أصدقاء الدكتور علي القاسمي

"رسالة إلى حبيبتي" * نوستالجيا قصصية عراقية نجيب العوفي**



"رسالة إلى حبيبتي" *
نوستالجيا قصصية عراقية
  نجيب العوفي**

وفد اسم الدكتور علي القاسمي على المشهد الثقافي والأدبي المغربي، منذ أمد ليس باليسير، حيث عرفناه كاتباً عراقياً وعربياً أصيلاً ونبيلاً، نديّ القلم، سخيّ الفكر والوجدان، رهيف الذوق والحسّ، متنوع الاهتمامات والشواغل الثقافية، ما بين الفلسفة والحقوق والتربية وعلم اللغة والترجمة والإبداع.
 عرفناه طائراً غرداً متنقلاً بين الأفنان والأغصان المعرفيّة، لا يكلّ له جناح ولا تتعب له لهاة، كما عرفناه طائراً بابلياً متنقلاً بين العواصم والحواضر، شرقيّة وغربيّة، دون أن يذهل لحظة عن هويته وأرومته.
ولقد شاءت الظروف أن يحط عصا تسياره منذ سنوات في أرض المغرب، فكان نازلاً ببلده ومقيماً بين أهله وعشيرته. وكانت سنواته المغربية وما تزال حوافل بالعطاء والإبداع.
والمفاجأة الإبداعية الجميلة التي زفّها إلينا علي القاسمي مؤخراً، هي إصداره لمجموعته القصصية الأولى (رسالة إلى حبيبتي)، بعد أن قرأنا له ضروباً من القصص القصيرة في الملحق الثقافي لجريدة (العلم).
والقصة القصيرة تشكّل أحد الاهتمامات الأدبية الحميمة لعلي القاسمي. فقد سبق أن ترجم منها نماذج وروائع عالمية، وبخاصة منها القصة القصيرة الأمريكية. لكنه هنا، وفي هذه المجموعة تحديداً، ينتضي إبداعه الخاص وينزع عن قوسه الخاصة، ويكتب لنا قصصاً عربية، عراقية الوجه واليد واللسان. وهنا تكمن أهمية وقيمة هذه المجموعة القصصية.
إن العراق، هو محور وهاجس هذه المجموعة. هو شريانها وعصبها الحيوي. وذلك من خلال ذكريات الطفولة البعيدة والبهية التي تستقطرها وتستدعيها نصوص المجموعة من المرابع والمراتع الأولى هناك، على ضفاف الرافدين. على ضفة النهر، حسب اللازمة القصصية المكانية التي تتكرر عبر نصوص المجموعة.
 وليست (رسالة إلى حبيبتي) جراء ذلك، سوى رسالة عشق وشوق حرّى، موجهة إلى ذلك العراق الطفوليّ الدافئ البريء. ليست سوى نزوع نوستالجيّ قصصيّ عَرِم وهادئ في الآن ذاته، إلى الأمكنة الأولى والأزمنة الأولى والذكريات الأولى.
ولقد كتب علي القاسمي نصوص هذه المجموعة وأصدرها أواخر عام 2002، قبيل الهجمة العدوانية الأنجلو-أمريكية الغاشمة على أرض الرافدين وشعب الرافدين. ومع ذلك، فإن نصوص هذه المجموعة، أو بعضها على الأقل، تنضح بحدوس ونُذر ما ستجيء به العواصف الهوجاء الرعناء. كما أن دلالة وقيمة هذه المجموعة تتعمقان وتتألقان أكثر في غمرة هذا الإعصار الأهوج، كما الذهب الإبريز يزداد مضاء وصفاء، كلما صقلته وصهرته النار.
تشتمل مجموعة (رسالة إلى حبيبتي) على عشر قصص، يتصدرها تقديم وافٍ للأستاذ عبد الكريم غلاب، خلص فيه إلى القول بأنها " مجموعة شيقة أكدت لي ـ وتؤكد لقرائها ـ أن الدكتور علي القاسمي نجح كقصاص كما نجح في نشاطه العلمي وأبحاثه الدقيقة" ص 14.
والقصص العشر هي، للتذكير أو التعريف، على التوالي: البئر، الدرس الأول، وفاء، الحذاء الإنجليزي، أصابع جَدّي، الذكرى، البندقية، الكلب ليبر يموت، الجذور في الأرض، رسالة إلى حبيبتي.
جلُّ هذه القصص، يستحضر ذكريات الطفولة الأولى، في تلك القرية العراقية البعيدة الوديعة هنالك، على ضفة النهر. وجلّها ينكأ ذلك الجرح العراقي التاريخي المزمن، الذي لا ينفك عن النزف والرعف.
أحسب أن القصة الأخيرة التي يتصدر عنوانها غلاف المجموعة ( رسالة إلى حبيبتي ) تكثيف لـ "الرسالة" القصصية والدلالية، التي تروم المجموعة إيصالها وإبلاغها، كما تكثيف وتوصيف لدلك الجرح العراقي النازف أبداً.
لنقرأ هذه المتتاليات السردية، من هذه الرسالة ـ القصصية التي يتوجه بها السارد إلى حبيبته المريضة بالعراق:
" حبيبتي !
لا شك أنك تتساءلين لِمَ غادرتُ قريتنا الصغيرة وأنتِ طريحة الفارش حبيسة الدار. ولا بد أنك تسألين وتسألين لِمَ لا أعود إليك بعد كلّ هذه السنين الطويلة؟!" ص 97.
ويكشف السارد ـ المتكلِّم عن السبب الذي حدا به إلى هجران الحبيبة العليلة، بعد أن أعيا داِؤها كل الحكماء والعرافين والعشّابين:
" وكيف لا أركب الخطر، وأهجر الأهل والأصحاب، من أجلك، يا أعزّ الأحباب؟ ولهذا رحلتُ عنكِ، يا حبيبتي، قبيل الفجر وجميعهم نائمون، لأنني لا أحتمل دموع الفراق في عينيك وعيون أمي والرفاق. يا إلهي، ما أهون الغالي وأرخص النفيس من أجل شفاء الحبيب!" ص 99.
إنها هجرة جليلة ومُضنية إذن، من أجل البحث عن الدواء الناجع والشافي للحبيبة المريضة بالعراق، و " إن الدواء الذي تطلب لا يُعبأ في قنينة ليُشرب، ولا يُصاغ بأقراص ليبلع، ولكنه من نوع خاص. إنه أقرب ما يكون إلى النور ينفذ في عينيك رويداً رويداً، ويتسرب إلى أُذنيك شيئاً فشيئاً، ويتخلل فؤادك، ويتشرب به دماغُك. وهذا يتطلب سنوات عديدة. وعندما تعود إلى حبيبتك العليلة، تُطبق شفتيك على شفتيها، وتضع صدرك على صدرها حتى تُصبحا جسداً واحداً وروحاً واحدة. وعند ذاك يسري البلسمُ منك إليها." ص 99ـ100. ذلك هو دافع الهجرة وسببها. وذاك هو قصدها وطلبُها، شفاء الحبيبة العراقية.
وحين يستكمل السارد عدته وآلته، ويغدو جاهزاً لنقل البلسم والدواء إلى الحبيبة العليلة، في رحلة العودة المأمولة، تأتي النهاية فاجعة وتراجيدية:
" فقد بلغني، يا حبيبتي، وأنا في منتصف الطريق، أن قريتنا الوديعة هاجمها لصوص متوحشون، غريبو الشكل والأطوار، عيونهم سهام، وأصابعهم حراب، قتلوا الشبان وسجنوا الشيوخ، وامتلكوا الديار، وأخذوك يا حبيبتي، وسيجوا القرية بالأسوار، وأوصدوا الأبواب، ولا سبيل للوصول إليك، فمكثتُ في منتصف الطريق أنتظر الفرج، وما زلت أنتظر. يا إلهي، ما أمر الانتظار!" ص101.
هكذا تلخص وتكثف لنا (رسالة إلى حبيبتي) بكل الشفافية والشاعرية والشجن مأساة العراق العظيم والعليل، الذي ما تكاد تنضمد له جراح حتى تنفتح في جسده المنهك جراح جديدة.
وهكذا البلدان العظيمة دائماً، تكون عُرضة للرياح الهُوج والأحقاد السود، كما تكون الشجرة المثمرة الباذخة عرضة للحجارة والأطماع.
 وإزاء هذا المصير الحالك لحاضر العراق الذي نهشتْه الغربان وتحيّفه العدوان، لا يملك سارد هذه المجموعة وبطلها المحوري، سوى العودة الحكائية إلى قريته العراقية الصغيرة، الساكنة في أطواء الذاكرة والطفولة.
  وعن هذه القرية الصغيرة وعبْرها، يلتقط لنا السارد حكايا طريفة موحية وشجية، كما ينسد مشاهد وصفية بالغة الرقة والشفافية، عابقة برائحة الأرض والتاريخ. وهذه أمثلة على ذلك:

