أصدقاء الدكتور علي القاسمي

"باريس وليمة متنقلة" لهمنغواي: كل ما يجعل المدينة عيداً محمود عبد الغني


"باريس وليمة متنقلة" لهمنغواي: كل ما يجعل المدينة عيداً

 يقدم الروائي الأميركي إرنست همنغواي في كتابه "باريس عيد، أو الوليمة المتنقلة" بترجمة الدكتور علي القاسمي، كاتب ذكريات رائعة عن سنين إقامته في باريس في عشرينيات القرن الماضي، حين كان شابّاً يؤدي مهمة مراسل صحافي. 


ولا يخفى أن هذا النوع من الكتابات يحتاج إلى ذاكرة قوية، وحسّ ملاحظة وتمييز خاصين، وكذلك إلى ملاحظات مكتوبة ومدوّنة تستند عليها الذاكرة في أداء مهمتها الشاقة أثناء تفريغ الزمن والأحداث على الورق. غير أن همنغواي في كتابه هذا، والذي نُشر سنة 1964، بعد وفاته بثلاث سنوات تقريباً، بدا متمكّناً من أدوات كاتب اليوميات، وأدوات الرحالة المحترف الذي يسجل كل شيء، كل انطباع، كل اسم مكان أو شخص أو علم في حينه على كُرّاسات تصحبه، أو على أباجورة غرفة نومه، أو في حقيبته التي لا تغادر كتفه، رفقة آلة تصوير أحياناً، حين ينتقل مثل التائه الباحث عن شيء مفقود لم يتسنّ له أن يطلق عليه اسماً، أو يحدّد له هوية.
الفترة الزمنية التي يتناولها كتاب إرنست همنغواي هي عشرينيات القرن الماضي 1921-1926، السنين التي سحرت فيها باريس عقول الأدباء والفنانين وتجار الفن، والمصورين وكل أنماط البشر الذين أحبوا الحرية والإبداع والحياة المشعة بالفن والرقص والسهر. لذلك كان بعض الترجمات موفقاً في إطلاق عنوان "ليالي باريس" على الكتاب، منها ترجمة عبد الله المشعشع، وترجمة الدبلوماسي العراقي عطا عبد الوهاب سنة 1964، ولم تصدر إلا سنة 1984 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
 يبرّر الدكتور علي القاسمي ترجمته الجديدة لكتاب همنغواي بكون الأعمال الأدبية الكبرى تحتاج دوماً إلى ترجمات متعددة إلى اللغة الواحدة، وذلك هو دافع الدكتور القاسمي أيضا في إعادة ترجمة رائعة همنغواي الأخرى "الشيخ والبحر"، والتي صدرت سنة 2015 عن "منشورات الزمن" بالمغرب، ومبرره أيضاً في إعادة الترجمة، كما جاء في دراسة قيّمة أرفقها بالرواية، كون المترجمين السابقين، منهم المترجم المرحوم منير بعلبكي، لم يعوا كفاية أسلوبية همنغواي، وكأن بالمترجم يروم إعادة ترجمة عمل عظيم يتطلّب إعادة تكييف مستمرة وغير منتهية من الناحية الأسلوبية واللغوية.

حيث مات فيرلين
 كتب همنغواي عن فترات عزيزة جدّاً على نفوس الكُتّاب، عن تلك اللحظات التي يمسك فيها الكاتب قلماً وكُرّاساً ليكتب قصة أو قصيدة، وهو في غمرة هذه المدينة الساحرة، الشبيهة بالعيد المستمر، فيجد في الأخير أن باريس قفزت إلى الورق وكتبت نفسها، فتبدو في النهاية مماثلة لباريس في الواقع، بطقسها البارد، وعواصفها القوية، وثلجها الناصع البياض، وناسها العابرين كالأشباح بحثاً عن شيء يفرح، وآخر يدفئ. إن باريس هي وكر كل تلك الأشياء المرتجاة، فقط اطلب وأنفق.
كلّ شيء توقّعٌ واقتفاءٌ. لقد استأجر همنغواي، وهو في أيامه الباريسية الأولى، غرفة في الطابق العُلوي بالفندق الذي لفظ فيه الشاعر الفرنسي فرلين أنفاسه الأخيرة. لم يكن هذا الزائر العملي لباريس وحيداً بل اصطحب معه زوجته وابنه فاستشعروا جميعاً سعادة غامرة. كانت أياماً مزدحمة بالصداقات الكبرى، تقف في مقدمتها الرسامة والكاتبة الأميركية جيرترود شتاين، والتي ارتبط بها همنغواي ارتباطاً فنياً وعقلانياً طيلة إقامته، وكان يجدها، كما قال لزوجته: "امرأة لطيفة، على كل حال". ولم تخل الجمل والانطباعات التي كتبها عنها من لهجة نقدية صريحة. فهي لا تطيق من يعارضها أو يخالفها، إنها امرأة تبحث عن الخنوع والاتباعية. ذلك ما كان يعيه ويلاحظه همنغواي، لكنه في الأخير يغلّب لهجة الإعجاب بشخصها وأسلوبها ونصائحها التي كانت تُسديها له بإسهاب.

مديح نهر السين
 خصّص همنغواي لنهر السين صفحات قليلة، لكنها من أجمل ما كُتب عن النهر. وربما هذا الاسم الساحر: "السين"، إضافة الى اسم المدينة: باريس، كان كفيلاً بأن يضمن للكتاب أهمية بالغة وشهرة تجوب الدنيا، ولا أدلّ على ذلك من صدور النسخة الأميركية مع النسخة الفرنسية في سنة واحدة. كتب همنغواي عن رصيف الكتب على النهر، ومن أين تأتي الكتب إلى تلك الأكشاك التي كان يزورها ويشتري منها جيمس جويس وعزرا باوند وآخرون. هذا إضافة إلى المطاعم المنتشرة على طول رصيف فولتير، والذي تنتشر على جنباته أيضاً أكشاك الكتب التي تُشترى من مستخدمي الفنادق الذين يعثرون عليها في الغرف بعد أن تركها أصحابها ورحلوا. كل تلك الأرصفة تعرف خطوات أقدام الكاتب العظيم، حين يأتي ليتمشّى بعد الانتهاء من العمل، أو حين يكون في خضمّ التفكير في موضوع ما.
 باريس ليست وجهاً واحداً ثابتاً، إنها أوجه عديدة، بل لا تكاد تُحصى. إنها مدينة الجوع. فإذا لم تأكل جيدا فيها فإنها تُشعرك بالجوع. فالحلويات اللذيذة المعروضة في جميع المخابز تحرض الذوق والمعدة على حدّ سواء. ألا يذكرنا ذلك بكتاب "جورج أورويل "متشرداً في لندن وباريس"؟ حين كان يبدو صاحب "مزرعة الحيوان" في جوع دائم. فعادة الأكل خارج المقاهي والمطاعم على طاولات موضوعة على أرصفة الشوارع، تجعل المرء في مضغ دائم، وشوق متلهّف إلى وجبات هذه المدينة التي هي فعلاً وليمة متنقلة.

قوة الوصف
 الوصف هو قوة الكتاب. وصف كل شيء مهما صغر شأنه. وصف الأماكن والمشاعر. فكأنّ همنغواي الروائي مقتنع وهو يكتب كتاب ذكريات بضرورة وحتمية الوصف، ربما للإمساك الجدّي بهذه المدينة ذات الأقنعة والأوجه التي لا تنتهي، وبتفاصيلها العديدة، وناسها الذين أزعجوا همنغواي في خلواته أو في تواجده داخل أمكنة عمومية مثل المقاهي والحانات والمطاعم. هنا، برز همنغواي كمحب للعزلة وللتكتم السري الذي كثيراً ما تشبث به الكُتّاب الكبار. العزلة في حالة همنغواي ابتلاء دائم، لنقرأ نص "ميلاد مدرسة جديدة" الذي يكشف نفسية همنغواي المتوترة والغاضبة من كل من يريد أن يتسلّل إلى عالمه. لكنه في نص آخر "مع باسكن في مقهى القُبّة"، والمقصود هو الرسام البلغاري جون باسكن، يظهر محبّاً للرفقة الإبداعية الخالصة، في المساءات الرائعة، بعد يوم من العمل الجاد. ويظهر أيضاً احترامه للناس الذين لا يزعجونه حين يكون منهمكاً تماماً في العمل. هي نفس الرفقة التي سيكتب عنها، ويفكك أعماقها وكنهها حين يتحدث عن الشاعر الطيب عزرا باوند.
كلّ ذلك يجعل القارئ سعيداً حين ينتهي من قراءة فقرات هذا الكتاب النادر، لأنه يحسّ فعلاً أنه يقرأ فصولاً كُتبت عن العيد الذي تظهر أضواؤه ومظاهره وتجلياته في أمور وأشياء لم نكن نظن أنها تُنير بهذا الإشعاع الخارق.

مقالات ذات صلة