، فقد اختار أبا زكريا الفراء (ت 207 هـ) لتأديب ولديه.[86]

وهكذا كان لأعلامِ مدرسةِ الكوفة في اللغة والأدب حظوة لدى الخلفاء العباسيّين، فارتفعت حظوظهم وعلا اسمهم وأُشير إليهم بوصفهم أعلامَ مدرسةٍ متميزةٍ عن مدرسةِ البصرة.

وهكذا يكون الدكتور محمود محمد علي قد خالف جمهور مؤرِّخي النحو العربي من مستشرقين وعرب. وهو لم يخالفهم لمجرد التفرُّد، فهو لا يأبه بالشهرة بقدر ما يُعنى بالحقيقة العلمية.

وعلى الرغم من وجاهة الأسباب التي جعلت المؤلِّف الفاضل يقلِّل من الفروق بين مدرستي البصرة والكوفة في النحو، فإني أذهب إلى وجود فروقٍ جوهريةٍ، نظرية وتطبيقية، بين المدرستيْن للأسباب التالية:

أولاً، إن مفهوم ” مدرسة ” قد لا يقتصر على مجال فكري واحد بل قد يضمُّ عدَّةَ مجالات فكرية متقاربة أو متباعدة. فمدرسة فيننا (أو حلقة فيينا) التي تأسست في مطلع القرن العشرين، مثلاً، كان يتمتَّع بعضويتها علماءُ من تخصُّصاتٍ مختلفةٍ مثل الفلسفة والمنطق والفيزياء والاقتصاد والرياضيات وعلم النفس وعلم الاجتماع. ولكنَّهم جميعاً يشتركون في التصوُّر العلمي للعالم، ويتَّفقون على ضرورة قيام المعرفة على معطياتٍ حسّيةٍ وأفكارٍ تستند إلى ظواهرَ تجريبيةٍ أو استقرائية.

        وبالمثل، فإنَّ مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة لم تكونا مقتصرتيْن على النحو فحسب، بل شملتا كذلك مجموعة من العلوم الأخرى المتَّصلة مثل التفسير، والقراءات، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الكلام، وغيرها. ومجالات المعرفة مترابطة مثل أغصانِ شجرةٍ معمّرة وجذورها في باطن التربة تبحث عن الماء أو الحقيقة.

ثانياً، إنَّ الاختلاف بين المدرستين لم يقتصر على القضايا الشكلية، بل هو قائم على الأساس النظري الذي يؤدي إلى منهجية كلٍّ منهما. فمثلاً نجد أنَّ البصريّين لا يعتمدون صياغة القاعدة النحوية ما لم تتوافر لديهم مدوَّنة كبيرة تشتمل على أقوال كثيرة، سمعوها من الناطقين بالعربية في مختلف أصقاع جزيرة العرب، من أجل صياغة القواعد النحوية في ضوئها وعلى أساسها. أمّا الكوفيّون فيكتفون بأقوالٍ قليلة يقيسون عليها ويضعون القاعدة النحوية، تماما كما كانوا يفعلون في أصول الفقه. فقد كان الفقيه أبو حنيفة النعمان الكوفي (80ـ150هـ) لا يأخذ بالأحاديث مهما كثرت، لا لشكِّه في أنَّ بعض الأحاديث موضوعة فحسب، بل لأنَّه كان كذلك يكتفي بآيةٍ قرآنيةٍ واضحة ويقيس عليها ليستنبط الاحكام الشرعية منها[87]. أمّا منهج الحسن البصري (20ـ110) في تفسير الآيات القرآنية أو تأويلها، فهو تفسير القرآن بالقرآن، وبالسنة، وبأقوال الصحابة، وبعمل أهل المدينة، وبالاستحسان، وبالإجماع وغير ذلك. وكذلك في القراءات، فإن البصريين لا يأخذون بقراءة لا تتفق مع القاعدة النحوية، وهكذا.

وهذا الاختلاف بين مدرستي البصرة والكوفة النحويتيْن يذكِّرني بالاختلاف بين المدرستين البنيوية والتوليدية في اللسانيات الأمريكية في القرن الميلادي العشرين. فالبنيويون يضعون قواعدهم النحوية بناء على مدونة كبيرة تشتمل على أمثلة كثيرة تُستنبَط منها القاعدة. أمّا التحويليون ـ التوليديون فتكفيهم أمثلة جيّدة قليلة، يولِّدون منها القاعدة النحوية، كما أوضح تشومسكي الذي يرى بأن النحو بنية معرفية يتحكَّم به مستخدمو اللغة، وأنَّ أغلب هذه المعرفة فطرية يسميها بالنحو الكلي، ولهذا فإنَّ الأطفال يكتسبون لغتهم الأم بنجاح في وقت قصير جدّا، وأنَّ عالمِ اللغة لا يحتاج إلّا إلى شواهد جيدة قليلة لصياغة القاعدة النحوية منها، ولتوليد قواعد أخرى منها وبالقياس عليها.

ونظراً لأنَّ البصريِّين يقيمون قاعدتهم النحوية على المسموع الكثير، فإنَّهم أوَّل من وضع أسس المدوَّنة النصِّية في تاريخ اللسانيات، وما اقتضته من الرحلة الى البادية ومشافهة فصحاء الأعراب. أمّا الكوفيون فلم يولوا كبيرَ اهتمام ٍلذلك، فقد كانوا يقيمون قاعدتهم النحوية على القليل الجيّد ويقيسون عليه، كما ذكرنا. وعلى الرغم من أنَّ الكسائي، أوَّلَ شيخ للمدرسة الكوفية، قد قام بالرحلة إلى البادية، بتأثير شيخه البصري الخليل بن أحمد، فإنّه فيما بعد لم يلتزم بمبدأ المدونة الكبيرة لأنَّه مخالفٌ لأُسس مدرسة الكوفة النظرية التي تحتفي بالقياس على القليل. ولهذا كان النحوي البصري ابن درستويهِ (ت 347هـ) يتهمه بقوله:

 ” كان الكسائي يسمع الشاذَّ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلاً ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك.”[88]

وقال النحوي الكبير أبو حيان الأندلسي (ت 745هـ)[89]، مبالغاً في نقده واتهامه للكوفيّين:

الكوفيون لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز شيء مخالف للأصول، جعلوه أصلاً وبوبوا عليه.”

وإذا كان ثمة مبالغة في هذا القول، فإنَّه يدلُّ على منهجية الكوفيين للقياس على القليل الجيِّد، في اشتقاق قواعدهم النحوية؛ على حين أنَّ البصريين يصيغون قواعدهم على الأعم الأغلب من الشواهد الموثوق بها الكثيرة الدوران على ألسنة الأعراب.

ثالثاً، لم يتوقَّف الاختلافُ بين المدرستَين البصرية والكوفية في النحو على الفروق الثانوية التي تفضلّ الدكتور محمود بذكرها، بل تعدّاها إلى قضايا أساسية من أهمِّها ما يأتي:

أ ـ اختلف البصريون والكوفيون في أصل الاشتقاق[90]: أهو اسم المصدر (الكتابة، مثلاً) أو الفعل (كتب، يكتب)؟ فرأى البصريون أنَّ اسم المصدر هو أساس الاشتقاق، على حين ذهب الكوفيون إلى أنَّ الفعل هو الأساس. وقدَّم كلُّ فريقٍ حججاً عقلية لتأييد موقفه.

استدل البصريون على أنّ المصدر أصلٌ للفعل، بأنَّ المصدر يدلُّ على زمنٍ مطلق والفعل يدلُّ على زمنٍ مقيَّدٍ، والمطلق أصلُ المقيَّد؛ وبأنَّ الاسم يقوم بنفسه ويستغني عن الفعل على حين أنَّ الفعل يفتقر إلى الاسم؛ وبأنَّ الفعل يدلُّ على شيئَين: الحدث والزمن، أمّا المصدر فيدلُّ على شيءٍ واحد هو الحدث، ولهذا فإن المصدر أصل الفعل، لأنَّ الواحد أصل الاثنين؛ وبأنَّ للمصدر صيغة واحدة (الكتابة) لأنّه الأصل، أمّا الفعل فله صيغ متعدِّدة ( كتبَ، كتَّبَ، انكتبَ، استكتب…)، وأن الفعل فرع والمصدر أصل، لأنَّ الفعل يدلُّ عليه المصدر، أمّا المصدر فليس له دلالة الفعل، وذلك لأنَّه لا بدَّ للفرع أن يحمل بعض سمات الأصل، وغيرها من الأدلة العقلية واللغوية.

أمّا الكوفيون فاستدلوا على أنَّ الفعل أصلٌ والمصدر مشتقٌ منه وفرعٌ عليه، بأنَّ المصدر يصحُّ لصحَّة الفعل ويعتلُّ لاعتلاله نحو: قَاوَمَ ـ قِوَاماً، فيصح المصدر فيه، أما قولك: قَامَ ـ قِياماً، فالمصدر يعتل لاعتلال الفعل؛ وبأنَّ الفعل يعمل في المصدر
فنقول: ضَرَبْتُ ضَرْبَاً، فوجب أن يكون فرعاً عليه؛ لأنَّ رتبة العامل قبل رتبةِ المعمول؛
وبأنَّ المصدر يُذكَر توكيداً للفعل، ورتبة المؤكَّد قبل رتبة المؤكِّد ؛ وبأن
ثمَّة أفعال لا مصادر لها مثل: نعم، وبئس، وحبّذا، وهذا مما يجعل استحالة وجود الفرع من دون أصل؛ وبأنَّ المصدر لا يُتَصوَّر معناه ما لم يكُن فعلَ فاعلٍ، والفاعل وضِع له فَعَل- يَفْعَل فينبغي أن يكون الفعل الذي يعرف به المصدر أصلاً؛ وغير ذلك من الأدلة العقلية واللغوية.[91]

ولم يكُن هذا الاختلاف بين النحويّين البصريّين والكوفيّين، مجرَّد حذلقةٍ كلاميةٍ نظريةٍ فقط أو “زوبعة في فنجان”، كما يقولون، من دون أن تكون له تطبيقاتٌ عملية. وأشير إلى نوعَين من هذه التطبيقات:

الأوَّل، كان مؤلِّفو كتب النحو يبدؤون بالاسم في كتبهم وبعد ذلك يتناولون الفعل إذا كانوا من البصريين، أما الكوفيون فيفعلون بالعكس. ومن الأمثلة على ذلك كتاب ” المفصَّل في صنعة الإعراب” للعلامة ذي التوجه النحويّ البصري، جار الله الزمخشري (ت 538هـ)[92]. فالكتاب مكوَّن من أربعة أقسام: الاسم، الفعل، الحرف، المشترك بين الاسم والفعل والحرف. فهو يبدأ بالاسم لأنَّه أصل الفعل في نظر البصريِّين.

الثاني، ومن أهمِّ هذه التطبيقات للخلاف بين البصريّين والكوفيّين بشأن أصل الالفاظ: اسم المصدر أو الفعل، هو ترتيب المداخل، الرئيسة والفرعية، في المعجمات العربية. وباستثناء معجم “العين” للعبقري الخليل بن أحمد، والمعاجم التي حذت حذوه، فإنّ المعاجم العربية كانت أمام اختيارين: إما ترتيب مداخلها على أساس اسم المصدر وإمّا على أساس الفعل. ولكنَّ معظم المعجمات التراثية تبدأ مرَّةً بالاسم ومرّة بالفعل. ففي أشهر معجم  تراثي، ” لسان العرب[93]، لابن منظور (ت 711هـ)، نجد أنَّه في مادَّة الجذر (أ ب د)، يبدأ بالاسم، ثمَّ يأتي الفعل :

“ـ الأبدُ: الدهر، والجمع آباد وأبود…

ـ أَبَدَ بالمكان، يأبِدُ أُبوداً: أقام…”

ولاكنَّ المعجم نفسه في مدخل الجذر (أ ب ر)، الذي يلي المدخل السابق مباشرةً، يبدأُ بالفعل وليس بالاسم:

” ـ أَبَرَ النخلَ والزرعَ يأبُرُهُ ويأبِرُهُ أبْراً وإبارةً، وأبَّرَهُ: أصلحه …

  ـ الآبِرُ: العاملُ.

  ـ المؤتًبِرُ: ربُّ الزرع.

  ـ المأبُور: الزرعُ والنخلُ المُصلَحُ…”

ولعلَّ تلك المعاجم كانت تبدأ بالشائع المعروف من الأُسرة الاشتقاقية للَّفظ، سواء أكان اسماً أم فعلاً، استنادا إلى مبدأٍ تعليميٍّ هو: ” التدرج من المعلوم إلى المجهول“. ولاكن بمرور الوقت وتراكم المعرفة المعجمية في تعاملها مع لغة اشتقاقية، هي العربية، استقرَّ المعجمُ العربي الحديث على الانطلاق في المدخل الرئيس من الفعل الماضي، ثمَّ أوزانه (أشكاله) المشتقة منه. فللفعل الثلاثي خمسة عشر وزناً الشائع منها عشرة. وتُرتِّب المعاجمُ المستعملَ منها في المداخل الفرعية على الوجه التالي: فَعَلَ، فَعَّلَ، فاعلَ، أفْعَلَ، تَفعَلَ، تفاعلَ، اِنْفَعَلَ، اِفْتَعَلَ، إِفْعَلَّ، اِستفعَلَ؛ وبعد ذلك تُرَتَّب الأسماء ألفبائياً بعد الأفعال.[94]

وبعبارةٍ أخرى، أنَّ المعاجم العربية الحديثة في ترتيبها المداخل المعجمية، انتهت إلى الأخذ بوجهة نظر الكوفيّين القائلة إنَّ الفعل هو الأصلُ، والأسماء مشتقَّة منه، ولم تأخذ بوجهة نظر البصريّين القائلة إنَّ اسم المصدر هو الأصل.

ولهذا نجد في “المعجم العربي الأساسي[95]:

” ـ أَبَّدَ يُؤَبِّدُ تأبيداً: خلَّده وأبقاه على الدهر.

  ـ آبِدةٌ  ج أوابد: الشيء العجيب الغريب…”

وهكذا فالمعاجم الحديثة تبدأُ بالفعل وأوزانه المستعملة، ثمَّ الأسماء بوصفها مشتقة منه.            

رابعاً، اختلف البصريّون والكوفيّون في أبنية الكلمة، فقال البصريون إنَّها: ثلاثية ورباعية وخماسية، وما زاد على ذلك، فهو زائد. أما الكوفيون فقالوا ببناء واحد هو البناء الثلاثي للكلمة، وما زاد عن ذلك فهو زائد على أصل البناء.  وهكذا نجد أن شيخ البصريين الخليل قسّم  معجمه (العين) حسب الأبنية: الثلاثية والرباعية والخماسية. فيبدأ بالجذور الثلاثية وتقاليبها، وبعد الانتهاء منها ينتقل الى الرباعية، ثمَّ الخماسية.

خامساً، اختلف البصريّون والكوفيّون في كثير من المصطلحات. وهذا النوع من الاختلاف ليس مجرَّد اختلافٍ لفظي، بل هو مفهومي. فالمصطلح لفظٌ يعبّر عن مفهوم. ولكلِّ علمٍ منظومته المفهومية. ومن الأمثلة على هذه الاختلافات:

أ ـ أقسام الكلام عند البصريّين هي: اسم وفعل وحرف. وعند الكوفيّين هي: اسم وفعل وأداة.

ب ـ أقسام الفعل عند البصريّين هي: ماضي ومضارع وأمر. أمّا عند الكوفيّين فهي: ماضي ومضارع ودائم.

ج ـ ما يصطلح عليه البصريّون بـ ” البدل”، يصطلح عليه الكوفيّون بـ ” الترجمة “.

د ـ ” النعت” لدى البصريّين، هو ” الصفة ” لدى الكوفيّين.

هـ ـ يقول البصريّون ” ظرف مكان”، أمّا الكوفيّون فيقولون ” المحل”.

و ـ “العطف” عند البصريّين هو ” النسق” عند الكوفيّين.[96]

ولم تقتصر الاختلافات بين البصريّين والكوفيّين في النحو على هذه النقاط التي ذكرتُ بل اشتمل كتاب خالويه (ت 370هـ)[97]إعراب القراءات السبع وعللها” على إحدى وسبعين مسألة اختلفت فيه المدرستان.[98] وأمّا أبو البقاء العكبري (ت 616 هـ)، فقد اشتمل كتابه “التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين“، على خمس وثمانين مسألةً خلافيةً بينهما[99].

وهذه المسائل الخلافية بين المدرستيْن البصرية والكوفية ليست هامشية أو لفظية فقط، بل لمعظمها نتائجُ خطيرةٌ تؤثِّر في القراءات، والقراءات بدورها توثِّر في الحكم الشرعي المستنبط من آيات القرآن الكريم، طبقاً لقواعد أصول الفقه.

أحسب أنَّ أحد الأسباب التي دفعت الدكتور محمود محمد علي إلى التقليل من الفرق بين المدرستين البصرية والكوفية هو اعتماده على كتاب ابن الأنباري (518ـ577هـ) ” الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويّين: البصريّين والكوفيّين” الذي أدّى به الى الاستنتاج بأنَّ الكوفيّين لم يأتوا بجديد في مخالفتهم للبصريّين. فابن الأنباري رحمه الله لم يكُن مُنصِفاً في كتابه المعنون بالإنصاف، ولم يكن قاضياً محايداً، وكان عليه التنحي عن نظر تلك القضية الشائكة، لأنّه كان بصري الهوى. كما أثبت بحثٌ جامعيٌّ قدَّمه الباحث نايف إبراهيم الرشيدي، في جامعة مؤتة الأردنية لنيل الماجستير بعنوان ( الخلافُ الصرفيُّ في كتاب ” الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري”: دراسة تحليلية تداولية” وتوسَّل فيه بمعطيات علم الصرف الصوتي الحديث، فتوصلَّ في خاتمتها إلى الحكم التالي:

لـم يوافـق الأنبـاري الكـوفيّين فيمـا ذهبـوا إليـه مـن تعلـيلاتٍ صـرفيةٍ بـأي مسـألة مـن المسائل، وإنَّما كان موقفه مع البصـريّين فـي كـلِّ المسـائل الصـرفية التـي عرضـتُها، و بــالرغم مــن أننــي وجــدت كثيــرا مــن المســائل تقتــرب بالدراســة الصــوتية إلــى رأي  الكوفيّين لا إلى رأي البصريّين، ولكن الأنبـاري رأى أن يكـون إلـى جانـب البصـريّين في كافة المسائل كما رأينا .” [100]

وتدعم هذا الرأي باحثة جامعية أخرى هي إسراء ياسين حسن في بحثها بعنوان ( الإنصاف في تقويم الآراء البصرية والكوفية في كتاب ” الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويّين: البصريّين والكوفيّين” لأبي البركات الأنباري)[101]

ويؤيد هذا الحكم باحثٌ نحويٌّ من طراز رفيع هو الدكتور كريم مرزة الأسدي إذ قال عن ابن الأنباري ما يأتي:

” وبالرغم من أنّه تبرَّع أن يفرض على نفسه ميثاق العدل والإنصاف للحكم بين المدرستيْن قائلاً: ” واعتمدت في النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف، لا التعصب والإسراف “، ولكنًّه لم يكُن منصفاً، ولم يستطع إمساك نفسه من نصرة أصحابه أهل البصرة، فقد تعصَّب وأسرف تحت لذة التفلسف وسيطرة أهواء المنطق …”[102]

ولقد درستُ بنفسي كتاب ابن الأنباري، فوجدتُه كثيراً ما يعرض المسألة كما يراها الكوفيّون مع حججهم، ثمَّ يعرضها كما يراها البصريّون مع حججهم، ولا يكتفي بعرض وجهتي نظر المدرستين في المسألة بل يختمها بتفنيد كلام الكوفيين بحججه هو، ولم يفنِّد كلام البصريّين ولا مرَّة واحدة. وأعرض منهجية أحكامه في ثلاث مسائل، مثلاً لِما قلتُ:

        ” أمّا الكوفيون فاحتجّوا بأن قالوا…وأما البصريّون فاحتجّوا بأن قالوا… وأما الجواب عن كلمات الكوفيين بقولهم …، قلنا هذا فاسد …”[103]

ويعطي حكمه بفساد قول الكوفيّين متبوعاً بحججه الشخصية. ولم يتَّفق مع الكوفيّين إلا في أربع مسائل.

        القاضي المنصف لا يسند أحد الخصمين بحجج من عنده، وإذا كان أحد الخصمين من أقربائه أو أصدقائه الحميمين أو من مدرسته الفكرية، فإنَّه يتنحّى من تلقاء نفسه عن نظر القضية.[104]

حقيقة مدرسة بغداد النحوية:

نعلم أنَّ علماء اللغة الكوفيّين ذهبوا إلى بغداد لخدمة الخلفاء العباسيين، ثمَّ لحق بهم علماء اللغة البصريّون. وفي العصر العباسي الثالث، اشتدت المنافسة في بغداد بين زميلين في الدراسة ثم أصبحا زعيمي المدرستيْن الكوفية والبصرية، وأعنى بهما أبا العباس ثعْلب[105]، إمام الكوفيّين، وأبي العباس المُبرِّد[106]، إمام البصريّين. ويرى بعضهم أنَّه نتيجة لهذه المنافسة، ” والمناظرات التي جرت بين هذه الزعيميْن، ظهرت مدرسةٌ نحوية جديدة أُطلق عليها اسم ” نحاة بغداد ” أو ” البغداديون” أو ” المذهب البغدادي“، أو، في العصر الحديث:” مدرسة بغداد“، أو ” المدرسة البغدادية “.

ومن أوائل القائلين بوجود هذه المدرسة الثالثة في النحو بعض المستشرقين مثل غوستاف فلوجل (1802ـ 1870م) الذي نشر كتاب ” الفهرست” لابن النديم. فقد كتبَ هذا المستشرقُ بحثاً عن المدارس النحوية سنة 1862، زعم فيه وجودَ مدرسةٍ نحويةٍ ثالثة هي المدرسة البغدادية، وكذلك العلامة بروكلمن، الذي عزا نشوءَ هذه المدرسة الى المنافسة بين ثعلب والمبرِّد.

بيدَ أنَّ الأغلبية الساحقة من مؤرِّخي علمِ اللغة العربية في العصر الحديث مثل سعيد الأفغاني وأحمد أمين وشوقي ضيف ومحمد مهدي المخزومي وغيرهم لا يرون وجود مدرسة ذات أسس ومنهجية مختلفة عن مدرستي البصرة والكوفة.  ويقف الدكتور محمود محمد علي في كتابه هذا إلى جانبهم فيقول:

” اتَّبع نحاة القرن الرابع الهجري نهجاً جديداً في دراساتهم ومصنفاتهم النحوية، يقوم على الانتخاب من آراء المدرستين البصرية والكوفية جميعاً …

“وهكذا تمثلت تلك النزعة في نحاة هذا الجيل، إذ كانوا يتمسَّكون بالرأي الذي يستريحون له، ويغلب على ظنهم صحّته، سواء أكان موافقاً لرأي البصريّين أم الكوفيّين؛ فلا تعصّب لأحد الفريقين على الآخر، وأحياناً نرى لهم آراء جديدة وصلوا إليها باجتهادهم، وهذه سمات المذهب البغدادي، وقد  ظهرت بشكل أوضح في القرن الرابع الهجري، فما كاد فجر هذا القرن يبزغ حتى تهيأت الأسباب لتثبيت هذا المذهب، وتوطيد دعائمه فكانت حرية البحث مكفولة لدى العلماء، لأن بغداد قد استقرت الروح العلمية فيها، وقد ازدهرت تلك الحياة بصورة واضحة بعد هجرة علماء البصرة والكوفة إليها.”[107]

والملاحظ أنَّ المصطلحات النحوية التي نستعملها اليوم هي على الأغلب مصطلحات بصرية، وأّنَّ نظرتنا الى الاشتقاق هي نظرة كوفية.  ويمكن تفسير هذا التذبذب في وقتنا الحاضر بين معطيات المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية، بظهور ذالك التوجُّه في بغداد، الذي راح يوفِّق بين مدرستي البصرة والكوفة، ويختار منهما الملائم في ضوءِ المتطلَّبات العملية والتطوُّر الفكري. وسواء خلعنا على هذا التوجّه اسم ” مدرسة نحوية” أو لم نعتبره كذلك، فهو واقع تاريخي، ترك بصماته على النحو العربي المعاصر، شأنه شأْنَ كلِّ واقعٍ تاريخيٍّ يمكن أن ندرس تأثيراته اللاحقة بغض النظر عن التوصيف الذي نصفه به أو الاسم الذي نخلعه عليه.

5) مراحل تطوُّر العلاقة بين النحو العربيِّ والمنطق

 5ـ 1. مراحل العلاقة بينهما:

يرى المؤلّف أنَّ علاقة النحو العربيِّ بالمنطق اليونانيِّ مرَّت في ثلاث مراحل هي:

أ ـ المرحلة الأولى، مرحلة نشأة النحو العربي. وقد تمَّت مناقشة هذه المرحلة.

