د. علي القاسمي : مرافئ على الشاطئ الآخر روائع القصص الأمريكيّة المعاصرة (2)
إشارة :
نقلا عن موقع الناقد
يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ، وفي كل يوم جمعة مباركة ، بنشر فصول كتاب العلّامة المبدع الكبير الدكتور علي القاسمي “مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة” ، وهو كتاب بانورامي نقدي شامل يضم 22 قصة لكبار الأدباء الأمريكيين في القرن العشرين مع تقديم لكل كاتب: حياته وأسلوبه. فشكرا للميدع الكبير القاسمي على تفضّله بالموافقة على نشر الكتاب متمنين له الصحة الدائمة والإبداع المتجدّد.
شيروود أندرسون
( يُعّدُّ شيروود أندرسون Sherwood Anderson (1876 ـ 1941م) مِن أشهر قصاصي أمريكا في النصف الأوّل من القرن العشرين ومِن الذين أثَّروا في الحركة الأدبيّة الأمريكيّة. ولِد في ولاية أوهايو لأُسرةٍ فقيرةٍ ولم ينَل قسطاً وافراً من التعليم. وخدم في الجيش الأمريكيّ خلال الحرب الإسبانيّة ـ الأمريكيّة، ثم اشتغل مُحرِّراً في مكتبٍ للإعلانات التجاريّة، فمُديراً لمعملٍ صغيرٍ للصباغة يملكه هو، وراح أثناء ذلك ينشر قصصه القصيرة في الصُّحف والمجلات الأمريكيّة. وقد لفتتْ مجموعته القصصيّة الموسومة بـ (واينزبرغ، أوهايو) انتباه النقّاد واهتمامهم. وكان أندرسون ينظم الشعر، ويكتب المقالة والنقد والرواية كذلك. ومن أشهر أعماله “ضحكة معتمة” و”طفولة في الغرب الأوسط”. وكان يستقي مفرداته من المحادثات اليوميّة الاعتياديّة ويحاول أن يكون لسان حال المحرومين والمعوزين ومَن لا لسان لهم.
وقد نُشِرت القصّة التي نترجمها هنا في الكتاب السنوي “أحسن القصص الأمريكية عام 1920” وضمّنها جون أبدايك في كتابه “أحسن القصص الأمريكيّة في القرن العشرين”. وهي تعبِّر عن بعض قيم المجتمع الأمريكيّ في الفترة التي نُشِرت فيها.)
• * *
المرأة الأخرى
“إنّني أحبّ زوجتي.” قال ذلك، وهو قولٌ لا محلَّ له، لأنّني لم أضع حبَّه للمرأة التي تزوَّجها موضع التساؤل. ومَشينا مدّةَ عشر دقائق ثمَّ نطقَ مرَّة أُخرى بتلك العبارة نفسها. والتفتُ ونظرتُ إليه. فأخذ يتكلَّم، وقصَّ عليَّ القصة التي سأسردها الآن.
وقعتِ الحادثة التي تُشغِل باله خلال الأسبوع الذي يُعدُّ من أكثر الفترات المليئة بالحوادث في حياته. كان على وشك عقْد قرانه مساء يوم الجمعة، أي بعد أسبوعٍ واحدٍ من وصول برقيّةٍ إليه تُعلِمه بحصوله على منصب حكوميّ رفيع. وحدث شيءٌ آخر في تلك الفترة جعله مسروراً وفخوراً. فقد كان يمارس سِرّاً عادةَ نظمِ الشعر، وخلال ذلك العامّ نشرت المجلات الشعريّة عدداً من قصائده. وقامت إحدى الجمعيّات التي تمنح الجوائز لما يُعتقَد أنّه أفضل القصائد المنشورة، بوضع اسمه في آخر قائمة المُرشَّحين لنَيل تلك الجائزة ذلك العام. وقد نشرت الصُّحف المحليّة في مدينته حكايةَ تفوُّقه ذاك، ونشرت إحداها صورته كذلك.
