علي القاسمي: مادموزيل كوليت لابيتش
علي القاسمي: مادموزيل كوليت لابيتش
نقلا عن صحيفة المثقف
وبمرور الوقت، توثَّقت علاقتنا، وأستطيع القول إنّنا ـ أنا والآنسة كوليت ـ أصبحنا صديقيْن حميميْن، يبوح أحدنا للآخر ببعض أسراره. وذات مساء، كنا جالسيْن في شرفةِ شقَّة كوليت المطلَّة على البحر، وقد اتشحت السماء بثوبٍ فضفاض رمادي اللون، وانعكس لونها على البحر فأمسى مكفهرَ الوجه مزبداً مرعدَ الأمواج. وكانت كوليت، على غير عادتها، صامتةً تطيل النظر إلى سطح البحر من بعيد. افتقدتُ ابتسامتها الحلوة الأخاذة وطلَّة أسنانها الناصعة البياض، فقد كانت غيوم الأسى مخيمةً على كيانها كلّه: على ملامح وجهها الجميل، على عينيها الزرقاويْن الواسعتيْن، على شفتيْها الورديتيْن المرتعشتيْن، وعلى صوتها الذي تخنقه انفعالاتُها العميقة عندما تكلّمت وهي تغالب دموعاً ترقرقت في عينيها الناعستين في تلك اللحظة. لعلَّ أمراً حدث ذلك اليوم، وعزمتْ على أن تفضي إليَّ بأحزانها للتخفيف منها. قالت:
ـ " كنتُ طالبةً جامعيةً في ربيع العمر في باريس، والتقيتُ بأحد طلاب الجامعة، ووقعنا في الغرام من النظرة الأولى. (كلُّ شيءٍ في باريس يدعوك للحبّ وأنتَ في ريعان العمر). سحرني بشخصيته الجذابة، ولطفه، واهتمامه بي. وكان مشبَّعاً بالثقافة الفرنسية، فقد كانت أمُّه فرنسية، أمّا أبوه فلبنانيٌّ. ومضت سنواتٌ ونحن في حلم جميل، وكنتُ أساعده مادياً ومعنوياً؛ وأعطيته كلَّ ما وسعِ فتاةٍ أًن تهَب حبيبها. ومركزي للتجميل في باريس يدرُّ عليَّ الربح الوفير. وذات يوم، فاجأني ليخبرني بأنَّه عزمَ على العودة إلى بيروت. وكان جوابي حاضراً لا يحتاج إلى تفكير:
ـ "سأذهب حيثما تذهب، فليس ثمّة معنى لحياتي من دونكَ."
ابتسمَ ولم يعترض على ما قلتُ.
وغادر هو فرنسا إلى بيروت، وبقيتُ أنا بعض الوقت في باريس لترتيب أمر مركزي للتجميل ثمَّ انتقلتُ إلى بيروت لأفتح أكبر مركز للتجميل فيها.
في البداية كان يلتقي بي مرَّة في الأسبوع متعلِّلاً بانشغاله في العمل. ثمَّ أخذت زياراتُه تقلُّ تدريجياً. وعندما يراني، يأخذ في الشكوى من صعوباتٍ ماليةٍ تواجهه، ويطلب مني بلطف أن أقرضه بعض المال. فأسرع إلى تلبية طلبه. وراحت زياراته تتضاءل والمبالغ التي يطلب اقتراضها تزداد..."
وهنا توقَّفتْ عن الكلام وهي تغالب دمعةً مكابرة. وبعد هنيهة أضافت بغصَّةٍ وأسى:
" وعندما قمتُ بشيٍء من البحث لمعرفة الحقيقة، تأكَّد لي أنَّه مشغولٌ جدّاً، ولكن ليس في عمله بل بالحفلات الصاخبة التي ينظِّمها في منزله، والنزهات اليومية التي يقوم بها مع رفيقاته على شاطئ البحر، وإنفاق الأموال التي يقترضها مني عليهنَّ".
وهنا غلبت الدموع على صوتها المتهدِّج وحبسته. ووجدتُني أقول بانفعال بصوت مرتفع مجروح:
ـ إنّه مجرّد نذل. لم يتمثَّل القيم العربية ولا اللبنانية، لا بُدَّ أنه تعلّم في مدارس أجنبية. لا تستقبليه، ولا تقرضيه أيَّةَ نقود، لأنّه لن يعيدها. لن يعيدها بتاتاً. أتفهمين ذلك، كوليت؟؟؟"
التفتتْ إليَّ، وعيناها لا تنظران في عينيّ بل إلى الأسفل، وقالت بانكسار الأُنثى، وقد انهمرت عبراتُها على خديها الأسيليْن:
ـ "أدرك ذلك. ولكنّي أحبُّه أحبُّه. وأنتَ، يا علي، هل عرفتَ الحبَّ؟ هل تفهم ذلك؟؟؟"
***
في أواسط الستينيّات من القرن الماضي، كنتُ في أوائل العشرينيّات من عمري، وأدرس في "الجامعة الأمريكية في بيروت"، حينما كانت بيروت في أجمل سنواتها، وأزهى أيام ربيعها (أو ربَّما أنا الذي كنتُ في ربيع العمر، وكانت بيروت بلا أزمات سياسية ولا اقتصادية).
وطبقاً للتنظيمات الجامعية آنذاك، ينبغي على الطالب أن يمضي سنةً على الأقل في القسم الداخلي في الجامعة قبل أن يُسمَح له بالسكن خارج الحرم الجامعي إذا كانت نتائجه جيّدة. وبعد أن أمضيتُ فصليْن دراسيَّين في القسم الداخلي المسمّى "نيومنز دورمتوري" داخل الحرم الجامعي، قرَّرتُ الانتقال ـ بناء على توصية أحد زملائي ـ إلى عمارة شاهقة لا تبعد إلا بأقل من ثلاث مئة مترٍ من الباب الرئيس للجامعة، وتقع في شارع فرعي يسمَّى شارع جان دارك يربط شارع بليس بشارع الحمراء. ودانيال بليس هو القس الأمريكي الذي أسس تلك الجامعة سنة 1866.
بعدما مشيتُ، أوَّل مرّةٍ، إلى تلك العمارة لكراءِ شقَّةٍ صغيرة لي، واجهتني في مدخل ساحةً العمارة في الطابق الأرضي، لافتةٌ كبيرةٌ كُتِب عليها بخطٍّ أحمرَ: " ملحمة جان دارك الكبرى". فتبادر إلى ذهني أنَّ الملحمة ذات علاقة بمعارك حرب المئة عام التي دارت بين الإنكليز والفرنسيين في القرنيْن الميلاديَّين الرابع عشر والخامس عشر، بسببِ مطالبةِ الملوك الإنكليز بالعرش الفرنسي، وانتهت تلك الحرب بطرد الإنكليز من فرنسا. وكانت جان دارك فتاةً فرنسيةً صغيرة ادَّعت، في ذلك الوقت، أنَّها رأت الربَّ الذي وعدها بالدعم والنصر. وفعلاً، قادت معاركَ انتصرت فيها. ولكن بعد مدَّة قُبِض عليها وسُلِّمت إلى الإنكليز مقابل المال، فحاكموها بتهمة الزندقة وأعدموها حرقاً بوصفها مهرطقة، وعمرها تسعةَ عشرَ عاماً فقط؛ فاعتبرها الفرنسيّون شهيدةً، وطوَّبتها الكنيسةُ الكاثوليكيةُ قديسةً، وكُتِبَتْ في تمجيدها الرواياتُ والقصائدُ والملاحمُ الشعرية، وأُخرِجَت عن بطولتها المسرحيات والأفلام السينمائية.