ب ـ المرحلة الثانية، مرحلة بدايات مزج النحو العربي بالمنطق.

ج ـ المرحلة الثالثة، مرحلة غلبة المنطق على النحو العربي.

ب ـ بدايات مزج النحو العربي بالمنطق:

ما إن حلَّ القرن الثالث الهجري، إلا وكان العالم الإسلامي قد توطَّدت فيه تقاليد دراسة الفلسفة والمنطق، واستخدمتها مدارسه الكلامية لدعم مواقفها، وتوسَّعت حركة ترجمة فلسفة اليونان، وعلوم الهند، وآداب الفرس. فقد كان أبو جعفر المنصور (خلافته من 137ـ 158 هـ) مولعاً بالعلوم، فطلب أن تُتَرجم كُتُب الطب والهندسة والرياضيات والحكمة وغيرها، وحفظ تلك الكتب خزانة في قصره. ولما تولّى الخلافة حفيده هارون الرشيد (خلافته من 197ـ193 هـ)، أخرج الكتب من القصر ووضعها في خزانة مستقلة أُطلق عليها اسم ” بيت الحكمة” التي سرعان ما تطوَّرت لتكون مجمعاَ علمياً ومركزاً للترجمة لا سيما في عهد ابنه الخليفة المأمون (خلافته من 198ـ 218هـ).

        ونتيجة لترجمة فلسفة اليونان ومنطقها، أخذ جميع طلبة العلم، مهما كان تخصُّصهم، يدرسون المنطق وبقية أبواب الفلسفة، وأخذ النحاة يمزجون النحو العربي بالمنطق. ولم يقتصر ذلك على مدرسة دون أخرى، بل مارسته كلتا المدرستَين: البصرية والكوفية. وينبغي أن نتذكَّر أنَّ الدراسة في ذلك العصر كانت شمولية المنحى. فالطالب الجامعي يدرس جميع الآداب والعلوم، من فقهٍ، وطبٍّ وفلسفةٍ ولغةٍ ورياضياتٍ وموسيقى وغيرها. وكانت الفلسفة تشمل دراسة أغلبية العلوم من علم النفس وعلم الاجتماع والطبّ وغيرها، قبل أن تستقل تلك العلوم عن الفلسفة. ولم يبدأ التخصُّص في الجامعات الأوربية إلا إبان الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.

وبعد أن انتقل زعيما المدرستين البصرية والكوفية، المُبرِّد والفَرّاء، إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية بغداد، واشتدت المنافسة بينهما، وكثرت المناظرات التي اشتركا فيها، عزّزا النحوَ بالمنطق دعماً لمواقفهما، وأخذا يمزجان نحوهما في المنطق، كما أخذت المدارس الكلامية تعزِّز مذاهبها بالفلسفة والمنطق. وفيما يأتي نبذة مختصرة عنهما:

ـ أبو العباس المُبرِّد (210ـ286هـ/825ـ899م)

المبرِّد من كبار العلماء في النحو والبلاغة والنقد. ولد في البصرة، ودرس على صالح بن إسحاق الجرمي، ومحمد بن عثمان المازني، وعمرو بن بحر الجاحظ، وغيرهم من كبار علماء البصرة. وانتقل إلى بغداد، وذاع اسمه، وألَّفَ عدداً من الكتب، لعلَّ أهمَّها ” الكامل في اللغة والأدب”.[108]

وفي كتابه ” المقتضب” الذي يقع في ثلاثة أجزاء، تناول جميع موضوعات النحو والصرف، مُعزِّزاً آراءَه بالشواهد، مع الإكثار من التعليل المنطقي للقواعد النحوية والصرفية. ويقول الدكتور محمود محمد علي عن تعليلات المبرد:

ومع هذا، فالغالب على تعليلات المبرِّد أنها لم تخرج عن تعليلات البصريين، فَعِلله شبيهة إلى حدٍّ كبيرٍ بعللِ الخليل وسيبويه.”[109]

وكان عبد الله بن ابي إسحاق الحضرمي (ت 117هـ) شيخ الخليل، أوَّلَ مَن فرَّع النحو، واشتقَّ قواعده، وطرد القياس فيها، وعللّها.

وأضيفُ أنا: إنَّ تعليلات سيبويه لم تخرج في الغالب عن تعليلات الخليل الذي توسَّع في تعليلات شيخه الحضرمي.

وكانت للمبرِّد مناظرات عديدة مع أبي العباس احمد بن يحيى ثعلب (200ـ291هـ) الذي آلت إليه إمامة مدرسة الكوفة النحوية في بغداد، بعد الفراء.

ـ أبو زكريا الفراء (144ـ 207 هـ؟ / 761ـ822م؟)

        ولد الفراء في الكوفة، ودرس على الكسائي رئيس مدرسة الكوفة آنذاك، ورحل الى البصرة ليدرس على يونس بن حبيب الذي خلفَ الخليل بن أحمد على رأس نحاة البصرة، وانتقل الفراء إلى بغداد عندما اختاره الخليفة المأمون لتأديب ولدَيه. وثنيت للفراء الوسادة ليكون رئيس مدرسة الكوفة بعد وفاة شيخه الكسائي سنة 189هـ، بالإضافة إلى تضلُّعه في العلوم الإسلامية. وفي عصره اشتدَّ الخلاف بين المدارس الكلامية التي استعانت بالفلسفة والمنطق لتأييد فكرها. وكان الفكر المعتزلي أعلاها صوتاً، والخليفة المأمون يميل إلى هذا الفكر المعتزلي الذي يُعلي شأن العقل ويجعله المصدر الرئيس في فهْم النصِّ. وفي عهد المأمون اتسعت حركة ترجمة الفلسفة اليونانية ومنطقها الى اللغة العربية. ونتيجة لذلك، يقول أستاذنا الدكتور محمود محمد علي:

 ” وجدنا أعلام مدرستي البصرة والكوفة يسعون جاهدين إلى مزج النحو بالمنطق. ولكن هذا المزج في الأغلب الأعم كان قاصراً على الشكل، والمنهج، والتنظيم، والتهذيب، وطرق الجدل، ووسائل الحجاج، ثم على شيء من المصطلحات والأساليب والتقسيمات.” [110]

ولما كان للفراء ميلٌ إلى التأمُّل والتفلسف، فإنّه أخذ يمزج النحو بالمنطق والفلسفة في مؤلَّفاته[111]. ونجد هذا الميل الفلسفي واضحاً في كتابه ” الحدود“. ويضم هذا الكتاب تعريفات لقرابة ستين مصطلحاً نحويا.[112]

ج ـ المرحلة الثالثة: غلبة المنطق على النحو العربي:

        يرى الدكتور محمود محمد علي أن القرن الرابع الهجري شهد ظاهرتَين أساسيتَين:

الأولى، إنّ النحاة في بغداد لم يلتزموا بمدرسةٍ نحويةٍ واحدة، بل أخذوا ينتخبون من آراء المدرستين البصرية والكوفية ما يلائم مقاصدهم ومن هنا راح بعضهم يُطلق على ذلك التوجّه اسم “نحاة بغداد“، “المذهب البغدادي“، أو ” البغداديّين” على الرغم من أنَّ هذه التسمية لا تنطبق حقّاً على ذلك الاتجاه، لأنَّه لا تتوافر فيه خصائص المدرسة الفكرية المستقلة، كما يرى أبو مصطفى.

 من أوائل القائلين بوجود مدرسة نحوية ثالثة في العصر العباسي، بعض المستشرقين منهم فلوجل (ت 1870م) ناشر كتاب ” الفهرست” لابن النديم، فقد كتبَ مقالاً عن المدارس النحوية العربية سنة 1862م، ورد فيه رأيه عن وجود “مدرسة بغداد” التي كانت تختار من آراء مدرستي البصرة والكوفة وتحاول التوفيق بينهما واتخاذ منهجاً وسطا. ويرجِّح أنَّ هذه المدرسة نشأت نتيجة للمنافسة بين المبرّد وثعلب والمناظرات التي جرت بينهما. ومن هؤلاء المستشرقين الذين شايعوا فكرة وجود مدرسة نحوية بغدادية، العلامة المستشرق الألماني بروكلمان (ت 1956م).

        أما مؤرخو النحو العربي من العرب، فقد أكدوا أن مذهب نحاة بغداد يقوم على الاختيار من مواقف المدرستَين البصرية والكوفية. وهذا هو رأي محمد سعيد الأفغاني ومحمد مهدي المخزومي وشوقي ضيف وغيرهم.

 الثانية، إنَّ القرن الرابع الهجري شهد غلبة المنطق على الدراسات النحوية.  وتعزز هذا المذهب في أعمال كبار علماء اللغة في بغداد في ذلك القرن، مثل: أبي بكر بن السرّاج (ت 316هـ)[113]، وأبي سعيد السيرافي (ت 368هـ) الذي غلب المنهج الكلامي على عمله في النحو[114]، وأبي علي الفارسي (ت377هـ)[115]، وأبي الحسن الرماني (ت 384هـ)[116]، وأبي الفتح بن جني (ت 392هـ)[117].

فصار النحو العربي متلبِّساً بالمنطق بصورةٍ راسخة، وكأن استخدام المنطق في الدرس النحوي أمرٌ مشروع.

ومع تدنّي الثقافة العربية في القرنين الخامس والسادس الهجريين وما بعدهما أصبح همُّ النحويين الأوحد هو ضبط الحدود والعلل المنطقية في دروسهم النحوية. ويقول المؤلِّف الفاضل:

ومع مطلع القرن الخامس الهجري اشتدّ اهتمام النحويين بالحدود، والعلل، والعوامل، وأفردوا كتباً خاصة بها، و عاب بعضهم بعضاً بأن حدوده ناقصة أو فيها دور، وعلى هذا أُخضعت الحدود النحوية للمقاييس المنطقية، ولذلك كثرت الحدود النحوية وتعددت للمصطلح الواحد، وخرجت بعض الحدود عن إطارها النحوي إلى نطاق الفلسفة، وعدت بعض الحدود ألغازا فلسفية يصعب فكّها، وسبب ذلك أن الوصول إلى حدٍّ جامع مانع، كما يتطلب علم المنطق أمر عسير… وفي القرون التي أعقبت القرن السادس الهجري حتى وقتنا الحالي، أضحت مصطلحات المنطق تدخل بشكل سافر في الحدود، التعريفات, العلل، والعوامل، والأقيسة، والأساليب، ولا نكاد نجد كتاباً نحوياً، إلا وهو ملئ بعلم المنطق. [118]

ويضرب لنا المؤلِّف بعض الأمثلة يستقيها من جلال الدین السیوطي (ت 911هـ) في كتابه الموسوم بـ ” ھمع الھوامع في شرح جمیع الجوامع في علم العربیة“، حينما يعرِّف الفاعل بقوله ” ما أُسند عامل إليه عامل مفرغ على جهة وقوعه منه أو قيامه به.”

وهو حدّ لا يفهمه طلاب النحو ما لم يتمكَّنوا من المنطق تمام التمكُّن.

وتوسَّع نحاة العصر العثماني في النحو الممنطق، فأخذت المدرسة النحوية المصرية في العصر العثمانيّ، تغالي في مزج النحو بالمنطق. وهنا يضطر المؤلّف إلى تعريف القارئ الذي لم يدرس المنطق بالعناصر المنطقية التي مُزِجت بالنحو مثل: التعريفات والحدود، والعلة والتعليل، والقياس. فلكي يفهم التلميذ تعريف المصطلحات النحوية التي تستخدم الحدود المنطقية، عليه أن يعرف الجنس والنوع والفصل، والقضايا الكبرى والقضايا الصغرى، والعموم والخصوص، والعرض والمعروض، والماصدق، والمفهوم، والمادة والصورة، والإطلاق والتقييد، والموضوع والمحمول، واللازم والملزوم، وغيرها من المفاهيم المنطقية.

وفي رأيي الشخصي أنَّ مما زاد من صعوبة النحو في العصر العثماني اعتماد النحويين، في الأغلب، على كتاب ” ألفية ابن مالك “، وهي منظومة من شعر الرجز تقع في ألف بيت تضمُّ قواعد النحو والصرف، وكُتِب لها الانتشار والذيوع. مؤلِّفها محمد بن عبد الله الطائي المعروف بابن مالك (600ـ672هـ) الذي ولد في مدينة جيان في الأندلس، وتعلَّم فيها، ثم هاجر إلى الشام، بعد أن حاصر ملك قشتالة، سنة 627هـ، تلك المدينة لاحتلالها ولكنَّها لم تسقط في تلك المرَّة. وواصل ابن مالك تعليمه في الشام، ثمَّ رحل إلى القاهرة ليعلِّم فيها، ثمَّ رجع إلى دمشق، وأصبح إماماً في النحو والإقراء، وتوفي هناك.