وكما هو مُتوقَّع، فقد كان متهيِّجاً وفي حالةٍ ظاهرةٍ من التوتُّر العصبيّ خلال ذلك الأسبوع. وكان يذهبُ كلَّ مساءٍ تقريباً لزيارة خطيبته، وهي ابنة قاضٍ. وعندما كان يصل إلى منزلها يجد المنزل غاصّاً بالناس، وقد وصلها عددٌ من الرسائل والبرقيات والهدايا. فكان يقف في أحد أركان المنزل فيأتي الرجال والنساء للسلام عليه والتحدُّث معه. كانوا يهنِّئونه على حصوله على المنصب الحكوميّ وعلى إبداعاته الشعريّة. وبدا له أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يكيل له الثناء. وحين يعود إلى منزله ليأوي إلى فراشه لا يغمض له جفن.
وفي مساء يوم الأربعاء ذهب إلى المسرح، وتراءى له أنَّ الناس في المسرح قد عرفوه. فقد كان كلُّ واحدٍ منهم يحني رأسه ويبتسم له. وبعد الفصل الأوَّل من المسرحيَّة، ترك خمسة أو ستة رجال وامرأتيْن مقاعدهم وتحلَّقوا حوله. وتكوَّنتْ منهم مجموعة صغيرة لَفَتتِ الانتباه، فمدّ الغرباء الجالسون في ذلك الصفِّ أعناقهم وراحوا يتطلَّعون إليه. ولم يسبق له أن حظي بمثل ذلك الاهتمام من قبل، لذا فقد تملكته حُمّى الآمال.
وكما بيَّنَ لي، وهو يروي التجربة التي مرّ بها، فقد كانت تلك فترةً ليست عاديّة بتاتاً. كان يشعر كما لو كان طافياً في الهواء. وعندما يأوي إلى فراشه، بعد أن يكون قد التقى العديد من الناس وسمع الكثير من كلمات الإطراء، يشعر برأسه يدور ويدور. وعندما يغمض عينيْه، يغزو حشدٌ من الناس غرفته، ويبدو كما لو أن جميع أذهان الناس في تلك المدينة قد تركَّزت عليه. وأخذتْ تنتابه أسخف التصوُّرات. كان يتخيّل نفسه وهو يستقلُّ عربةً تسير به في شوارع المدينة، والناس يفتحون شبابيكهم مشرعة، ويتراكضون خارجين من أبواب منازلهم، وهم يصرخون: ” ها هو ! ها هو !” وتنطلق عند ذاك صرخات ابتهاج. وتسير العربة في شارع مكتظٍّ بالناس. ويرمقه ألفُ زوجٍ من العيون التي يبدو أنّها تقول: ” ها هو أنتَ ! لقد صنعتَ من نفسكَ رجلاً عظيماً !”
لم يستطِع صديقي أن يبيِّن لي ما إذا كان هياج الناس نتيجةً لمنجزاته الرائعة من خلال نظمه قصيدة جديدة أم من خلال حصوله على منصبٍ حكوميٍّ هامٍّ. وكانت الشقَّة التي يسكنها تقع في شارع يمتدّ على ربوةٍ في أطراف المدينة، ويستطيع أن يطلَّ من غرفة نومه على النهر عبر أشجارِ مصنعٍ وسقوفه. ولمّا لم يستطِع النوم وجعلته التخيلات التي تجمَّعت في رأسه أكثر تهيُّجاً، نهض من فراشه وحاول أن يفكِّر بوضوح.
وكما هو طبيعيّ في مثل تلك الظروف، فقد حاول أن ينظِّم أفكاره. وفيما هو جالس إلى جانب النافذة في يقظةٍ تامّة، حصل أمر غير متوقَّع ومهين. كان اللَّيل صافياً ورائقاً، والقمر طالعاً. وأراد أن يحلم بالمرأة التي ستصبح زوجته، ويفكر في أبيات قصيدة رائعة، ويضع الخطط لعمله. ولكنّه دُهِش عندما وجد أنّ فكره يرفض أن يفعل أيَّ شيءٍ من ذلك.
