أصدقاء الدكتور علي القاسمي

علي القاسمي: جزيرة الرشاقة

 


علي القاسمي: جزيرة الرشاقة

علي القاسميكنّا ـ نحن الأطفال ـ نسمّيها "جزيرة الرشاقة". وكان بعضنا يتقعَّر في كلامه فينعتها بـ "جزيرة الرشاقة والأناقة". أمّا الكبار فكانوا يلقّبونها بالعالم الحديث.

كنا نسمّيها "جزيرة الرشاقة" لأنّ بناتها وأبناءها الذين راحوا يأُمّون بلدتنا الصغيرة، كانوا على قدرٍ مدهشٍ من رشاقة القوام، وأناقة الهندام، والنشاط، وخفّة الحركة. قاماتهم طويلة، ولمعظمهم شَعرٌ أشقر، وعيونٌ زرق أو خضر، وملامحُ وسيمة، ووجوهٌ مشرقة، وابتساماتهم أخّاذة.

كانوا يفدون إلى بلدتنا سُيّاحًا من نوعٍ خاصّ، فلم يكُن فيها ما يسلّيهم. فليس ثمّة دور للهو، ولا مسارح، ولا قاعات للسينما، ولا دور للقمار، ولا منتجعات سياحيّة مزوَّدة بملاعب رياضيّة أو مسابح أولمبيّة، ولا أسواق عامرة بأصناف البضائع اليسيرة الأثمان. لم يكن في بلدتنا ما يغريهم بالقدوم إليها. فهي مجرَّد مجموعة من الدور البائسة ذات الطابق الواحد، المبنيَّة من الطين أو الآجر، المُسقَّفة بالجَرِيّد (سعف النخيل)، يتوسّطها مسجدٌ صغيرٌ، وبنايتان متواضعتان لرجال السلطة. ومع ذلك كانوا يأتون إلينا باستمرار جماعاتٍ ووحدانًا.

كان مركز الجذب الوحيد لهم تلالٌ تقع بالقرب من بلدتنا، وتضمُّ مدينةً بابليّةً قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، لم يبقَ منها إلا أطلالٌ وخرائب. إنّها بالأحرى آثار مدينة مندثرة. مجرَّد شوارعٍ مهجورة، وقاعاتٍ بلا سقوف، وأعمدةٍ رخاميّةٍ متصدِّعة، وجدرانٍ متهدِّمةٍ نُحتت عليها كائناتٌ غريبةُ الأشكال، بعضها برؤوسٍ حيوانيّةٍ وأجسامٍ آدميّة، وبعضها الآخر برؤوسٍ بشريّةٍ وأجسادٍ حيوانيّةٍ مُجنَّحة. وكانت ترتفع في أحد ميادين المدينة المُكفَّنة بالترابِ، مَسلَّةٌ حجريّةٌ، عليها كتاباتٌ مسماريّةٌ ونقوشٌ وزخارف. وكان في مدخل المدينة، تمثالٌ ضخمٌ من حجرٍ صلدٍ لأسدٍ مرعبِ المنظر، يربض على صدرِ امرأةٍ جميلةٍ مستلقيةٍ على ظهرها.

كان أولئك السيّاح الشقر يطوفون في أرجاء تلك الأطلال، يتملّون جنباتها، وهم يسترقون النظر إلى كُتب يحملونها بأيديهم، أو يستمعون إلى دليلٍ يرافقهم ويزوِّدهم بالشروح. وكنّا نحن الأطفال نعجب لهذا الاهتمام الذي يبديه أولئك السيّاح بخرائبَ لا تنفع ولا تضرّ، وهي تقبع في مكانها على مرمى حجرٍ مِنّا منذ آلاف السنين ولا نعيرها بالاً، أَو بالأحرى نحن الذين نسكن بالقرب منها وهي لا تعيرنا اهتمامًا. كلُّ ما تعلّمناه عنها في المدرسة الأوليّة الوحيدة في البلدة، أنّها بقايا حضارةٍ قديمةٍ عظيمةٍ، قامت وسادت، ثمَّ انهارت واندثرت، ولم يبقَ منها إلا تلك الخرائب.

كان بعض أولئك السيّاح ذوي الأجسام الرشيقة والوجوه المشرقة، يبتسمون لنا نحن الأطفال عندما نتجمّع حولهم ونحملق فيهم، ويقولون لنا كلامًا بِلغتهم لا نفهمه، فنحسبه تحيَّة مودَّة، لا سيَّما أن بعضهم كان يشفع ما يقول، بقطعة حلوى يعطينا إياها. وكان عددٌ من شباب البلدة الذين يجيدون لغة السياح، يقتربون منهم ويتبادلون الحديث معهم ويرافقونهم أحياناً إلى الفندق الذي ينزلون فيه لليلة أو ليلتين على الأكثر، وهو بناية من طابقين تطل على الخرائب.

وتسرَّبتْ إلينا، عن طريق أولئك الشبان، أخبارٌ استقوها من محادثاتهم مع السيّاح ومن الصحف والمجلات التي يرمون بها بعد الانتهاء من مطالعتها، فيتلقّفها الشبان. أخذنا نسمع قصصًا ورواياتٍ أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع الذي نعرفه، قصصًا مضخَّمةً فيها كثير من المبالغة والتهويل عن حياة أولئك السيّاح، ورفاهية بلادهم، فتأسر أسماعنا وتبهر عيوننا، ونبني منها قصورًا في مخيلتنا، تخلو منها بلدتنا ذات البيوت المتراصة المتواضعة.

سمعنا أنّ بلادهم غنيّة عامرة بالمصانع المُنتِجة والمزارع المُثمِرة، وأنّ الناس هناك يمتلكون الدور الجميلة والسيّارات الفارهة التي تفتح بوابات المرائب بأضوائها، وأنّهم يأتون إلى بلادنا بالطائرات التي لم نرَها نحن إلا مُحلِّقة في السماء، أو بالبواخر الفخمة. وكلّ باخرةٍ تضمُّ مطاعمَ راقية، وملاعب، ومسابح، ومراقص ليليّة يُمضي فيها الركاب سهراتهم، راقصين على أنغام الموسيقى التي تعزفها فرق موسيقيّة، حتّى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، ثمَّ يأوون إلى مقصوراتهم المجهَّزة بأَسِرّةٍ مريحةٍ، وفرشٍ وثيرةٍ، وحماماتٍ نظيفة.

وعلمنا ذات يوم أنّ أحد أبناء البلدة سافر إلى جزيرة الرشاقة للدراسة في إحدى جامعاتها الراقية. وتهامس بعضنا باستنكار:" إنّه قرر الإقامة هناك ولن يعود!" وتساءل بعضنا الآخر: " وكيف يرضى أهله بذلك ؟!" وجاء الجواب: " إنّه يبعث إليهم بالمال والهدايا، وقد ظهرت عليهم أمارات الثراء." وقيل لنا إنّه ليس الوحيد الذي يهاجر إلى جزيرة الرشاقة، فهناك مثله الآلاف من جميع أنحاء العالم، ومنهم مَن يواتيه الحظّ، فيصبح من أصحاب الملايين.

وأغرقت القصص، التي كنّا نسمعها عن جزيرة الرشاقة، في الخيال عندما أخذت تتناول أخبار المخترعات والمكتشفات المذهلة، مخترعات لم نسمع بها من قبل: تلفزيون يأتيك بصور الناس وأخبارهم من أماكنَ نائيةٍ، كما كان يفعل جنُّ سليمان، وإنسانٌ آليٌّ يحلُّ محلَ العمّال في المهمّات الشاقَّة، ومركباتٌ فضائيّةٌ تسبح في الكون كالكواكب قاصدة القمر والمريخ، وعقولٌ إلكترونيَّةٌ تأتي بالعَجب العُجاب.

ولكنّ الحكايات التي كان يسيل لها لعابنا، وتأخذ أفواهنا بالتلمُّظ عند سماعها، كما يفعل الهرّ وهو يترصّد فأرًا صغيرًا من بعيد، هي حكايات الطعام والمطاعم في جزيرة الرشاقة. فقد بلغَنا أنّ أسواقهم زاخرةٌ بأصنافِ اللحوم والأسماك والطيور والحبوب والفواكه والخضار. وكلُّها تباع بأزهد الأثمان.

وأعجب ما في جزيرة الرشاقة مطاعمها الفاخرة الكثيرة، المنتشرة انتشار الفُطْر في البادية أيام الربيع. فبينَ كلّ مطعمٍ ومطعمٍ مطعمٌ. وتفنَّنت المطاعم في إرضاء زبائنها وتلبية رغباتهم بأسرع ما يمكن دون طويل انتظار. فعندما تلج بعضها وتجلس إلى الطاولة التي تختارها، تجد عليها قائمة الأطباق وأمام اسم كلّ طبق زِرٌ، فتضغط على أزرارِ الأطباق التي ترغب فيها، فتُضاءُ إشارةٌ في المطبخ تحمل رقم طاولتكَ وأرقام الأطباق المطلوبة، فيجلبها النادل إليكَ فورًا.