        يُعدُّ نظمُ القواعد النحوية شعراً، أو نظم مبادئ أيِّ علمٍ من العلوم، وسيلةً تعليمةً أو أداةً تذكيرية، تيسِّر للطالب تذكُّر معالم ذلك العِلم. ولكنّي أرى أن صعوبة النحو في “ألفية ابن مالك” التي اعتُمِدت، هي وشروحها، في دراسة النحو العربي خلال العصر العثماني، وفي عصرنا الراهن في كثير من المعاهد والجامعات، لا تعود إلى مزجها النحو بالمنطق فحسب، بل كذلك لكونها منظومة شعراً، ما يزيد من صعوبتها لما فيها من ضرورات شعرية تفرضها القافية والوزن على الناظم في اختيار الألفاظ والتعبيرات، فتؤدي إلى صعوبات دلالية وتركيبية. وعلاوة على ذلك، التطوُّر الذي طرأَ على ألفاظ اللغة العربية وأساليبها منذ ذلك العهد. والتغيّر لصيق بطبيعة اللغة ما يستدعي ضرورة تصنيف المعاجم التاريخية[119].  ونظراً لهذه الصعوبات المتنوعة، أقدم أكثر من أربعين نحوياً على تصنيف شروح لـ ” ألفية بن مالك“؛ لعل أشهرها شرح ابن هشام (ت 761هـ)، الذي اضطر مُحقِّقه في العصر الحديث، محمد محي الدين عبد الحميد، إلى شرح الشرح بكتاب يقع في أربعة أجزاء عنوانه ” عدّة السالك، إلى تحقيق ألفية بن مالك[120].

ولا يفوت الدكتور محمود المرور بالمدرسة النحوية الأندلسية بفصل كامل، وقد أخذ نحويّوها المنطقَ من المشارقة. فحاول ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) تأسيس علوم الشريعة على المنطق، على حين أن ابن مضاء القرطبي (ت 512 هـ) انتقد في كتابه ” الرد على النحاة[121] إيغال النحاة المشرقيّين في مزج النحو بالمنطق. وتناول المؤلّفُ الفاضل، كذلك، ابنَ السيد البطليوسي (ت 521هـ)، ومنهجه النحوي المتجلّي في كتابه ” إصلاح  الخلل الواقع في كتاب الجمل”[122]

وعلى ذكر كتاب ” الجُمل في النحو” للزجّاجي، نذكر أنَّ فقيهاً مغربياً، هو محمد بن محمد الصنهاجي، الشهير بـ  “ابن آجُرُّوم” (ت  743هـ ) اضطلع، بعد بضعة قرون، بتلخيص هذا الكتاب بأسلوبٍ سهلٍ في كُتيّبٍ صغيرٍ عنوانه ” الآجُرُّومية“، فكُتِب له الذيوع والانتشار، وما يزال يُدرَّس ويُحفَظ في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي[123].

الخاتمة:

إنَّ كتاب أستاذنا الدكتور محمود محمد علي الموسوم بـ ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق” كتابٌ رائعٌ جامعٌ مانع، يقدِّم تاريخَ النحو العربي للقارئ بصورةٍ موضوعيةٍ، منذ نشأة النحو في صدر الإسلام لغرض ضبط قراءة القرآن الكريم وفهمه حتّى يومنا هذا. ويتطرَّق الكتاب إلى:

ـ نشوء النحو العربي، والآراء أصالته، أو تأثّره بالمنطق اليوناني مباشرة أو عن طريق اللغة السريانية.

ـ المدارس النحوية: مدرسة البصرة، مدرسة الكوفة، مدرسة بغداد، المدرسة المصرية، المدرسة الأندلسية، وكيف تأثَّر بعضُها ببعض.

ـ النحويّون العرب، في كلِّ عصرٍ من العصور، وأهمُّ مؤلَّفاتهم، وشيوخهم، وطلابهم، ممن برزوا في النحو.

ـ تاريخ علاقة المنطق باللغة، من أيام السفسطائيّين والفلاسفة الإغريق وكيف انتقل المنطق اليوناني إلى الثقافة العربية ومدى تأثيره في المدارس النحوية العربية المختلفة في كلِّ مرحلة تاريخية.

والغاية من الكتاب، في نظري، هي تنبيه النحويّين العرب المعاصرين إلى ما هو من المنطق وما هو من النحو، وعدم الخلط بينهما لتيسير الأمر على الطالب الذي يريد الإلمام بالنحو ولا يريد التخصُّص في المنطق. وهذه غاية نبيلة.

وأرى أن اكتساب مهارة التحدُّث باللغة، أيّةِ لغةٍ كانت، بصورةٍ صحيحة، لا تتأتَّى من دراسة نحوها، وحفظ قواعدها، بل باكتسابِ ملكتها الذي يتمّ إما بالسماع أو القراءة. وفصحاء العرب في العصر الجاهلي لم يدرسوا قواعد اللغة العربية بتاتاً ولم يحفظوها عن ظهر قلب، بل اكتسبوا ملكة الكلام الصحيح بالسماع. ونظراً لأهمية الفصاحة في العصر الجاهلي، كان سراة القوم يعهدون بأولادهم إلى مربيات في البادية عُرِفت قبائلُهن بفصاحة لغتهم، ليكتسب الأطفال ملكة الكلام الفصيح الصحيح.   وتدلُّنا أبحاث علم اللغة النفسي على أنَّ اكتسابَ اللغةِ الأمِّ يتمُّ عن طريق سماع الطفل للُّغة مدَّةَ كافية للتمكُّن من التحدث بها، وليس بحفظ قواعدها. وهذا ينطبق كذلك على تعلُّم اللغة الثانية، وطنية كانت أم أجنبية. ويعرِّف علماء النفس السلوكيّون اللغة بأنَّها مهارةٌ أو عادةٌ نطقيةٌ تُكتسَب بالممارسة، وليس بحفظ القواعد النحوية. فأنتَ تستطيع أن تحفظ كتاباً كاملاً عن مهارة السباحة، ولكنَّك ستغرق في أوَّل مرَّة تنزل فيها الى النهر إن لم تمارس السباحة عملياً من قبل.

وقد سخر العلّامة ابن خلدون (732 ــ 808 هـ/ 1332 ــ 1406م) من النحويِّين الانحطاطيِّين في فصلٍ كامل من مقدِّمته الرائعة عنوانه ” الفصل الخمسون: في أنَّ ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية [ أي: النحو] ومستغنية عنها في التعليم، والسبب في ذلك أنَّ صناعة العربية إنما هي معرفةُ قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصةً، فهو علمٌ بكيفيةٍ، لا نفسُ كيفيةٍ، فليست نفس الملكة، وإنّما هي بمثابة من يعرف صناعةً من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً” “[124]

وهذا ما أكّده صديقنا العالم اللغوي الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف، نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة الأسبق حين قال في أهمِّ كُتُبه، ” في بناء الجملة العربية“، ما نصّه:

إن الذي يكوّن الملكة اللغوية هو الدربة والمرانة على القراءة السليمة الكثيرة والسماع الصحيح الكثير المتكرّر.  ولهذا لا نتوقع من كتب النحو أن تساعدنا على تكوين الملكة اللغوية[125]

درستُ في جامعة أوسلو بالنرويج صيف 1965، وعلى هامش دراستي زرتُ بعض المدارس. وفي مدرسة ابتدائية وجدتُ أن دروس السنوات المدرسية الثلاث الأولى تجري في ثلاثة مرافق: المكتبة، والمسبح، والمطبخ. فسألتُ عن السبب، فقالت المديرة: إنَّ واجب المدرسة تكوين عادة القراءة لدى الأطفال، والقراءة تساعدهم على التعلُّم مدى الحياة. ونحن شعب يعيش على البحار فلا بُدَّ أن نتعلَّم السباحة منذ الصغر. وأغلبنا يعمل على السفن؛ ويساعدنا الطبخ ـ ونحن في البحرـ على البقاء على قيد الحياة.

المراجع

العربية

 ـ ابن آجُرُّوم، محمد بن محمد الصنهاجي. الآجُرُّومية، تحقيق حايف النبهان، تقديم حسّان الطيان. الكويت: دار الظاهرية، 2009.

ـ ابن الأنباري، كمال الدين أبي البركات. الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين، والكوفيين. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. بيروت: دار الفكر، ب ت..

ـ ابن خلدون، المقدمة ، تحقيق عبد الله محمد الدرويش. دمشق: دار يعرب، 2004.

ـ ابن مضاء. الرد على دالنحاة، تحقيق شوقي ضيف .القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947.

ـ ابن هشام. أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك. تحقيق: محمد بن محي الدين عبد الحميد، ومعه كتابه  عدة السالك الى تحقيق أوضح المسالك .صيدا: المكتبة العصرية، ب ت.

ـ أشهبون، عبد المالك، العنوان في الرواية العربية .دمشق: دار محاكاة، 2011.

ـ الأسدي، كريم مرزة ” مسائل خلافية نحوية بين الكوفيين والبصريين واندماجهما بالمدرسة البغدادية” في “صحيفة المثقف” على الشابكة.

ـ الجارم، علي ومصطفى أمين. النحو الواضح في قواعد اللغة العربية. القاهرة: دار المعارف، 1983.

ـ الرشيدي، نايف إبراهيم. ” الخلاف الصرفي في كتاب ” الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري”: دراسة تحليلية تداولية”.  رسالة ماجستير في جامعة مؤتة، الأردن، سنة 2011.

ـ الزجاجي، عبد الرحمن بن إسحاق. الجمل في النحو. تحقيق: علي توفيق الحمد .عمّان: دار الأمل للنشر، 2013.

ـ الشلقاني، عبد الحميد. الأعراب الرواة. طرابلس: المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1975.

ـ الظاهري، منصور ” نكبة العقل العربي في القرن الرابع الهجري”، جريدة ” عكاظ ” السعودية، بتاريخ 18/10/2006.  

ـ العكبري، أبو البقاء. التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين. تحقيق عبد الرحمان بن سليمان العثيمين. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986.

ـ الفارابي. المنطق عند الفارابي. تحقيق: رفيق العجم . بيروت: دار المشرق، 1985.

ـ القاسمي، علي. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية. بيروت. مكتبة لبنان ناشرون. 2014.

ــــــــ. علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، ط2. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2019.

ــــــــ. العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق، ط3 . بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2011.

ــــــــ. المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2003.

ــــــــ (المنسِّق) وآخرون. المعجم العربي الأساسي .تونس/ باريس: الألكسو/ لاروس، 1989.

ـ القفطي، جمال الدين. إنباه الرواة على أنباء النحاة. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار الفكر العربي، 1986.

ـ الموسوي، محسن جاسم. جمهورية الآداب في العصر الإسلامي الوسيط. ترجمة حبيبة حسن .بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020.

ـ حسن، إسراء ياسين. ” الإنصاف في تقويم الآراء البصرية والكوفية في كتاب ” الانصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين” لأبي البركات الأنباري” في مجلة كلية التربية للبنات في جامعة السليمانية، المجلد 25(4) سنة 2014.

ـ حسن، عباس. النحو الوافي. ط 3 .القاهرة : دار المعارف، 1975 .

ـ حمي، راضية وهندة غرايسة ووجدان معامرة،” ابن مضاء الأندلسي ومآخذه على النحاة” رسالة ماستر، جامعة الشهيد حمه لخضر في الجزائر في الموسم الجامعي 1441ـ1442هـ/2019ـ2020م .

ـ دي بوير، ت. ج.  تاريخ الفلسفة في الإسلام. ترجمة محمد عبد الهادي بوريدة . القاهرة: لجنة التأليف والترجمة، 1957.

ـ راندال، جون هيرمان. تكوين العقل الحديث. ترجمة جورج طعمة ومراجعة برهان دجاني. بيروت: دار الثقافة، 1956.

ـ سارتون، جورج. تاريخ العِلم. ترجمة ومراجعة لفيف من العلماء. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010.

ـ سيبويه، عمرو بن عثمان. الكتاب. تحقيق عبد السلام هارون. ط3 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988).

ـ عبد الجواد، إيمان إياد إبراهيم. “مسائل الخلافية بين البصريين والكوفيين في ” إعراب القراءات السبع وعللها” لابن خالويه. رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بغزّة، سنة 2017 .

