رسالة حزينة ورجل منفي بقلم بيانكا ماضية
رسالة حزينة ورجل منفي
العدد:
12436
وردتني رسالة من الدكتور علي القاسمي الكاتب القصصي والروائي وعضو مجمع اللغة العربية في كل من القاهرة ودمشق والذي له إسهام كبير وجلي في وضع معاجم لمصطلحات اللغة العربية ,
وغيرها من إسهامات أدبية وثقافية وعلمية , وردتني تلك الرسالة مجيباً فيها عن سؤال كنت قد سألته إياه منذ فترة وألححت فيه على معرفة الجواب , وربما من كثرة إلحاحي أصر هو الآخر على الرد .
قد أشرت في سؤالي إلى أنني أشعر بحزن دفين في أعماقه , تدلل عليه عناوين مجموعاته القصصية (أوان الرحيل) , (دوائر الأحزان) , (صمت البحر) وكنت حين سألته ذاك السؤال لم أكن قد توقفت - حين قراءتي سيرته الذاتية في ديوان العرب - عند هويته ومولده , فلم أكن أدري أنه عراقي الأصل , ولكم كانت صدمتي كبيرة حين قرأت ماجاء في رسالته , وقد أدخلتني الكلمات في حالة حزن كتلك الحالة التي يشعر بها , واقشعر بدني جراء هول الكلمات التي قرأتها في رسالته وهو يصف سبب الحزن المتغلغل في أعماقه ولكم أن تقرؤوا معي سطور تلك الرسالة لتدركوا أي جرح عميق في نفس ذلك الرجل العالِم , وأي خيبة تلك التي يعيش تفاصيلها كل يوم وبما أن الصمت أبلغ من الكلام , فقد صمتُ لتقرؤوا التفاصيل وتدركوا الأسباب :
(بيد أن هذه السعادة سعادة ظاهرة لا غير. ففي أعماقي جراح غائرة فاغرة, لا تندمل ولا تُشفى. فأنا أعاني الغربة والوحدة, وأنزف خيبةً وفقداناً. فأنا منفيّ عن وطني منذ سبعة وثلاثين عاماً. نعم منفي ذو خمس نجوم. منفي يعيش في أفخر دارة على شاطئ المحيط مباشرة, ولكنني منفي. ومما يزيدني ألماً أن علماء العراق الذين لا أستحق أن أكون تلميذاً من تلاميذهم, هم إما مشردون في المنافي يقفون بذُلٍ على أبواب منظمات اللاجئين وإما يقتلهم الفقر في العراق, يجلسون على قارعة الطريق في بغداد عارضين كتبهم للبيع بأبخس الأثمان علّهم يحصلون على قوت لعيالهم. أنا منفي غريب وحيد تغمرني الخيبة حتى أكاد أختنق. كنا في شبابنا نحلم بوطن عربي موحّد له موطئ قدم في هذا العالم الذي تسوده التكتلات من كل نوع. وإذا بي اليوم أشاهد وطني محتلاً مقسّما, يسوده الاقتتال من كل نوع, في العراق وفلسطين ولبنان وفي كل مكان. إنهم يقدّمون أجل الخدمات للعدو باقتتالهم. أتعرفين كيف أشعر وأنا أرى, بأم عيني, أحلامي بقيام وطن عربيّ موحّد تنهار, تضمحلّ, تتلاشى, كجبل من ملح يجتاحه البحر? ) .
هذه الكلمات التي كتبها الدكتور علي القاسمي هي تعبير حقيقي عن الحزن الدفين الذي يعيشه هو وآخرون من أبناء العراق المنفيين , وهم يرون بأم أعينهم تلك الأحلام الكبيرة تصغر فتصغر حتى تضمحل .
ويتحدث الدكتور القاسمي لا عن العراق موطنه وبلده وحسب وإنما عن الدول العربية التي تنهش أنياب العدو أجسادها فلاتبقي لا شجراً ولا حجراً
ويعلم الاستعمار علم اليقين أننا متفرقون , مبعثرون , غير متحابين
وكنت قد رددت على رسالته تلك بكلمات أدونها لكم :
( ولكن شيئاً ما حزيناً تسرب إلى أعماقي , واغرورقت الدموع في عيني وأنا أسير في دروب مقطعك الثاني هذا المقطع الذي تلمست فيه وحدتك وجروحك الغائرة غير المندملة , وكان لديّ حدس مسبق عن هذا المنفى الذي تعيشه , وعن الألم الذي يسري إلى أعماقك , كنت أستشعر هذا الأمر من دون أن أعرف قبلُ أنك عراقي المولد والهوية . وازدادت المشاهد بؤساً في ناظري وأنت تتكلم على علماء العراق , وأكبرت فيك نفسك المتواضعة حين قلت : لا أستحق أن أكون تلميذاً من تلامذتهم ..
إن الطريقة التي تتحدث فيها عنهم جعلتني أشعر شعورك ذاته , وبمدى الخيبة والضياع , يالهذا العراق المستباحة أجزاؤه !
أكتب هذا عن بلد عربي تشتت أبناؤه على مرأى كل العرب , وهاهم اليوم تمزق وحدتهم نيران الفتنة
يالها من مشاهد مروعة رسمتها أمامي , ويالهذه الغربة النفسية التي تعيشها .
أشعر بمشاعرك ذاتها وأنت تتحدث عن أحلامك بوطن عربي موحد , ولكن أحلامنا يطويها الغطرسة والجبروت , تطويها الصراعات والحروب .. ولانزال نحلم ونحلم , وأنى لهذا الحلم أن يتحقق !!
لقد جعلتني أشعر بتلك التناقضات التي تعيشها , وكانت مشاعر الحزن أعمق وأقوى إذ تغلغلت إلى مسام روحي وأنت تتكلم على العراق , على لبنان , على فلسطين .
فمتى نصحو من سباتنا العميق لنزيح عن كاهل أمتنا أنياب هذا العدو المتربص بها من كل الجوانب ??!!
الفئة: