البئر
علي القاسمي: البئر
نقلا عن صحيفة المثقف
بسمته العذبة تنساب إلى مقلتيها كأَلَقِ نجمةٍ في ليلة صيف، فيتسرَّب إحساسٌ لذيذٌ إلى حنايا جسدها، يحملها إلى الأعالي كنسمةٍ، كحمامةٍ، كسحابةٍ نشوى. صوته الناعم الرقيق يناديها فيتناهى إلى مُخيَّلتها أنغامُ قريتها الصغيرة البعيدة التي تمتزج فيها ألحانُ العنادل، وخريرُ الجداول، ودندنةُ ربابةٍ يداعب وترها أحدُ الرعاة العشّاق.
يحبو بحيويةٍ نحوها، فتتعلَّق عيناها بأطراف أنامله الطريَّة البضَّة. ويتراءى لها شابًا وسيمًا، طويل القامة، عالي الهمة، مسموع الكلمة، كأبيه. يخفق قلبها عند كلِّ حركةٍ من حركاته، وتتلفَّت روحها لدى كلِّ لفتةٍ من لفتاته. عيناها مشدودتان بطلعته، تبتسم الدنيا لها حين يفترُّ ثغره عن ابتسامة رضًا، أو حين يناديها بـ (ماما). وتغطّي وجهها غمامةُ همٍّ وقلق إذا ما قطَّب جبينه الصغير؛ وقبل أن يشرع في البكاء تحمله بين ذراعيها، تضمُّه إلى صدرها، تشبعه تقبيلاً وشمّاً في جميع أنحاء جسمه اللين، فتعود البسمةُ إلى عينيْه، ومعها الفرحةُ إلى قلبها.
بعد أيامٍ قليلةٍ، ستعود لأوَّلِ مرَّةٍ إلى قريتها منذ أن زُفّتْ منها عروساً قبل ثلاث سنين، وسيرافقها زوجها، وستحمل وليدها على صدرها، كَعِقد لؤلؤ ثمين. وستنهال من أهلها، عليها وعلى ابنها، كلماتُ الإعجاب وعبارات الإطراء، كما تتساقط الثمار الناضجة الشهية من أغصانها مع نسمات الربيع. سيملأ الزهو أعطافها أمام صديقات طفولتها وهنّ يرين زوجها، فهي الوحيدة من بين فتيات القرية التي تزوّجت رجلاً من وجهاء المدينة الصغيرة. وقعتْعينُه عليها، ذات يومٍ، في سوق المدينة وهي صحبة والدها، فأُعجب بملاحتها ورشاقتها، وخطبها مفضِّلاً إياها على جميع بنات المدينة. لا شكَّ أنَّ فتيات القرية غبطنها على نصيبها، إذ لم تعُدْ مضطرةً لرعي الغنم تحت أشعة الشمس المحرقة نهاراً، ولا لحراسة البستان وهي تنوء بحمل بندقيَّتها ليلا. وأكثر من ذلك، فإنَّها محظوظة، فقد وضعت طفلاً ذكراً. أخبرتْها أُمُّها، عندما جاءت لزيارتها في المدينة، أنَّ ثلاثاً من صاحباتها اللواتي تزوَّجن كذلك رُزِقن ببنات، والرابعة لم يرزقها الله بحملٍ، على الرغم من مرور ثلاث سنواتٍ على زواجها. أَمّا هي، فطفلها الأول ذكر، كامل الخلقة، سليم الأعضاء، تشع النباهة من عينيْه اللامعتيْن كنجمتيْن.
ها هو ذا يجلس والبسمة تعانق شفتيْه، يلعب بدُميةٍ على فراشٍ وثيرٍ في الظلِّ. وما دامت ستفارقه لبضع دقائق لإعداد الخبز في التنُّور، فلتضمُّه إلى صدرها، وتشمُّه، وتقبِّله في جميع أجزاء جسمه البضِّ الصغير. وعلى أيِّ حال، فإنَّ عينيْها لن تفارقاه لأنَّ التنور يقع في الطرف المقابل من حوش الدار على بُعْد أمتارٍ معدودةٍ من ابنها، لا تفصلها عنه سوى الجُنينة الصغيرة التي يتوسَّطها بئرٌ كانت واحدة من آبار عديدة حفرها الجنود البريطانيون خلال الحرب العالمية الأولى طول خط إمداداتهم في البلاد. وعندما توسعت البلدة صارت تلك البئر جزءا من الدار التي ابتناها زوجها.
تجتاز الجنينة صوب التنور وهي تتلفت إليه، تناغيه، تناديه، فتسمع ضحكاته الحلوة لحناً من الفرح يحملها إلى الأعالي كنسمةٍ، كحمامةٍ، كسحابةٍ نشوى. تصل التنُّور، تضع وعاء العجين إلى جانبه، تستلُ الثقاب لتوقد الحطب الموجود في قعر التنور، يأخذ اللهب يتصاعد من فوهة التنُّور، ثمَّ يتضاءل رويداً رويداً إذ تتحوَّل عروق الحطب إلى جمر، حينئذٍ تتناول حفنةً من العجين بيدها اليمنى، تكورها بكلتا يديها، ثمَّ تبسطها على شكل رقاقةٍ دائرية، وتدحوها بسرعةٍ خاطفةٍ بيدها اليمنى في التنُّور، لتلصقها على جانبه الأيسر، ثمَّ تتناول حفنةً أُخرى من العجين... ولكنَّ دقَّةً عالية كقرع الطبل، تتناهى إلى سمعها من الخلف، فتلوي عنقها بعنف إلى الوراء، تصوِّب عينيْها إلى وليدِها، فلا تجده في مكانه؛ ينتفض قلبها بين ضلوعها كعصفورٍ بلَّله القطرُ بغتةً، ويغلي الدم في عروقها؛ تحدِّق مرَّة أُخرى، ثمَّ تنتقل نظراتها إلى البئر، فلا ترى الدلو المنتصبة على حافتها. عند ذلك تنطلق وثباً إلى البئر وتقفز فيها.*
***
قصة قصيرة
بقلم: علي القاسمي
........................
* من مجموعته القصصية "رسالة إلى حبيبتي".
محبكم: علي القاسمي