ـ عبد اللطيف، محمد حماسة.. في بناء الجملة العربية. الكويت: دار القلم، 1982.

ـ علي. محمود محمد. النحو العربي وعلاقته بالمنطق. الإسكندرية: دار الوفاء، 2016.

ـ غلفان، مصطفى. “دروس في اللسانيات العامة لدو سوسير (نشرة 1916)”: قراءة نقدية في ضوء المصادر الأصول”، مجلة أنساق، كلية الآداب والعلوم، 2018، المجلد 2، العدد 1، جامعة قطر.

ـ مرقطن، محمد. “الحقيقة والأسطورة” . جريدة العلم المغربية، 30/4/2021.

ـ معجم الدوحة التاريخي للغة العربية ، منصة المعجم على الشابكة.

ـ هيوود، جون. المعجمية العربية: نشأتها ومكانتها في تاريخ المعجميات العام. ترجمة عناد غزوان. بغداد: المجمع العلمي العراقي، 2004.

ـ ولد أباه، محمد المختار. تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب .الرباط : المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو- ، 1996.

الأجنبية

– Ali, Mahmoud Mohammed. “Mansour Fahmy, Pioneer of Islamic Feminism in Modern Egypt” in RUDN Journal of Philosophy (Peoples’ Friendship University of Russia) Vol. 25 No.2, 2021.

– Al-Musawi, Muhsin J. The Medieval Islamic Republic of Letters  .Notre Dame, Indiana: Univ. of Notre Dame, 2015.

– Carter.M.G.  A study of Sibawayhi`s Principles of Grammatical Analysis, Ph.D. Dissertation, Oxford University, 1968

– De Boer, T.J. Geschichte der Philosophie im Islam .Stuttgart, 1901.

– Hawood, John. Arabic Lexicography .Leiden: E.J. Brill, 1965

[1]  من أمثلة التعصُّب الطائفي ما يذكره منصور الظاهري:” حتى في مجال علاقات الزواج، فقد وقع الاختلاف في حكم تزوُّج الحنفية بالشافعي.. فقال بعضهم: (لا يصح لأنها يُشَك في إيمانها وقال آخرون يصح قياسا على الذمية!!) “*؛ على حين في العصر الذي قبله، كان العالم الشاعر الشريف الرضي صديقا للعالم الشاعر أبي إ سحاق الصابئي على اختلاف ديانتيهما، ورثاه الشريف الرضي بقصيدته الشهيرة:

            أعلمتَ مَن حمـــلوا على الاعــــــواد؟ *** أرأيت كـــيف خبــا ضياء النـادي؟

           جبلٌ هـوى لو خــرَّ في البــر إغتـدى ***  مـــــــن وقعــه متتــابع الازبــــادِ

*منصور الظاهري، ” نكبة العقل العربي في القرن الرابع الهجري”) ، صحيفة ” عكاظ” السعودية بتاريخ 18/10/2006.

[2] يرى الباحث العراقي الأمريكي الدكتور محسن جاسم الموسوي في كتابه ” جمهورية الآداب في العصر الإسلامي الوسيط” أن الانحطاط السياسي لا يصاحبه بالضرورة انحطاط فكري بدليل أن تلك الحقبة التي توسم بـ ” عصر الانحطاط” ويسميها هو بـ ” العصر الوسيط”، شهدت بروز علماء وأدباء مثل أبي يعقوب السكاكي (القرن 13مـ)، وصلاح الدين الصفدي وسعد الدين التفتزاني  وابن خلدون (القرن 14م) ، وأبي بكر الحموي (القرن 15م) . يُنظَر:

Muhsin J. Al-Musawi. The Medieval Islamic Republic of Letters  )Notre Dame, Indiana: Univ. of Notre Dame, 2015).

وللكتاب ترجمة عربية:

ـ محسن جاسم الموسوي. جمهورية الآداب في العصر الإسلامي الوسيط. ترجمة حبيبة حسن (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2020).ونحن لا نرى ذلك، فنبوغ بعض المفكرين القلائل هنا وهناك، في ذلك العصر الطويل، لا يدل على تقدّم الثقافة في المجتمع الذي غلبت عليه الأمية . وما نزال نعاني آثار تلك الحقبة، مثل صعوبة النحو الممنطق وأولويته، وازدواجية الكتابة العربية (الإملاء) بحيث يختلف رسم القرآن الكريم عن الكتابة العربية عامة الأخرى. واللغة أساس التنمية البشرية.

[3]  القرآن الكريم، سورة فصلت، الآية 42، أي: لا يكذبه شيء مما أنزل الله من قبل، ولا يُنزل من بعده ما يبطله وينسخه، حسب تفسير شمس الدين القرطبي (ت671هـ ) “الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمَّن من السنة وأحكام الفرقان

[4] في هذه الدراسة، يحاول الكاتب كتابة الكلمات ناقصة الألف، بصورتها الكاملة كما يكتبها المغاربة: هاذا، لاكن، الرحمان، إلخ.

[5] ألقيتُ بحثاً في المؤتمر العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 2015 عنوانه ” السياسة اللغوية وتنمية اللغة العربية “، ناديتُ في خاتمته بضرورة توحيد الإملاء العربي من قبل لجنة مشتركة من اتحاد المجامع العربية والأزهر الشريف، فاعترض أحد النحويين الانحطاطيين من أعضاء المجمع قائلاً: “لا يقول بهذا إلا مستشرق أو كافر“. وهكذا تظلُّ الازدواجية في الكتابة العربية إضافة إلى الازدواجية في الكلام الناتجة من استخدام العامية والفصحى في الإعلام والتعليم، من عوامل تأخّر التنمية اللغوية والبشرية في بلداننا العربية، وصعوبة تعلُّم اللغة العربية، وصعوبة قراءة المصحف الكريم. وأخبرني أحد القناصل المغاربّيين في القاهرة، أنّهم يواجهون مشكلة تصديق عقود الزواج التي تجري في بلده إذا كان اسم الزوج مثلاً ” عبد الرحمان”، لأن الدوائر الرسمية المصرية، تعدّه غير مطابق لاسم “عبد الرحمن”.

[6] ابن مضاء القرطبي. الرد على النحاة، تحقيق: شوقي ضيف (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1947). تُنظَر مقدِّمة المحقِّق.

.[7]  علي الجارم، ومصطفى أمين. النحو الواضح في قواعد اللغة العربية (القاهرة: دار المعارف، 1983) لم يتيسر لنا تحديد تاريخ الطبعة الأولى. ولكن الكتاب ظلَّ قيد النشر حتى أواخر القرن العشرين. والشاعر علي الجارم (1881ـ 1949) كان مفتشا للغة العربية في المدارس، وكان مصطفى أمين (وهو غير الصحفي المشهور مصطفى أمين وأخيه التوأم علي أمين) مدرساً للنحو، وتوفي في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.

[8] عباس حسن. النحو الوافي. ط3 ( القاهرة : دار المعارف،  1975  ). وكان الدكتور حسن عباس من أعضاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية (مجمع القاهرة للغة العربية لاحقاً) المنادين بتيسير النحو العربي.

[9] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AE%D9%85%D9%8A%D9%85 ، ويكيبيديا، شوهد في 4/4/2021.

ويُنظر مقالنا ” مفهوم السرقة في العقل العربي: هل ورثنا عادة السرقة من أجدادنا الجاهليين؟” في “صحيفة المثقف” في الرابط:

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=921676&catid=288&Itemid=601

[10] في علم اللغة، يوجد مستويان في تأصيل اللفظ: الأوّل، التأثيل، وهو ردُّ اللفظ إلى اللغة الأم التي اقتُرض منها، والثاني، الترسيس وهو ردُّ اللفظ إلى اللغة الأولى التي انحدر منها، وهو بحث لم يتمكَّن علم اللغة منه بعد. وإذا كان لفظ الفلسفة وصلنا من اليونانية تأثيلاً، فلا بدّ أنّه انحدر من العربية الأمّ، ترسيساً، لأنَّ اللغة العربية الأم هي أم اللغات في العالم كما أثبتت آخر البحوث الغربية. يُنظر كتابنا علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، ط2 ( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2019) الفصل الأول: اللغة. وهو متوافر في موقع ” أصدقاء الدكتور علي القاسمي“.

[11] جميع كتب الدكتور محمود محمد علي وبحوثه متوافرة على الشابكة في ” مكتبة نور” للقراءة والتحميل.

[12]  ورد هذا المثل العربي في كتاب ” مجمع الأمثال” لأحمد الميداني (ت518 هـ)، ويحسب بعضهم أنّه ينطبق على الإنسان السلبي. ولاكن استقراءنا للنصوص الشعرية التي ضمَّنته، دلّنا على أنه مثلٌ محايدٌ ينطبق على الإيجابي والسلبي. فمن أوائل الذين ضمَّنوه في أشعارهم الفقيه الشافعي سعد ابن الصيفي الملقَّب بحيص بيص (ت 573 هـ) حين قارن بين آل البيت وبين بني أمية، فقال:

ملكنا فكان العفو منّا سجــــــيةً   …   فلمّا مـــلكتم ســـــــالَ بالدمِ أبطحُ

وحلَّلتمُ قتلَ الأســارى وطالما     …    عدونا على الأسرى فنعفو ونصفحُ

   وحسبكـــمُ هذا التفاوتُ بيننا    …    (وكـــــلُّ إناءٍ بالذي فيـــــــهِ ينضـحُ

[13] جورج سارتون. تاريخ العِلم. ترجمة ومراجعة لفيف من العلماء (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010) في سبعة مجلدات.

[14] جون هيرمان راندال. تكوين العقل الحديث. ترجمة جورج طعمة ومراجعة برهان دجاني ( بيروت: دار الثقافة، 1956؟) في مجلدَين.

[15] المرجع السابق، ص 16.

[16] المقصود بالعبقريات، كُتُب العقّاد التي تحمل في عناوينها كلمة عبقرية وهي سبعة كتب: عبقرية محمد (ص)، عبقرية عمر، عبقرية الصديق، عبقرية عثمان، عبقرية الإمام علي، عبقرية خالد، عبقرية المسيح.

[17]  كان اسم هذه الجامعة عندما أُسِّست سنة 1960 ” جامعة باتريس لومومبا للصداقة بين الشعوب“. وباتريس لومومبا (1925ـ1961) ناضل من أجل استقلال الكونغو من الاستعمار البلجيكي وتحقَّق ذلك سنة 1960 وانتُخب رئيساً للوزراء، ولكن انقلاباً عسكريا وقع بدعم من المُستعمِر، فسجنوه وتم اغتياله. وأُعيدت تسمية هذه الجامعة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي سنة 1991.

[18] Mahmoud Mohammed Ali, “Mansour Fahmy, Pioneer of Islamic Feminism in Modern Egypt” in RUDN Journal of Philosophy (Peoples’ Friendship University of Russia) Vol. 25 No.2, 2021.

[19]  Lمحمود محمد علي، ص 2ـ3.

[20]  يُنظر في هذا:

  ـ عبد المالك أشهبون، العنوان في الرواية العربية ( دمشق: دار محاكاة، 2011)

[21]  محمود محمد علي ، ص 17.

[22] يُلاحَظ أن المؤلِّف (المنطق) على (النحو) في عنوان هذا الفصل والذي بعده عندما غلب المنطق على النحو في الفصل السادس، وأصبح المنطق موضوع الجدل الرئيس في الفصل السابع. وقد يكون المؤلِّف قد قدَّم المنطق على النحو بصورة لاواعية لتمثله الموضوع في أعماقه وكيانه كله..

[23] تقع دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر بالبناية رقم 59 في شارع محمود صدقي، من ضاحية سيدي بشر في مدينة الإسكندرية. وقد زرتُها شخصياً بمصادفةٍ عجيبة. فقد كان مجمع اللغة العربية بالقاهرة ينظِّم بعد كلِّ مؤتمر سنوي يعقده، رحلةً للأعضاء لزيارة منطقة من مناطق مصر. وعندما شاركتُ في مؤتمر المجمع سنة 2017، علمتُ أن رحلة ذلك العام ستكون لمدينة الإسكندرية، فذكرتُ ذلك، في رسالة بالبريد الإلكتروني، لصديقي المصري اللساني المعجمي الدكتور منتصر أمين عبد الرحيم، الذي كان يدرِّس في جامعة الطائف، فأجابني بفرح أنَّ الكتاب الذي ألَّفه بمناسبة بلوغي الخامسة والسبعين بعنوان ” علي القاسمي: سيرة ومسيرة” يطبع في دار الوفاء بالإسكندرية، وقد أجده جاهزاً إذا مررتُ بهم. وفعلاً، رافقني صديقي العالم اللساني المصري الإسكندراني الأصيل الدكتور محمد محمد حلمي هليل، إلى ضاحية سيدي بشر، وزرنا دار الوفاء وأُعجِبنا بأقسامها ومعداتها وأنشطتها، ووجدنا أنَّهم اسرعوا في تجهيز الكتاب استجابة لرجاء وصلهم من الدكتور المؤلّف، وحملتُ نسخاً منه معي.

