أصدقاء الدكتور علي القاسمي

مقال للدكتور محمد الأشهب حول كتاب " الشيخ والبحر"

ترجمة جديدة لرائعة همنغواي الشيخ والبحر
د. محمد الأشهب*:

مقتطف من موقع: منتديات ستار تايمز
 
تعد رواية "الشيخ والبحر" للروائي العالمي إرنست همنجواي من القصص العالمية الشهيرة، إذ بيعت منها في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حوالي خمسة ملايين نسخة خلال يومين فقط بعد نشرها سنة 1954م. 

وتدور قصة " الشيخ والبحر" حول صياد كوبي متقدم في العمر اسمه سنتياغو، لم يستطع أن يصطاد سمكة واحدة خلال 84 يوما، حتى تركه الصبي الذي كان يرافقه لمساعدته ولتعلم المهنة. 

وعلى الرغم من أن بعض زملائه الصيادين راح يسخر منه وبعضهم الآخر أخذ يرقي له، وأنه لم يفقد إيمانه بنفسه، بل ظل واثقا بقدراته، متشبثا بالأمل، يستيقظ كل صباح باكراً، فيحمل ساريته وشراعه وعدته إلى مركبه الصغير، ويجدف بعيدا في مجرى خليج المكسيك بحثا عن سمكة كبيرة.

وفي اليوم الخامس والثمانين، علقت صنارته سمكة ضخمة فاخرة، فظلَّ يعالجها لمدة يومين كاملين حتى استطاع أن يتغلّب عليها، ولما كانت تلك السمكة أطول من قاربه، فإنه اضطر إلى ربطها بجانب القارب وقطرها معه إلى الشاطئ، بيد أن أسماك القرش تأخذ في التقاطر على القارب لتنهش لحم السمكة، فيدخل الصياد الشيخ في قتال ضار غير متكافئ مع أسماك القرش حفاظا على سمكته وعندما يصل الشاطئ لا يبقى من السمكة سوى رأسها الذي لا يؤكل وهيكلها العظمي. 

1ـ التصور الفلسفي للترجمة لدى القاسمي 
لا يترجم الدكتور علي القاسمي أعماله تبعا لخطة مسبقة ومضبوطة، وإنما يترجم ما يروقه من أعمال أدبية رائعة يريد أن يشرك القارئ معه في متعة قراءتها، كما أن عمله في الترجمة هو عمل فردي اختياري، وتبعا لهذه الخطة التي ليست بخطة مضبوطة، تمكَّن علي القاسمي من ترجمة العديد من الأعمال الأدبية التي أصبحت تشكِّل رصيداً مهما في المكتبة العربية. 

إذ ترجم 1969 "يبه الساكن على التل " لأبي المسرح الاسكدناني لودفيغ هولبرغ، وبعد ذلك "القصة البولسية" للناقد البريطاني جوليان سيمونز، كما ترجم قصصا عديدة عن الأدب الأمريكي نشرها في كتاب "مرافئ على شاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة " وأخيرا انكب على أعمال الكاتب الأمريكي الكبير ارنست همنغواي، حيث ترجم له: "الوليمة المتنقلة" و"الشيخ والبحر" الذي يعدّ آخر ترجمة له"1".

ترى ما هو التصور الفلسفي الذي يحكم علي القاسمي في عملية الترجمة؟ ولماذا إعادة ترجمة عمل سبق أن تُرجِم من قبل مثل "الشيخ والبحر" الذي نقدمه في هذا المقال التعريفي؟ وما هي التقنيات التي يعتمدها علي القاسمي في ترجمته؟ وإلى أي حد نجح في إعداد ترجمات ناجحة؟ 

بعد تمرسه بكتابة القصة القصيرة التي يعد علي القاسمي أحد روادها في العالم العربي، والتي مكنته من تطوير أسلوبه القصصي الذي يعتمد لغة سهلة وبسيطة وأسلوبا سلسا، سيوظف هذه القدرة في ترجمة روائع القصص في الأدب الإنجليزي إلى العربية اعتمادا على هذه التقنية.