واتّبعت مطاعمٌ أُخرى طريقةً مختلفةً؛ فعندما تلجها، تجد مائدةً عامرةً بأصناف الطعام وألوان المآكل، فتختار منها ما تشاء وتملأ صحنك بنفسك، ثمَّ تعود وتملأه ثانية وثالثة، وتأكل كلَّ ما تشتهي نفسك حتّى تشبع، دون أن يزيد ثمن الوجبة المحدَّد سلفًا. وعندما تجلس إلى إحدى الطاولات، وتضع صحنك العامر بالطعام أمامك، يسرع إليك النادل بكأسٍ من الشراب الذي تفضّله، وقبل أن تشربه كلَّه يملأُه النادل مرّة ثانية وثالثة ورابعة، دون أن تدفع ثمنًا إضافيًّا لما تشرب. وتختم وجبتكَ بأصناف المثلَّجات اللذيذة وأنواع الحلويات الشهيّة التي تنتقيها بنفسك من عربةٍ متحرِّكة يجلبها النادل إلى طاولتك.

وضحكنا كثيرًا عندما قال أحدنا:

ـ " والطهاة والندل والسقاة هناك يتخرَّجون في الجامعات."

وسأل أحدنا ساخرًا:

ـ " أتصدّق أن الطهي يحتاج إلى دراسات جامعية؟! دكتوراه في الثريد مثلاً!"

وأيّده ثالث قائلاً:

ـ " أمهاتنا يطبخن ولم يتعلَّمن حتّى في مدرسة ابتدائية."

واعترض آخر قائلاً:

ـ" ولكن أخبرَني أخي الكبير بوجود كُتُب متخصِّصة بإعداد الأطباق المختلفة."

وحتّى ذلك الحين لم نكُن رأينا في بلدتنا من الكُتُب إلا كُتُب القراءة والحساب المدرسيّة.

ويبدو أن أهالي جزيرة الرشاقة اكتسبوا ولعًا خاصًّا بالأكل، لوفرته وجودته ومذاقه اللذيذ؛ فكثر الإقبال على المطاعم، حتّى صارت تفتح أبوابها أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، وهي تقدِّم لك ما تشتهي نفسك من وجبات دون التقيّد بأوقاتٍ معيَّنة. فتستطيع أن تطلب من النادل أن يأتيك بوجبة عشاءٍ غنيّة باللحم في أوّل الصباح، وتطلب وجبة الفطور في المساء، وتجمع بين وجبتين وقت الغداء، فأنتَ حرٌّ في اختياراتك. وجزيرة الرشاقة هي جزيرة الحرِّيَّة كذلك. وكلُّ واحدٍ حرٌّ في أن يأكل ما يشاء، ومتى ما يشاء، وحيثما يشاء، وكيفما يشاء. يتناول طعامه واقفًا، أو جالسًا، أو ماشيًا؛ في المطعم، أو المنزل، أو المدرسة أو المعمل، أو في السيّارة.

والمطاعم في جزيرة الرشاقة مجهَّزة بما يلزم لتلبية رغباتك. فقد ابتكروا صينيّات من الورق المقوّى يُحمَل فيها الطعام، وأواني وملاعق وشوكات بلاستيكيّة تُرمى بعد استعمالها مَرَّةً واحدةً، وأكوابًا مُغلقةً تخترق أغطيتها أنابيب ورقية تمتص بها دون أن يندلق السائل منها وأنت تشرب وتسوق سيّارتكَ في الوقت نفسه. وكان يصعب علينا تصوُّر جميع تلك الأدوات لأنّنا كنّا نأكل بأيدينا.

وأخذت مصانع السيّارات تستجيب لاحتياجات أهل الجزيرة الغذائيّة، فرُكِّبتْ أدواتٌ إضافيّةٌ في السيّارة أمام السائق، حواملُ معدنيّةٌ تُثبَّتْ فيها أكواب الشراب وصحون الطعام، وهكذا لا ينقطع صاحب السيّارة عن الأكل والشراب وهو يقود سيّارته. وتنافست شركات السيّارات في إرضاء أذواق الآكلين، فوضع بعضها ملعقةً آليَّةً أمام السائق تحمل الطعام له من الإناء إلى فمه دون أن يلوي عنقه أو يستعمل يده.

أمّا الذين يفضّلون البقاء في منازلهم لمشاهدة برامج التلفزيون أو مزاولة ألعاب الحاسوب، ولا يرغبون في تكليف أنفسهم مشقَّة الذهاب إلى المطعم، فما عليهم إلا مهاتفة مطعمهم المفضَّل، فتصلهم أكلاتُهم إلى منازلهم خلال دقائق معدودات. فالأطباقُ مُعدَّة سلفًا في مطبخ المطعم، وتسخينها بالمايكرويف لا يتطلَّب إلا بضع ثوان، ونقلُها من فرع المطبخ الأقرب إلى دارِكَ على دراجةٍ بخاريّةٍ فائقةِ السرعة، والطَّعام مُدثَّر بلحافٍ خاصٍّ يحفظ حرارته، لا يستغرق أكثر من دقائق. وسيوضع الطعام إلى جانبك لتتناوله، وأنت تستمتع بمشاهدة برنامجك التلفزيونيّ المفضَّل، ممدّدًا على كرسيّك الطويل المريح.

كنا نكبر بمرور السنوات، وتكبر معنا مداركنا. فصرنا نستوعب ما نسمع بصورة أفضل، ونحلِّل ما نرى من مظاهر وأحداث بصورةٍ أعمق، ونفهم. واستمرت الأخبار تصلنا عن وفرة الإنتاج وكثرة الطعام في جزيرة الرشاقة. سمعنا أنّ حكومتها تلقي سنويًّا بآلاف الأطنان من القمح والرز في البحر، وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين. وكان التصحُّر آنذاك يحاصر قريتنا، والجفاف يمتصّ النسغ من جذور نباتاتنا وأغصانها، فيحيلها هشيمًا تذروه الرياح. ويجوع الفقراء.

وأخذنا نشاهد أثر الرفاهيّة والترف على أهالي جزيرة الرشاقة الذين يفدون إلى بلدتنا. فقد أخذت أجسامهم تزداد طولاً وعرضًا وضخامةً وقوة. لا بُدَّ أنّهم يأكلون اللحم بكمياتٍ هائلةٍ، فتنمو عضلاتهم، وتمتلئ كروشهم، وتتضخّم أردافهم. وراحت حافلاتهم التي تقلّهم إلى بلدتنا توسِّع من مقاسات مقاعدها لتتَّسع لهم. وصرنا نراهم وقد أمسوا أقرب إلى الجاموس منهم إلى الأشخاص الطبيعيِّين، بسبب انتفاخ وجوههم وبطونهم، وترهُّل صدورهم، وتضخُّم أطرافهم. ولم نعد نسمّي جزيرتهم "جزيرة الرشاقة".

وبتضخّم أحجام الناس طولاً وعرضًا وثخنًا، تغيَّرتْ مقاسات الأشياء في الجزيرة. فأصبحت شركات الأثاث تصنع أسِرّةً أكبر حجمًا وأصلب عودًا، ومقاعدَ أوسع وأقدر على الاحتمال. وبعد أن كانت في الجزيرة بضعة محلات متخصِّصة بالملابس الكبيرة الأحجام، أصبحت هذه المحلات هي المعتادة. وأخذ البناؤون يوسِّعون الأبواب ومساحات الغرف والممرّات والأدراج في العمارات.

وتضاءل وصول السيّاح من الجزيرة إلى بلدتنا. وسمعنا أنهم صاروا أبطأ حركة، وأعسر تنقلاً، بسبب ثقل أجسامهم، وأنهم صاروا يفضِّلون البقاء في منازلهم وتناول أكلاتهم الشهيّة. ولعلّهم لا يجدون ما يكفيهم من الطعام إذا خرجوا من جزيرتهم. بل أكثر من ذلك، تناهى إلى أسماعنا أنّ كثيرًا من أبناء الجزيرة يفضِّلون عدم الذهاب إلى العمل من أجل البقاء في بيوتهم ومواصلة التهام الطعام، قانعين بما يحصلون عليه من راتب الضمان الاجتماعيّ الجيِّد المخصَّص للعاطلين عن العمل. لقد أدمنوا على تناول الطعام حتّى صارت عادة الأكل جزءًا من طبيعتهم.

وأخذنا نسمع أخبارًا يصعب تصديقها. سمعنا، مثلاً، أنّ الشرطة في الجزيرة تضطر بين آونة وأخرى إلى خلع باب إحدى الغرف وتوسيعه أو إزالة السقف، لمساعدة رجل تعذّر عليه الخروج من الباب بعد أن أمضى شهورًا في مسكنه وهو يأكل ويأكل. وتواترت الأخبار عن مثل هذه الحالات حتّى أصبح الأمر لا يثير أيّة غرابة في الجزيرة. ولم تتوقّف نجدة المحاصرين (وهو المصطلح الذي أُطلق على الذين لا يستطيعون الخروج من مساكنهم من فرط السمنة) إلا بعد أن تضاءل عدد أفراد الشرطة الذين يمكنهم الدخول من الأبواب.