وتساءلتُ في نفسي ما إذا كانت اللافتة، " ملحمة جان دارك الكبرى"، إعلاناً عن فيلمٍ سينمائي، وأنَّ داراً للسينما تقع في هذه العمارة. فقد خشيتُ أنَّ ضوضاءَ السينما وروادِها ستؤثِّر على إقامتي في الشقَّة، ونومي، ومطالعاتي. ولهذا أَجَلْتُ النظرَ في ساحة العمارة بحثاً عن دارِ السينما المحتملة، وأخيراً وقع بصري على حانوتٍ صغيرٍ يبيع اللحم. ضحكتُ من غفلتي وقلّةِ نباهتي وعدم فهمي معنى تلك اللافتة، على الرغم من أنَّني كنتُ أدرس علم اللغة في الجامعة. بيدَ أنَّ غلطتي ربَّما كانت بسبب دقَّة اللغة العربية وغناهاً لفظاً وتركيباً. ففي المغرب مثلاً يُسمَّى الرجل الذي ينحر الشاة " الجزّار" وهو الذي ينحر الشاة، وفي العراق ينعتونه بـ " القصّاب"، وهو الذي يفصل لحم الشاة عن عظامها ويقطّعها عضواً عضوا، أمّا في سورية ولبنان فيطلق عليه اسم " اللحّام" أي بائع اللحم. وكما يقول المثل: " التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر"، فهو ثابت ويغلب على ما سواه، فقد غلب عليَّ ما تعلّمته في مدرستي الابتدائية عن " ملحمة جلجامش"، وهي قصيدةٌ طويلةٌ جدّاً تحكي مغامرات ملك الورقاء السومري " جلجامش" للعثور على نبتةِ الخلود، ليخلِّد نفسه كالآلهة. وبعد خوض معاركَ ضاريةٍ في طريقه، وجدها أخيراً في أعماق البحر، فحملها معه بعد أن ناله تعبٌ شديد. استراح في دربِ العودة إلى عاصمته، وأخذته غفوةٌ، فجاءت حَيَّةٌ وسرقت النبتة منه وهو نائم، واختفت في غارٍ بعيدِ الغور لا سبيل إليه. وعندما تأكَّد لجلجامشَ أنَّ الخلود أمرٌ مستحيلٌ وأنَّ قدرنا الموتُ المحتَّم، قرَّرَ أن يخلِّد اسمه بالعدل ونشر التعليم في بلاده. ولهذا كلّه فهمت "ملحمة جان دارك الكبرى" بوصفها ملحمةً شعريةً عن البطلة الفرنسية جان دارك، ولم يتبادر إلى ذهني إنَّها مجرَّد حانوتٍ صغيرٍ لبيع اللحم.
ولعلَّ الاستعمال اللغوي بتراكيبه ودلالاته، يتأثَّر بنفسية الناطقين باللغة. فنحن العرب ميّالون إلى المبالغة، مولعون بتضخيم الأمور. فدكانٌ صغيرٌ لبيع اللحم يدعوه صاحبه "ملحمة جان دارك الكبرى". وفي بلدتنا الصغيرة، حانوتٌ قميءٌ لإصلاحِ عجلاتِ الدراجات الهوائية، وقد كتب صاحبه الوحيد المدعو " عبد الله بن علي" على بابه بخطٍّ ملوَّنٍ بارِز " الشركة العالمية لإصلاح وسائل النقل لصاحبها المُعلِّم عبد الله الــعلـــي وشركائه"، وكان هذا الاسم أطول من واجهة الدكان الصغير. ويرى بعضهم أنَّنا ـ نحن العرب ـ نولي أهمَّية بالغة للأقوال لا الأفعال، وأنَّ تقاليدنا الشعرية وتعلُّقَنا بها، تعطي الأولوية للفخر على بقية الأغراض الشعرية. ويحفظ أطفالنا أفخر بيت قالته العرب، وقد ذهب بعضهم إلى أنَّه بيتٌ للشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
إذا بلغَ الرضيعُ لنا فطاماً ... تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
وقال بعضهم الآخر إنَّه للشاعر الأمويِّ جرير:
إذا غضبتْ عليكَ بنو تميمٍ ... رأيتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابا
وزعم غيرهم، إنّه لِغريم جرير، الشاعر الفرزدق:
ترى الناسَ ما سِرْنا يسيرونَ خلفَنا ... وإنْ نحنُ أومأنا إلى الناسِ وقَّفوا
وهكذا فالمبالغة من التقاليد الشعرية العربية، على حين يرى نقّادٌ أدبيون أنَّ ذلك نتيجةٌ لنظرةِ الشعراء إلى طبيعة الشعر الذي يُقال عنه: " أعذبُهُ أكذبه".
المُهمُّ، لم تكُن هناك أيَّةُ دارٍ للسينما في ساحة العمارة الأمامية، فاكتريتُ شقَّةً صغيرةً في تلك العمارة الشاهقة، تتكوَّن من غرفةِ نومٍ واحدةٍ وحمّامٍ ومطبخ. ولكنَّ حسنَتها الوحيدة هي أنَّها تطلُّ على البحر فتبدو واسعةً اتساع البحر، فأنتَ تملك ما يقع تحت بصرك. والبحر يضفي على المكان بعض صفاته وجماله. ولهذا قال الحكماء القدماء: " جاوِر ملكاً أو بحراً".
تقع شقَّتي في الطابق الرابع عشر، ولهذا كان عليَّ أخذ المصعد صعوداً ونزولاً. وذات يوم، دخلتُ في المصعد متوجِّهاً إلى شقَّتي، وفوجئتُ بوجودِ امرأةٍ أوربيةٍ شابّةٍ داخل المصعد وهي تهمُّ بِمدِّ يدها إلى لائحة أرقام الطوابق لتضغط على الرقم الذي تريد. ضغطتْ على الرقم 14، والتفتت إليَّ وسألت بالفرنسية:
ـ أيّ طابق؟
كانت لغتي الفرنسية ضعيفة جداً، وكنتُ آنذاك أحاول تقويتها وتطويرها. ولكن من حُسنِ الحظ، كنتُ أستطيع أن أقول بالفرنسية:
ـ La même chose. نفس الشيء.
ابتسمتْ، فبدت أسنانها الناصعة البياض.
ما أدهشني في تلك السيدة أنَّ وجهها الأبيض الجميل مثل لوحةِ رسّامٍ حاذق، أبدعها بألوانٍ أخّاذةٍ تُبرِز مفاتنَ ذلك الوجه بمهارة: العينيْن الزرقاويْن، الخديْن الأسيليْن، الشفتيْن الورديتيْن. أضف إلى ذلك كلِّه، رشاقة قوامها، وجاذبية فستانها المتقن النسج، الزاهي الألوان، البديع التفصيل.
سرعان ما انفتح باب المصعد، فخرجتْ منه السيدة وأنا في إِثرها، واتجهتْ هي إلى باب الشقّة المجاور لباب شقتي. وعندما رأتني أُولج المفتاح في قفلِ باب شقَّتي، قالت بفرنسيتها الطليقة مع ابتسامة عذبة:
ـ "إذن، نحن جاران وأنت جديد هنا. سأدعوك لتناول الشاي معي ذات يوم".
فهمتُ مجمل ما قالته، ولكنَّ فرنسيتي لم تسمح لي بإجابتها، فقلت بالعَرنسية، (أي بخليط من العربية والفرنسية):
ـ Merci، إن شاء الله.
لم أعبأً بدعوتها آنذاك على الرغم من جمالها الأخاذ ولطفها البالغ، لأنَّني كنتُ منشغلاً بدراستي ولأسباب أخرى. بيدَ أنَّني بعد أكثر من أسبوع تقريباً، وجدتُ تحت باب شقتي ظرفاً في داخله بطاقةٌ مزيَّنةٌ وفيها دعوة لي لتناول القهوة معها في مساء يوم السبت التالي، وهو بداية عطلة نهاية الأسبوع في الجامعة. وفي آخر الدعوة تعبيرٌ عن أملها في أنَّ الوقت المقترح مناسب لي، وإلاّ فهي ترحِّب بأيِّ اقتراحٍ عن الوقت الملائم لي، راجيةً أن يكون بعد الساعة السادسة مساء عندما تعود من عملها. وموَّقعة من: جارتكَ كوليت.
فكّرتُ في الموضوع قليلاً. ورأيتُ أنَّ التعارف مع هذه الجارةِ الفرنسيةِ الجميلةِ، وتمضيةَ ساعةٍ أو ساعتيْن في الأسبوع معها، سينفعني في تمرين لغتي الفرنسية وتحسينها. ولهذا كتبتُ إليها بطاقةً شًاكراً ومُلبّياً دعوتها الكريمة، وتركتُها تحتَ باب شقَّتها.
في الوقت المحدِّد للدعوة، وجدتني أقف ببابها، وأطرق عليه بأصابعي، فتفح هي الباب وترحِّب بي بابتسامتها الحلوة المعهودة. كانت شقَّتها أوسع من شقَّتي بكثير، ولها شرفةٌ واسعةٌ تطلُّ على البحر، وفي الشرفة، نُصِبَ كرسيّان مريحان وأمامهما طاولةٌ مكسوةٌ بغطاءٍ حريريٍّ أبيضَ. جلسنا معاً. وحالماً اكتشفتْ أنَّ فرنسيتي لا تسمح بمحادثة مريحة، تحوَّلت إلى التحدُّث بلغةٍ إنكليزيةٍ راقيةٍ طليقة، تنمُّ عن ثقافةٍ عميقة.
اللقاء الأوَّل هو عادة للتعارف والوقوف على نوايا الأخر وإستراتيجيته وتكتيكاته، تماماً مثل الجولة الأولى في مباراة المصارعة. بالنسبة إليَّ، كنتُ أود أن أعرف مَن هي جارتي، وأسبر نواياها. في هذه المرَّة، أرغب في الحصول على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المعلومات عنها. وفي ضوء النتائج، قد يكون لنا لقاءٌ آخر، أقترح فيه عليها الاجتماع بصورةٍ مُنتظمة، مرَّة في الأسبوع مثلاً، لنتحدث بالفرنسية فقط، مع استعدادي للقاء مرَّتيْن في الأسبوع يُخصص الثاني للحديث بالعربية لفائدتها، إذا كانت ترغب في تعلُّم العربية.
ولهذا كانت أسئلتي تتعلّق باسمها وجنسيتها وعملها ودراستها وهواياتها ومطالعاتها، وما إلى ذلك. وطبعاً ليس من اللائق أن تطرح على امرأةٍ جميلةٍ سؤالاً عن عمرها. فعمرُ المرأة سرٌّ مقدَّس من الأسرار. ولكني قدَّرتُ عمرها بقرابة ثلاثين عاماً.
كان اسمها " كوليت لابيش"، وهي فرنسية باريسية. أبوها طبيبٌ معروف يمارس مهنته في عيادته الخاصَّة بباريس. أمّا جدّها المدعو " يوجين لابيش" فهو أديب وكاتب مسرحي مشهور ما تزال كتبه تُنشَر من طرف دور النشر الفرنسية المعروفة مثل " هارمتان"، وما تزال مسرحياته تُعرَض في أشهر المسارح الباريسية مثل " لا كوميدي دي فرانس". أمّا هي فقد تابعت دراسات عليا في التجميل تشتمل على دروس طبيّة وكيمائية وتشكيلية. وقد افتتحت مركزاً للتجميل في باريس أثناء دراستها العليا، ثمَّ انتقلت به إلى بيروت قبل ثلاث سنوات، ويتهافت عليه كبار الأغنياء من اللبنانيّين لتجميل عرائسهم في ليلةِ الزفاف، عادةً ليلة الجمعة أو ليلة الأحد، ومن أثرياء العرب الذين يتَّخذون من لبنان مكاناً مفضلاً لتمضية شهر العسل أو لقضاء عطلهم، وتقوم زوجاتهم وبناتهم بزيارةِ مركزِ كوليت بالذات كلَّ ليلةٍ من ليالي الأسبوع. ولهذا فقائمة الحجز في المركز طويلة، ولم ينفع زيادة عدد المُساعِدات المتخصّصات فيه. (وهنا فهمت السرَّ في أن وجهها الأبيض كان مثل لوحة رسّام ماهر، تتعانق على ملامحه الجميلة الألوان الساحرة، ولعلَّ بياض وجهها يفسِّر مقولة العرب: " البياض نصف الجمال" لأنه يسمح بالتجميل).
لم تكُن المعلومات التي حصلت عليها تعني لي كثيراً، فالجمال الخارجي لا قيمة له عندي يومذاك، بل حتى اليوم. وجدُّها " يوجين لابيش"، لم أسمع باسمه مطلقاً. ولكن بعد أكثر من ثماني سنوات، عندما رحلتُ إلى باريس لدراسة اللغة الفرنسية وحضارتها في السوربون، لمستُ عن كثب، مدى أهمّية الجمال ومكانته في الثقافة الفرنسية، فهو بمثابة القلب فيها: جمال الإنسان، جمال الأزياء، جمال العمارة، جمال الحدائق، جمال الطبخ، جمال العطور، جمال الفنون على اختلافها: الشعر، الموسيقى، المسرح، الرسم، النحت، إلخ. كلُّ شيءٍ في الوجود له جماله الخاصّ وجاذبيته وسحره؛ تقف عليه وتنفعل به وتتفاعل معه بإحدى الحواس الخمس: حاسة البصر، أو حاسة السمع، او حاسة اللمس، أو حاسة الشم، أو حاسة التذوق، أو بهذه الحواس كلِّها مجتمعة؛ أو من دونها، حيث تعمل حاسةٌ سادسةٌ داخلية.
وفي أثناء دارستي في السوربون بباريس تعرّفتُ على جدّها " يوجين لابيش" (1815-1888)، فقد كان من أشهر أدباء فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى أنه انتُخِب عضواً في "الأكاديمية الفرنسية" التي يُطلق على أعضائها اسم " الخالدين". وقد أبدع هذه الأديب كثيراً من المسرحيات، عندما كان المسرح متربعاً وحده على عرش الترفيه في أوربا، ولمّا ينافسه بعد التلفزيون ولا السينما ولا الحاسوب ولا الشابكة. فقد كتب يوجين لابيش أكثر من 175 مسرحية، ليس بمفرده بل مع كتّاب متعاونين آخرين، وله قرابة 8 مسرحيات كتبها وحده. وتخصَّصَ لابيش في نوعٍ من المسرحيات الهزلية يُسمى (فوديفيل) التي ليس لها أغراضٌ نفسيةٌ ولا خُلُقية، وقد تتخّللها أغانٍ ورقصاتُ باليه؛ وكذلك ألَّفَ مسرحيات من نوع " ملهاة السلوك " وهي نوع من المسرحيات الهزلية التي تتناول العادات الاجتماعية للطبقة الأرستقراطية في الحديث واللبس والأكل وغير ذلك..
