حول مجموعة علي القاسمي الجديدة دوائر الأحزان : تأملات حول فعل الكتابة
حول مجموعة علي القاسمي الجديدة دوائر الأحزان : تأملات حول فعل الكتابة
نقلا عن موقع "صحفي"
القدس العربي - شتان ما بين دائرة الافتراق ودائرة الاختراق ودوائر أخري قابلة لكلا التيمتين الموجبتين لملاعب شاسعة، تنعكس من خلال مساحاتها المنفتحة علي الوجود. دوائر الأحزان تقضم كل ما فات من الرسائل التي دونت علي مضض ـ في باحة حرب متردمة ـ، رسائل حبيبة موصولة البهاء والدهاء أيضا.
أينما كان الأمر فعلا يحتاج لممارسة إقلاع عبر هندسة هذه الدوائر المثمرة، فإن المثول عبر أكمامها نحو حياض الرأس، يجسم فعل الكاتب المبدع لمداهمة ومداهنة الحياة، بكل تناقضاتها، توجساتها وأوضاعها المتعسرة.
الدكتور الأديب اللغوي المعجمي والمترجم القاص علي القاسمي يطوع هذه الإشكالية المتعالية، ليصوغ دوائره الخاصة، بشكل يدعو إلي الدهشة والانبهار، دوائر هي عين الرؤيا ودماغ المعقول، لأنها اتخذت من مفاهيم الحرية والأمل والحرمان والضياع والانطواء والمغامرة، تيمات تدخل من أبواب واحدة، ولا تعود، إلا علي أدراج مسح آخر للعالم التراتبي. عالم يصوره المبدع القاسمي جوعا بجوع، فتنفطر أحلام رؤاه علي مقصلة صيرورة مترصدة، تنوء بها بطون ظاهرة بصورة أشياء أخري، غير ما عبأت لأجله.
فالوهم هو الانتظار ، هو معاكسة الواقع. و الرحيل هو الحب، هو التواطؤ مع الحياة. والزلة هي الوحدة وهي المآل الذي يستوطن النفس.. . أما الماء فهو السيل المؤدي إلي دائرة المسار ..
يقودنا القاسمي إلي ضياع جميل وتناقضات محزنة، تنتقيها علامات، هي أصلا ـ وفي الصميم ـ نتاج تجارب، جاءت بعض أطوارها مشبعة بالحياة، وكأنها تتحرك بين عينيك، مضمرة، لكنها واعية، متربصة مرتابة، متفتحة علي كينونات أخري، من دون أن يطالها زمن الكاتب ذاته.
بعد مجموعتيه القصصيتين، رسالة إلي حبيبتي (2) و صمت البحر (3) وترجمته الموفقة لروائع القصص الأمريكية المعاصرة مرافئ علي الشاطئ الآخر (4)، يأتي الدكتور علي القاسمي بـ دوائر أحزانه محفوفا بالكثير من الهم الإبداعي، نافذا إلي أعماق أعماقنا، بلغته الأثيرة وحسه الفاتن، وفرادته المعتادة في اختيار عناوين جدية وجادة، مصمما علي مناورة عوالم القصة القصيرة بامتياز، حافرا اسمه ضمن كتاب عرب قلائل جعلوا وعاء السرد تاجا في مضمار وجودهم البحثي والأكاديمي...
علي حين فورة، يلتهم القاسمي أحزانه، دوائر معقوفة الحدين، (حد الرؤية وحد الرؤيا)، يواري سوءة زمان نضيد، علي طريقة الدونكيشوط، لكن بوقع أكثر إيلاما، بدراماتولوجية تدنو شيئا فشيئا لتلك البيوض التي تلتهم قشورها، لتمكن نفسها من العيش، علي أنقاض موت بطيء...
في دوائر الأحزان ، يبدو القاسمي مروضا لالتهام كل شيء، عدا ذلك العقرب في منبه ثالوث حاشد، يتسور بناقوس وحدانية الاكتئاب ، ثالوث السلط الضائعة في بيداء ذاكرة القاسمي المرة والصقيلة، أولها غربة الذات التي تذوب فرائص جنوحها السادر في يم العزلة. وثانيها مصادرة الوهم، علي خلفية الإيقاظ والتيقظ، وتنويع حالات الانتظار. وثالثها تحييد دور المثقف الافتراضي وتدجينه، في الوقت الذي تتعامي عن صد الهجمات ضده، بالقدر الذي نجد فيه أنفسنا غير معبئين لفتح جبهات أخري، هي من أولي أولويات التمثيل الثقافي والمثاقفاتي. عناصر كلها يري القاسمي في مجموعته دوائر الأحزان أنها مصممة لتقويض أفراحنا وآمالنا، مهيأة لمسح ومسخ هويتنا وتواريخنا.
متوثبة لمحو ما تبقي من إصرارنا علي الوجود والتواجد، الفعل والتفاعل... وفي ذلك إخلال بإنســانيتنا وإبداعاتنا.
وحقيق بهذا الوضع المزري الذي يتربص بنا شر تربص أن يحرضنا علي إعادة النظر في أبجديات التخطيط والتلاقح، في أفق استعادة الذات وتصحيح انحرافاتها.. ولعمري إنها دوائر مجردة من كل بلاغة جوفاء. فالحضارات تصنع أمجادها من التربص والاستقواء الإيجابي، لا من النكوص والخواء، وتعيد تحصين قلاعها من دواهي الدهر ومثالب الأيام، لا علي توريث الهزائم وأورام الخنوع والانبطاح!
لقد أبدي القاسمي ـ وبدهاء جدير بالقراءة ـ خوفه الملــح من أن يطال التقصــــير، في إعادة بناء الذات العربية المغتــــربة، عورة النــــفس الثكلي ونصــــال الروح المتشظية، فألقــــي باللائمة علي إشراك العدم، كـدلالة علي السلب والارتداد، في إشارة إلي غياب مصداقية التدبر والفعل كحد من حدود قابلية التغيير كما وصفها المفكر الجزائري المغترب مالك بن نبي.
لقد كانت مجموعة قصص الدكتور علي القاسمي دوائر الأحزان في ذات السياق الذي انتهجته مجموعاته السابقة، فكرية إبداعية، تنحت أضلاعها من التوفيق بين النقل والعقل، بين الشاهد والغائب، بين المادة والروح، بين الانتظار والاحتضار، بين الدفع والتدافع...إنه الإمعان في مقاربة النص بالنص أيضا، والتاريخ بالتاريخ والإنسان بالإنسان....
إنها دوائر أحزان، في واجهة الحسم فيما لا يؤول. أما القاسمي فهو أشرس الرجال العرب الذين لا يحزنون إلا عند احتدام شأفة الموت.. وما أقساه!؟
شاعر وكاتب صحافي من المغرب
علي القاسمي، دوائر الأحزان (القاهرة: دار ميريت، 2005).
علي القاسمي، رسالة إلي حبيبتي (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2003).
علي القاسمي، صمت البحر (الدار البيضاء: دار الثقافة، 2003).
(4) علي القاسمي، مرافئ علي الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة (بيروت: إفريقيا الشرق، 2003).