وتكاثر غياب العمّال عن مصانعهم، وازداد تغيُّب الموظفين عن مكاتبهم، ولجأت الإدارات إلى تمديد فترة تناول وجبة الغداء إلى ساعتيْن وثلاث ساعات بدلاً من الساعة الوحيدة المقرَّرة سابقًا، ترغيبًا للناس في العمل. واتّخذت معظم الشركات إجراءات تشجيعيّة متنوِّعة مثل زيادة فترات تناول القهوة أثناء العمل، فكلّ ساعة عمل تعقبها ساعة استراحة لتناول القهوة. ولم تعُد كلمة القهوة في الجزيرة تعني ذلك السائل المعروف، وإنّما جميع ما يرافقه من حلويات ومعجَّنات ومكسّرات ومقليّات ومشويّات، إلخ. وأصبح العمّال يأكلون ويأكلون ولا يعملون.

وبالرغم من جميع تلك المُغريات انخفض الإقبال على العمل، واضطر كثير من المؤسَّسات والمصانع إلى تقليل الإنتاج، وبعضها أغلق عددًا من الأقسام أو أوقف طائفةً من الخدمات، وبعضها الآخر أوصد أبوابه. ولم تجِد المنازل، التي هي في حاجة إلى ترميم، مَن يرمَّمها، ولا الآلاتُ المعطوبة مَن يُصلِحها. وتوقَّفتْ آلاف السيّارات عن السير في الشوارع، لأنّ أبوابها الضيقة لا تسمح بدخول أبناء الجزيرة فيها. وسرى الخراب في جميع أنحاء الجزيرة كما يسري

الجرب في البدن، حتّى تصوّرنا أنها ستمسي بمرور الزمن شبيهة بأطلال تلك المدينة البابليّة القابعة بالقرب من بلدتنا.*

***

قصة قصيرة

علي القاسمي

..........................

* من المجموعة القصصية:

علي القاسمي. أوان الرحيل ، ط 5(الدار البيضاء: دار الثقافة ، 2019).

وكان الأديب العراقي الشاعر الناقد الروائي الدكتور محمد صابر عبيد قد خصَّ هذه المجموعة بكتاب نقدي كامل:

ـ محمد صابر عبيد. حركية العلامة القصصية، جماليات السرد والتشكيل، ط2 ( بيروت: المؤسسة الحديثة للكتاب ، 2014).

والكتابان متوافران في موقع " أصدقاء الدكتور علي القاسمي" على الشابكة.

* للاطلاع على دراسة الأستاذ الناقد حسين بوخرطة على قصة د. علي القاسمي:

الحسين بوخرطة: تخمة شمالية ومصير عربي

 

    تعليقات (25)

    تحية طيبة لك أخي العزيز الدكتور علي القاسمي،
    جزيرة عجيبة بالفعل ، كيف انقلب وضعها من حال إلى حال ،من خلالها يدرك القارئ مغبة الإفراط في الأكل ،و لعل السعرات الحرارية التي يضمنونها أكلهم فعلت فعلها ،و قديما قيل"البطنة تُذهب الفطنة".
    قصة رائعة بحبكتها و بسلاسة سردها كعادتك أخي علي في كل قصصك التي تبدعها أو التي تترجمها.
    أنا سعيد بالتعرف عليك عن قرب ،و أكثر ما تكون سعادتي عندما أقرأ نصا لك مثل هذه الخريدة أعلاه.
    تسلم أخي العزيز.
    أخوك:مصطفى معروفي

    أخي العزيز الأديب الناقد الشاعر المتألق الأستاذ مصطفى المعروفي حفظه الله ورعاه،
    أشكرك على كلمات التشجيع الكريمة ألتى أمطرتَ بها قصتي القصيرة فاينعت زهواً.
    كنتُ قد قرأتُ كتاباً عن تطور الحضارة في إحدى البلدان بفضل فتوة أهلها ونشاطهم، ثم انحطاطها بسبب تعودهم على الرفاهية والخمول، كما حصل في الأندلس وبغداد العباسيين. فكتبتُ هذه القصة.
    تمنياتي الطيبة لك بالصحة والسعادة، وموصول الإبداع والإنتاج.
    محبكم: علي القاسمي

    الاديب العلامة
    هذا الفن السردي الخلاق والمتألق بتقنياته الفنية والفكرية في الصياغة . في طرحها باسلوب سردي جذاب ومشوق , وبعقلية طفل واعي وناضج , في براءة الطرح السليم في سرد الحدث أو الاحداث بطريقة مدهشة . لانها تناولت أهم الركائز الاساسية , والقضايا الحساسة العالقة في المجتمع الحديث . في الفرق الهائل بين المجتمع المتخلف عن التطور , والمجتمع البالغ التطور في عقليته في العلم المتطور وتقنيات التكنولوجيا الحديثة الى اقصى حاتها أو اقصى مراحلها المتطورة , فالمجتمع الاول مجتمع البداوة والتخلف في التطور , يكون عرضة للسرقة والنهب في الاستحواذ على خيراته ونهبها , او يكون عرضة للاحتلال والاستعمار . مثل حالة العراق , ترك بالبناء الاجتماعي والتطور في البنية التحتية ونماء العقلية المسؤولة والواعية , فترك البلاد في حالة الفقر والتخلف بدون اصلاح وبناء , بذلك اصبح النفط وموارده عرضة للاستحواذ والنهب , كما هو الحال عرضة الاثار الحضارية السومرية والبابلية وغير من حضارات وادي الرافدين عرضة لسرقة والنهب , تحت غطاء السياحة مع العلم لاتوجد شروط للبنية السياحية في ادنى شروطها , التي من شأنها تجذب السياحة والسواح . وتكالب على العراق الجنس الاشقر الرشيق في نهب ثروات العراق بالاستعمار أو الاحتلال , سواء في سرقة النفط أو سرقة الاثار العظيمة لتاريخ العراق الحضاري , ويعود هذا الاحتلال والسرقة , الى العقلية المتخلفة في ادارة شؤون البلاد والناس . وظل العراق حائط ( انصيص ) للغزو والاحتلال لسرقة كنوز العراق المختلفة والمتنوعة . هذه السلبية المفرطة في العقلية التي لاتخدم الشعب وتصون خيراته من طمع الطامعين , وبالمقابل الرديف الثاني . المجتمع الصناعي الهائل في تطوره وتقنياته الفائقة , والايغال بالتطور الهائل يقود الى الترهل والتضخم في مردوداته السلبية للمجتمع , الافراط بالتضخم يخلق عقلية استلاكية غير منتجة . اذ يتحول المجتمع الى عقلية استلاكية صرفة . اي يصبح الانسان مستهلك غير منتج , مثل البقرة الضخمة تلهم بشراهة مفرطة , لكنها لا تعطي أو تنتج الحليب . تصبح كائن مفرط بالسمنة , هيكل ضخم عاجز ان يقدم شيئاً سوى شهوانية الطعام , مثل الجراد الوحشي ينهب حقول البيادر , ويتركها اشواك لا نفع بها . ان الافراط المجنون تتحول الرشاقة الى ترهل ضخم بشكل جنوني في ضخامة الجسم والسمنة المفرطة , اي ان الدلالة الفكرية في الافراط والتضخم , يخلق حالات عكسية , مثل الافراط بالاحتلال , الافراط في الظلم والحرمان والاهمال , يؤجج النفوس بالتذمر والتمرد . كما في العقلية الغربية الافراط بالتطور التكنولوجي وتقنياته الهائلة , يخلق عقلية استهلاكية صرفة غير منتجة . وبالتالي تتحول رشاقته الى سمنة مفرطة. يعني بدلالة آخرى بدون سياسية ترشيدية , بدون عقلية فكرية ناضجة للابداع والانتاج البشري . تؤدي الى ذبول وضعف قوة المجتمع وقدراته على تلبية الحاجات الاساسية , سوى التضخم والترهل المفرط. ان غياب انتاجية العقل الانساني وابداعاته وجهده السليم يخلق مجتمع بالغ في الاستلاكية وهذا مرض خطير وباءه يؤدي الى التحطم والهلاك . يتحول المجتمع الى حيوان شره بالنهش الطعام ( وجزيرة الرشاقة هي جزيرة الحرِّيَّة كذلك. وكلُّ واحدٍ حرٌّ في أن يأكل ما يشاء، ومتى ما يشاء، وحيثما يشاء، وكيفما يشاء. يتناول طعامه واقفًا، أو جالسًا، أو ماشيًا؛ في المطعم، أو المنزل، أو المدرسة أو المعمل، أو في السيّارة.) .
    وبراعة الاديب العلامة , يطرح هذين الشلين أو النمطين . بأنهما لا يسعيان الى تقويم وترشيد المجتمع على اسس سليمة أو على اسس انتاجية , لا على اسس استلاكية , ليس غاية حياة الانسان هذين الشكلين السيئين . اللذين يودين الى قتل روح المجتمع بالعطاء والانتاج .
    سرد ملهم اختصر اعقد الاشياء بأسلوب بسيط ومشوق والساد هذا الطفل بعقله الكبير الناضج في طرح المتن السردي . في براعة خلفيته أو ركيزته الفكرية المتينة . في قضايا شؤون الحياة الجديدة وقضاياها في التطور أو العكس .
    ودمت بالف خير وصحة اخي العزيز والكبير

    صديقي العزيز الناقد المفكر المتألق الأستاذ جمعة عبد الله حفظه الله ورعاه،
    أشكرك على تكرُّمك بمقاربة قصتي القصيرة مقاربةً تقوم على التقنيات النقدية الرصينة في تحليل الخطاب، للوقوف على جوهر فحواه وحقيقة مغزاه.