وقد وجد ضالته في الأديب الكبير ارنست همنغواي إذ ترجم رائعته " الوليمة المتنقلة"، وهي الترجمة التي كلفته الإعداد الجيد للنص الأصلي بالإنجليزية، وقراءته في ترجمته الفرنسية، والأكثر من ذلك تنقله إلى باريس للاطلاع على الأماكن التي تدور فيها السيرة الذاتية لهمنغواي. 

فالمترجم علي القاسمي لا يكتفي بقراءة النص المراد ترجمته ويشرع في ترجمته، بل تخضع عملية الترجمة عنده لمجموعة من الشروط والضوابط التي يجب توفرها في كلِّ مترجِم مقتدر، والتي تكمن في القيام بترجمة أمينة.

والقارئ للأعمال المترجمة للدكتور علي القاسمي، يشعر بأنه أمام عمل مكتوب بلغة عربية وليس مترجما إليها، والأكثر من ذلك فعلي القاسمي ـ بحكم محبته للأعمال التي يترجم ـ يتفنن في ترجمتها؛ لأنه لا يترجم تحت طلب المؤسسات المختصة في الترجمة، ولا يسعى وراء الربح المادي من الترجمة، كما يفعل بعض المترجمين الذين يترجمون في كل مجال حتى وإن كان بعيدا عن تخصصاته. 

فعلي القاسمي بحكم اطلاعه على النظريات المعاصرة في الترجمة وتدريسه لمادة الترجمة، وبحكم ممارسته للترجمة منذ الستينيات، تشكل لديه تصور فلسفي للترجمة، بدأ جليا في أعماله المتأخرة المترجمة خاصة أعمال ارنست همنغواي.

ينطلق علي القاسمي إذن، من تصور فلسفي للترجمة، إذ يعتبرها ليست مجرد توليد المقابلات المعجميّة لمفردات النصّ الأصلي، وإنّما هي نقلٌ يجري في إطار عملية التواصل، بيد أنها أكثر تعقيداً في تواصل بين ناطقين بلغة واحدة. 

فالمترجِم يجتاز حدود لغتين عبر رموز لغوية، وأخرى ثقافية اجتماعية، وثالثة أسلوبية أدبية. فلا يكفي نقل النص مجرداً من حمولته الثقافية وعاريا من كسوته الأسلوبية المتميزة. 

وإنما يتحتم على المترجم أن يموضع النص في سياقه الثقافي ومقامه الاجتماعي، وأن يصوغه بأسلوب يتناسب مع أسلوب الكاتب الأصلي. 

وإذا فشل في واحد من هذه الميادين الثلاثة، فإنه يخلُّ بأمانة النقل التي تعد عماد الترجمة الناجحة"2".

بناء على هذا التصور الذي يتبلور لدى القاسمي من خلال ترجماته الأدبية، يمكن للقارئ لأعماله المترجمة أن يمسَّ هذا التصور الفلسفي الذي يعدُّ الخلفية التي على أساسها يترجم أعماله المنتقاة، ففي الأعمال الناجحة التي ترجمها لهمنغواي، وأخص بالذكر "الوليمة المتنقلة" و"الشيخ والبحر"، لم يكتف في ترجمتها على التحكم في اللغتين الإنجليزية والعربية، بل أضاف إلى ذلك إطلاعه الجيد على أدب همنغواي وأسلوبه، إضافة إلى اطلاعه على الدراسات النقدية التي تناولت أعماله.

إلى جانب تخصص القاسمي في أدب همنغواي، يعد من المطلعين الجيدين على نظريات الترجمة والمعجم وعلم المصطلح الذي يعد مجال تخصصه، والذي استفاد منه بشكل كبير في صقل أسلوبه وفي تطوير تقنيات الترجمة لديه، لأن علم المصطلح سيعفي القاسمي من الاطلاع على الأماكن التي تدور فيها القصة، وسيمكنه من تدقيق ترجمته للمفهوم، وذلك بالعودة إلى المعاجم المتخصصة، وهذه قناعة تكونت لديه بعد ترجمته لرائعة: "الشيخ والبحر".