[24] ورد هذا الجزء من التعريف في كتاب التعريفات للجرجاني.إ

[25] الفارابي، أبو نصر محمد بن محمد، ولد في مدينة فاراب في كازاخستان الحالية، فيلسوف، طبيب، موسيقي، فيزيائي، عاش في بغداد وحلب ثم أقام في دمشق وتوفي فيها. لُقّب بالمعلِّم الثاني لأنَّه اعتنى بشرح مؤلَّفات المعلِّم الأوَّل أرسطو.

 25 الفارابي. المنطق عند الفارابي. تحقيق: رفيق العجم ( بيروت: دار المشرق، 1985). مع ملاحظة أن التعريف ورد في الكتاب المطبوع: ” وكما أن النحو عبارة اللسان…” والصحيح: عيار اللسان.

[27] محمود محمد علي، ص25

[28] بعد وفاة الإسكندر الأكبر أتفق كبار قادة جيشه على اقتسام البلدان التي استولى عليها فيما بينهم، فكانت مصر من نصيب بطليموس فاتخذ من مدينة الإسكندرية عاصمة للبلاد التي يحكمها.

[29]الرها: مدينة قديمة تقع في شمال بلاد ما بين النهرين. وكانت قاعدة مملكة عربية يحكمها الأباجرة، بين القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. وتسمى بالسريانية (عربيا).  تقع اليوم في المنطقة الجنوبية من تركيا، وتُعرَف باسم (أورفا).

[30] نصيبين : مدينة رافدينية قديمة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد. تقع الآن بمحافظة ماردين في تركيا.

[31]أنطاكية: مدينة تاريخية أنشأها أنتيغون، أحد قادة الإسكندر الأكبر سنة 317 ق.م. وتقع على الضفة اليسرى لنهر العاصي في لواء (محافظة) الإسكندرونة.  وإنطاكية مدينة مقدسة لدى المسيحيين الشرقيين. وكانت محافظة الإسكندرونة وأغلبية سكانها من العرب، جزءً من سوريا منذ استقلالها عن الأمبراطورية العثمانية سنة 1919 حتى قامت دولة الانتداب (الاستعمار) الفرنسي بإعطائها لتركيا سنة 1939، بحجة استفتاء أجراه المُستعمِر، تماماً مثلما أعطت بريطانيا سنة 1925 لإيران إمارةَ عربستان، وهي من إمارات الخليج، وسكانها عرب من بني كعب وشيخها آنذاك الشيخ خزعل الكعبي.

[32] اللغة السريانية: لغة جزيرية (عروبية) تطوّرت من اللغة الآرامية، اللغة الأمّ للسيد المسيح (ع)؛ وصارت، ،من القرن السادس ق.م. حتى انتشار الإسلام في القرن السابع الميلادي، اللغة الوحيدة في الهلال الخصيب. أمّا اليوم فتتكلَّمها فقط طوائفُ الآشوريين والكلدان والسريان في العراق والشام (حوالي مليون نسمة). وهي قريبة جداً من اللغة العربية، فقد ذهبت بنفسي إلى بلدة صيدانا في سوريا واستمعتُ لكلام أهلها بالسريانية وفهمتُ كثيراً منه. وجاء في الأثر الرسولُ (ص) طلب من الصحابي زيد بن ثابت أن يتعلَّم السريانية، فتعلَّمها في سبعة عشر يوماً. وهذا يُذكرني بإقامتي ثلاثة أسابيع في في مالطا وكنت في مهمة عمل، فتعلَّمتُ اللغة المالطية في الأسبوع الأول، لأنَّها لهجة عربية قريبة من اللهجة الشامية ولكنَّها تُكتَب بالحروف اللاتينية حالياً وتتخللها كلمات إيطالية وإنكليزية.

[33] نقلَ المؤلِّف مقولة المستشرق ليتمان عن احمد أمين في كتابه “ضحى الإسلام“.

[34] محمد مرقطن. “الحقيقة والأسطورة” جريدة العلم المغربية، 30/4/2021، وكذلك : علي القاسمي، صناعة المعجم التاريخي للغة العربية (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2016)، ص 250-273.

[35]  لعل من أفضل الكتب في هذا المجال كتاب:

            ـ محمد المختار ولد أباه. تاريخ النحو العربي في المشرق والمغرب (الرباط : المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ، 1996). فقد جمع فيه مؤلفه معظم الروايات الإسلامية في نشأة النحو، حتى أنه ذكر مراجع قديمة أكدت وجود مخطوط في النحو للإمام علي بخط أحد طلابه كان يباع في أسواق القاهرة. ولشمولية هذا الكتاب وجودة توثيقة أقدمتُ على نشره عندما كنتُ مديراً للثقافة والاتصال، في الإيسيسكو. والدكتور محمد المختار ولد اباه، أحد علماء موريطانيا، نال دكتوراه الدولة من السوربون، وتولى وزارة الصحة ثم وزارة التربية في موريطانيا، وترجم معاني القرآن إلى اللغة الفرنسية (2003).

[36] Dr. T.J. De Boer. Geschichte der Philosophie im Islam (Stuttgart, 1901).

وتُرجم الكتاب للإنكليزية سنة 1903 وأُعيدت طباعة الترجمة مؤخراً في سلسلة ” كتب منسية” بعنوان The History of Philosophy in Islam

وترجمه إلى العربية وعلق عليه الدكتور محمد عبد الهادي بوريدة بعنوان ” تاريخ الفلسفة في الإسلام“.

[37] المرجع السابق: ترجمة محمد عبد الهادي بوريدة ( القاهرة: الهيئة العامة للكتاب، طبعة 2010) ص 64ـ65.

[38] Gustav Flügel. Die Grammatische Schulen der Araber ( 1862).

[39]  انظر مثلاً الكتب التي تحمل عنوان ” المدارس النحوية” أو “مدرسة البصرة” و ” مدرسة الكوفة”، للسانيين العرب المعاصرين مثل: شوقي ضيف، وإبراهيم السامرائي، ومحمد مهدي المخزومي، وخديجة الحديثي، وعبد الرحمن السيد، وغيرهم.

[40] Gustav Weil      هذا هو الاسم الصحيح ” جوستاف/غوستاف فايل”، إذ يبدو أن خطأ طباعيا وقع في اسمه فظهر في الصفحة 80 من الكتاب على شكل (جوتولد فايل). ونقل المؤلّف قول فايل من كتاب عبد الرحمن السيد، مدرسة البصرة النحوية: نشأتها وتطورها( القاهرة : دار المعارف، 1968) ص 104..

[41] M.G.Carter. A study of Sibawayhi`s Principles of Analysis Grammatical, Ph.D. Dissertation , Oxford University, 1968.

[42]  الدكتور فؤاد حنا ترزي ( ولد في مدينة غزة سنة 1914 ولم نعثر على تاريخ وفاته)، وله كتابان : “الاشتقاق” و ” في أصول اللغة والنحو“.

[43] محمود محمد علي، ص 82.

[44]  المرجع السابق، ص 84.

[45]وقع خطأ مطبعي في تاريخ ميلاد ابن خلدون، فوردَ في الصفحة 85: “عبد الرحمن بن خلدون ( 784ـ808هـ)”

[46] المرجع السابق، ص 85.

[47] المرجع السابق، ص 85.

[48]  في الثقافة العربية الإسلامية، يختلف الإبداع عن الخَلق، في كون الخلق يكمن في تصور أو إيجاد بنيات جديدة من عناصر غير موجودة. ولهذا يوصف الله بالخالق.

[49]  علي بن أبي طالب (23 ق.هـ .ــ 40 هــ / 599ـ 661م) يُوصف بانه أعظم رجل عربي بعد النبي (ص). وللوقوف على عبقريته، يُنظر كتاب ” عبقرية الإمام علي” لمحمود عباس العقاد.، أو كتاب ” الإمام علي صوت العدالة الإنسانية” لجورج جرداق، في خمس مجلدات وملحق : 1) علي وحقوق الإنسان 2) بين علي والثورة الفرنسية 3) علي وسقراط 4) علي وعصره 5) علي والقومية العربية ، والملحق: روائع نهج البلاغة. طبع من الكتاب في السنة الأولى خمسة ملايين نسخة، وترجم إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية والأوردية وغيرها وله مختصرات.

[50] أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان الدؤلي الكناني ( 16 ق.هـ/69 هـ)، من تلاميذ الإمام علي، فقيه، لغوي، شاعر، فارس. ولّاه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب قضاء البصرة، وكذلك الخليفة الإمام علي، أعاده قاضياً على البصرة، واقرّ ولايته وكالةً على البصرة عند غياب والي البصرة عبد الله بن عبّاس.

[51] Lexical Lists, in : https://en.wikipedia.org/wiki/Lexical_lists,  seen at Wikipedea on 24/3/2012

 وكذلك:

  • John Hawood. Arabic Lexicography (Leiden: E.J. Brill, 1965) Chapter 1.

 وللكتاب ترجمة عربية:

  • جون هيوود. المعجمية العربية: نشأتها ومكانتها في تاريخ المعجميات العام. ترجمة عناد غزوان (بغداد: المجمع العلمي العراقي، 2004) الفصل الأول.
  • [52]  American Journal of Human Gentics,Feb. 2012.

ويُنظر للتفاصيل باللغة العربية:

            ـ علي القاسمي. علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية، ط2 (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2019)، هل البشرية من سلالة واحدة، ص 71ـ74.

[53] الفينيقيون: قوم من الكنعانيين، موطنهم الأصلي في منطقة البحرين من جزيرة العرب، ثم أقاموا إمبراطورية تجارية على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط في مدن مثل صور وصيدا وجبيل وقرطاج، وابتكروا أول أبجدية في العالم انتقلت مع سفنهم التجارية إلى حضارات أخرى.

[54]  الدكتور محمود  محمد علي، ص 85.

[55]  المرجع السابق، ص 86.

[56] محمود محمد علي، ص 88.

[57]  المرجع السابق، ص 132.

[58]الأورجانون/ الأورغانون الأرسطي : مجموعة كتب أرسطو في المنطق. وتعني كلمة الأورغانون في اليونانية: الآلة، لأن أرسطو كان يعتبر المنطق آلة العْلم أو وسيلته للوصول إلى الحقيقة والصواب. وهذه الكتب هي : المقولات، العبارة، القياس، البرهان، الجدل، السفسطة، الخطابة، الشعر. وترجمت إلى العربية عدة مرات منذ العصر العباسي.

[59]  عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه (148؟ ـ 180هـ/ 796؟ ـ 765م)، وسيبويه لقبه بالفارسية ويعني رائحة التفاح. ولد في البيضاء في بلاد فارس ونشأ في البصرة ودفن في شيراز. أخذ العلم من شيخه الخليل بن أحمد، وألَّفَ أوَّلَ كتاب شبه متكامل في النحو العربي وصلَ إلينا، سمّي كتاب سيبويه أو الكتاب، لأن المؤلّف لم يعطه عنواناً قبل وفاته.

[60]  محمود محمد علي. المرجع السابق، ص 135.

[61]  المرجع السابق، ص 141.

[62] الطغرائي، الحسين بن علي الدؤلي الكناني، الأصفهاني مولداً، في قصيدته  المشهورة باسم ” لامية العجم” التي مطلعها: ” أصالة الرأي صانتني عن الخطل… وحلية الفضل زانتني عن العطلِ“. وقد حاكى فيها الشاعرَ الجاهلي الشنفرى (ت نحو 70 ق.هـ./525م) في قصيدته الشهيرة باسم “لامية العرب” التي مطلعها: ” أقيموا بني أمي صدورَ مطيكم … فإني إلى قومٍ سواكمْ لأميلُ”.

[63]  نقلا عن ابن خلكان. وفيات الأعيان. 2/245.. ومن الأمثلة على زهد الخليل وقريحته الشعرية النادرة أن سليمان بن علي والي البصرة (وهو عمّ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وحفيد عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الملقَّب بحَبر الأمَّة، أرسل إليه ليكون مؤدّب أولاده، فاعتذر الخليل، فسأله الرسول: ماذا أبلغ الوالي؟ فقال الخليل:

ابلغ سليمان أني عنــــهُ في سـِــــعةٍ… وفي غنى، غير أني لستُ ذا مالِ

سخيٌّ بنفســـــي أنّي لا أرى أحـــداً… يموتُ هَزلاً ولا يبــقى على حــالِ

فقطع الوالي عنه الراتب الذي تصرفه الدولة للعلماء والطلاب، فلم يسأله الخليل أبداً، فخجلَ الوالي وأعاد راتبه إليه.

[64] Saussure Ferdinand: Cours de linguistique générale  (1916)

يُنظر:
غلفان, مصطفى. “دروس في اللسانيات العامة لدو سوسير (نشرة 1916)” : قراءة نقدية في ضوء المصادر الأصول، مجلة أنساق، كلية الآداب والعلوم، 2018، المجلد 2، العدد 1، جامعة قطر، ص: 135 – 156

[65] جمال الدين القفطي. إنباه الرواة على أنباء النحاة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ( القاهرة: دار الفكر العربي، 1986) ج 2، ص 258.

[66]  الدكتور عبد الحميد الشلقاني. الأعراب الرواة (طرابلس: المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1975)، ونشرته دار المعارف بمصر في طبعة ثانية سنة 1977.

[67] علي القاسمي. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية ، الفصل العاشر: لسانيات المدوَّنة الحاسوبية، ص 304ـ401.

[68]  سورة التوبة : 3

[69]  يناقش المؤلف الفاضل مصطلحات  سيبويه بصورة مستفيضة في الصفحات 148ـ150.

[70]  علي القاسمي. علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية .. الطبعة الثانية (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2019) ص 303.

[71]  محمود محمد علي ، ص 146.

[72] علي القاسمي. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية ، فصل التعريف، ص 605ـ638.

[73] الحافظ شمس الدين الذهبي. سير أعلام النبلاء. الفصل الرابع. أبو الأسود الدؤلي.

[74] يُنظر مثلاً :  كارل بروكلمان، في ” تاريخ الأدب العربي” مادة عيسى بن عمر، كما في مكتبة نور على الشابكة.

[75]   جمع الدكتور صالح محمد أبو شارب ما تبقى من علم عيسى بن عمر وأخباره في كتاب عنوانه ” قراءة عيسى بن عمر الثقفي” نُشرته دار جليس الزمان، في عمّان، الأردن.

[76] https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%D9%8A%D8%B3%D9%89_%D8%A8%D9%86_%D8%B9%D9%85%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D9%81%D9%8A , as seen on 24/3/2021. [77]

[78]  سيبويه، عمرو بن عثمان. الكتاب. تحقيق عبد السلام هارون. ط3 (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1988) ص 51.

[79]  المرجع السابق، ص 51.

[80] المرجع السابق ، ص 53.                           

[81] تنظر منصة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية  https://dohadictionary.org/، للاطلاع على منهجيته وما يتوافر من مواده حتى الآن.

[82] علي القاسمي. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية. الفصل الثامن: مصادر المعجم، ص 249ـ274.

[83] محمود محمد علي . المصدر السابق، ص 14ر1 ـ151.

[84]  محمود محمد علي، ص 172.

[85] علي القاسمي. العراق في القلب: دراسات في حضارة العراق، ط3 (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2011)، فصل تجليات العمارة الإسلامية في مدينة بغداد العريقة، ص 99ـ141.

[86]  وقع خطئان/ خطأآن مطبعيان في الكتاب، في الجملة الآتية:

            ” فقرّبه (أي قرَّبَ الكسائيَّ) الخليفةُ العباسي الخامس، محمد المهدي (ت 169هـ) إليه، وجعله في حاشية ابنه هارون الرشيد (ت 149هـ)”. فالمهدي هو الخليفة العباسي الثالث، وهارون الرشيد توفي سنة 194 هـ. وحصل الخطأ المطبعي لسقوطٍ في النص، وكان المؤلّف الفاضل يقصد بالخليفة العباسي الخامس، هارون الرشيد. أمّا الأرقام العربية فكثيراً ما ينقلب اتجاه بعضها، لأنَ اتجاه الأرقام الأساسي في الحاسوب هو من اليسار إلى اليمين كالكتابة الإنكليزية.

[87] القياس هنا هو القياس الفقهي وليس المنطقي، ومعناه: بيانُ حكمِ أمرٍ غير منصوص على حكمه، بأمرٍ معلوم حكمه بالكتاب أو السنة، لاشتراكه في علّة الحكم.

[88] محمود محمد علي، المرجع السابق، ص 185. وقد وقع في تلك الصفحة خطأ مطبعي في جملة: وعن خلف قال: ” كنت أحضر بين يدي الكسائي، وهو يتلو القرآن، فينقطعون على قراءته مصاحفهم“. والصحيح: فينقِّطون. وهذا يعني أن المصحف الذي استُكمِل جمعه في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان واستُنسخ منه عددٌ من النسخ وُزِعت على الأمصار، ونسخ الناس منها مصاحفهم، لم يكن منقوطا، ولم تكن تلك المصاحف التي نُسخت منه منقوطة. ولهذا فإنَّ المصحف المتداول اليوم وهو منقوط وعليه الشَّكل، ليس بالرسم العثماني، كما يدّعي بعضهم، فقد أُضيفت إليه النقط والحركات بعد زمن الخليفة عثمان بزمن طويل. لقد استمر تحسين الكتابة العربية حتى عصر الانحطاط وما بعده، مثل عصر الطباعة اليدوية وعصر الطباعة الحاسوبية. فمن التعديلات في عصر الطباعة الحاسوبية في كلمة (ينقِّطون) وأضرابها، وضع الكسرة تحتَ الحرف المشدَّد وليس تحت الشدَّة التي فوقه، كما كان الأمر من قبل، وذلك انسجاماً مع نظام الحركات الذي وضعه أبو الأسود الدؤلي، وحسَّنه الخليل ابن أحمد، ذلك النظام الذي يضع (الكسرة) تحت الحرف، وليس فوقه.

[89] أبو حيان الغرناطي الأندلسي الجياني: ولد في غرناطة سنة 654، ورحل إلى مصر في شبابه، ودرسَ وتولى التدريس في القاهرة. شرح كتاب ” المفصل في صنعة الإعراب” للزمخشري، وهو صاحب تفسير ” البحر المحيط“..

[90] الاشتقاق، لغةً، من الشِّق أي النصف، أو أخذ شيء من شيء. وقد ورد ” الشِّقّ” في الشعر الجاهلي بمعنى النصف أو الجزء، كما في قول امرؤ القيس (ت 540م) في معلّقته:   

            فمثلكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْــتُ ومُرْضِعٍ *** فَأَلْهَيْتُهَـا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ

إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ *** بِشِقٍّ وتَحْتِي شِـقُّها لَمْ يُحَـوَّلِ

أما في الاصطلاح النحوي فيعني الاشتقاق: نزع لفظ من آخر بشرط مناسبتهما معنى وتركيبا، ومغايرتهما في الصيغة..

[91] ثمَّة كتبٌ كثيرة تناولت مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، منها ” الانصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين ” لابي البركات ابن الأنباري من المدرسة البصرية، وكتاب “إعراب القراءات السبع وعللها” لابن خالويه من المدرسة الكوفية.

[92] أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، ولد سنة 467هـ في زمخشر (تركمانستان)، من أهم مؤلّفاته ” المفصّل في صنعة الإعراب” وتفسير ” الكشاف“، ومعجم “أساس البلاغة“، وهي كتب ما تزال تحظى بالإقبال عليها بعد ما يقرب من ألف سنة من تأليفها.

[93] معجم “لسان العرب” لابن منظور، محمد بن مكرم، (ت 711هـ).

[94] علي القاسمي. المعجمية العربية بين النظرية والتطبيق (بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2003) فصل الترتيب في المعجم.

[95] علي القاسمي (المنسِّق) وآخرون. المعجم العربي الأساسي ( تونس/ باريس: الألكسو/ لاروس، 1989).[96]

[97]  الحسين بن احمد بن خالويه: ولد حوالي 285 هـ في مدينة همدان (إيران) وانتقل في شبابه إلى بغداد.

[98] إيمان إياد إبراهيم عبد الجواد. “المسائل الخلافية بين البصريين والكوفيين في ” إعراب القراءات السبع وعللها” لابن خالويه.” رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بغزّة، سنة 2017 في https://iugspace.iugaza.edu.ps/handle/20.500.12358/16983 شوهد بتاريخ 4/4/2021.

[99] أبو البقاء العكبري. التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين. تحقيق عبد الرحمان بن سليمان العثيمين (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986) وأصل هذا الكتاب رسالة ماجستير.

[100] نايف إبراهيم الرشيدي. ارسالة ماجستير بعنوان ( الخلاف الصرفي في كتاب ” الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات الأنباري”: دراسة تحيليلية تداولية)بإشراف الدكتور عبد القادر مرعي الخليل، في جامعة مؤتة، الأردن، سنة 2011.  منشورة في :

http://mohamedrabeea.net/library/pdf/b21dc68c-bd83-497c-95bb-0e3f064a2d02.pdf شوهدت بتاريخ 4/4/2021.

[101]  إسراء ياسين حسن. ” الإنصاف في تقويم الآراء البصرية والكوفية في كتاب ” الانصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين” لأبي البركات الأنباري” في مجلة كلية التربية للبنات في جامعة السليمانية، المجلد 25(4) سنة 2014، ص 1028ـ1037.

[102] كريم مرزة الأسدي ” مسائل خلافية نحوية بين الكوفيين والبصريين واندماجهما بالمدرسة البغدادية” في “صحيفة المثقف”، شوهد في الشابكة بتاريخ 19/4:2021 . 

[103] كمال الدين أبي البركات ابن الأنباري. الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين، والكوفيين. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد (بيروت : دار الفكر، ب ت) الصفحات 56 و 60 و68، مثلاً. بعد تحميل الكتاب من مكتبة نور، بتاريخ4/4/2021.

[104]  مفهوم ” تنحي القاضي” في الشريعة الإسلامية وفي القوانين المدنية يعني: اعتزال القاضي، من تلقاء نفسه، عن نظر القضية أو الدعوى المعروضة عليه، تجنباً للإحراج أو الطعن في نزاهته، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْل﴾ (سورة النساء:58)

[105] أبو العباس أحمد بن يحيى الملقب بثعلب (200ـ291) ولد وتوفي في بغداد، نحوي وراوية وملم بعدد من العلوم. وقيل إنه لُقب هكذا لأنه إذا سُئل عن مسألة أجاب من هاهنا ومن هاهنا مثل ثعلب إذا أغار. من أهم كتبه: ” الفصيح” و ” اختلاف النحويين”، و”معاني القرآن”

[106] أبو العباس محمد بن يزيد الملقب بالمبرِّد (210ـ286) ولد وتعلّم في البصرة ثم انتقل إلى بغداد، نحوي وبلاغي. وقيل إنه لُقِّب بالمبرد لحسن وجهه، أو لجسن إجابته ودقته. أهم مؤلفاته ” الكامل في اللغة والأدب“.

[107]  محمود  محمد علي. المرجع السابق، ص 212

[108]  ومن مؤلَّفاته الأخرى التي وصلتنا: الفاضل، المقتضب، شرح لامية العرب، ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد، المذكر والمؤنث.

[109]  محود محمد علي. المرحع السابق، ص  179.

[110] محمود محمد علي. المرجع السابق، ص 169.

[111]  ما وصلنا من مؤلفات الفرّاء: كتاب الحدود، كتاب المعاني، المصادر في القرآن، كتاب الوقف والابتداء، كتاب الجمع والتثنية في القرآن، آلة الكاتب، كتاب المفاخر، كتاب المقصور والممدود، كتاب المذكر والمؤنث. وهي مؤلَّفات يغلب عليها النحو بغرض فهم القرآن.

[112] الحدُّ، في المنطق، هو قول دالٌ على ماهية الشيء، يحدِّد جنس ذلك الشيء وفصله، مثل تعريف الإنسان بالحيوان الناطق، فالحيوان هو الجنس، والنطق هو الفصل الذي يميزه ويفصله عن بقية أفراد ذلك الجنس. فهو نوع من التعريف.

[113]  أبو بكر بن السراج: ولد وتوفي في بغداد، وتتلمذ على المُبرِّد، وبعد وفاة شيخه انتهت رئاسة النحو إليه، وتتلمذ عليه أبو القاسم الزجاجي، وأبو سعيد السيرافي ، وأبو علي الفارسي، وأبو الحسن الرماني، ويُعدُّون جميعهم مثل شيخهم من أعلام المدرسة البغدادية. فقد أكثر ابن السراج من استعمال القياس والتعليل في بحوثه النحوية.، بتأثير العلوم الفلسفية الأخرى، وتداخل مناهجها مع مناهج الدرس النحوي.

