ترجمة العنوان في رواية الشيخ والبحر ترجمة العنوان في رواية الشيخ والبحر فاتحة تمزارتي
ترجمة العنوان في رواية
"الشيخ والبحر"
فاتحة تمزارتي
مقدمة:
يعدُّ العنوان من أهم عناصر النص ومكوناته
الداخلية؛ نظرًا لكونه مدخلاً أساسيًّا في قراءة الإبداع الأدبي على
العموم، والإبداع الروائي على الخصوص، وهو العلامة التي تميز الكتاب أو
النص عن غيره وتَسِمُه، ويعدُّ البوابة التي يستحيل الولوج إلى محتوى النص
دون المرور عبرها، وهو كذلك من العناصر المُجاوِرة والمحيطة بالنص الرئيس،
إلى جانب الهوامش والمقدِّمات والمُقتبسات والأدلة والحجج.
وما دام
العنوان يشكل عتبة من عتبات النص والمفتاح الذي يسعفنا في فهمه والاقتراب
من معانيه، وما دام أنه أيضًا يشكِّل المرآة التي تعكس مضمون النص وفكرته
الأساسية، وكذا النافذة التي يمكن من خلالها أن نطلَّ على النص برُمته، وجب
الوقوف عند العنوان ودلالته ومعانيه وإيحاءاته، لكن هذه العناوين غالبًا
ما تعرف بعد ترجمتها نوعًا من الانحراف والتشويه لمعانيها، خصوصًا والأمر
يتعلق بلغتين أو ثقافتَين مُختلفتين.
لقد حظيتْ رواية " The old man and the sea" بعدة ترجمات إلى لغات عدة من بينها اللغة العربية، ومن أشهرها ترجمة علي القاسمي، ففيما يخص العنوان The old man and the seaفي النسخ المترجمة، نجد العبارة نفسها، حيث فضل كل من علي القاسمي وعبدالحميد زاهيد ترجمته بعبارة "الشيخ والبحر"،
والملاحظ أنهما حافَظا على الصيغة نفسها للعنوان في اللغة المصدر، بحيث
قاما بترجمة العنوان الأصلي الذي جاء في صيغة جملة اسمية وعَملا على ترجمته
بجملة اسمية مماثلة في اللغة الهدف، في حين ترجمها إيلي مهنا وصالح جودت
وغبريال وهبة بـ"العجوز والبحر".
وقد يمثل
العنوان أول شيء يجب على المترجم ترجمتُه، ومعنى هذا أن المترجم مطالب
بالتدقيق والتركيز عند القيام بالترجمة، ما دام أن العنوان هو البوابة التي
تُمكِّننا من الولوج إلى قلب أي مؤلف كيفما كان نوعه، ويزداد الأمر
تعقيدًا أكثر فأكثر حينما تتعلق المسألة بمتن روائي أو قصصي.
فالعنوان إما
أن يخلق عندك الرغبة والانجذاب إلى هذا المؤلَّف، وإما أن يدفع بك إلى
الكف أو الغض عن قراءة ما بداخل الرواية أو القصة.
فالعنوان: "The old man and the sea" أو "الشيخ والبحر" يلخص لنا مضمون الرِّواية؛ بحيث يتحدث عن الشخصية الرئيسية فيها، التي هي "الشيخ"، والمكان الذي تبلورت فيه الأحداث، وهو "البحر"،
وإذا أردنا تحليل هذين العنصرين، نجد أن ثمة تناقضًا بين العنصرين؛ حيث
نجد شخصية نحيلة متقدمة في السن لا تسعفها بنيتها الضعيفة على مواجهة مكان
الأحداث: "البحر"، الذي يحمل في دلالاته كل معاني القوة والسلطة والطغيان،
والفضاء الشاسع الذي يعجز معه شاب في ريعان شبابه على مواجهته والانتصار
عليه، لكن الشيخ البطل في الرواية سيكتسب من المهارات ما يجعله يتغلب على
هذه القوة وهذا الفضاء غير المتناهي؛ وذلك بحنكته وتجربته وخبرته فيه لمدة
أخذت منه عمره كله.
إنَّ عنوان الرواية: "الشيخ والبحر"
يحمل في طياته قصة مغامرات شيخ كبير في عرض البحر مع أسماك التونة وأسماك
القرش والميرلان، ويُوحي لنا منذ الوهلة أن هذا الصياد المسكين يُكابد ما
يكابده في البحر من صعوبات وأهوال تكاد تُكلفه حياته في أحيان كثيرة،
وبالنسبة لترجمة العبارة الأصلية Old manبكلمة "شيخ" فلها ما يُبرِّرها عند مترجم مثل علي القاسمي.
يبدو أن
لكل من الوحدتين المعجميتين "عجوز" و"شيخ" الدلالة نفسها، لكن علي القاسمي
لا يفضِّل استِعمال كلمة "عجوز"؛ وذلك لأسباب أجملها في ما يأتي:
"أولاً: كلمة "عجوز" مشتقة من "العَجْز"؛
أي: عدم القدرة على العمل، في حين أنَّ الغاية الأساسيَّة من قصَّة
همنغواي هي تصوير نضال الإنسان المستمرِّ، وكفاحه المتواصِل، وعمله الدائم
من أجل التحكُّم في الطبيعة وترقية مستوى حياته"[1]،
فبطل رواية همنغواي نعم هو شيخ كبير ورجل متقدم في السن، ولكنه يتصف
بالاجتهاد والمثابرة ومواصلة العمل دون كلل أو ملل، وله ثقة وإيمان قويان
بنفسه، بحكم التجارب والخبرات التي اكتسبها من عمله في الصيد، فهو يَملك من
الحِيَل ما يجعل أضخم الأسماك تَستسلِم له؛ حيل تجعل القارئ ينسى معها
فقدان الشيخ لقوَّتِه بسبب تقدُّمه في السن. فبطل الرواية إذًا شيخ وليس
عجوزًا، فكلمة "شيخ" في اللغة العربية تدل على "الشيخوخة"، ولكنها في الوقت نفسه تدل على الحكمة والمعرفة، فـ"الشيخ"
هو رئيس القبيلة المعروف بحكمته، و"الشيخ" هو رجل الدِّين العارف بحدود
الله، وكلمة "شيخ" تُستعمل في وصف أكبر أهل المهنة وأعرفهم بأصولها، فنقول "فلان شيخ المؤرِّخين" أو "شيخ الروائيِّين"، وصياد همنغواي هو "شيخ الصيَّادين"[2].
السبب الثاني
الذي يقدمه علي القاسمي هو: رأي المعاجم القائل: إن كلمة "عجوز" مفرد
عجائز: امرأة هرمة أو مسنَّة، ويقابلها "شيخ" أي رجل هرم، وقد يقال للرجل
عجوز كذلك[3]، وهذا هو الاستعمال في القرآن الكريم؛ إذ ورد فيه: ﴿ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ﴾ [هود: 72][4].
ويضيف علي
القاسمي أننا نُطلق عادة كلمة "عجوز" على المرأة، وكلمة "شيخ" على الرجل،
كما أن هذا التعبير السياقي "عجوز شمطاء" هو الشائع، ولم نسمع بمقابله
"عجوز أشمط"، ولكي يُقنعنا أكثر يسوق هذين البيتين المشهورين الآتيين،
اللذين يحفظهما كل واحد منا حتى صار عجز البيت الثاني مثلاً يُضرب:
عجوز ترجَّتْ أن تكونَ فَتيَّةً
وقد نحلَ الجنبانِ واحدودبَ الظَّهرُ
تَدسُّ إلى العطارِ ميرةَ أهلِها
وهل يُصلِحُ العطارُ ما أفْسَدَ الدهرُ؟![5]
|
إذًا، وحسب
منظور علي القاسمي، لا نكاد نعثر في تراثنا الأدبي العربي على استعمال
لكلمة "عجوز" للرجل، بل نجدها تُستعمل للمرأة، ولكن هذا لا يمنع أي مُترجِم
آخر - كما يقول علي القاسمي - من استعمالها ما دامت المعاجم تُجيز له ذلك.
خاتمة: بناءً
على ما سلف، ومن خلال هذا المقال الذي اتَّخذ من العنوان موضوعًا له، وعمل
على دراسته في علاقته بالترجمة؛ وذلك من خلال رواية الكاتب المعروف إرنست
همنغواي، هذا التنوع في ترجمة العنوان يَدفعنا إلى القول: إن الترجمة لم تَصل بعدُ إلى مرحلة إيجاد قواعد عِلمية ثابتة وملزمة، ما دامت تمثِّل مفهومًا اختلفت الآراء حول تحديده، ومِن
ثَمَّ فإن الأمر يفتح الباب أمام وجود اختلافات وتأويلات في الترجمة ترجع
إلى اختلافات التكوين الثقافي والبيئي والعِلمي للأشخاص القائمين على
الترجمة، وإلى الاختلاف الواقع بين اللغتين
المنقول منها والمنقول إليها، وتزداد حدة هذا التعقيد أكثر حينما يتعلق
الأمر بثقافتين وبيئتين مُختلفتين، وينجم هذا التعقيد أيضًا عن كون المترجم
يفتقد - أحيانًا - لملكات وقدرات وكفاءات أكثر اتساعًا وعمقًا، وفي مجالات
متعدِّدة ومتنوعة، مِن بينها التحكم في اللغتين معًا، والعلم بأسلوب
الكاتب المراد الترجمة له وطريقته في الكتابة.