فلم يذهب القاسمي إلى كوبا، وهو المكان الذي تدور فيه القصة، كما فعل مع رواية "الوليمة المتنقلة"، وإنما اكتفى بالاعتماد على كفاءته اللغوية والأدبية، وتخصصه في همنغواي، وأخيرا العودة إلى المعاجم المتخصصة لترجمة بعض المصطلحات التي تقتضي الدقة المطلوبة. 

2 ـ تحدي إعادة ترجمة "الشيخ والبحر" "* "
أن تترجم عملا أدبياً إلى لغتك الأصلية، يعني أن تساهم في مدِّ الجسور بين ثقافتك وثقافة الآخر. وتعد ترجمة أي عمل إلى اللغة الأصلية إنجازا في حد ذاته. لكن أن تعيد ترجمة عمل سبق أن ترجم من قبل، وبالرغم من مشروعية العملية، فإن التحدي الذي يواجهك كمترجم، هو إلى أي حد تستطيع أن تقدم ترجمة ناجحة مقارنة بالترجمات السابقة، خاصة إذا كان العمل المترجم معروفا ومترجمه لا يقل أهمية وقدرة في هذا المجال.

ذلك هو التحدي الذي واجه الدكتور علي القاسمي، وهو يقدم على ترجمة رائعة همنغواي "الشيخ والبحر" التي سبق أن ترجمت من قبل، ومن قِبَلِ مترجمين كبار يشهد لهم بكفاءتهم العلمية، فما هي القيمة المضافة التي سيقدمها الدكتور القاسمي؟ وما هي مؤاخذاته على الترجمات السابقة؟ 

وما هي نقط القوة التي اعتمد عليها القاسمي بخوض هذه المغامرة العلمية؟ وما هي التقنية التي اتبعها القاسمي في ترجمته ليجعل من ترجمته عملا متميزا عن الترجمات السالفة؟ 

ينطلق الدكتور علي القاسمي من قناعة مفادها أن المترجم يعدُّ وسيطاً بين مؤلف أجنبي وقارئ وطني، وسيط بين لغة الأصل المرسلة ولغة الترجمة المتلقية، وسيط بين الثقافة التي كتب فيها النص والثقافة التي نقل إليها. 

ويتوقف نجاح الترجمة على كيفية أداء هذا الوسيط لدوره. ويعتمد تفوق المترجم على تمكُّنه من اللغتين وإلمامه بالثقافتين معاً، ومعرفته لموضوع النص، وإدراكه لأسلوب المؤلف وثقافته"3".

إن مجمل هذه الخصائص نجدها لدى الدكتور القاسمي من خلال ما يلي: 
1ـ تمكن علي القاسمي من اللغتين الإنجليزية والعربية. إذ سبق له أن درس في الجامعة الأمريكية ببيروت، وهيأ بحثا باللغة الإنجليزية عن القصة الحديثة في العراق، كما تابع دراسته بجامعات عالمية أنجلوسكسونية في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا...

2ـ تمكنه، كذلك، من اللغة العربية، إذ يعتبر خبيرا في مجال المصطلح والدراسات المعجمية، ومؤلفاته العديدة في هذا المجال تشهد على كفاءته العلمية: إذ يعمل حالياً مستشارا لمكتب تنسيق التعريب، وعضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة ومجمع اللغة العربية بدمشق. 

3ـ اطلاعه الجيد على أسلوب القصة التي كتبها، وترجم العديد منها من اللغة الإنجليزية إلى العربية، الشيء الذي جعله يميل إلى ترجمة القصة والإبداع عموما، وهذه النصوص المترجمة ساهمت بشكل كبير في تطوير موهبة علي القاسمي الإبداعية من جهة؛ لأنه يستفيد من أساليب النصوص المترجمة، كما ساهمت، أيضا، في تطوير ملكته في الترجمة باستعادتها في أسلوب القصة لديه "4".

