عبدالمالك أشهبون يكتب عن عوالم علي القاسمي القصصية
عبدالمالك أشهبون يكتب عن عوالم علي القاسمي القصصية
محمد نجيم (الرباط)
في طبعة أنيقة، أصدر الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون كتابه الجديد «مختارات قصصية لعلي القاسمي»، وهو الكتاب الذي رَصد فيه تجربة الكاتب والمترجم والمعجمي العراقي علي القاسمي المقيم منذ سنوات في المغرب، وذلك عن دار ضفاف (بيروت) ودار الأمان (الرباط) ومنشورات الاختلاف (الجزائر)، ويقع الكتاب في 191 صفحة.
ويرى الدكتور أشهبون أن علي القاسمي الذي وصفه بـ»الطائر البابلي» قادم من بلاد الرافدين إلى تخوم المحيط الأطلسي، مروراً بمجموعة من الربوع؛ مكَّنَتْه أسفاره من امتلاك رصيدٍ هائلٍ من المعارف والرموز الثقافية والاجتماعية والحضارية. وبهذه الموسوعية التي قَلَّ نظيرها، يُضَاهي الطائر المسافر، المُحلِّقَ في علياءِ السماء، بل إنه طائرٌ هائلٌ بحجم سِرْبٍ بأكمله، ودليلنا على ذلك عددُ الأجنحة المعرفية، التي يحلِّق بها القاسمي في سماء المعرفة والإبداع والعلم.
وقد لاحظ الدكتور أشهبون أن المتأمل في قصص علي القاسمي لا بد أن تثيره، وتستهوي مخيلته نبرة ألمٍ عميقةٍ مما هو كائن من جهة، وانخطاف لذيذ بلحظات هاربة ولَّتْ ومضتْ، وبأمكنة طفولية بهية، مستعادة من الريف العراقي الأصيل من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس المكين، يعمل علي القاسمي على استرجاع ذكريات الصِّبَا التي يعتبرها الأجمل والأبهى؛ لأنها تنتمي لزمن آخر غير هذا الزمن الآني الغشوم، بكل ما يحمله هذا الريف من رموز البساطة، وعناصر الإثارة، وفضاء التَّشَكُّلِ الوجداني والعاطفي والروحي الطفولي.
هي، إذاً، استعادات حلوة عارمة لأشياءَ وأحداثٍ وصورٍ من الطفولة، وعهد المراهقة الأول، إلى لحظات الإحساس بالرجولة. ذكريات يغمرها التوثب الجامح للمعرفة والتحصيل الدراسي («الدرس الأول»)، والارتباط الحميم بعناصر الطبيعة الأولى كالنهر والبطة («وفاء»)، والانتشاء بأحلام اليقظة الوردية في أحضان الطبيعة الساحرة في عز فصل الربيع («إنه الربيع»)، مروراً بلحظات الإحساس بالرجولة، حين ينقذ الأخ الأكبر أخاه الأصغر من غرق محقق («السباح.)
ويرى القاسمي أنه كلما ابتعد الكاتب عن مسقط رأسه، فَقَدَ هذا الاتصال الحميم مع مراتع الصبا الأثيرة. ولهذا السبب الوجداني، نذر علي القاسمي نفسه كسادنٍ وحارس لذاكرة هذا الفضاء الريفي الذي انغرس في وجدانه انغراساً، ليتحول بعد ذلك إلى ما يشبه الشجرة السامقة؛ جذورها تمتدُّ عميقا في هذا المكان/الهنا، وإن كانت فروعها تطول أرجاء أخرى من المعمور/ الهناك.
إنها عبارة عن تَذَكُّراتٍ يرويها الكاتب بعد سنوات من فراق الأهل والأحباب؛ تذكراتٌ شاهدة على مراتع الطفولة وعناصر الإبصارات الأولى، وحالات توهج العشق الطفولي، يعيد الكاتب تجسيد عوالمها التي عايشها عن كثب، بعد أن هضمها وتمثلها، معيداً إنتاجها عبر مخيلة خلاقة في صياغات قصصية مشوقة، وكأنه يقرر لنا قاعدة أدبية وفلسفية مفادها: أن من لا يعيش طفولة العالم فيه، يستحيل أن يكون أو يستمر كاتباً.. مبدعاً!