    فالحضارات يقوم بتشييدها جيل مسلَّح بالقيم الرفيعة، ومقبل على اكتساب المعرفة، ومؤمن بمعطيات العلم ، ولكن انحطاها وتدهورها يجري على يد جيل يبالغ في الترف وملذات الحياة والإغراق في الماديات.
    وكنتَ على حق في أن القصة مثَّلت للجيل الباني بالإقبال على التعلّم والابتكار والاختراع ، ومثّلت للجيل الهادم بالإفراط في الاستهلاك والأكل والكسل.

    تمياتي لك ـ أخي العزيز ـ بموفور الصحة والخير والهناء، وموصول النشاط والإبداع والعطاء.
    محبكم: علي القاسمي

    في هذه القصة البارعة نقد ساخر ونادب في ذات الوقت لحضارة ابتدأت وهي واثقة من نفسها ومن خطوط تطورها ومساراتها ولكن غير عارفة أو مستشرفة أو آبهة بما سيحصل جراء هذا التطور ذي البعد الواحد من تهالك على محسوسات من طعام وشراب مردَّه الترف والبذخ والبطر حتى كأن المدنية ( جزيرة الرشاقة ) قد أدت رسالتهاعلى أكمل وجه وذلك بجعل الإنسان جسمانياً أشبه بالفيل أي ( تفييل ) البشر !!
    وهم لو بقوا على ما كانوا عليه من فضول علمي في البحث عن خبايا التأريخ ونشوء الأمم والحضارات لاستبشرت الأجيال القادمة خيراً أضف إلى ذلك هناك نقد للحكام والمؤسسات العربية لعدم إدراكها للكنوز التي تحتويها أرضهم بهي على العكس تعتبرها خرائب وأطلالاً لا منافذ ونوافذ لفهم الإنسان وكشف تطوره وبالنتيجة معرفة أسرار العالم ـــــــــ
    أجمل سلام للأستاذ الأديب المرموق علي القاسمي

    تصويب
    ــــــــــ
    أردتُ :
    فهي على العكس تعتبرها خرائب وأطلالاً

    شاعري الأثير أخي العزيز الأستاذ سامي العامري حفظه الله ورعاه.
    أشكرك جزيل الشكر على حرصك الكريم على تشجيعي عن طريق إضفاء كلمات الثناء الكريمة على قصصي.

    وكما تعلم، فإن كتابة القصة مثل بقية أنواع الإبداع، ينطلق من أرض الواقع ثم يحلق في سماء الخيال. ويحصل أحياناً، إذا كان المبدع محظوظاً، تأخذ القصيدة أو القصة بكتابة نفسها ويفقد الأديب التحكّم في المسار والنتائج. وهذه القصة القصيرة هي من هذا النوع.

    أطيب التمنيات لك بالصحة والسعادة وكتابة الشعر المستمرة.
    أخوك: علي القاسمي

    قراءة تأويلية للقصة القصيرة "جزيرة الرشاقة" للدكتور علي القاسمي

    إن قراءة هذه القصة الشيقة بتمعن أبرزت لي مجددا نجومية الكاتب الدكتور العلامة علي القاسمي في تعاطيه التقدمي والحداثي مع المواضيع والإشكاليات التي عرفتها وتعرفها الإنسانية في العصر الحديث مستحضرا تطور مسارات تواريخ حضارات عريقة تصارعت وتنافست مع مرور العصور والأزمنة. بكل موضوعية، كلما زاد تعمق القارئ في تأمله وتفكيره في الثيمات التي يتناولها في كل قصة على حدة، يتضح له أن الكاتب سما بجدارة واستحقاق إلى مصاف الرواد عالميا في سماء الإبداع القصصي، ليحتل موقع نموذج عالم مناوئ للتسلط السياسي والثقافي الوائد لحرية الإبداع والتفكير التفوق الذاتي والوطني والحضاري. اختار بحرية تامة وطنا ثانيا، المغرب، ليتحول ترابه بالنسبة له، بكرم ضيافته وطيبوبة شعبه وخصوصيته السياسية والثقافية والفكرية، إلى فضاء للإنتاج الأدبي والفكري الزاخر بالرسائل والعبر.

    الملتهم للقصة موضوع القراءة "جزيرة الرشاقة" لا يمكن أن لا تخالج ضالته الأدبية والحكائية والوجودية خصوصيتها الإبداعية وأبعادها التاريخية الحديثة التي تخص الماضي القريب والحاضر والمستقبل، وعمقها التربوي واللغوي والنفسي والفلسفي والتنموي، وجمالها الأسلوبي والتصويري والتوثيقي. لقد اختار الكاتب العراق كنموذج بلد عربي أو جنوبي مكانا لتوالي أحداث القصة، طامحا بلا شك وصف وتحليل وتوقع العلاقات ما بين الشمال والجنوب عبر الأزمنة الحديثة ومآلها المستقبلي. وهذا الأمر ليس بالجديد عن القاسمي. إبداعه الأدبي تجاوز عتبة الرقي في مسار إنتاج غزير، منح لانشغالاته اللغوية المجمعية والمعجمية، التي جعلت منه رائدا من رواد صناعة المعجم التاريخي العربي، مكانة بارزة إلى جانب نفر من المبدعين في الأدب والفكر والفلسفة التواقين لإتمام معالم مشروع نهضوي عربي بأبعاده النظرية والتطبيقية، وبمجالاته التربوية والتعليمية والثقافية والفكرية والاقتصادية والعلمية.

    أبعاد القصة تنفض الغبار على موضوع شديد الحساسية يتعلق بضعف ثقافة حفظ التراث وعلوم الآثار عربيا، وما يرتبط بذلك من ثيمات كمقومات المواطنة والصراع ما بين الشرق والغرب، مركزا على حاستي البصر والذوق في التصوير والوصف. لقد مزجهما بإتقان لصناعة خليط من التصورات السردية واصفا حقيقة ماضي وحاضر ومستقبل علاقة الشرق والغرب بأسلوب ساخر، قدم من خلاله لوحة تعبيرية لتأخر الشعوب المشرقية من جهة، وأهداف الوافدين الجيواستراتيجية (الغرب) من جهة ثانية. لقد تعمد استعمال ضمير جمع المتكلمين للتعبير كون القضية حساسة وشائكة تتعلق بمصائر شعوب مختلفة حضاريا وتفاعلاتهم التاريخية وتباين مستويات نهضتهم وتنميتهم وتطورهم.

    لقد محور قصته، حسب تأويلي، وجعل أحداثها تدور حول حقيقة لا يمكن لأحد نكرانها. لقد تخلت دول صانعة عصر الأنوار عن نعومة إيديولوجيته التي كان أساسها التحرر وضمان حقوق الإنسان الكونية، مفضلة خيار أو نزعة الغطرسة التي تجيد، تارة في الخفاء وأخرى في العلن، التعبير العنيف، وممارسة التطاول، والتحكم، والتسلط، وتيسير عمليات استغلال ثروات الشعوب العربية، ليتوج المسار برمته بحدوث هوة بين الشمال والجنوب، يتوسع مداها مع مرور الساعات والأيام والسنوات والعقود.

    الوصول إلى مرحلة الإشباع غربا، التي توجت مسار تطبيق إيديولوجية الشمولية والعولمة، أحدثت انفجارا إعلاميا حول تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والسلوكية، الواحدة تلو الأخرى. تم فرض حرية حركية الرأسمال والسلع والخدمات بسلط مؤسساتية كونية (مجلس الأمن، المنظمة العالمية للتجارة،.....) مباشرة بعد نفاذ سنوات أربعة عقود من الاستقلال تقريبا بالنسبة للدول العربية ودول الجنوب، السنوات التي أعقبت فترة استنزاف استغلالي استمرت تحت غطرسة حركات امبريالية واستعمارية دامت تقريبا نفس معدل المدة.

    توجت نهاية القرن العشرين بمستجدات سياسية جديدة فرضت الاستسلام لفترة توقف وتفكير في موضوع البحث عن مقومات حكامة دولية في سياق زمني استثنائي تمت تسميته بمرحلة ما بعد الحداثة. هاجرت منذ بداية القرن العشرين السيولة وقيمة الخيرات الترابية الطبيعية إلى الشمال، أي إلى جزيرة الرشاقة كما سماها القاسمي "كنّا نحن الأطفال نسمّيها "جزيرة الرشاقة". وكان بعضنا يتقعَّر في كلامه فينعتها بـ "جزيرة الرشاقة والأناقة". أمّا الكبار فكانوا يلقّبونها بالعالم الحديث".