وخلال القرن العشرين، عُرضت بعض مسرحيات يوجين لابيش المشهورة مثل " رحلة المسيو بريشون" و"قبعة إيطالية من القش" و "شاب مُستعجِل". وفي سنة 1964، وقبل شهر من لقائي الأوّل بحفيدته، كوليت لابيش، نشر الأديب الفرنسي فيليب سوبولي، كتاباً بعنوان " يوجين لابيش: حياته وأعماله". وأثناء دراستي في باريس، كنتُ أذهب في نهاية كل أسبوع تقريباً إلى ساحة كنيسة دي لا مادلين، حيث يوجد كشك لبيعِ تذاكر المسرح لتلك الليلة، التي لم يتمَّ بيعها أو حجزها، وذلك بنصف ثمنها الأصلي. وكانت عيناي بغير إرادة مني تبحث عن مسرحية ليوجين لابيش. وقد وُفِّقتُ في ذلك مرَّة أو مرتين، على ما أذكر.
في لقائنا الأوَّل، سألتني الآنسة كوليت عمّا أحبُّ أن أشرب ذلك المساء: الشاي أم القهوة. ومع أنَّ الغالبية العظمى من الرجال الفرنسيين يتناولون القهوة عادة، فقد اخترتُ الشاي، لا لأن العرب الذين اكتشفوا القهوة أوَّل مرّة وحوّلوها إلى مشروب عالمي، أخذوا يفضِّلون الشاي على القهوة، عندما وصلهم الشاي قبل مئة وخمسين سنة تقريباً. ويعود ذلك على الأكثر إلى أنَّ القهوة تحتوي على كافيين أكثر من الشاي بثلاث أو أربع مرات، وكنتُ أخشى أن يهرب النوم من جفوني في تلك الليلة. بعد لحظات جاءت الآنسة كوليت بصينية فيها فنجانان وصحن مكسّرات.
انتهى اللقاء بابتساماتٍ متبادلةٍ وبدعوةٍ مني للآنسة باللقاء في الأسبوع التالي في نفس الوقت، مُخيّراً إياها إمّا في شقتي أو في مقهىً على البحر. فقبلت الدعوة مفضلةً أن يكون موعدنا في شقتي، "فذلك أسهل لنا معاً"، كما قالت الآنسة كوليت (في تلك السنوات كان الفرنسيون يحترمون التفرقة بين آنسة وسيّدة "مادموزيل ومدام"، أمّا اليوم فلا فرق).
وهكذا تكرَّرت لقاءاتنا مرَّةً في الأسبوع، بالإضافة إلى رؤية أحدنا الآخر مصادفةً في مدخل العمارة أو في المصعد أو في الطابق الرابع عشر من بناية جان دارك. ولم أطرح عليها فكرة تعلّمي اللغة الفرنسية مقابل تعليمها العربية، لأنَّ محادثاتنا دلَّتني على أنَّ الآنسة كوليت ليست في حاجة إلى بذل الجهد وتضييع الوقت لاكتساب اللغة العربية. فجميع مَن يتعاملون معها أو يلتقون بها يتكلمون الإنكليزية أو الفرنسية، ويتباهون بذلك. فنحن العرب مصابون بما يسميه بعضهم بـ "عقدة الخواجة"، أي عقدة نفسية تدفعك إلى تفضيل الأجنبي على الوطني، لأنَّنا نشعر بأن الأجنبي هو دائماً أفضل وأجمل من الوطني، سواء أكان هذا الأجنبي شخصاً أو لغةً أو منتوجاً. فالشقراء عندنا ـ نحن العرب ـ أكثر جاذبية من السمراء حتّى لو كان الأوربيون يميلون إلى السمراء أكثر. وسفراؤنا يتباهون بإلقاء خطاباتهم في مؤتمرات المنظَّمات الدولية بلغةٍ أجنبيةٍ، على الرغم من أنَّ العربية لغةٌ رسميةٌ في تلك المنظمات، وعلى الرغم من أنَّ كبار علماء اللسانيِّين الغربيِّين يؤكّدون أنَّ العربية هي أرقى وأطول عمراً وأقوى نظاماً صوتياً وصرفياً وكتابياً من جميع لغاتهم. بيدَ أن جهلنا بذلك أو سلطان " عقدة الخواجة" النفسية المتجذّرة في أعماقنا، يحول دون استعمالنا لغتنا الوطنية. بيدَ أنَّ الآنسة كوليت لم تتردَّد يوماً في مساعدتي فيما يشكل عليَّ من اللغة الفرنسية؛ وتفعل ذلك بكلِّ أريحيةٍ ورحابةِ صدر، وكأنَّه جزءٌ من واجبها الوطني أو الشخصيّ.
بعد انتهاء دراستي في الجامعة الأمريكية في بيروت، غادرت لبنان للدراسة أو العمل في بلدان أخرى، ولم أتواصل مع الآنسة كوليت. فالمكان مثل الزمان، يفرض على الإنسان، علاقاتٍ مختلفةً واهتماماتٍ جديدةً. وقد أصاب إنشتاين في دمجهما في مفهوم واحد يطلق عليه "الزمكان".
مرَّ أكثر من نصف قرن من لقائي مع كوليت، حين شعرتُ بأنني مستعدٌ للكتابة عنها. فكثيرٌ من الكُتّاب لا يستطيعون الكتابة حالاً عن الأحداث التي تقع لهم في حياتهم، بل لا بدّ أن تمرَّ عليهاً مدّةٌ طويلةٌ لتختمر في أعماقهم. ربَّما أردتُ أن أكتب عن كوليت، لأن أعمالي السردية أخذت تُترجم إلى الفرنسية بفضل صديق مترجم اسمه مصطفى شقيب يتسم بالكرم المغربي، وصديقة فرنسية تتولى مراجعة الترجمة هي الدكتورة ماري ـ إيفيلين لو بودر، أستاذة الأدب المقارن في جامعة غرناطة في الأندلس.
خطرَ لي أنَّه يُستحسَن الاتصال بالآنسة كوليت واستئذانها في نشر ما كتبتُ عنها. فرحتُ أبحث في الشابكة عن عنوانها، وسرعان ما ظهرت صفحات عديدة عن دار أزياء عالمية في باريس تحمل أسم " دار أزياء كوليت لابيش". وهذه الدار تعمل في تجارة الأزياء والأحذية والحقائب الجلدية النسائية ومواد التجميل وما إلى ذلك. وقد عثرتُ على مقالات كثيرة عن هذه الدار في مجلة "فوغ" Vogue الفرنسية المتخصِّصة بالأزياء النسائية ومواد التجميل، وكذلك في مجلة " لو بوان" Le Point الفرنسية الواسعة الانتشار، أعطتني انطباعاً بأنَّ " دار أزياء كوليت لابيش" هي من دور الأزياء الفرنسية الكبرى مثل كريستيان ديور وإيف سان لوران. وفي فرنسا التي تحتفي بالأسماء اللامعة في عالم الثقافة، تسعى بعض دور الأزياء الجديدة إلى حمل أسماء بعض المشاهير كما فعلت " دار بالوما بيكاسو" التي أسّستها مصممة الأزياء والمجوهرات بالوما ابنة الرسام الإسباني الأشهر بابلو بيكاسو وزوجته الرسامة الفرنسية فرانسواز جيلو.
لم أعثر على عنوان شخصي لكوليت لابيش بل على عنوان القسم الصحفي في "دار أزياء كوليت لابيش". فكتبتُ إلى ذلك القسم الصحفي راجيا تزويدي بعنوانها الشخصي بوصفي صديقاً قديماً لكوليت. انتظرتُ يوميْن ولم يصلني شيء، فعدتُ إلى الشابكة للبحث عن عنوان لها، وإذا بي أقع على خبر وفاتها بتاريخ 30/11/2020. تماماً في الأسبوع الذي أخذتُ أكتب قصتي عنها. وفي ذلك الخبر اكتشفتُ أنها ولدت سنة 1936، أي أنها كانت في التاسعة والعشرين من عمرها عندما التقيتُ بها أوَّل مرَّةٍ في بناية جان دارك في بيروت.
***
قصة قصيرةا
ـ " كنتُ طالبةً جامعيةً في ربيع العمر في باريس، والتقيتُ بأحد طلاب الجامعة، ووقعنا في الغرام من النظرة الأولى. (كلُّ شيءٍ في باريس يدعوك للحبّ وأنتَ في ريعان العمر). سحرني بشخصيته الجذابة، ولطفه، واهتمامه بي. وكان مشبَّعاً بالثقافة الفرنسية، فقد كانت أمُّه فرنسية، أمّا أبوه فلبنانيٌّ. ومضت سنواتٌ ونحن في حلم جميل، وكنتُ أساعده مادياً ومعنوياً؛ وأعطيته كلَّ ما وسعِ فتاةٍ أًن تهَب حبيبها. ومركزي للتجميل في باريس يدرُّ عليَّ الربح الوفير. وذات يوم، فاجأني ليخبرني بأنَّه عزمَ على العودة إلى بيروت. وكان جوابي حاضراً لا يحتاج إلى تفكير:
ـ "سأذهب حيثما تذهب، فليس ثمّة معنى لحياتي من دونكَ."
ابتسمَ ولم يعترض على ما قلتُ.
وغادر هو فرنسا إلى بيروت، وبقيتُ أنا بعض الوقت في باريس لترتيب أمر مركزي للتجميل ثمَّ انتقلتُ إلى بيروت لأفتح أكبر مركز للتجميل فيها.
في البداية كان يلتقي بي مرَّة في الأسبوع متعلِّلاً بانشغاله في العمل. ثمَّ أخذت زياراتُه تقلُّ تدريجياً. وعندما يراني، يأخذ في الشكوى من صعوباتٍ ماليةٍ تواجهه، ويطلب مني بلطف أن أقرضه بعض المال. فأسرع إلى تلبية طلبه. وراحت زياراته تتضاءل والمبالغ التي يطلب اقتراضها تزداد..."
وهنا توقَّفتْ عن الكلام وهي تغالب دمعةً مكابرة. وبعد هنيهة أضافت بغصَّةٍ وأسى:
" وعندما قمتُ بشيٍء من البحث لمعرفة الحقيقة، تأكَّد لي أنَّه مشغولٌ جدّاً، ولكن ليس في عمله بل بالحفلات الصاخبة التي ينظِّمها في منزله، والنزهات اليومية التي يقوم بها مع رفيقاته على شاطئ البحر، وإنفاق الأموال التي يقترضها مني عليهنَّ".
وهنا غلبت الدموع على صوتها المتهدِّج وحبسته. ووجدتُني أقول بانفعال بصوت مرتفع مجروح:
ـ إنّه مجرّد نذل. لم يتمثَّل القيم العربية ولا اللبنانية، لا بُدَّ أنه تعلّم في مدارس أجنبية. لا تستقبليه، ولا تقرضيه أيَّةَ نقود، لأنّه لن يعيدها. لن يعيدها بتاتاً. أتفهمين ذلك، كوليت؟؟؟"
التفتتْ إليَّ، وعيناها لا تنظران في عينيّ بل إلى الأسفل، وقالت بانكسار الأُنثى، وقد انهمرت عبراتُها على خديها الأسيليْن:
ـ "أدرك ذلك. ولكنّي أحبُّه أحبُّه. وأنتَ، يا علي، هل عرفتَ الحبَّ؟ هل تفهم ذلك؟؟؟"
***
في أواسط الستينيّات من القرن الماضي، كنتُ في أوائل العشرينيّات من عمري، وأدرس في "الجامعة الأمريكية في بيروت"، حينما كانت بيروت في أجمل سنواتها، وأزهى أيام ربيعها (أو ربَّما أنا الذي كنتُ في ربيع العمر، وكانت بيروت بلا أزمات سياسية ولا اقتصادية).
وطبقاً للتنظيمات الجامعية آنذاك، ينبغي على الطالب أن يمضي سنةً على الأقل في القسم الداخلي في الجامعة قبل أن يُسمَح له بالسكن خارج الحرم الجامعي إذا كانت نتائجه جيّدة. وبعد أن أمضيتُ فصليْن دراسيَّين في القسم الداخلي المسمّى "نيومنز دورمتوري" داخل الحرم الجامعي، قرَّرتُ الانتقال ـ بناء على توصية أحد زملائي ـ إلى عمارة شاهقة لا تبعد إلا بأقل من ثلاث مئة مترٍ من الباب الرئيس للجامعة، وتقع في شارع فرعي يسمَّى شارع جان دارك يربط شارع بليس بشارع الحمراء. ودانيال بليس هو القس الأمريكي الذي أسس تلك الجامعة سنة 1866.
بعدما مشيتُ، أوَّل مرّةٍ، إلى تلك العمارة لكراءِ شقَّةٍ صغيرة لي، واجهتني في مدخل ساحةً العمارة في الطابق الأرضي، لافتةٌ كبيرةٌ كُتِب عليها بخطٍّ أحمرَ: " ملحمة جان دارك الكبرى". فتبادر إلى ذهني أنَّ الملحمة ذات علاقة بمعارك حرب المئة عام التي دارت بين الإنكليز والفرنسيين في القرنيْن الميلاديَّين الرابع عشر والخامس عشر، بسببِ مطالبةِ الملوك الإنكليز بالعرش الفرنسي، وانتهت تلك الحرب بطرد الإنكليز من فرنسا. وكانت جان دارك فتاةً فرنسيةً صغيرة ادَّعت، في ذلك الوقت، أنَّها رأت الربَّ الذي وعدها بالدعم والنصر. وفعلاً، قادت معاركَ انتصرت فيها. ولكن بعد مدَّة قُبِض عليها وسُلِّمت إلى الإنكليز مقابل المال، فحاكموها بتهمة الزندقة وأعدموها حرقاً بوصفها مهرطقة، وعمرها تسعةَ عشرَ عاماً فقط؛ فاعتبرها الفرنسيّون شهيدةً، وطوَّبتها الكنيسةُ الكاثوليكيةُ قديسةً، وكُتِبَتْ في تمجيدها الرواياتُ والقصائدُ والملاحمُ الشعرية، وأُخرِجَت عن بطولتها المسرحيات والأفلام السينمائية.
