أصدقاء الدكتور علي القاسمي

ذكريات نخبوية طريفة!



ذكريات نخبوية طريفة!
نقلا عن موقع : صيد الفوائد
أحمد بن عبد المحسن العساف
@ahmalassaf

كتابة السِّير الذَّاتية فنٌّ عذب آسر، تنوعت طرائقه من قبل المؤلفين، وحظيت الدِّراسات عن السِّير الذَّاتية باهتمام الباحثين والنُّقاد، حتى غدت موضوعاً لجائزة الملك فيصل العالميّة للأدب العربيّ عام 1439=2018م، وأُعلن قبل أيام معدودة أنَّ الفائز بها هو د. شكري المبخوت، الأستاذ في جامعة منوبة بتونس.

وفي زيارة ذات ثلاثاء قريب، إلى مكتبة الثُّلوثية بالرِّياض، اقتنيت كتاباً عنوانه: طرائف الذِّكريات عن كبار الشَّخصيات، تأليف العالم الّلغوي العراقي د. علي القاسمي، صدرت طبعته الأولى عام (1438=2017 م) عن دار الثُّلوثية للنَّشر، ويقع في (255) صفحة على ورق نباتي، ويتكون من مقدِّمة وتقديم، ثم ثلاث وثمانين مقالة، فالفهرس، وليت أنَّ المؤلف أتمّ العدد إلى مئة مقالة.

وجرت العادة أن يكتب التَّقديم شخص غير المؤلف المعني بكتابة المقدمة؛ بينما كان الوضع مختلفاً في هذا الكتاب المختلف، حيث كتب المقدِّمة النَّاشر والمؤرخ والأديب والمحامي د. محمد بن عبد الله المشوح، وهي مقدمة ساحرة تمثِّل أحسن تقديم للكتاب ومؤلفه، ومن يقرأ المقدَّمة أو طرفاً منها، سيجد يده ممتدة للكتاب الذي لا يفوَّت مثله.

وفي التِّقديم أشار المؤلف إلى أنَّه انصرف عن كتابة سيرته بحجة أنَّ السِّير الذَّاتية لا يكتبها إلا عظماء الزُّعماء، وكبار المفكرين، واختار أن يدوِّن ما علق في ذاكرته من مواقف يكون من أطرافها شخصيات مرموقة في العلم، والسِّياسة، والفكر، واعتذر لنفسه بأنّه يكتب من الذَّاكرة وليس من يوميّات محفوظة، وبالتَّالي فربَّما يكون في الرِّواية ثقوب لا تضر أصلها.

وشبيه بصنع المؤلف ما فعله العالم اللبناني د. عمر فروخ في سيرته "غبار السنين"، وسبق لي الكتابة عنها، وهي سيرة جادّة ماتعة للغاية كطرائف القاسمي، وهذا الصِّنف من التَّآليف مختصر، ويتجه نحو الفائدة مباشرة، ويتجنب الخوض في أمور شخصية قد لا تعني أغلب القراء، وبالجملة فلكلِّ طريقة حسناتها، والمهم أن يكون النَّص ملهماً، أو نافعاً، أو ماتعاً.

ومن الشَّخصيات التي بدأ المؤلف بها زميله المترجم العراقي اللامع أنيس زكي حسن، الذي ترجم وهو طالب في الكلية كتباً خالدة مثل اللامنتمي، ومغامرات الأفكار، وترجم أعمالاً أخرى حتى اختفى، ولم يعثر القاسمي على أثر له، وخشي أنَّه تعرض لتصفية كما جرى لبعض أفذاذ العراق العزيز من حكوماتهم الباطشة؛ وسبق أن قرأت في كتاب لطيف، لمؤلف عراقي عن صحبة الكتب؛ تواصله مع هذا المترجم البارع قبل سنوات، وربما أنّه يعيش في أوروبا.