    تم بعد ذلك إلغاء الحواجز الجمركية، لتنهج الدول الأكثر تقدما في العالم سياسة تشجيع الطلب وتيسير منح القروض، ليترتب عن ذلك تكيفا للعرض مع التزايد الصاروخي للطلب، وتوسيعا للقدرة الإنتاجية للوحدات الصناعية المختلفة. أنهكت أجور الطبقة النشيطة كونيا بتفاقم القروض الاستهلاكية، وتحولت مستحقات البنوك والمؤسسات النقدية والمالية إلى قروض سامة. تقهقر الطلب إلى أدنى مستوياته، وعطل استخدام أنصاف عدد آلات الوحدات الإنتاجية، وسرح الألوف من العمال والعاملات، ليعم توالي حدوث الأزمات المالية. إنها الوضعية التي صور الكاتب تجليات أحداثها بوصف دقيق ساخر للتحولات المباغتة التي طرأت وتطرأ على سلوك وهيئة الإنسان الغربي: ضخامة الجسم والكسل والاكتفاء بمنح التغطيات الاجتماعية والصحية. بالطبع، الدول المتقدمة تكون دائما في بحث عن تعويض خسائرها بمختلف الوسائل، والحفاظ على ريادتها وترتيبها ضمن لائحة الدول القوية.

    في بداية القصة أبرز الكاتب التفوق الحضاري المبكر لدول وشعوب الشمال الذي استفاد تاريخيا من ازدهار الحضارة العربية في كل المجالات إبان القرون العشر الأولى الهجرية. إنه التفوق الذي رفع من حدة الوعي الشعبي غربا بضرورة الحاجة إلى إعادة تصفح أحداث تاريخ الحضارات والبحث في التراث والمآثر لتحقيق ديمومة الارتقاء الحضاري كونيا.

    الوافدون في القصة مرتبطين بعلم التراث والمآثر، أداموا استمرارية زيارتهم الاستشراقية للدول العربية، لترتفع وثيرة عمليات كشوفاتهم وبحوثهم العلمية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. ازدهرت علومهم الإثنولوجية، والأنتروبولوجية، والنفسية بشقيها الفردي والاجتماعي، والتكنولوجية، وتلك الخاصة بالتراث والآثار.

    لقد عزموا على السير قدما في هذا الاتجاه في زمن مسار مواز تميز بتفاقم ضعف أو إضعاف أو كساد الثقافة الشعبية والنخبوية لدى الشعوب العربية في كل المجالات تقريبا "كنا نسمّيها "جزيرة الرشاقة" لأنّ بناتها وأبناءها الذين راحوا يؤمّون بلدتنا الصغيرة، كانوا على قدرٍ مدهشٍ من رشاقة القوام، وأناقة الهندام، والنشاط، وخفّة الحركة. قاماتهم طويلة، ولمعظمهم شَعرٌ أشقر، وعيونٌ زرق أو خضر، وملامحُ وسيمة، ووجوهٌ مشرقة، وابتساماتهم أخّاذة".

    أبرز السارد الصفة العلمية للزيارات المسترسلة من خلال تعجبه من وتيرة زيارة الوفود لبلدته بالرغم من افتقارها لأي خاصية سياحية جذابة، مبرزا في نفس الوقت بؤس الحياة الترابية المنغمسة في التقليدانية: "كانوا يفدون إلى بلدتنا سُيّاحًا من نوعٍ خاصّ، فلم يكُن فيها ما يسلّيهم. فليس ثمّة دور للهو، ولا مسارح، ولا قاعات للسينما، ولا دور للقمار، ولا منتجعات سياحيّة مزوَّدة بملاعب رياضيّة أو مسابح أولمبيّة، ولا أسواق عامرة بأصناف البضائع اليسيرة الأثمان. لم يكن في بلدتنا ما يغريهم بالقدوم إليها. فهي مجرَّد مجموعة من الدور البائسة ذات الطابق الواحد، المبنيَّة من الطين أو الآجر، المسقَّفة بالجَرِيّد (سعف النخيل)، يتوسّطها مسجدٌ صغيرٌ، وبنايتان متواضعتان لرجال السلطة. ومع ذلك كانوا يأتون إلينا باستمرار جماعاتٍ ووحدانًا ... يتملّون جنباتها، وهم يسترقون النظر إلى كُتب يحملونها بأيديهم، أو يستمعون إلى دليلٍ يرافقهم ويزوِّدهم بالشروح".

    وهو يشير إلى مركز اهتمام الوافدين، تربص الفرصة وجلا حقيقة التخلف الذي كان يكتنف ويفتك واقع الشعوب العربية (العراق)، بحيث تم اعتبار آثار مدينة بابل مجرد أطلال وخرائب "كان مركز الجذب الوحيد لهم تلالٌ تقع بالقرب من بلدتنا، وتضمُّ مدينة بابليّة قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، لم يبقَ منها إلا أطلالٌ وخرائب. إنّها بالأحرى آثار مدينة مندثرة. مجرَّد شوارعٍ مهجورة، وقاعاتٍ بلا سقوف، وأعمدةٍ رخاميّةٍ متصدِّعة، وجدرانٍ متهدِّمةٍ نُحتت عليها كائناتٌ غريبةُ الأشكال، بعضها برؤوسٍ حيوانيّةٍ وأجسامٍ آدميّة، وبعضها الآخر برؤوسٍ بشريّةٍ وأجسادٍ حيوانيّةٍ مُجنَّحة. وكانت ترتفع في أحد ميادين المدينة المُكفَّنة بالترابِ، مَسلَّةٌ حجريّةٌ، عليها كتاباتٌ مسماريّةٌ ونقوشٌ وزخارف. وكان في مدخل المدينة، تمثالٌ ضخمٌ من حجرٍ صلدٍ لأسدٍ مرعبِ المنظر، يربض على صدرِ امرأةٍ جميلةٍ مستلقيةٍ على ظهرها".

    حالة الوافدين في البداية قبل اشتداد الطمع والاستنزاف والسطو، أي زمن الأنوار والإعلان الرسمي كونيا عن القيم الإنسانية ونعومة السياسات الوطنية والدولية، كانت تطغى عليها الرشاقة والجاذبية وجمالية في المشي والسلوك "كان بعض أولئك السيّاح ذوي الأجسام الرشيقة والوجوه المشرقة، يبتسمون لنا نحن الأطفال عندما نتجمّع حولهم ونحملق فيهم، ويقولون لنا كلامًا بِلغتهم لا نفهمه، فنحسبه تحيَّة مودَّة، خاصَّةً أن بعضهم كان يشفع ما يقول، بقطعة حلوى يعطينا إياها".

    أنم الكاتب بطريقة غير مباشرة كيف ازداد تقدمهم الاقتصادي ورفاهية عيشهم تطورا إبان استعمار الدول العربية، واستمر بعد استقلالها بوتيرة أسرع (زمن الحداثة)، وتفاقمت الهوة التنموية بشكل متفاوت بين الدول الإقليمية، وبرزت الحاجة إلى استنهاض الهمم بحثا عن فرص النماء والنهضة عربيا. لقد حقق الغرب شروط المتعة في الأكل والجنس والترفيه، وبالغ في ذلك كثيرا "سمعنا أنّ بلادهم غنيّة عامرة بالمصانع المُنتِجة والمزارع المُثمِرة، وأنّ الناس هناك يمتلكون الدور الجميلة والسيّارات الفارهة التي تفتح بوابات المرائب بأضوائها، وأنّهم يأتون إلى بلادنا بالطائرات التي لم نرَها نحن إلا مُحلِّقة في السماء، أو بالبواخر الفخمة. وكلّ باخرةٍ تضمُّ مطاعمَ راقية، وملاعب، ومسابح، ومراقص ليليّة يُمضي فيها الركاب سهراتهم، راقصين على أنغام الموسيقى التي تعزفها فرق موسيقيّة، حتّى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، ثمَّ يأوون إلى مقصوراتهم المجهَّزة بأَسِرّةٍ مريحةٍ، وفرشٍ وثيرةٍ، وحماماتٍ نظيفة ... وأغرقت القصص، التي كنّا نسمعها عن جزيرة الرشاقة، في الخيال عندما أخذت تتناول أخبار المخترعات والمكتشفات المذهلة، مخترعات لم نسمع بها من قبل: تلفزيون يأتيك بصور الناس وأخبارهم من أماكنَ نائيةٍ، كما كان يفعل جنُّ سليمان، وإنسانٌ آليٌّ يحلُّ محلَ العمّال في المهمّات الشاقَّة، ومركباتٌ فضائيّةٌ تسبح في الكون كالكواكب قاصدة القمر والمريخ، وعقولٌ إلكترونيَّةٌ تأتي بالعَجب العُجاب ... وأعجب ما في جزيرة الرشاقة مطاعمها الفاخرة الكثيرة، المنتشرة انتشار الفُطْر في البادية أيام الربيع ... واتّبعت مطاعمٌ أُخرى طريقةً مختلفةً؛ فعندما تلجها، تجد مائدةً عامرةً بأصناف الطعام وألوان المآكل، فتختار منها ما تشاء وتملأ صحنك بنفسك".