وتساءلتُ في نفسي ما إذا كانت اللافتة، " ملحمة جان دارك الكبرى"، إعلاناً عن فيلمٍ سينمائي، وأنَّ داراً للسينما تقع في هذه العمارة. فقد خشيتُ أنَّ ضوضاءَ السينما وروادِها ستؤثِّر على إقامتي في الشقَّة، ونومي، ومطالعاتي. ولهذا أَجَلْتُ النظرَ في ساحة العمارة بحثاً عن دارِ السينما المحتملة، وأخيراً وقع بصري على حانوتٍ صغيرٍ يبيع اللحم. ضحكتُ من غفلتي وقلّةِ نباهتي وعدم فهمي معنى تلك اللافتة، على الرغم من أنَّني كنتُ أدرس علم اللغة في الجامعة. بيدَ أنَّ غلطتي ربَّما كانت بسبب دقَّة اللغة العربية وغناهاً لفظاً وتركيباً. ففي المغرب مثلاً يُسمَّى الرجل الذي ينحر الشاة " الجزّار" وهو الذي ينحر الشاة، وفي العراق ينعتونه بـ " القصّاب"، وهو الذي يفصل لحم الشاة عن عظامها ويقطّعها عضواً عضوا، أمّا في سورية ولبنان فيطلق عليه اسم " اللحّام" أي بائع اللحم. وكما يقول المثل: " التعلّم في الصغر كالنقش على الحجر"، فهو ثابت ويغلب على ما سواه، فقد غلب عليَّ ما تعلّمته في مدرستي الابتدائية عن " ملحمة جلجامش"، وهي قصيدةٌ طويلةٌ جدّاً تحكي مغامرات ملك الورقاء السومري " جلجامش" للعثور على نبتةِ الخلود، ليخلِّد نفسه كالآلهة. وبعد خوض معاركَ ضاريةٍ في طريقه، وجدها أخيراً في أعماق البحر، فحملها معه بعد أن ناله تعبٌ شديد. استراح في دربِ العودة إلى عاصمته، وأخذته غفوةٌ، فجاءت حَيَّةٌ وسرقت النبتة منه وهو نائم، واختفت في غارٍ بعيدِ الغور لا سبيل إليه. وعندما تأكَّد لجلجامشَ أنَّ الخلود أمرٌ مستحيلٌ وأنَّ قدرنا الموتُ المحتَّم، قرَّرَ أن يخلِّد اسمه بالعدل ونشر التعليم في بلاده. ولهذا كلّه فهمت "ملحمة جان دارك الكبرى" بوصفها ملحمةً شعريةً عن البطلة الفرنسية جان دارك، ولم يتبادر إلى ذهني إنَّها مجرَّد حانوتٍ صغيرٍ لبيع اللحم.
ولعلَّ الاستعمال اللغوي بتراكيبه ودلالاته، يتأثَّر بنفسية الناطقين باللغة. فنحن العرب ميّالون إلى المبالغة، مولعون بتضخيم الأمور. فدكانٌ صغيرٌ لبيع اللحم يدعوه صاحبه "ملحمة جان دارك الكبرى". وفي بلدتنا الصغيرة، حانوتٌ قميءٌ لإصلاحِ عجلاتِ الدراجات الهوائية، وقد كتب صاحبه الوحيد المدعو " عبد الله بن علي" على بابه بخطٍّ ملوَّنٍ بارِز " الشركة العالمية لإصلاح وسائل النقل لصاحبها المُعلِّم عبد الله الــعلـــي وشركائه"، وكان هذا الاسم أطول من واجهة الدكان الصغير. ويرى بعضهم أنَّنا ـ نحن العرب ـ نولي أهمَّية بالغة للأقوال لا الأفعال، وأنَّ تقاليدنا الشعرية وتعلُّقَنا بها، تعطي الأولوية للفخر على بقية الأغراض الشعرية. ويحفظ أطفالنا أفخر بيت قالته العرب، وقد ذهب بعضهم إلى أنَّه بيتٌ للشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم:
إذا بلغَ الرضيعُ لنا فطاماً ... تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
وقال بعضهم الآخر إنَّه للشاعر الأمويِّ جرير:
إذا غضبتْ عليكَ بنو تميمٍ ... رأيتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابا
وزعم غيرهم، إنّه لِغريم جرير، الشاعر الفرزدق:
ترى الناسَ ما سِرْنا يسيرونَ خلفَنا ... وإنْ نحنُ أومأنا إلى الناسِ وقَّفوا
وهكذا فالمبالغة من التقاليد الشعرية العربية، على حين يرى نقّادٌ أدبيون أنَّ ذلك نتيجةٌ لنظرةِ الشعراء إلى طبيعة الشعر الذي يُقال عنه: " أعذبُهُ أكذبه".
المُهمُّ، لم تكُن هناك أيَّةُ دارٍ للسينما في ساحة العمارة الأمامية، فاكتريتُ شقَّةً صغيرةً في تلك العمارة الشاهقة، تتكوَّن من غرفةِ نومٍ واحدةٍ وحمّامٍ ومطبخ. ولكنَّ حسنَتها الوحيدة هي أنَّها تطلُّ على البحر فتبدو واسعةً اتساع البحر، فأنتَ تملك ما يقع تحت بصرك. والبحر يضفي على المكان بعض صفاته وجماله. ولهذا قال الحكماء القدماء: " جاوِر ملكاً أو بحراً".
تقع شقَّتي في الطابق الرابع عشر، ولهذا كان عليَّ أخذ المصعد صعوداً ونزولاً. وذات يوم، دخلتُ في المصعد متوجِّهاً إلى شقَّتي، وفوجئتُ بوجودِ امرأةٍ أوربيةٍ شابّةٍ داخل المصعد وهي تهمُّ بِمدِّ يدها إلى لائحة أرقام الطوابق لتضغط على الرقم الذي تريد. ضغطتْ على الرقم 14، والتفتت إليَّ وسألت بالفرنسية:
ـ أيّ طابق؟
كانت لغتي الفرنسية ضعيفة جداً، وكنتُ آنذاك أحاول تقويتها وتطويرها. ولكن من حُسنِ الحظ، كنتُ أستطيع أن أقول بالفرنسية:
ـ La même chose. نفس الشيء.
ابتسمتْ، فبدت أسنانها الناصعة البياض.
ما أدهشني في تلك السيدة أنَّ وجهها الأبيض الجميل مثل لوحةِ رسّامٍ حاذق، أبدعها بألوانٍ أخّاذةٍ تُبرِز مفاتنَ ذلك الوجه بمهارة: العينيْن الزرقاويْن، الخديْن الأسيليْن، الشفتيْن الورديتيْن. أضف إلى ذلك كلِّه، رشاقة قوامها، وجاذبية فستانها المتقن النسج، الزاهي الألوان، البديع التفصيل.
سرعان ما انفتح باب المصعد، فخرجتْ منه السيدة وأنا في إِثرها، واتجهتْ هي إلى باب الشقّة المجاور لباب شقتي. وعندما رأتني أُولج المفتاح في قفلِ باب شقَّتي، قالت بفرنسيتها الطليقة مع ابتسامة عذبة:
ـ "إذن، نحن جاران وأنت جديد هنا. سأدعوك لتناول الشاي معي ذات يوم".
فهمتُ مجمل ما قالته، ولكنَّ فرنسيتي لم تسمح لي بإجابتها، فقلت بالعَرنسية، (أي بخليط من العربية والفرنسية):
ـ Merci، إن شاء الله.
لم أعبأً بدعوتها آنذاك على الرغم من جمالها الأخاذ ولطفها البالغ، لأنَّني كنتُ منشغلاً بدراستي ولأسباب أخرى. بيدَ أنَّني بعد أكثر من أسبوع تقريباً، وجدتُ تحت باب شقتي ظرفاً في داخله بطاقةٌ مزيَّنةٌ وفيها دعوة لي لتناول القهوة معها في مساء يوم السبت التالي، وهو بداية عطلة نهاية الأسبوع في الجامعة. وفي آخر الدعوة تعبيرٌ عن أملها في أنَّ الوقت المقترح مناسب لي، وإلاّ فهي ترحِّب بأيِّ اقتراحٍ عن الوقت الملائم لي، راجيةً أن يكون بعد الساعة السادسة مساء عندما تعود من عملها. وموَّقعة من: جارتكَ كوليت.