 نقرأ في قصة (البئر):
 " بعد أيام قليلة ستعود لأول مرة إلى قريتها منذ أن زُفّت منها عروساً قبل ثلاث سنين. وسيرافقها زوجها، وستحمل وليدها على صدرها كعقد لؤلؤ ثمين، وستنهال عليها وعلى ابنها كلمات الإعجاب وعبارات الإطراء كما تتساقط الثمار الناضحة الشهية من أغصانها مع نسمات الربيع." ص 18.
  لكن الفرحة هنا لا تكتمل، فيسقط الطفل في البئر حين انشغلت عنه الأم بتقليب الرغيف في التنور " ثم تنتقل نظراتها إلى البئر فلا ترى الدَلو المنتصبة على حافتها، عند ذلك تنطلق وثباً إلى البئر وتقفز فيها." ص 19.

 ونقرأ في قصة (وفاء) على لسان الطفل ـ السارد:
 " وسرعان ما وصلنا إلى النهر، واندست البطة في مائه، وكنتُ والقمر نشاهدها تعوم طافية على الماء وتغطس فيه ثم تبرز لتنفض هنيهة ثم تغطس ثانية. وأنا استمر في توجيه الكلام إليها ومداعبتها بأطراف أناملي والقمر يواصل إرسال أشعته إليها ويغمرها بنوره." ص 35.
 والقصة تحكي عن علاقة حميمة ومكينة بين الطفل وبطته البيضاء وحزن الطفل لرحيلها المافجئ مع سرب البط العائم فوق الماء. إنها لمسات تشيكوفية وموبسانية رائعة ورهيفة، هذه التي تتلامحُ لنا من قصص علي القاسمي ومشاهدها الوصفية والسردية بلغة عذبة وريِّقة، معجماً وتركيباً وإيقاعاً.
 لمسات لا تقدر عليها سوى يد مبدعة صناع. إن بطل المجموعة، أو لنقل طفلها المتناسخ، مهما تقدم به العمر وتقلّبت به المحن والشدائد، يظل أبداً طفلاً لصيقاً بقريته ونهره، مشدوداً إليهما بعُرى لا توهنها الأيام. ومهما جاب هذا الكائن العراقي البابلي من آفاق وارتاد من أصقاع الغرب وأرصفته، تظل جذوره أبداً في الأرض، أرض العراق المضمَّخة بعطر التاريخ.

  نقرأ من قصة (الجذور في الأرض):
" وترتفع أنغام البيانو.. ويعج جو الغرفة بموسيقى بيتهوفن، كل شيء حوله يتشرّب بها إلا قلبه، فقد كانت تصدح فيه أنغام الناي المتصاعدة بين أشجار النخيل الباسقة، وألحان العود يعزفها غجري عاشق على أبواب بيوت القرية، وأهازيج أبناء القبيلة المنسجمة مع دبكاتهم، وأناشيد القرويات في موسم الحصاد، وحكايات أمه في ليالي الشتاء الممطرة، وخوار الأبقار، ومواء قطته المدللة، وضحكات أخوته الصغار. أما أنغام البيانو فقد أخذت تتضاءل شيئاً فشيئاً حتى استحالت إلى مجرد رموز موسيقية كتبتها هيلين على ورقة مخططة أخذتها من أحد دفاتره الخاصة بالرسوم الهندسية." ص 90ـ91.
 إنها المعادلة الروحية الصعبة، تخرج منها الذات محصنة الذات.
 وعزفاً على الوتر ذاته، وتر الجذور المنغرسة في الأرض، نقراً قصصاً أخرى جميلة ودالة من قبيل (أصابع جدي) و(البندقية) وإلى حد ما قصة (الذكرى) الطافحة بالأشجان والأحزان العراقية، من خلال أحزان دفينة وكثيفة لامرأة عراقية فقدت ابنها وزوجها وأخاها وأباها وأمها..وبقيت وحيدة تجتر أحزانها في صمت ملحمي، ومع ذلك كله بقيت منغرسة في المكان ثابتة الجنان.
 ولعل قصة (البندقية) خيرُ ما يمكن أن نختتم به هذه الإطلالة التيماتيكية الأولية على عالم المجموعة. وخير نموذج يؤكد هذا الانغراس في الأرض والتاريخ.

  نقرأ من هذه القصة الفقرة التالية التي يخاطب فيها الطفل أبه المحتضِر:
 ـ" نعم، فهمتُ يا أبي، استوعبتُ قصدكَ يا أبي. أعدك بأني سأفعل ما تروم. سأواظب على قراءة القرآن كل صباح، حتى إن لم أفهم ما أقرأ. فستحل البركة في الدار في كل مرة أتلو فيها القرآن، ويكثر الرزق. وإذا كنتُ حيّاً عند ظهور المهدي في آخر الزمان، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً، سأمتشق سيف جدِّي القديم وأنضم إلى أنصاره لأفديه بنفسي. سأجلو السيف بين آونة وأخرى ليبقى حاداً بتّاراً دوماً كما كنتَ تجلوه أمامي. اظمئن يا أبي، لن يصدأ سيف جدي." ص 72ـ73.
 وما دامت الجذور العراقية دائمة الانغراس في الأرض، وما دام ثمة أحفاد يجلون سيوف الأجداد ويصقلونها ويصونونها ويمتشقونها عند الحاجة، فلن يذبل ولن ينحني نخيل العراق الباسق، ولن تنضب مياه رافديه، ولن تُقهر عزائم بنيه. فالتحية للعراق المجيد وأهليه، ولابن العراق المبدع علي القاسمي، الذي حبانا بهذه النسائم العراقية البليلة
-------------

مقالات ذات صلة

1 comments :

comments
May 7, 2018 at 9:17 PM

استمتعت بهذا الجمال المنساب كانسياب المطر على شفاه الورد.
اسماعيل آل رجب المشهور بالقاص صدى الخالدي

رد
avatar