    عرج القاسمي كذلك، دائما على لسان السارد، على حقيقة تحول بلدانهم إلى أقطاب جاذبية لشباب العروبة والإسلام، رافضين أوضاعهم المعيشية، متحدين الضوابط الثقافية والدينية التي تقابل مفهومي العرب/العجم، وطامحين في غد معيشي أفضل "وعلمنا ذات يوم أنّ أحد أبناء البلدة سافر إلى جزيرة الرشاقة للدراسة في إحدى جامعاتها الراقية. وتهامس بعضنا باستنكار:" إنّه قرر الإقامة هناك ولن يعود!" وتساءل بعضنا الآخر: " وكيف يرضى أهله بذلك ؟!" وجاء الجواب: " إنّه يبعث إليهم بالمال والهدايا، وقد ظهرت عليهم أمارات الثراء." وقيل لنا إنّه ليس الوحيد الذي يهاجر إلى جزيرة الرشاقة، فهناك مثله الآلاف من جميع أنحاء العالم، ومنهم مَن يواتيه الحظّ، فيصبح من أصحاب الملايين".

    البحث المتواصل على الرفع من مستوى المتعة في العيش، يقول الحاكي، جعل الغربيون يستثمرون بقوة في علوم الطبخ والموضة والعلوم النفسية والتربوية، مقارنا ذلك في نفس الآن مع الواقع العربي الميال للجمود، والمعاند بضعفه المعرفي للتكيف حتى مع التطورات الإيجابية ملتصقا التصاقا شديدا بتقاليده وعاداته، معتبرا إياها منافذ للحماية والانغلاق "الطهاة والندل والسقاة هناك يتخرَّجون في الجامعات ... ولكن أخبرني أخي الكبير بوجود كتب متخصِّصة بإعداد الأطباق المختلفة... حتّى ذلك الحين لم نكُن رأينا في بلدتنا من الكُتُب إلا كُتُب القراءة والحساب المدرسيّة".

    لم يقف القاسمي عند هذا الحد، بل أدخل قصته منعطفا جديدا. إنها نقطة تحول في الوضع الغربي في اتجاه انحرافي، جعلت الشعوب المعنية تسلك طريقا في اتجاه الأزمات، التي أبعدتها وتبعدها بالتدريج عن القيم الإنسانية الحضارية، وانزلقت الحرية إلى خارج قيم النفعية المشروعة، لتشتد المبالغة في الاستغلال و البذخ "يبدو أن أهالي جزيرة الرشاقة اكتسبوا ولعًا خاصًّا بالأكل، لوفرته وجودته ومذاقه اللذيذ؛ فكثر الإقبال على المطاعم، حتّى صارت تفتح أبوابها أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، وهي تقدِّم لك ما تشتهي نفسك من وجبات دون التقيّد بأوقاتٍ معيَّنة. فتستطيع أن تطلب من النادل أن يأتيك بوجبة عشاءٍ غنيّة باللحم في أوّل الصباح، وتطلب وجبة الفطور في المساء، وتجمع بين وجبتين وقت الغداء، فأنتَ حرٌّ في اختياراتك. وجزيرة الرشاقة هي جزيرة الحرِّيَّة كذلك. وكلُّ واحدٍ حرٌّ في أن يأكل ما يشاء، ومتى ما يشاء، وحيثما يشاء، وكيفما يشاء. يتناول طعامه واقفًا، أو جالسًا، أو ماشيًا؛ في المطعم، أو المنزل، أو المدرسة أو المعمل".

    الإضرار بالبيئة كان واضحا كذلك في القصة عندما أثار السارد ظاهرة المغالاة في الثقافة الاستهلاكية بوسائلها ذات الطابع المؤقت وبحجم نفاياتها الضارة التي تستلزم إعادة تدويرها وتصنيعها الكلي "المطاعم في جزيرة الرشاقة مجهَّزة بما يلزم لتلبية رغباتك. فقد ابتكروا صينيّات من الورق المقوّى يُحمَل فيها الطعام، وأواني وملاعق وشوكات بلاستيكيّة تُرمى بعد استعمالها مَرَّةً واحدةً، وأكوابًا مُغلقةً تخترق أغطيتها أنابيب ورقية تمتص بها دون أن يندلق السائل منها وأنت تشرب وتسوق سيّارتكَ في الوقت نفسه. وكان يصعب علينا تصوُّر جميع تلك الأدوات لأنّنا كنّا نأكل بأيدينا... فرُكِّبتْ أدواتٌ إضافيّةٌ في السيّارة أمام السائق، حواملُ معدنيّةٌ تُثبَّتْ فيها أكواب الشراب وصحون الطعام، وهكذا لا ينقطع صاحب السيّارة عن الأكل والشراب وهو يقود سيّارته".

    فاقم البذخ والغنى من حدة كسل الشعوب الغربية، لتنبعث بين تارة وأخرى سلوكات انحرافية جديدة تساعدها محفزات واهية للتجدر في الممارسة اليومية للأفراد والجماعات بسهولة كبرى "أمّا الذين يفضّلون البقاء في منازلهم لمشاهدة برامج التلفزيون أو مزاولة ألعاب الحاسوب، ولا يرغبون في تكليف أنفسهم مشقَّة الذهاب إلى المطعم، فما عليهم إلا مهاتفة مطعمهم المفضَّل، فتصلهم أكلاتُهم إلى منازلهم خلال دقائق معدودات...سيوضع الطعام إلى جانبك لتتناوله، وأنت تستمتع بمشاهدة برنامجك التلفزيونيّ المفضَّل، ممدّدًا على كرسيّك الطويل المريح".

    أحدث الحاكي وقفة في حبكته السردية بارزا حدوث منعطف في علاقة الشمال بالجنوب. موازاة مع هذا الانحراف الواضح، طفت إلى السطح مؤشرات ارتفاع الوعي الشعبي والنخبوي لدى الشعوب العربية، وعي مغمور بحرص الغرب الشديد على الحفاظ على تفوقه ودوام سيطرته الحضارية، مانعا انتقال العلوم والتكنولوجيا إلى الجنوب، ومن ثمة التنمية الذاتية لشعوبها "كنا نكبر بمرور السنوات، وتكبر معنا مداركنا. فصرنا نستوعب ما نسمع بصورة أفضل، ونحلِّل ما نرى من مظاهر وأحداث بصورةٍ أعمق، ونفهم. واستمرت الأخبار تصلنا عن وفرة الإنتاج وكثرة الطعام في جزيرة الرشاقة. سمعنا أنّ حكومتها تلقي سنويًّا بآلاف الأطنان من القمح والرز في البحر، وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين. وكان التصحُّر آنذاك يحاصر قريتنا، والجفاف يمتصّ النسغ من جذور نباتاتنا وأغصانها، فيحيلها هشيمًا تذروه الرياح. ويجوع الفقراء".

    ارتقى الوعي العربي إلى درجة ملامسة الانزلاق في سلوك الإنسان الغربي، والوقوف على عمق المحددات الموضوعية لتطور العلاقات ما بين العالم المتقدم والآخر النامي أو الذي لا زالت بعض دوله ترزح تحت وطأة التخلف "أخذنا نشاهد أثر الرفاهيّة والترف على أهالي جزيرة الرشاقة الذين يفدون إلى بلدتنا. فقد أخذت أجسامهم تزداد طولاً وعرضًا وضخامةً وقوة. لا بُدَّ أنّهم يأكلون اللحم بكمياتٍ هائلةٍ، فتنمو عضلاتهم، وتمتلئ كروشهم، وتتضخّم أردافهم. وراحت حافلاتهم التي تقلّهم إلى بلدتنا توسِّع من مقاسات مقاعدها لتتَّسع لهم. وصرنا نراهم وقد أمسوا أقرب إلى الجاموس منهم إلى الأشخاص الطبيعيِّين، بسبب انتفاخ وجوههم وبطونهم، وترهُّل صدورهم، وتضخُّم أطرافهم. ولم نعد نسمّي جزيرتهم "جزيرة الرشاقة".

    وبأسلوب ساخر كذلك، يمكن أن افتراض أن السارد قد فتح إمكانية حدوث انفراج إيجابي جديد في علاقات الشمال/الجنوب. فمستوى الإشباع القاتل الذي تم الحديث عنه أعلاه، وما آلت إليه أوضاع الإنسان الغربي، أبرز الحاجة الاضطرارية لدى شعوب المعسكرين إلى انبثاق منطق جديد في العلاقات الدولية على أساس مبدأ رابح/رابح "بتضخّم أحجام الناس طولاً وعرضًا وثخنًا، تغيَّرتْ مقاسات الأشياء في الجزيرة. فأصبحت شركات الأثاث تصنع أسِرّةً أكبر حجمًا وأصلب عودًا، ومقاعدَ أوسع وأقدر على الاحتمال. وبعد أن كانت في الجزيرة بضعة محلات متخصِّصة بالملابس الكبيرة الأحجام، أصبحت هذه المحلات هي المعتادة. وأخذ البناءون يوسِّعون الأبواب ومساحات الغرف والممرّات والأدراج في العمارات".

    بنفس أسلوبه الساخر الذي ازداد تشاؤما فيما تبقى من القصة، يمكن تأويل عباراته كون السارد ليس متفائلا في شأن مستقبل الحكامة الدولية، تأويل مفاده أن العالم سيعبر إلى مرحلة جديدة، مرحلة ما بعد كورونا وظواهر طبيعية جديدة محتملة، ستعزز اللاتوازن، وستوسع الهوة التنموية والتبعية للشمال. إن التخلي شيئا فشيئا عن استغلال الثروات الطاقية التقليدية (النفط والغاز) وتطور التكنولوجيات والطاقات البديلة النقية بحدة ملفتة ومبهرة، سيخلق اقتصاديات قطرية وعالمية بأسس جديدة. لقد استنفذت مرحلة الاستغلال المباشر وغير المباشر لخيرات دول الجنوب شرعية وجودها، ولم تعد الحاجة إلى تدخلات عسكرية مباشرة. تجاوزت الحروب منطقها التقليدي، لتدخل مرحلة استخدام آليات وأدوات إلكترونية جد متطورة (الجند الروبوتي). ربما الرغد في العيش سيزداد حدة، لكن هذه المرة بافتراض أن ذلك لن يتطلب عملا قارا ودائما، وسيزداد تفاقما مستوى إدمان الغربيين على الأكل والراحة وميولاتهم للكسل والبذخ "تضاءل وصول السيّاح من الجزيرة إلى بلدتنا. وسمعنا أنهم صاروا أبطأ حركة، وأعسر تنقلاً، بسبب ثقل أجسامهم، وأنهم صاروا يفضِّلون البقاء في منازلهم وتناول أكلاتهم الشهيّة. ولعلّهم لا يجدون ما يكفيهم من الطعام إذا خرجوا من جزيرتهم. بل أكثر من ذلك، تناهى إلى أسماعنا أنّ كثيرًا من أبناء الجزيرة يفضِّلون عدم الذهاب إلى العمل من أجل البقاء في بيوتهم ومواصلة التهام الطعام، قانعين بما يحصلون عليه من راتب الضمان الاجتماعيّ الجيِّد المخصَّص للعاطلين عن العمل. لقد أدمنوا على تناول الطعام حتّى صارت عادة الأكل جزءًا من طبيعتهم".

    بأسلوب أكثر سخرية، يضيف أنه يتوقع الأسوأ مستقبلا. فإيحاءاته في شأن استفحال الكسل في نفوس الغربيين، وعدم ميولهم أو قدرتهم على العمل وتفاقم لهفتهم للأكل والراحة والمتعة، ليست مجرد فرضية. إنه الواقع الملموس بمؤشرات تنم عن ذلك، الواقع الذي جعله يختم قصته بفقرتين بمضمون يثير الهلع. التطور الآلي والذكاء الصناعي المصحوب بعادات الإفراط في الأكل والراحة، سيترتب عنه إنسان غربي عاجز، سيستثمر كل ما لديه من إمكانيات الضغط للحفاظ على امتيازاته على حساب الإنسان العربي أو الجنوبي "وأخذنا نسمع أخبارًا يصعب تصديقها. سمعنا، مثلاً، أنّ الشرطة في الجزيرة تضطر بين آونة وأخرى إلى خلع باب إحدى الغرف وتوسيعه أو إزالة السقف، لمساعدة رجل تعذّر عليه الخروج من الباب بعد أن أمضى شهورًا في مسكنه وهو يأكل ويأكل. وتواترت الأخبار عن مثل هذه الحالات حتّى أصبح الأمر لا يثير أيّة غرابة في الجزيرة. ولم تتوقّف نجدة المحاصرين (وهو المصطلح الذي أُطلق على الذين لا يستطيعون الخروج من مساكنهم من فرط السمنة) إلا بعد أن تضاءل عدد أفراد الشرطة الذين يمكنهم الدخول من الأبواب ... تكاثر غياب العمّال عن مصانعهم، وازداد تغيُّب الموظفين عن مكاتبهم".

    إنه الواقع المحتمل المخيف، الذي سيتطلب جهود مؤسساتية مضنية يجب أن تبذلها الدول الغربية للعودة إلى مقومات سر الوجود الإنساني حسب طبيعته الأزلية "لجأت الإدارات إلى تمديد فترة تناول وجبة الغداء إلى ساعتيْن وثلاث ساعات بدلاً من الساعة الوحيدة المقرَّرة سابقًا، ترغيبًا للناس في العمل. واتّخذت معظم الشركات إجراءات تشجيعيّة متنوِّعة مثل زيادة فترات تناول القهوة أثناء العمل، فكلّ ساعة عمل تعقبها ساعة استراحة لتناول القهوة. ولم تعُد كلمة القهوة في الجزيرة تعني ذلك السائل المعروف، وإنّما جميع ما يرافقه من حلويات ومعجَّنات ومكسّرات ومقليّات ومشويّات، إلخ".

    أما الخاتمة النهائية للقصة، التي ركزت في مضمونها على توقع التطورات المستقبلية غربا، بقدر الميول لاعتبارها مخيبة للآمال، بقدر ما يمكن اعتبارها دقات ناقوس خطر يلتمس من خلالها الكاتب من الدول الأكثر تقدما استباق الواقع لإنقاذ الحياة أرضا، بالتفكير في مقومات عدالة كونية جديدة، وتشجيع العمل والحركة الجسمانية والعقلية وربطها بوسائل العيش المادية، وتفادي تحويل حياة الأجيال القادمة إلى أطلال لأجناس بشرية أخرى لا يعلم صفاتها إلا الله "أصبح العمّال يأكلون ويأكلون ولا يعملون. وبالرغم من جميع تلك المُغريات انخفض الإقبال على العمل، واضطر كثير من المؤسَّسات والمصانع إلى تقليل الإنتاج، وبعضها أغلق عددًا من الأقسام أو أوقف طائفةً من الخدمات، وبعضها الآخر أوصد أبوابه. ولم تجِد المنازل، التي هي في حاجة إلى ترميم، مَن يرمَّمها، ولا الآلاتُ المعطوبة مَن يُصلِحها. وتوقَّفتْ آلاف السيّارات عن السير في الشوارع، لأنّ أبوابها الضيقة لا تسمح بدخول أبناء الجزيرة فيها. وسرى الخراب في جميع أنحاء الجزيرة كما يسري الجرب في البدن، حتّى تصوّرنا أنها ستمسي بمرور الزمن شبيهة بأطلال تلك المدينة البابليّة القابعة بالقرب من بلدتنا".



    الحسين بوخرطة

    صديقي العزيز الكاتب السياسي القاص الناقد الأستاذ الحسين بوخرطة حفظه الله ورعاه،
    لقد سعدتُ بقراءة مقالتك القيمة عن هذه القصة في صحيفة المثقف الغراء، وكتبتُ شكري الفائق لك.
    وكما تعلم فإن الدول تنهار إذا تسرب الفساد إلى القائمين على تدبيرها. فالأخلاق والقيم هي أساس بقاء الدول.
    أو كما قال الشاعر أحمد شوقي :
    وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت ... فإنْ هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا.
    شكري ومودتي واحترامي.
    أخوك : علي القاسمي

    الدكتور علي القاسمي المحترم
    تحية طيبة

    قصة فائقة المعاني والدلالات , تغنينا عن قراءة قصص الحضارات!!
    دام ينبوع إبداعِكَ الدفاق.

    وداً ومحبةً ساميةً

    أستاذنا العالم الأديب الشاعر المتألق الدكتور صادق السامرائي حفظه الله ورعاه،
    أشكرك على كلمات التشجيع التي تكتفي بما قل ودلَّ دلالة فائقة، تُسعِد النفس و تشحذ الهمم.
    تمنياتي القلبية لكم بالصحة ودوام الإبداع والعطاء.
    محبكم: علي القاسمي

    1.  

    أول ما تطالع المقدمة تحس أن كاتلها أديب كبير حتى لو لم تقرأ اسمه ثم تندهش في اختيار عدم محدودية الزمان والمكان اللذين يظلان مفتوحين حتى نتابع السرد بشوق وتأمل وأجمل ما في القصة أنها غامضة وواضحة واضحة وغامضة فهي رائعة بامتياز
    قصي عسكر

    الأديب الشاعر الكبير الدكتور قصي عسكر حفظه الله ورعاه،
    أشكرك أجزل الشكر على تفضلك بالتشجيع النابع من نفسك الزكية.
    ظننتُ أن الغموض ضرورة للشعر لمنحه حياة متجددة، والآن تكرمتَ بلفت نظري إلى كونه ضرورة للأنواع الأدبية الأخرى كذلك.
    تمنياتي القلبية لك بالصحة والسعادة والإبداع.
    محبكم: علي القاسمي

    تحية إعجاب و تقدير للقاص و الأديب
    الدكتور علي القاسمي

    ان في خصوصية السرد التي يمتلكها الاستاذ القاسمي، إضافة الى وضوح اللفظ،
    تجعل القارىء يتابع بكل شغف الأحداث وكأنها واقعة تمر كشريط من حقائق تترك ندوبا هنا و هناك
    لما لها من أثر بليغ حاضرا في النفس و المشاعر.

