باريس «عيدٌ متنقل» يوسف القعيد
باريس «عيدٌ متنقل»
باريس أولاً. تعرضت لما جرى فيها من حوادث إرهابية. وكل من زار المدينة
الفاتنة التى لا حد لجمالها عندما تابع أخبارها. حاول أن يتذكر أيامه فيها.
وما تركته من آثار لا يمكن نسيانها. فعبقرية المكان التعبير الذى نحته
جمال حمدان فى وصف ذاتية المكان المصري، يمكن استعارته ونصف به باريس.
احترت بين أمرين. إما أن يعود الإنسان لأوراقه وينفض عنها غبار السنوات.
ويستخرج منها ما دوَّنه من يوميات عن رحلته الباريسية سنة 1986 لحضور صدور
الترجمة الفرنسية لروايتي: الحرب فى بر مصر. أو محاولة القراءة عن باريس.
فالقراءة ربما كانت استحضار لما مضي.
اخترت الحل الثاني. خاصة أن من سأقرأ له عن باريس إرنست هيمنجواي. الذى
كتب كتاباً جميلاً ومبهراً يعيد للعين متعة القراءة عن باريس. وأنا لا أربط
بين اقتنائى الكتاب وقراءته. يمكن أن أحرص على وجود الكتاب معي. لكن
الإقبال على قراءته لها مواقيت أخري.
يُصدِّر هيمنجواى كتابه بهذه العبارة:
- إذا واتاك الحظ بما فيه الكفاية لتعيش فى باريس وأنت شاب، فإن ذكراها
ستبقى معك أينما ذهبت طوال حياتك، لأن باريس وليمة متنقلة. هذا ما كتبه
إرنست هيمنجواى فى رسالة لصديق له عام 1950. وفى العام الماضى صدر عن مكتبة
الأسرة كتاب عنوانه: الوليمة المتنقلة، من ترجمة الدكتور على القاسمي.
ورغم أن تصنيفه الأدبى نص روائي. فإن كتاب هيمنجواى يصنفونه باعتباره كتابة
جميلة عن باريس. وإن كنت أراه ذكريات باريسية، أهم ما فيها ما كتبه
هيمنجواى عن تجليات الكتابة فى مرحلة مبكرة من عمره بالنسبة لتجربته
الشخصية وعدد من كُتاب العالم الذين تصادف أن عاصرهم.
عاش هيمنجواى فى باريس خمس سنوات. من 1921 حتى 1926، إنها تلك الفترة
التى يسميها الفرنسيون الحقبة الجميلة. أو سنوات الجنون. وهيمنجواى لا يدون
يومياته فى هذا الكتاب المهم عن تجربته الشخصية. ولا يتمحور حول ذاته. ولا
يمارس نرجسية المثقفين التى تصل لمداها فى سنوات الشباب. وعندما نعرف أنه
مولود فى 21 يوليو 1899، فإن هذا معناه عاش فى باريس وكان فى العقد الثالث
من عمره. وصل إليها وكان فى الثانية والعشرين. وتركها وهو فى السابعة
والعشرين. وربما كانت أهم سنوات التكوين بالنسبة لأى مثقف. بقى أن نقول إن
هيمنجواى مات منتحراً فى الثانى من يوليو 1961.
اقترب هيمنجواى خلال وجوده فى باريس من الشاعر الأمريكى إيزرا باوند،
والشاعر الأمريكى البريطانى تى إس إليوت. والروائى البريطانى جيمس جويس.
والكاتبة الأمريكية جيرترود شتاين. والروائى الأمريكى سكوت فيتزجرالد الذى
خصص له فصلين كبيرين من فصول هذا الكتاب.
لم يدون هيمنجواى كتابه مباشرة بعد معايشته للفترة الباريسية. بل كتبه فى
السنوات الثلاث الأخيرة من حياته. كان قد اكتملت أدواته الفنية والفكرية.
ولذلك تعامل مع شخصياته وموضوعه بأسلوب روائى ساخر أخَّاذ. مترجم الكتاب
ينبه قارئيه إلى أنه يشكل جنساً أدبياً جديداً يختلف عن الأجناس الأدبية
التى مارسها هيمنجواى من قصة ومقال ورواية. فالكتاب عبارة عن ذكريات سيرة
ذاتية صيغت بشكل روائي.
هيمنجواى يقول إنه كان من الممتع لو ضم هذا جميع الذكريات. ولكنه اضطر
للتخلى عنها وقت كتابته. وللقارئ أن يعد هذا الكتاب من باب السرد الخيالى
إذا أراد ذلك. ولكن ثمة احتمال دائم أن هذا النص السردى قد يلقى ضوءاً
كاشفاً على الحقيقة والواقع.
ورغم أن هيمنجواى جلس يكتب عن أيامه الباريسية. لأنها كانت سنوات الشباب.
فقد اختلطت بذكرياته الباريسية ذكريات تكوينه الثقافى فى تلك الأيام. يكتب
هيمنجواي:
- ولكن يحدث أحياناً أن أشرع فى كتابة قصة ما. ولا أتمكن من التقدم فيها.
فكنت أجلس أمام النار وأعصر قشور البرتقالات الصغيرة على أطراف اللهب.
وأشاهد الرزاز الأزرق الذى تخلفه. وأنهض وأحدق فى سطوح باريس وأقول لنفسي:
- لا تقلق. لقد كنت تكتب دوماً من قبل. وستكتب الآن. وكل ما عليك أن
تفعله. هو أن تكتب جملة حقيقية واحدة. اكتب أصدق جملة تعرفها. وهكذا أتمكن
أخيراً من كتابة جملة حقيقة واحدة. ثم أواصل من هناك. لقد كان ذلك أمراً
ميسوراً. لأن هناك دائماً جملة حقيقية أعرفها أو رأيتها أو سمعت شخصاً ما
يقولها. وإذا بدأت الكتابة بتكلف أو كمن يمهد لتقديم شيء ما. شعرت بأن
عليَّ أن أحذف المحسنات والمقدمات والالتواءات اللفظية. وأرمى بها بعيداً
لأبدأ بأول جملة خبرية حقيقية بسيطة كتبتها.
ويكتب هيمنجواى أيضاً:
- ليست القصة القصيرة ديباجة مرصعة. ولا ألفاظاً منمقة. ولا أحداثاً
لافتة. ولا حركة عنيفة. ولا هى عقدة دقيقة. ولا حبكة متينة. بل هى همسة أو
لمسة أو خفقة أو مسقط ظل. أو شعاع ضوء. أو فتنة لون. أو ما إذا ذلك من
إيحاء الفن. ومن هنا لا تكون كما يبدو عملاً هيناً.
ويكمل هيمنجواى اعترافاته مع الكتابة خلال أيامه الباريسية:
- فى تلك الغرفة أيضاً تعلمت ألا أفكر فى أى شئ أكتب عنه أبدا من اللحظة
التى أتوقف فيها عن الكتابة إلى الوقت التى أستأنفها فيه فى اليوم التالي.
وبتلك الطريقة يتاح لشعورى الباطنى أن يعمل عليه. وفى الوقت ذاته أستطيع أن
أستمع إلى الآخرين وأراقب كل شيء. كنت آمل أن أتعلم. فأخذت أقرأ حتى لا
أظل أفكر فى عملى وأجعل من نفسى عاجزاً عن القيام بها. كان يخالجنى إحساس
رائع عند نزولى السلم بعد أن أنجز عملاً جيداً. وهذا يتطلب الحظ والانضباط
كذلك. فأشعر بأننى طليق أستطيع أن أمشى حينما شئت فى باريس.
ويقول:
- تعلمت من رسم سيزان أشياء عديدة مكنتنى من الاكتفاء بكتابة عبارات
بسيطة حقيقية لتضمين قصصى الأبعاد التى أتوخاها. تعلمت منه كثيراً. ولكنى
لم أكن بليغاً بالقدر الذى يتيح لى تبيان ذلك للآخرين.
فى الكتاب آراء جارحة فى بعض الكُتَّاب. ولو كانوا معاصرين لقلت تصفية
الحسابات. ولكن الكثير منهم ماتوا. ولذلك تبقى آراء مهمة لروائى عندما قرأ
غيره من الروائيين.