4 ـ اطلاع القاسمي الجيد على الثقافة الإنجليزية أدبا وفكرا، فهو جد ملم بالنص الأدبي، وخاصة همنغواي الذي تعرف عليه عندما كان طالبا، وقرأ جميع أعماله القصصية والروائية. ففي هذه الفترة، بالذات، كان القاسمي يعتبر همنغواي كاتبه المفضل باللغة الإنجليزية. 

فهذا الحب لهمنغواي في المرحلة الطلابية، دفعه فيما بعد إلى الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، والتحقق من دراسة أعمال الأدباء الذين تحدث عنهم همنغواي في كتابه "الوليمة المنتقلة": عزرا باوند وتي إس إليوت وسكوت فيتجرلند، وغيرتيتيود شنتاين وجمس جويس وفورد ماكدوس، وفوريد دوندهام ولويس وغيرهم. "5" 
5 ـ دراسة القاسمي النظريات الحديثة في الترجمة والدراسات المعجمية، إذ تطورت نظريته لعملية الترجمة، وهي القناعة التي دفعته إلى ترجمة "الوليمة المتنقلة " قبل "الشيخ والبحر".

فحينما شرع الدكتور علي القاسمي في إعادة ترجمة رائعة همنغواي "الشيخ والبحر" تعمّد عدم الاطلاع على الترجمات السالفة حتى لا يتأثر بها، فأنجز ترجمته الشخصية للقصة انطلاقا من قدراته الخاصة وخبرته في الترجمة التي راكمها من قبل. وقد كان هدفه من ترجمة عمل همنغواي هو المحافظة على أسلوبه السهل الممتنع، وصيانة تقنياته السردية والاقتصاد في اللغة"6".

إن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه بالعودة إلى الترجمات السالفة، والاعتماد عليها لإعادة ترجمة النص، لأن هذه العودة كان من شأنها أن تؤثر في أسلوب المترجم. 

وقد بيَّن الدكتور القاسمي في الدراسة التي ذَيَّل بها النص المترجم مجموعة المؤاخذات والأخطاء التي وقعت فيها الترجمات السابقة، الشيء الذي يتم عن ذلك الإحساس الذي راود القاسمي قبل الشروع في الترجمة، كما أوضح القاسمي أن مجمل الأخطاء التي وقعت فيها الترجمات السالفة راجعة بالخصوص إلى عدم الاطلاع الجيد على أسلوب همنغواي في الكتابة وعلى أدبه والدراسات النقدية التي أنجزت حوله؛ فهو لا يشك أبدا في المستوى اللغوي العالي للمترجمين السابقين. 

ولهذا نجده يعتمد في ترجمته الجديدة لرواية "الشيخ والبحر" على تتبع أسلوب همنغواي البسيط، دون البحث عن المصطلحات الصحيحة في اللغة العربية لإغراق النص المترجم بها، كما تفادى أسلوب تحسين اللغة وذلك حتى لا يخل بأسلوب همنغواي، لأن أسلوبه لا يهدف إلى إثارة عاطفة القارئ، فأسلوب هنمنغواي في قصصه ورواياته مثل "الوليمة المتنقلة" يعتمد غالبا على وصف الأحداث والأفعال والشخصيات بصورة شفافة ومحايدة، وهذا ما تجلى في كتاباته الصحفية حينما كان مراسلا في باريس لبعض الصحف الأمريكية. 

والقارئ لترجمات علي القاسمي لأعمال ارنست همنجواي يلمس هذه الأمانة العلمية في الترجمة التي تحافظ على أسلوب همنغواي الموضوعي، وهو الأسلوب الذي عبر عنه رولان بارت بدرجة الصفر في الكتابة "7". 

إن المحافظة على أسلوب صاحب النص وتقنياته، تجعل المترجم يصل إلى درجة عالية من الأمانة العلمية في الترجمة، يقول القاسمي في شأن هذه العلاقة: "وأمانة المترجم ليست مرهونة بنقل المضامين فقط، بل بنقل الأساليب أيضاً.

فحاصل المعنى يأتي مما قيل في النص ومن الكيفية التي قيل فيها. ولهذا نجد بعض الأعمال الأدبية الكبرى قد ترجمت عدة مرات إلى اللغة الواحدة. وهذه الترجمات المتعددة لبعض الأعمال الأدبية العالمية تتباين من حيث أمانتها وجودتها النوعية." "8" 

ولتحقيق هذا الهدف في ترجمته لرواية "الشيخ والبحر" التي سبق أن ترجمت من قبل، ولكي يلعب القاسمي دور ذلك الوسيط بين اللغة العربية وثقافتها واللغة الإنجليزية وثقافتها، حرص بشكل جيد على تتبع سلسلة من التقنيات، جعلت ترجمته تختلف عن الترجمات السابقة، من أهم التقنيات التي اعتمدها القاسمي في هذا العمل نذكر: 

* العودة إلى المعاجم المتخصصة لتدقيق ترجمة بعض المفاهيم العلمية الواردة في القصة، مثل ما فعله مع مصطلحات "مجرى الخليج" "Gufl Stream "، وأسماء بعض الطيور. 

ولا غرابة أن نجد هذه الدقة في الترجمة لدى القاسمي المعروف باهتماماته العلمية حول المصطلح والدراسات المعجمية. 
من هذا المنطلق، فعودة القاسمي إلى "المعجم الموحد لمصطلحات الجغرافية" ليميز بين تيار Current ومجرى Stream تعد مسألة عادية، حرصا منه على الدقة العلمية في الترجمة. 

* تركيز القاسمي على تركيبة الجملة العربية وأهميتها في تحديد المعنى، فعندما نضع الجملة في المبني للمجهول تكون لها دلالة مخالفة لوصفها في المبني للمعلوم، وهذا ما يُخل بمضمون القصة بأكملها وليس الجملة فقط. وهذه إحدى الملاحظات التي سجلها على ترجمة زياد زكريا "ب" في جملة " قد عَبَرتْ به 84 يوماً "، في حين فضل هو ترجمتها بجملة " قد أمضى 84 يوما "، " He hand gone eighty four days "؛ لأن الشيخ في القصة ليس شخصية سلبية غير فاعلة، بل يبذل جهدا كبيراً، ويوظف خبرته من أجل اصطياد سمكة، فهو فاعل وليس مفعولا به.

وبالتالي فترجمة الجملة بحيث يكون الشيخ في صيغة المفعول به وليس في صيغة الفاعل، تخل بالمعنى العام للقصة بأكملها وليس بالجملة فقط " "9ونفس الملاحظة سجلها على الجملة الثانية، "لم يَجُدْ عليه البحر بسمكة واحدة " " without taking a fish" والتي فضل القاسمي ترجمتها بعبارة " دون الحصول على سمكة "، ذلك أن البحر لا يَجُودُ على الشيخ بأي شيء"، فهو رجل عملي وعصامي وفاعل يرفض ثقافة الاستسلام، وقد تمكن بفعل عزيمته وإرادته وبعد 84 يوماً من الإبحار في اصطياد أكبر سمكة على الإطلاق، جعلت جميع الصيادين يستغربون من حجمها. 

فهذه القصة تمجِّد روح العمل والاعتماد على النفس، وحينما يستعمل المترجم عبارة "يجود عليه البحر"، وكأنه سلبي ومجرد شخص يعيش على حساب البحر، وهذه ليست الغاية التي يريدها همنغواي من وراء قصته؛ وهذه الغاية التي تمجد روح العمل جعلته يرفض ترجمة Old man بالعجوز، وفضل ترجمتها بالشيخ؛ لأن الشيخ رمز للحكمة والرزانة، بينما العجوز رمز للهرم والخمول. 

* حفاظاً على روح القصة، ظل القاسمي حريصاً على المحافظة في ترجمته على صيغ القول الواردة في القصة، خاصة صيغة الفاعلية والمفعولية، وصيغه المبني للمعلوم والمجهول، ويصغه الكلام المباشر وغير المباشر "10".

تتلخص إذاً مؤاخذة القاسمي على معظم الذين ترجموا "الشيخ والبحر" في كونهم لم يأخذوا بعين الاعتبار خصائص أسلوب همنغواي، ولا تقنياته السردية. ويلخِّص لنا القاسمي أسلوب همنغواي في العناصر التالية: 
- السهل الممتنع.
- الاقتصاد في اللغة. 
- عدم المبالغة. 
- الحيادية في السرد. 
- استعمال اللغة الإشارية والتلميح بدل التصريح.
- إشراك القارئ في العملة الإبداعية. 

بالإضافة إلى توفر علي القاسمي على الكفاءة الأدبية والثقافية والاجتماعية بخصوص نصوص همنغواي والأدب الإنجليزي عموماً، وخاصة آداب القصة، فإن ترجمته لقصة "الشيخ والبحر" لم يكتف فيها بهذا الجانب فقط، بل ولكي يعيش أجواء القصة من خارج النص، توجه قبل ترجمتها إلى مدينة الصويرة المغربية، وقضى ليلة كاملة في مركب شراعي صغير يقوده صياد سمك، وذلك للاطلاع على أجواء البحر، والمفاهيم المرتبط بعالم الصيد والأدوات المستعملة فيه. 

كما اقتنى شريطين سينمائيين أنتجهما هوليود لهذه القصة، أحدهما من بطولة سنسر تريسي، والآخر من بطولة أنطوين كوين "11".

ويعدّ هذا الاستعداد الأولي مسألة أساسية بالنسبة للقاسمي لتحقيق العملية في ترجمة الأعمال الإبداعية التي تعد ترجمتها من أصعب الترجمات. 

من هنا نؤكّد أنه بحكم ثقته في قدرته العلمية تمكن القاسمي من ترجمة قصة "الشيخ والبحر" ترجمة علمية دقيقة تفوَّق فيها على الترجمات السابقة، والقارئ للدراسة النقدية التي ذيَّل بها النص المترجم، سيقتنع بالحجج التي قدمها القاسمي للدفاع عن ترجمته. 

كما أن القارئ لهذه الترجمة سيحس وكأنه يقرأ قصةً من إحدى قصصه، لأن أسلوبه في الترجمة قريب من أسلوبه في كتابة القصة، وهذا راجع إلى التقارب بين أسلوبي: همنغواي وعلي القاسمي في كتابة القصة... 

____________________
• كاتب مغربي، عضو هيئة تحرير مجلة " رهانات". 

المراجع: 
1- حوار مع القاص العراقي الدكتور علي القاسمي، حاوره إبراهيم أولحيان. مجلة "عمان"، عدد 158، ص:33.

2- إرنست همنغواي: "الوليمة المتنقلة "، ترجمة الدكتور علي القاسمي، منشورات الزمن 2001، ص: 6.

3-إرنست همنغواي : "الشيخ والبحر "، ترجمة الدكتور علي القاسمي، منشورات الزمن 2008، ص : 113.

4- الحوار نفسه، مجلة عمان، ص : 34.
5- تقديم علي القاسمي لترجمة: "الوليمة المتنقلة"، مرجع سابق، ص : 16.
6- إرنست همنجواي: "الشيخ والبحر"، مرجع سابق، ص: 50.
7- المرجع نفسه، ص: 7.
8- المرجع نفسه، ص: 15.
9- المرجع نفسه، ص: 130.
10- المرجع نفسه، ص: 137.
11- المرجع نفسه، ص: 115.
12- المرجع نفسه، ص: 134.

مقالات ذات صلة