    القصة تؤسّس لمتناقضين ثم تجمعهما !
    الإختلاف بين بيئتين متنافرتين حضاريا "جزيرة الرشاقة" و "بلدة الراوي" الفقيرة وشبه المعزولة عن كل ما هو يتّسم بالمدنية.
    النهاية كانت مفاجئة حقا حين تآكلت "مدينة الرشاقة" بسبب إهمال أهلها لأنفسهم و فرارهم، بل إدمانهم على الملذات و الشهوات
    فأصبحت كالهشيم، لا مدينة و لا رشاقة !

    شكرا من القلب على هذه التحفة الأدبية و معانيها
    استاذنا الكبير علي القاسمي

    عزيزي الأديب الشاعر المتألق الأستاذ زياد كامل السامرائي حفظه الله ورعاه،
    أنا سعيد جداً لأن قصتي أعجبتك.
    الآثار في بلادنا العربية ما تزال حية، وأبطالها يعيشون معنا: ترى، وتتكلم ، وتتفاعل معنا نحن ورثة حضاراتها. فهي كما قلتَ في بعض أشعارك:

    " تكتب الحياة بيدين من تراب" و "تقول ما ترى بلا شفتين".

    ولهذا فقد تأثرتُ بها وكتبتُ عدداً من قصصي عنها.
    أشكرك جزيل الشكر وأتمنى لك الخير والصحة والسعادة ودوام الإبداع.
    محبكم: علي القاسمي

    قصة رائعة تحتاج أكثر من وِقفة ، وأكثر من قراءة ، التأملُ في حناياها يحتاج إلى فيلسوف ومؤرخ وإنسان ...
    تحياتي لك أيّها المبدع
    أخوك المحبّ : د. حسام

    أخي العزيز الأديب الأريب الدكتور حسام الجبوري حفظه الله ورعاه،
    أشكرك جزيل الشكر على إطلالتك البهية على قصتي القصيرة، وكلماتك الثرة لتشجيعي. وأنا أعتز بوقفتك هذه وأفتخر.
    تمنياتي الطيبة لك بالخير والصحة وموصول العمل والعطاء.
    محبكم: علي القاسمي

    ان كان مصير جزيرة الرشاقة بهذا الشكل بعد إن نالها مرض الكسل فما بال بلداتنا المتهالكة ؟ ما مصيرها ؟
    الأكل عندما يتحول من حاجة الى غاية لا قيمة للإنسان حينذاك .
    أستاذنا الفاضل المبدع صاحب القلم الرشيق والعبارات الساحرة والعقل المتخم بالعلم 🌹زادك الله فضلًا وعلمًا

    عزيزتي اللسانية الأديبة الدكتورة اسمهان الموسوي حفظها الله ورعاها،
    لقد لخّصتِ نظرات الفلاسفة والأطباء في مسألة الأكل، بقولك البليغ الكريم:

    "الأكل عندما يتحول من حاجة الى غاية لا قيمة للإنسان حينذاك ".

    فأقدم مقولة في الموضوع تُنسَب إلى الفيلسوف الطبيب اليوناني إبقراط ( توفي حوالي 370 ق.م.) هي:
    "إنما نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل".
    بيدَ أن بعض الحكام يتبعون سياسة " جوّع كلبك يتبعك". وهذا ما يحصل في العراق منذ عقود طويلة ، فقد فرضوا على الشعب العراقي العظيم البطالة وحرموه من اكتساب لقمة العيش.
    تمنياتي لك بالصحة والخير والسعادة.
    علي القاسمي

    قاسَميٌّ مُتألِّقْ
    وَبِقَصٍّ مُتَدفِّقْ
    حرفُهُ بَدرٌ مُنيرٌ
    فهوَ كالنّسرِ المُحَلِّقْ
    سَردُهُ يولدُ سَرداً
    عَبقريّاً وموثّقْ
    يأسِرُ الألبابَ وَمْضاً
    عاطِراً مِنْ وَحيِ مَشْرِقْ

    صديقي العزيز الشاعر المُبهِر الدكتور أكرم جميل قنبس حفظه الله ورعاه،
    كيف أستطيع أن أشكرك؟!
    آه لو كنتُ شاعراً، لنظمتُ فيك ملحمة من لؤلؤ ومرجان، وبسطتها تحت قدميك.
    ولكن الشعرالجيد نوع من الإلهام يشبه الوحي، لا يأتي إلا أولئك النخبة من الأدباء الذين صفت نفوسهم، ورهفت قريحتهم، واتسعت ثقافتهم.
    فتقبل مني مودتي وامتناني.
    محبكم: علي القاسمي

    الاديب والروائي والمترجم الكبير الاستاذ الدكتور علي القاسمي… احلى تحية وامنيات بالعافية…كالعادة تنساب الكلمات امام المتلقّي كأنه يسمعها بصوت هاديء وعميق يغري بالانصات…السيناريو في قصص القاسمي يفاجئك ببساطته وعفويته وسلاسته وما ان تغوص في عمق الصورة ودقّة المفردة وتميّز تسلسل الاحداث حتى تدرك انك في شِباك سرد محترف اكسبته الخبرة اسلوب السهل الممتنع حد التعقيد…..وانا اغوص في سطور هذه القصة الممتعة تذكرت مقولة (( ويل ديورانت)) (( لايمكن احتلال حضارة عظيمة من قبل قوة خارجية اذا لم تدمر نفسها من الداخل)) واعتقد نحن كعرب تاكدنا من هذه الحقيقة في اكثر من حقبة ومارسنا مخرجاتها باكثر من طريقة… بالكسل مرة و بالانانية مرة وبالخيانة مرات…. جزيرة الرشاقة…عنوان جميل وقابل للتوسع في مخيلة المتلقّي … رشاقة الفكر والاسلوب والحياة والقناعات ……. القصة تكمن في قطبين متطرفين… الحضارة في سبات الجوع والفقر والكسل على اطلال حضارة قديمة والحضارة في سبات الترف الفائض والبذخ والطمع والكسل في احضان حضارة قائمة .. ومع اختلاف المسبب فانهما تشتركان باسباب الانحلال من الداخل…… دمت مبدعاً متألقاً وامنيات بالعافية.

    أخي الكريم الأديب الطبيب الشاعر المتألق الدكتور أحمد فاضل فرهود، حفظك الله ورعاك.
    سعدتُ برضاك عن قصتي القصيرة وتكرمك بتحليلها تحليلاً صائباً. فالحضارة كما ـ تفضلتَ ـ ينبغي أن تكون منيعة من الداخل ، محصنة بقيم خلقية، ومعرفة علمية، ونظام سياسي متين.
    وعندما تختل قيم المجتمع، ويغلب الفساد والرشوة والاختلاس على قادته، فإن حضارته ستنهار مثل جبل من الملح يجتاحه موج البحر العاتي. ويستطيع أي غازٍ من احتلاله والعبث بمقدراته.
    تمنياتي لك بالصحة والخير والهناء.
    محبكم: علي القاسمي

    تحية ود وتقدير لأستاذي الفاضل الدكتور علي القاسمي.
    لن أخوض في مضمون الابداع؛ فالاساتذة الأفاضل مشكورين سلطوا الضوء على جوانب مهمة منه، مما مكننا من الإستفادة أكثر..الإبداع الصادق يتسلل إلى وجدان القارىء بسلاسة وبدون استئذان، ميزته أنه يبقى صالحا لكل زمان ومكان.. وهي ميزات نجدها في كتابات استاذي الفاضل الدكتور علي القاسمي. استمتعت بالقراءة.
    احترامي وتقديري.

    1.  

    أخي العزيز التربوي الجليل الأديب الأريب الأستاذ حسين بري حفظه الله ورعاه،
    سعدت غاية السعادة بمررك الكريم على قصتي القصيرة، وأشكرك على تعليقك الحصيف عن الإبداع الصادق ووصوله بسهولة إلى المتلقي.
    ولعلك لاحظت أن معظم قصصي مستقاة من تجاربي الشخصية فتكون صادقة.
    مع العلم أن الصدق صدقان: صدق واقعي وصدق فني. والأخيرعندما يتخيل المبدع أمراً أو شخصاً فتكون لديه عاطفة قوية نحوه، فيتماهي به ومعه، ، فيصبح تعبيره عنه صادقاً، كما لوكان واقعاً.
    تمنياتي لك بالصحة والخير والعمل والعطاء.
    محبكم: علي القاسمي

    مقالات ذات صلة