ويبدو أن ثمة عاملين أساسيين يقفان وراء اهتمام علي القاسمي الاستثنائي بتيمة «الرحيل»، وهما كالتالي:
ـ أولاً: حالة الاغتراب التي عاشها/ويعيشها الكاتب خارج الوطن، خلالها نجد صورة ذلك الإنسان الجوَّال، دائم التنقل والارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن في نهاية المطاف. فكل واحد من الأمكنة التي عاش فيها الكاتب ـ في داخل العراق وخارجه ـ يملك شبكة كثيفة ومركبة من العناصر الجاذبة، تشكل في النهاية جزءاً عضوياً من عملية نموه الفكري، وتكوين وعيه النفسي، وتمكينه من التشبث ـ بقوة ـ بعناصر الانتماء الأولى للوطن الأم.
ـ ثانياً: انعكاس حالة الاغتراب هذه على نفسيته، مما ترتب عليها حنين عارم ـ لا يقاوم ـ إلى وطنه الأصلي عامة، وإلى الريف العراقي، مسقط الرأس بصفة خاصة. ففي الوقت الذي تعذر عليه إيجاد علاقات روحية متينة في البلدان الغربية، التي تردد عليها طلبا للعلم والتحصيل؛ فإنه يستعيد فضاءات الريف العراقي الذي كانت فيه العلاقات الروحية قوية ووطيدة، ابتداءً من البيت الريفي، والنهر المجاور للبيت والمدرسة... ويرى الدكتور أشهبون أن على القاسمي يستدعي موضوع الريف بين الفينة والأخرى في عالمه القصصي؛ لأنه منبعه، ومأمنه، ولأنه الدنيا الخالية من أكثر ما لقيه في بلدان المهجر ـ شرقا وغربا ـ من هموم وأحزان.
في طبعة أنيقة، أصدر الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون كتابه الجديد «مختارات قصصية لعلي القاسمي»، وهو الكتاب الذي رَصد فيه تجربة الكاتب والمترجم والمعجمي العراقي علي القاسمي المقيم منذ سنوات في المغرب، وذلك عن دار ضفاف (بيروت) ودار الأمان (الرباط) ومنشورات الاختلاف (الجزائر)، ويقع الكتاب في 191 صفحة.
ويرى الدكتور أشهبون أن علي القاسمي الذي وصفه بـ»الطائر البابلي» قادم من بلاد الرافدين إلى تخوم المحيط الأطلسي، مروراً بمجموعة من الربوع؛ مكَّنَتْه أسفاره من امتلاك رصيدٍ هائلٍ من المعارف والرموز الثقافية والاجتماعية والحضارية. وبهذه الموسوعية التي قَلَّ نظيرها، يُضَاهي الطائر المسافر، المُحلِّقَ في علياءِ السماء، بل إنه طائرٌ هائلٌ بحجم سِرْبٍ بأكمله، ودليلنا على ذلك عددُ الأجنحة المعرفية، التي يحلِّق بها القاسمي في سماء المعرفة والإبداع والعلم.
وقد لاحظ الدكتور أشهبون أن المتأمل في قصص علي القاسمي لا بد أن تثيره، وتستهوي مخيلته نبرة ألمٍ عميقةٍ مما هو كائن من جهة، وانخطاف لذيذ بلحظات هاربة ولَّتْ ومضتْ، وبأمكنة طفولية بهية، مستعادة من الريف العراقي الأصيل من جهة ثانية. وعلى هذا الأساس المكين، يعمل علي القاسمي على استرجاع ذكريات الصِّبَا التي يعتبرها الأجمل والأبهى؛ لأنها تنتمي لزمن آخر غير هذا الزمن الآني الغشوم، بكل ما يحمله هذا الريف من رموز البساطة، وعناصر الإثارة، وفضاء التَّشَكُّلِ الوجداني والعاطفي والروحي الطفولي.