ومن أطرف ما في الذِّكريات، حكاية إعجاب والد المؤلف، وهو العربي الصَّميم، بوالدة صديقه المناضل الفلسطيني، وكان أبوه قد التقاها في زيارته لابنه ورفيقه وهما يرقدان في مستشفى بيروتي، فبهرته المرأة برشاقتها، وصباحتها، وطولها، وبياضها، حتى سرد لها النّوادر بأداء مسرحي باهر، وللقصّة بقيّة!
وأصبح الثّري اللبناني، ورئيس الوزراء فيما بعد رفيق الحريري، عديلاً للمؤلف القاسمي، وبينهما زمالة في الدِّراسة، واتفاق في الميول العروبية، ثم افترقا بذهاب الأخير مع زوجه للعمل معلمين في جدَّة بالسُّعودية، وهناك كان والد زوجتيهما يعمل مستشاراً قانونياً في وزارة الأشغال، مما سهَّل لرفيق العودة إلى بيروت لأداء امتحانات الجامعة، ونام خلال هذه الفترة في مطبخ شقة المؤلف؛ حيث لا يوجد فيه غرفة ثانية.

ومن لطيف مواقف الكتاب، ما كان يفعله رجل الدَّولة العراقي الشَّهير في الحقبة الملكية نوري السَّعيد، حيث يزور السُّجناء الشُّيوعيين، ويحاول تلطيف الموقف معهم دون جدوى، وقال الكاتب بأنَّ سياسات نوري قد يُختلف فيها؛ بينما نزاهته المالية متفق عليها، خلافاً لساسة العراق المعاصرين الذين نهبوا ثرواته بجشع ولؤم، دون مواربة أو حياء.

وفي السِّيرة نتف من حياة القاسمي العلمية في جامعات الغرب، وشيء من خبر الأساتذة ما بين حرص على العلم والتّعليم؛ حتى أنَّ عميده كان زميله في الدِّراسة في آنٍ واحد! ومشرفه العلمي يتجاوز السَّبعين؛ ويعتني بطلابه وتلميذته اليابانية قبل انتحارها، وثالث مبتلى بسوء الألفاظ مع علمه الغزير، ورابع عربي يهرب بعلمه فتحتضنه معاهد العلم في أمريكا وأوروبا، هذا غير خبر الأكاديمي الذي أدركه الثَّراء الفاحش من أغنية سارت مسير الشَّمس!
وللمرأة نصيب من الذكريات الطَّريفة، حيث اقترحت أمريكية على زوجة القاسمي أن تقترن به؛ لأنَّها لم تتصور أن تتزوج المرأة رجلاً وتظل محتفظة باسم عائلتها! ومن عجب خبر راقصة عارية اختارت هذا العمل القبيح لتصرف على زوجها الدَّارس في اللاهوت ليصبح قسيساً! وحين رأى المؤلف مع زميلته شقيقة آل الباز المصريين إقصاء نسوية مصرية عن مؤتمر علمي لقبح أطروحاتها وغلوائها، تفاجئوا بأنَّ البديلة التي صبّت عليهم الشَّتائم هي ابنتها، ولم يفطنوا لذلك بسبب أنَّ هذه النَّسوية كثيرة الأزواج!
وفي سيرة القاسمي جانب من حياة العراقيين في المنفى أو المهجر، ففيهم علماء، وأساتذة، ومهنيون، ورسّامون، ونحّاتون، وغيرهم، وكم كان العراق-ولايزال- طارداً للكفاءات من أبنائه وما أكثرهم وأميزهم؛ والتَّميز بسبب جودة التَّعليم قديماً، وجدَّية أهل العراق، وفطانتهم، وأما هروب النُّخب فيعود لظلم القريب أو عدوان البعيد، والله يرجع للعراق أمنه ورخاءه، ويجعله في ألفة وتعاون مع بنيه ومكوناته، ومع جيرانه.

ومن المواقف في الكتاب قصَّة الضَّابط الأمريكي الذي ينتابه الفزع ليلياً كلّما تذكر قصفه بالطّائرات مواقع مدنية خلال الحرب العالمية الثّانية، وكم من عسكري أمريكي يستحق هذه النّوبات الهائجة بسبب مشاركاتهم الآثمة في أفغانستان والعراق وغيرها من البلدان! ويبدو أنَّ عساكر العُّلوج-كما يقول الصّحاف زميل المؤلف- أكثر إنسانية من ساستهم، والله يكفيناهم جميعاً.