[114]  لابي سعيد السيرافي مناظرات عديدة مع علماء عصره في مجالس الوزراء والأمراء، من أشهرها المناظرة التي حرت بينه وبين الفيلسوف متى بن يونس القنائي في مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات، وزير الخليفة المقتدر، سنة 320هـ، ويدور موضوعها حول اللغة والمنطق. وقد افرد الدكتور محمود لهذه المناظرة مناقشة مفصلة في كتابه. ومن المناظرات تلك التي جرت بين السيرافي وأبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري (ت 381هـ)، في مجلس ابي الفتح بن العميد سنة 364هـ . يقول عنه تلميذة أبو حيان التوحيدي: “أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ، وإمام الأئمة معرفةً بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة.” من أهم كتب السيرافي: ” أخبار النحويين البصريين، و “المدخل إلى كتاب سيبويه“، لأن السيرافي نحويٌّ يميل إلى المدرسة البصرية.

 

[115]  أبو  علي الفارسي: ولد في فارس وانتقل إلى بغداد في شبابه. من مؤلَّفاته: “التذكرة” في علوم العربية، في عشرين مجلداً، و”جواهر النحو”.

[116] أبو الحسن الرماني: يعرف كذلك بالوراق والإخشيدي. أصله من سامراء، ونشأ في بغداد. فيلسوف معتزلي ومفسّر ومن كبار نحاة بغداد. له مؤلَّفات كثيرة لعل أهمها ” الجامع في تفسير القرآن“. أمعن في مزج النحو في المنطق والفلسفة، ولهذا كان بعض طلابه في النحو لا يفهمونه.

[117]  أبو الفتح ابن جنّي.: ولد في الموصل وتوفي في بغداد. تتلمذ على أبي علي الفارسي. وتنقَّل ابن جنى مع شيخه في البلدان، والتقى بالشاعر المتنبي في بلاط سيف الدولة الحمداني في حلب، وصارا صديقين. له شرحان لديوان المتنبي : الكبير والصغير، وصلنا الأخير. وعندما قُتِل المتنبي، رثاه ابن جني بقصيدة طويلة مطلعها:

            غاض القريضُ وأودتْ نضرةُ الأدبِ … وصوَّحتْ بعد ريٍّ دوحة ُالكتبِ

تتلمذ الشريف الرضي على ابن جني، وتوطَّدت صداقتهما، وعند وفاة ابن جني، أَمَّ الشريفُ الصلاة على جنازته ورثاه بقصيدتَين.

عندما أقرأ في مؤلَّفات ابن جني في اللغة والنحو أشعر أنّها أقرب إلى مؤلَّفات علماء اللغة الغربييّن في العصر الحديث، أو بالأحرى هم أقرب إليه. ومن أهمّها: ” الخصائص” في اللغة، و”سرّ صناعة الإعراب” في الصرف.

[118] محمود محمد علي، ص 340.

[119] علي القاسمي. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية، تُنظر: مسألة التغيُّر، ص 190ـ216.

[120]  ابن هشام. أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك. تحقيق: محمد بن محي الدين عبد الحميد، ومعه كتابه ” عدة السالك الى تحقيق أوضح المسالك” (صيدا: المكتبة العصرية، ب ت)

[121] لمزيد من التفاصيل عن ابن مضاء ، تُنظر رسالة ماستر قدمتها الباحثات: راضية حمي وهندة غرايسة ووجدان معامرة، وأجازتها جامعة الشهيد حمه لخضر في الجزائر في الموسم الجامعي 1441ـ1442هـ/2019ـ2020م، بعنوان ” ابن مضاء الأندلسي ومآخذه على النحاة” وتتناول التعريف بكتابه ” الرد على النحاة ” الذي حققه مع مقدمّة ضافية الدكتور شوقي ضيف، كما مرَّ بنا، وكذلك تتناول هذه الرسالة المسائلَ الخلافية بين ابن مضاء والنحاة في القياس، والعلة النحوية، والعامل النحوي. شوهدت الرسالة كاملةً بتاريخ 14/4/2021. 

[122] عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي. الجمل في النحو, تحقيق: علي توفيق الحمد ( عمّان: دار الأمل للنشر، 2013). والزجاجي (ت 340هـ؟) ولد في نهاوند وانتقل إلى بغداد للدراسة، وأصبح مدرّساً في دمشق، وتوفي في طبرية، وسمّي الزجاجي نسبة إلى شيخه النحوي أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الزجاج البغدادي (ت 311هـ). وكان هذا الشيخ يدرّس في بغداد مذهبي البصرة والكوفة معاً في دروسه النحوية.

[123]ابن آجُرُّوم، محمد بن محمد الصنهاجي. الأجرومية، تحقيق: حايف النبهان، تقديم حسّان الطيان (الكويت: دار الظاهرية، 2009)، وللاجرومية تحقيقات وطبعات عديدة أخرى، ما قد يوحي بأننا ما نزال في عصر الانحطاط، أو أننا مشدودون إلى الماضي أكثر من الحاضر والمستقبل.

[124] ابن خلدون، المقدمة ، تحقيق عبد الله محمد الدرويش (دمشق: دار يعرب، 2004) الفصل الخمسون، كما في مكتبة نور على الشابكة.

[125] محمد حماسة عبد اللطيف. 1982. في بناء الجملة العربية ( الكويت: دار القلم، 1982) ص 18ـ19.

 

1

9 تعليقات

Avatar
الشاعر الدكتور أكرم جميل قنبس 8 مايو، 2021 - 7:32 م

لا يسعني إلا أن أرفع قبّعة الاحترام والتقدير والاحترام لسعادة الأستاذين الجليلين الدكتور محمود محمد علي والدكتور العلامة علي القاسمي على جهودكم الكريمة معرفة وتنويرا وإبداعا….

الرد
علي القاسمي
علي القاسمي 9 مايو، 2021 - 7:15 م

شكرا جزيلا اخي الشاعر الكبير الدكتور اكرم جميل قنبس على تشجيعك الكريم، وتواصلك الكريم.
محبكم علي القاسمي

الرد
Avatar
د. أسمهان الموسوي 9 مايو، 2021 - 5:40 ص

جهد مبارك للعلامة علي القاسمي فهو يقدم للقارئ خلاصة تاريخ النحو العربي ومدارسه على طبق من ذهب، وفعلًا النحو العربي متأثر بالفقه لا بالمنطق الأرسطي وكتبت بحوثًا متعددة في هذا الموضوع منها القياس النحوي، والمكروهات النحوية ، وأمات المطالب بين المنطق والنحو ، وغيرها ، شكرًا للأستاذ الدكتور علي القاسمي على هذا البحث الذي لا يجيد كتابته سوى عالم موسوعي 🌹🌹

الرد
علي القاسمي
علي القاسمي 9 مايو، 2021 - 7:25 م

اسعدني تعليقك الكريم سيدتي الأديبة الدكتورة اسمهان الموسوي. واسعدني اكثر انك ترين ان انحو العربي في نشأته لم يتأثر بالمنطق اليوناني، على حين انه تاثر به اكثر من اللازم بعد ان ترجم العباسيون الفلسفة والمنطق اليونانيين الى العربية، وأصبحا جزءا اساسيا من المنهج المدرسي.
تمنياتي الطيبة لك بالصحة والهناء.
علي القاسمي

الرد
Avatar
عزام بونجوع 9 مايو، 2021 - 6:36 م

درس في النقد العربي أعطاه لنا الكاتب اللامع الأستاذ علي القاسمي.ماذا عساي أكتب؟ فقط أقول كلمات قصيرة وليعذرني أستاذي الفاضل المحترم علي القاسمي فلست قادرا على مجاراتكم في هذه القدرة الكبيرة والصبر الجميل في كتابة نقد موسع شامخ.. تبارك الله عليكم وعلى قلمكم الذهبي فمعذرة لمرتين: أولا رأيي في هذه الدراسة الرائعة الغنية كان جد قصير وثانيا بصراحة لم أكمل القراءة بعد وفقط أبعث إليكم الآن كلمات إعجاب….
مع تقديري ومحبتي: عزام ب.

الرد
علي القاسمي
علي القاسمي 10 مايو، 2021 - 2:46 م

أخي العزيز الناقد الأديب الأستاذ عزام بونجوع حفظه الله ورعاه،
أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الطيبة بحق قراءتي في كتاب ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق” لأستاذنا المفكر الدكتور محمود محمد علي.
ولا شك في أن كلماتك الكريمة نابعة من المحبة المتبادلة بيننا، والتشجيع المتواصل الذي تغمرني به، وكرم النفس ومحية الآخرين المعروفين عنك.
تمنياتي لك بالصحة والهناء والخير والعطاء.
محبكم: علي القاسمي

الرد
Avatar
احمد بوحسن 9 مايو، 2021 - 11:42 م

مساء الخير الأخ العزيز علي
بحثك المستفيص عن النحو العربي وعلاقته بالمنطق اليوناني للأستاذ محمد محمود علي حرك جماع معارفك الأصلية والدقيقة في تخصصك اللغوي والفلسلفي، فأفضت وأفدت، وحللت، وناقشت، وابديت رأيك ، وعززت رأيك بالدليل والحجة المثبتة.
بحثك . يحتاج الى قراءة متأنية ومتكررة، لأن استيعابه يتطلب استحضار مجموعة من المعارف اللغوية واللسانية والتاريخية والدينية والأدبية والحضارية، بالإضافة على البعد المقارن في البحث. لست مؤهلا للخوض فيها كلها. ولكنني استفدت كثيرا من منعرجات وضع النحو العربي الصعبة، ومناقشة بعض الكتب الأساسية في النحو العربي، مثل الكتاب لسيبويه، وكتاب العين، وغيرهما من الكتب المصدرية القديمة في النحو العربي. ثم مناقشة مختلف تلك الكتب ووضعها في إطارها المعرفي والتاريخي، تاريخ النحو العربي بخاصة. ولعل ما يعزز مصداقية وعلمية مناقشاتك في هذا البحث، هو زادك المرجعي العربي القديم والحديث والمعاصر، والمراجع الأجنبية الأساسية، التي تدل على مرجعيتك الغنية في الموضوع.
شكرا جزيلا على هذا الجهد العلمي الذي بذلته في تقديم ومناقشة كتاب مرجعي في النحو العربي وتاريخه.
معزتي وتقديري

احمد بوحسن

الرد
علي القاسمي
علي القاسمي 10 مايو، 2021 - 2:52 م

أخي العزيز الناقد الأديب الأستاذ عزام بونجوع حفظه الله ورعاه،
أشكرك جزيل الشكر على كلماتك الطيبة بحق قراءتي في كتاب ” النحو العربي وعلاقته بالمنطق” لأستاذنا المفكر الدكتور محمود محمد علي.
ولا شك في أن كلماتك الكريمة نابعة من المحبة المتبادلة بيننا، والتشجيع المتواصل الذي تغمرني به، وكرم النفس ومحية الآخرين المعروفين عنك.
تمنياتي لك بالصحة والهناء والخير والعطاء.
محبكم: علي القاسمي

الرد
علي القاسمي
علي القاسمي 10 مايو، 2021 - 3:18 م

أستاذنا الجليل الناقد المفكر الأديب الدكتور أحمد بوحسن حفظه الله ورعاه،
أسعدني تعليقك الكريم بقدر ما أحرجني، لأنه سلهام متقن النسج، زاهي اللون، رائع التفصيل، ولكنه أكبر مني بكثير.
وأنا أدرك السر في ذلك، إنه يكمن في شخصية الأستاذ القائد الرائد، الذي ينثر كلمات التشجيع بسخاء على تلاميذه وأتباعه ومحبيه، فهو يتمنى أن يكونوا مثله بل أفضل منه، لتزدهر بهم المعرفة، ويرقى بفضلهم المجتمع .
إنه الحب الذي تزخر به روحك، وينبض به قلبك، وينفعل به وجودك كله.
وأنا أقف صامتاً أما فكر ك الثر، وبلاغتك المدهشة، ونفسك الزكية، فلا يسعني إلا أن أترنم بكلمات الشكر ، والعرفان والامتنان، مردداً بيت أبي الطيب المتنبي:
لا خيلَ عندكَ تُهديها ولا مالُ … فليُسعِدِ النطقُ إن لم تُسعِدِ الحالُ.
أخوك: علي القاسمي

 

مقالات ذات صلة