هي، إذاً، استعادات حلوة عارمة لأشياءَ وأحداثٍ وصورٍ من الطفولة، وعهد المراهقة الأول، إلى لحظات الإحساس بالرجولة. ذكريات يغمرها التوثب الجامح للمعرفة والتحصيل الدراسي («الدرس الأول»)، والارتباط الحميم بعناصر الطبيعة الأولى كالنهر والبطة («وفاء»)، والانتشاء بأحلام اليقظة الوردية في أحضان الطبيعة الساحرة في عز فصل الربيع («إنه الربيع»)، مروراً بلحظات الإحساس بالرجولة، حين ينقذ الأخ الأكبر أخاه الأصغر من غرق محقق («السباح.)
ويرى القاسمي أنه كلما ابتعد الكاتب عن مسقط رأسه، فَقَدَ هذا الاتصال الحميم مع مراتع الصبا الأثيرة. ولهذا السبب الوجداني، نذر علي القاسمي نفسه كسادنٍ وحارس لذاكرة هذا الفضاء الريفي الذي انغرس في وجدانه انغراساً، ليتحول بعد ذلك إلى ما يشبه الشجرة السامقة؛ جذورها تمتدُّ عميقا في هذا المكان/الهنا، وإن كانت فروعها تطول أرجاء أخرى من المعمور/ الهناك.
إنها عبارة عن تَذَكُّراتٍ يرويها الكاتب بعد سنوات من فراق الأهل والأحباب؛ تذكراتٌ شاهدة على مراتع الطفولة وعناصر الإبصارات الأولى، وحالات توهج العشق الطفولي، يعيد الكاتب تجسيد عوالمها التي عايشها عن كثب، بعد أن هضمها وتمثلها، معيداً إنتاجها عبر مخيلة خلاقة في صياغات قصصية مشوقة، وكأنه يقرر لنا قاعدة أدبية وفلسفية مفادها: أن من لا يعيش طفولة العالم فيه، يستحيل أن يكون أو يستمر كاتباً.. مبدعاً!
ويبدو أن ثمة عاملين أساسيين يقفان وراء اهتمام علي القاسمي الاستثنائي بتيمة «الرحيل»، وهما كالتالي:
ـ أولاً: حالة الاغتراب التي عاشها/ويعيشها الكاتب خارج الوطن، خلالها نجد صورة ذلك الإنسان الجوَّال، دائم التنقل والارتحال، من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن في نهاية المطاف. فكل واحد من الأمكنة التي عاش فيها الكاتب ـ في داخل العراق وخارجه ـ يملك شبكة كثيفة ومركبة من العناصر الجاذبة، تشكل في النهاية جزءاً عضوياً من عملية نموه الفكري، وتكوين وعيه النفسي، وتمكينه من التشبث ـ بقوة ـ بعناصر الانتماء الأولى للوطن الأم.
ـ ثانياً: انعكاس حالة الاغتراب هذه على نفسيته، مما ترتب عليها حنين عارم ـ لا يقاوم ـ إلى وطنه الأصلي عامة، وإلى الريف العراقي، مسقط الرأس بصفة خاصة. ففي الوقت الذي تعذر عليه إيجاد علاقات روحية متينة في البلدان الغربية، التي تردد عليها طلبا للعلم والتحصيل؛ فإنه يستعيد فضاءات الريف العراقي الذي كانت فيه العلاقات الروحية قوية ووطيدة، ابتداءً من البيت الريفي، والنهر المجاور للبيت والمدرسة... ويرى الدكتور أشهبون أن على القاسمي يستدعي موضوع الريف بين الفينة والأخرى في عالمه القصصي؛ لأنه منبعه، ومأمنه، ولأنه الدنيا الخالية من أكثر ما لقيه في بلدان المهجر ـ شرقا وغربا ـ من هموم وأحزان.