وللتَّشاؤم موقع محدود من التُّحفة القاسمية، فحين اختاره عميد كليته في الجامعة المغربية، كي يكون أول المتحدثين في بداية العام الدراسي، تفاجأ بانسحاب العميد واستقالته قبل ابتداء الحفل، وكان نذير شؤم إذ أغلقت الحكومة الكلية في عامها ذاك! ويذّكرني هذا بما روي أنَّ طلحة كان أول المبايعين لعلي بن أبي طالب ويده شلاءّ، وما روي عن أحد خلفاء بني العباس، حين علَّق عهده لابنيه بالخلافة من بعده على جدار الكعبة؛ فسقطت الورقة من فورها!
وحين سأل المؤلف وزيراً عراقياً عن سرِّ طول عمره أجاب: يعود الفضل بعد الله إلى جهلي بقيادة السَّيارة! وأثنى سفير أمريكي على عقل أكاديمي عراقي-أمريكي؛ معلِّلاً ذلك بمكوثه لديه ربع ساعة دون أن يتفوه بكلمة واحدة! وكان هذا الأكاديمي قد نجا من غرق أكيد بسبب تعلُّق غريق بدين بقدمه على شواطئ مغربية، وأنجاه الله على يد زوجه الثَّالثة النَّشيطة!
ومن القصص اللافتة في الكتاب أنَّ تاجراً هندياً نزل في ميناء الحديدة خلال أربعينيات القرن الماضي، ولاحظ خلّوها من السّينما، فاقترح على الإمام يحيى افتتاح دار للسّينما ثقة منه بأنّها مشروع تجاري ناجح، فوافق الإمام بشروط ثلاثة هي فصل الرّجال عن النّساء، وفحص الأفلام قبل عرضها، وأن يكون الدُّخول مجاناً، ولم يوافق الهندي على الشّرط الأخير مما أجهض مشروعه.

وحضر المؤلف منحة دراسية بجامعة أكسفورد في بريطانيا، وفي محاضرة عامة للطُّلاب أفاض المتحدث في شرح طريقة صنع القرار في بريطانيا، ودوائر التَّأثير فيه وعليه، وبعد فراغه نهض طالب من دولة ملكية نامية سائلاً باستغراب عن موقع الملكة من الإعراب؟ فأجاب المحاضر: الملكة سيدَّة مهذبة تحب أبناءها وخيولها، وتعتني بهم!
وحين حصل المؤلف على عمل في إحدى جامعات الرِّياض عام 1972م، اختار أن يسافر بسيارته من الرّباط إلى الرِّياض؛ ليستمتع بعروبته كما يبدو، خلافاً لنزار قباني الذي أتعبته عروبته يوماً ما. وكادت كتب القاسمي أن تُحرق في ليبيا، وتُصادر في السُّعودية، بيد أنَّ الله سلَّم، وحدثت له مواقف تصف الكرم العربي في ليبيا والسُّعودية، وإنَّ العربي ليحنُّ على أخيه العربي ويعينه بشرط تناسيهما الجغرافيا.

ومن حميد سجايا المؤلف-وسجاياه الجميلة كثيرة-حبُّه للعربية، وحرصه على خدمتها بالتَّأليف، والتَّعليم، وإنشاء المعاهد، ونشرها في البلدان الإسلامية، وكم تحتاج لغتنا إلى حميّة أهلها؛ كي تعود لموقعها في البلاد الإسلامية؛ فتكون لغة أساسية ثانية، ويُستخدم حرفها دون غيره في لغات المسلمين، مما يمهِّد لحضورها بقوة في المحافل الدَّولية.

ولا تخلو نشاطاته اللغوية من ملح وعبر، كقصَّة الشَّيطان وزوجته الملاك في الرِّياض، ودروسه المجانية لتعليم العربية، والخلاف في اسم برجنيف وموقف مترجمه، وتعليم الّلغة في ماليزيا، ونيجيريا، والصُّومال التي أريد تغيير دينها، وردم لغتها العربية، وسرقة موزها. ومن حكايات اللغة طرائف المترجمين عند رؤساء الدُّول؛ وبعضها قد يحرف المعنى بعيداً عن المقصود كما في شقف لحم مترجم حافظ الأسد!
ومما يذكر علاقات القاسمي الوثيقة مع الغربيين المفتونين بالعربية، وزيارته للعالم الهولندي بروخمان الذي وضع على داره لافتة باللغة العربية! وهو ممن عمل مع أستاذه أرندجان فنسنك في المعجم المفهرس للحديث النّبوي، وأنجز بعض أجزائه؛ ولذا يستشهد بالحديث الشَّريف كثيراً في نقاشاته، ويجزم بروخمان بأنَّ فنسنك صدَّق النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام في قرارة نفسه، بيد أنَّه أظهر له العداء، ونعوذ بالله من التَّعصب والخذلان.

وممن يزهو بهم الكتاب علماء أفذاذ خدموا علوم الشّريعة، وفنون اللغة، وأقسام التَّاريخ، بمؤلفات فخمة، وأعمال جليلة، وجهود موفقة، ولا يملك قارئ خبرهم إلاّ أن يدعو الله لهم بحسن المثوبة والأجر، فهذه أركان ثقافة أمتنا، وهي جديرة بالخدمة والتَّفاني، ولقد كان العلاّمة القاسمي شاهد صدق على جهاد هؤلاء الكرام، جهاداً علمياً وحضارياً، ينبغي له أن يحدث فرقاً في وعي الأجيال وحراكها.

ويصف المؤلف حيوية الأعراس في المغرب البهيج، حتى أنَّ العروسين يُحملان في صينية! وتكون المائدة عامرة بالحلوى مما يسعد قلوب الأطفال، وللقاسمي واقعة لذيذة مع ابنه وأصدقائه وأصدقاء أصدقائه في حفل زفاف كريمة دبلوماسي مغربي، وإنَّ حيوية المغرب مع أنسه وأناسه، عوامل تضافرت وأعانت على بقاء المهاجرين العرب فيه عقوداً متوالية. 

كما حوى الكتاب نقاشات طريفة مع ساسة؛ وفيها تأويلات غريبة أو وجيهة، ومن الطَّبيعي أن تكون تفسيرات أيِّ سفير لمعمر القذَّافي بمستوى غرابة القذَّافي ذاته؛ بينما يعلّل زعيم ماليزي فشل الدّيمقراطية في العالم العربي باحتواء أسامي العرب على دلالات قبلية أو مناطقية! ومن اللافت أنَّ أهم وزير في ماليزيا، والمرشح الأقوى لرئاسة الحكومة هو وزير التَّعليم!
وحظيت الباكستان بعدة مواقف، بعضها مع ضياء الحق، وبعضها الآخر مع بينظير بوتو، ومن المضحك أنَّ ضياء الحق قال لمن أثنى على لطف الفرد الباكستاني: صدقت؛ بيد أنَّك حين تجمع ثلاثة باكستانيين معاً فسيصعب عليك حكمهم! وحرصت بينظير بوتو على دعوة أستاذة مغربية لإلقاء محاضرة في باكستان عن النِّساء والحكم في التَّاريخ الإسلامي، بعد أن أهدى المؤلف كتاب الأستاذة المغربية لرئيسة الوزراء بواسطة سفيرها في المغرب.

ومن الحكايات العطرة ما تضمنه الكتاب من ثناء باذخ على السَّفير السُّعودي الشَّيخ محمد الحمد الشّبيلي، وكنت قد كتبت فيما مضى مقالة عن السَّفارة والسُّفراء، وضمّنتها شيئاً من أخبار أبي سليمان وغيره من جيل السُّفراء الذين يصدق عليهم وصف رجل الدَّولة، هذا الوصف الذي ذكره القاسمي لمن يستحقه في كتابه من علماء كانوا رجال دولة من طراز سامي.

ولا يخلو الكتاب من أخبار زعماء كملكة هولندا التي تستقبل كل شهر أهل مهنة أو فن، وليت صنيعها الجميل أن يقتدى به من غيرها، كما حوى الكتاب أخبار زعماء عرب في الأردن، وسورية، واليمن، والعراق، وتونس، ومصر، وغيرها، وما حدث لهم من مواقف في الاستقبال أو التَّرجمة أو الحفلات، ولا يملك القارئ إلاَّ أن يبتسم منها ويطرب لها.

فعلاً، لقد أبدع القاسمي وأجاد فيما كتب، وأحسب أنَّه سيفتح لغيره باباً كي يدلي بدلوه فيما ينفع، وكم ترك الأول للآخر، وكم في زوايا الحياة وأركانها من مواضع تحتاج إلى خبير يلتقط منها العبرة، ثم يحسن عرضها، بما يفي بالرِّواية، ويبلغ بالمعنى المراد مواضعه، مع حسن السِّياق، وجمال الأسلوب، كما فعل أبو حيدر وعلياء.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
@ahmalassaf
الجمعة 25 من شهرِ ربيع الآخر عام 1439
12 من شهر يناير عام 2018م



     

مقالات ذات صلة