فكّرتُ في الموضوع قليلاً. ورأيتُ أنَّ التعارف مع هذه الجارةِ الفرنسيةِ الجميلةِ، وتمضيةَ ساعةٍ أو ساعتيْن في الأسبوع معها، سينفعني في تمرين لغتي الفرنسية وتحسينها. ولهذا كتبتُ إليها بطاقةً شًاكراً ومُلبّياً دعوتها الكريمة، وتركتُها تحتَ باب شقَّتها.
في الوقت المحدِّد للدعوة، وجدتني أقف ببابها، وأطرق عليه بأصابعي، فتفح هي الباب وترحِّب بي بابتسامتها الحلوة المعهودة. كانت شقَّتها أوسع من شقَّتي بكثير، ولها شرفةٌ واسعةٌ تطلُّ على البحر، وفي الشرفة، نُصِبَ كرسيّان مريحان وأمامهما طاولةٌ مكسوةٌ بغطاءٍ حريريٍّ أبيضَ. جلسنا معاً. وحالماً اكتشفتْ أنَّ فرنسيتي لا تسمح بمحادثة مريحة، تحوَّلت إلى التحدُّث بلغةٍ إنكليزيةٍ راقيةٍ طليقة، تنمُّ عن ثقافةٍ عميقة.
اللقاء الأوَّل هو عادة للتعارف والوقوف على نوايا الأخر وإستراتيجيته وتكتيكاته، تماماً مثل الجولة الأولى في مباراة المصارعة. بالنسبة إليَّ، كنتُ أود أن أعرف مَن هي جارتي، وأسبر نواياها. في هذه المرَّة، أرغب في الحصول على أكبر قدرٍ ممكنٍ من المعلومات عنها. وفي ضوء النتائج، قد يكون لنا لقاءٌ آخر، أقترح فيه عليها الاجتماع بصورةٍ مُنتظمة، مرَّة في الأسبوع مثلاً، لنتحدث بالفرنسية فقط، مع استعدادي للقاء مرَّتيْن في الأسبوع يُخصص الثاني للحديث بالعربية لفائدتها، إذا كانت ترغب في تعلُّم العربية.
ولهذا كانت أسئلتي تتعلّق باسمها وجنسيتها وعملها ودراستها وهواياتها ومطالعاتها، وما إلى ذلك. وطبعاً ليس من اللائق أن تطرح على امرأةٍ جميلةٍ سؤالاً عن عمرها. فعمرُ المرأة سرٌّ مقدَّس من الأسرار. ولكني قدَّرتُ عمرها بقرابة ثلاثين عاماً.
كان اسمها " كوليت لابيش"، وهي فرنسية باريسية. أبوها طبيبٌ معروف يمارس مهنته في عيادته الخاصَّة بباريس. أمّا جدّها المدعو " يوجين لابيش" فهو أديب وكاتب مسرحي مشهور ما تزال كتبه تُنشَر من طرف دور النشر الفرنسية المعروفة مثل " هارمتان"، وما تزال مسرحياته تُعرَض في أشهر المسارح الباريسية مثل " لا كوميدي دي فرانس". أمّا هي فقد تابعت دراسات عليا في التجميل تشتمل على دروس طبيّة وكيمائية وتشكيلية. وقد افتتحت مركزاً للتجميل في باريس أثناء دراستها العليا، ثمَّ انتقلت به إلى بيروت قبل ثلاث سنوات، ويتهافت عليه كبار الأغنياء من اللبنانيّين لتجميل عرائسهم في ليلةِ الزفاف، عادةً ليلة الجمعة أو ليلة الأحد، ومن أثرياء العرب الذين يتَّخذون من لبنان مكاناً مفضلاً لتمضية شهر العسل أو لقضاء عطلهم، وتقوم زوجاتهم وبناتهم بزيارةِ مركزِ كوليت بالذات كلَّ ليلةٍ من ليالي الأسبوع. ولهذا فقائمة الحجز في المركز طويلة، ولم ينفع زيادة عدد المُساعِدات المتخصّصات فيه. (وهنا فهمت السرَّ في أن وجهها الأبيض كان مثل لوحة رسّام ماهر، تتعانق على ملامحه الجميلة الألوان الساحرة، ولعلَّ بياض وجهها يفسِّر مقولة العرب: " البياض نصف الجمال" لأنه يسمح بالتجميل).
لم تكُن المعلومات التي حصلت عليها تعني لي كثيراً، فالجمال الخارجي لا قيمة له عندي يومذاك، بل حتى اليوم. وجدُّها " يوجين لابيش"، لم أسمع باسمه مطلقاً. ولكن بعد أكثر من ثماني سنوات، عندما رحلتُ إلى باريس لدراسة اللغة الفرنسية وحضارتها في السوربون، لمستُ عن كثب، مدى أهمّية الجمال ومكانته في الثقافة الفرنسية، فهو بمثابة القلب فيها: جمال الإنسان، جمال الأزياء، جمال العمارة، جمال الحدائق، جمال الطبخ، جمال العطور، جمال الفنون على اختلافها: الشعر، الموسيقى، المسرح، الرسم، النحت، إلخ. كلُّ شيءٍ في الوجود له جماله الخاصّ وجاذبيته وسحره؛ تقف عليه وتنفعل به وتتفاعل معه بإحدى الحواس الخمس: حاسة البصر، أو حاسة السمع، او حاسة اللمس، أو حاسة الشم، أو حاسة التذوق، أو بهذه الحواس كلِّها مجتمعة؛ أو من دونها، حيث تعمل حاسةٌ سادسةٌ داخلية.
وفي أثناء دارستي في السوربون بباريس تعرّفتُ على جدّها " يوجين لابيش" (1815-1888)، فقد كان من أشهر أدباء فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى أنه انتُخِب عضواً في "الأكاديمية الفرنسية" التي يُطلق على أعضائها اسم " الخالدين". وقد أبدع هذه الأديب كثيراً من المسرحيات، عندما كان المسرح متربعاً وحده على عرش الترفيه في أوربا، ولمّا ينافسه بعد التلفزيون ولا السينما ولا الحاسوب ولا الشابكة. فقد كتب يوجين لابيش أكثر من 175 مسرحية، ليس بمفرده بل مع كتّاب متعاونين آخرين، وله قرابة 8 مسرحيات كتبها وحده. وتخصَّصَ لابيش في نوعٍ من المسرحيات الهزلية يُسمى (فوديفيل) التي ليس لها أغراضٌ نفسيةٌ ولا خُلُقية، وقد تتخّللها أغانٍ ورقصاتُ باليه؛ وكذلك ألَّفَ مسرحيات من نوع " ملهاة السلوك " وهي نوع من المسرحيات الهزلية التي تتناول العادات الاجتماعية للطبقة الأرستقراطية في الحديث واللبس والأكل وغير ذلك..
وخلال القرن العشرين، عُرضت بعض مسرحيات يوجين لابيش المشهورة مثل " رحلة المسيو بريشون" و"قبعة إيطالية من القش" و "شاب مُستعجِل". وفي سنة 1964، وقبل شهر من لقائي الأوّل بحفيدته، كوليت لابيش، نشر الأديب الفرنسي فيليب سوبولي، كتاباً بعنوان " يوجين لابيش: حياته وأعماله". وأثناء دراستي في باريس، كنتُ أذهب في نهاية كل أسبوع تقريباً إلى ساحة كنيسة دي لا مادلين، حيث يوجد كشك لبيعِ تذاكر المسرح لتلك الليلة، التي لم يتمَّ بيعها أو حجزها، وذلك بنصف ثمنها الأصلي. وكانت عيناي بغير إرادة مني تبحث عن مسرحية ليوجين لابيش. وقد وُفِّقتُ في ذلك مرَّة أو مرتين، على ما أذكر.
في لقائنا الأوَّل، سألتني الآنسة كوليت عمّا أحبُّ أن أشرب ذلك المساء: الشاي أم القهوة. ومع أنَّ الغالبية العظمى من الرجال الفرنسيين يتناولون القهوة عادة، فقد اخترتُ الشاي، لا لأن العرب الذين اكتشفوا القهوة أوَّل مرّة وحوّلوها إلى مشروب عالمي، أخذوا يفضِّلون الشاي على القهوة، عندما وصلهم الشاي قبل مئة وخمسين سنة تقريباً. ويعود ذلك على الأكثر إلى أنَّ القهوة تحتوي على كافيين أكثر من الشاي بثلاث أو أربع مرات، وكنتُ أخشى أن يهرب النوم من جفوني في تلك الليلة. بعد لحظات جاءت الآنسة كوليت بصينية فيها فنجانان وصحن مكسّرات.
انتهى اللقاء بابتساماتٍ متبادلةٍ وبدعوةٍ مني للآنسة باللقاء في الأسبوع التالي في نفس الوقت، مُخيّراً إياها إمّا في شقتي أو في مقهىً على البحر. فقبلت الدعوة مفضلةً أن يكون موعدنا في شقتي، "فذلك أسهل لنا معاً"، كما قالت الآنسة كوليت (في تلك السنوات كان الفرنسيون يحترمون التفرقة بين آنسة وسيّدة "مادموزيل ومدام"، أمّا اليوم فلا فرق).
وهكذا تكرَّرت لقاءاتنا مرَّةً في الأسبوع، بالإضافة إلى رؤية أحدنا الآخر مصادفةً في مدخل العمارة أو في المصعد أو في الطابق الرابع عشر من بناية جان دارك. ولم أطرح عليها فكرة تعلّمي اللغة الفرنسية مقابل تعليمها العربية، لأنَّ محادثاتنا دلَّتني على أنَّ الآنسة كوليت ليست في حاجة إلى بذل الجهد وتضييع الوقت لاكتساب اللغة العربية. فجميع مَن يتعاملون معها أو يلتقون بها يتكلمون الإنكليزية أو الفرنسية، ويتباهون بذلك. فنحن العرب مصابون بما يسميه بعضهم بـ "عقدة الخواجة"، أي عقدة نفسية تدفعك إلى تفضيل الأجنبي على الوطني، لأنَّنا نشعر بأن الأجنبي هو دائماً أفضل وأجمل من الوطني، سواء أكان هذا الأجنبي شخصاً أو لغةً أو منتوجاً. فالشقراء عندنا ـ نحن العرب ـ أكثر جاذبية من السمراء حتّى لو كان الأوربيون يميلون إلى السمراء أكثر. وسفراؤنا يتباهون بإلقاء خطاباتهم في مؤتمرات المنظَّمات الدولية بلغةٍ أجنبيةٍ، على الرغم من أنَّ العربية لغةٌ رسميةٌ في تلك المنظمات، وعلى الرغم من أنَّ كبار علماء اللسانيِّين الغربيِّين يؤكّدون أنَّ العربية هي أرقى وأطول عمراً وأقوى نظاماً صوتياً وصرفياً وكتابياً من جميع لغاتهم. بيدَ أن جهلنا بذلك أو سلطان " عقدة الخواجة" النفسية المتجذّرة في أعماقنا، يحول دون استعمالنا لغتنا الوطنية. بيدَ أنَّ الآنسة كوليت لم تتردَّد يوماً في مساعدتي فيما يشكل عليَّ من اللغة الفرنسية؛ وتفعل ذلك بكلِّ أريحيةٍ ورحابةِ صدر، وكأنَّه جزءٌ من واجبها الوطني أو الشخصيّ.
بعد انتهاء دراستي في الجامعة الأمريكية في بيروت، غادرت لبنان للدراسة أو العمل في بلدان أخرى، ولم أتواصل مع الآنسة كوليت. فالمكان مثل الزمان، يفرض على الإنسان، علاقاتٍ مختلفةً واهتماماتٍ جديدةً. وقد أصاب إنشتاين في دمجهما في مفهوم واحد يطلق عليه "الزمكان".
مرَّ أكثر من نصف قرن من لقائي مع كوليت، حين شعرتُ بأنني مستعدٌ للكتابة عنها. فكثيرٌ من الكُتّاب لا يستطيعون الكتابة حالاً عن الأحداث التي تقع لهم في حياتهم، بل لا بدّ أن تمرَّ عليهاً مدّةٌ طويلةٌ لتختمر في أعماقهم. ربَّما أردتُ أن أكتب عن كوليت، لأن أعمالي السردية أخذت تُترجم إلى الفرنسية بفضل صديق مترجم اسمه مصطفى شقيب يتسم بالكرم المغربي، وصديقة فرنسية تتولى مراجعة الترجمة هي الدكتورة ماري ـ إيفيلين لو بودر، أستاذة الأدب المقارن في جامعة غرناطة في الأندلس.
خطرَ لي أنَّه يُستحسَن الاتصال بالآنسة كوليت واستئذانها في نشر ما كتبتُ عنها. فرحتُ أبحث في الشابكة عن عنوانها، وسرعان ما ظهرت صفحات عديدة عن دار أزياء عالمية في باريس تحمل أسم " دار أزياء كوليت لابيش". وهذه الدار تعمل في تجارة الأزياء والأحذية والحقائب الجلدية النسائية ومواد التجميل وما إلى ذلك. وقد عثرتُ على مقالات كثيرة عن هذه الدار في مجلة "فوغ" Vogue الفرنسية المتخصِّصة بالأزياء النسائية ومواد التجميل، وكذلك في مجلة " لو بوان" Le Point الفرنسية الواسعة الانتشار، أعطتني انطباعاً بأنَّ " دار أزياء كوليت لابيش" هي من دور الأزياء الفرنسية الكبرى مثل كريستيان ديور وإيف سان لوران. وفي فرنسا التي تحتفي بالأسماء اللامعة في عالم الثقافة، تسعى بعض دور الأزياء الجديدة إلى حمل أسماء بعض المشاهير كما فعلت " دار بالوما بيكاسو" التي أسّستها مصممة الأزياء والمجوهرات بالوما ابنة الرسام الإسباني الأشهر بابلو بيكاسو وزوجته الرسامة الفرنسية فرانسواز جيلو.
لم أعثر على عنوان شخصي لكوليت لابيش بل على عنوان القسم الصحفي في "دار أزياء كوليت لابيش". فكتبتُ إلى ذلك القسم الصحفي راجيا تزويدي بعنوانها الشخصي بوصفي صديقاً قديماً لكوليت. انتظرتُ يوميْن ولم يصلني شيء، فعدتُ إلى الشابكة للبحث عن عنوان لها، وإذا بي أقع على خبر وفاتها بتاريخ 30/11/2020. تماماً في الأسبوع الذي أخذتُ أكتب قصتي عنها. وفي ذلك الخبر اكتشفتُ أنها ولدت سنة 1936، أي أنها كانت في التاسعة والعشرين من عمرها عندما التقيتُ بها أوَّل مرَّةٍ في بناية جان دارك في بيروت.
***
قصة قصيرةا
تعليقات (41)
سا
عا
صا
عا
با
عا
با
عا
ا
عا
عا
اب
عا
د
عا
دا
عا
ا
عا
اب
عا
يا
عا
جع
عا
سح
عا
ما
عا
سا
عا
جم
عا
عب
عا
ع
عا
كا
عا
إأ
عا