يوجد في زاوية الشارع الذي كان يقطن فيه، دُكّانٌ صغيرٌ لبيع الصُّحف والسجائر يديره رجلٌ سمينٌ في الأربعين من عمره وزوجته، وهي امرأة صغيرة نشطة ذات عينيْن بُنيّتَيْن مشرقتَيْن. وكان في الصباح يتوقَّف عند الدُّكّان ليشتري جريدةً قبل أن ينزل إلى المدينة، فيجد أحياناً الرجلَ السمين وحده، وغالباً ما كان يتغيَّب الرجل فتقوم زوجته بالعمل مكانه. وكانت، كما أكَّد لي عشرين مرَّة على الأقل وهو يروي حكايته، امرأةً عاديةً لا شيء خاصاً يميّزها أو يجلب الانتباه إليها، ولكن، لسبب ما لا يستطيع تفسيره، كان يهتزّ من أعماقه لمرآها. وخلال ذلك الأُسبوع الحافل بالأحداث، كانت هي الشخص الوحيد الماثل في فكره بصورة جليّة. وعندما يفكِّر في موضوعات هامّة لم يكُن يستطيع التفكير إلا في تلك المرأة. وقبل أن يعرف ما الذي كان يحدث، راح خياله يتمسَّك بوهم إقامة علاقةٍ غراميّةٍ معها.
وأَكَّدَ، وهو يقصّ حكايته، قائلاً: ” لم أستطِع أن أفهم نفسي. ففي الليل، وعندما تكون المدينة هادئة، وينبغي أن أكون مستغرقاً في نومي، كنت أفكِّر فيها طوال الوقت. وبعد يومَين أو ثلاثة من التفكير فيها، أخذتْ تتسرب إلى أحلام يقظتي. وهكذا أصبحتُ مرتبكاً تماماً. وعندما أذهب لزيارة المرأة التي أصبحت الآن زوجتي، كنت أجد أنَّ حبِّي لها لم يتأثَّر بأفكاري المضطربة. فثمَّة امرأة واحدة في العالم كنتُ أريدها أن تعيش معي وتكون رفيقة دربي وتتعهدني بالرعاية وتساعدني على تنمية شخصيّتي ومكانتي في العالَم. ولكن في تلك اللحظة، كما ترى، كنت أريد تلك المرأة الأخرى بين ذراعَيّ. فقد تسلَّلت إلى كياني. وفي كلِّ مكان كان الناس يقولون إنَّني رجل عظيم ولا أفعل إلا الأشياء العظيمة، ولكن ها أنذا. في تلك الليلة التي ذهبتُ فيها إلى المسرح، عُدتُ إلى منزلي مشياً، لأنَّني كنتُ أعرف أنَّني لن أستطيع النوم، ولكي أُشبِع تلك النزوة المزعجة في داخلي، ذهبتُ ووقفتُ على رصيف دُكّان التبغ. كان الدُّكّان يقع في بنايةٍ ذات طابقَين، وكنتُ أعرف أنّ تلك المرأة تسكن مع زوجها في الطابق العلويّ من البناية. ثم فكّرتُ في أنهما لا بُدَّ أن يكونا معاً في فراشهما. وجعلتني الفكرة أستشيط غضباً.
ثم غضبتُ أكثر على نفسي. وذهبتُ إلى منزلي وأويتُ إلى فراشي وأنا أرتعش من الغضب. وكانت هنالك دواوين شعريّة وكُتُب نثرية معيَّنة تؤثِّر فيّ وأُفضِّل قراءتها فأضعها على طاولة إلى جانب سريري. فأخذتُ أطالعها، ولكن أصواتها كانت مثل أصوات الموتى، لا أسمعها مطلقاً. ولم تتمكَّن الكلمات المطبوعة على السطور من التغلغل في وعيي. حاولتُ أن أفكِّر في المرأة التي أُحبُّها، ولكنَّ صورتها بقيت كذلك شيئاً بعيداً عن مُخيِّلتي، شيئاً استعصى عليَّ فلم أستطِع في تلك اللحظة أن أفعل به شيئاً. وتقلَّبت في فراشي كثيراً. وكانت تجربةً مريرة.
وفي صباح يوم الخميس، ذهبتُ إلى الدُّكّان. وهناك كانت تقف تلك المرأة وحدها. وأظنّ أنّها تعرف مشاعري. فربّما كانت تفكِّر فيّ كما كنتُ أفكِّر فيها. وارتسمتْ على زاويتَي فمِها ابتسامةٌ متردِّدة مرتابة. كانت ترتدي بذلة مصنوعة من القماش الرخيص، وكان ثمّة فتقٌ في كتفها. وربما كانت تكبرني بعشرة أعوام. وعندما حاولتُ أن أضع النقود على المنضدة التي كانت تقف وراءها، ارتعشتْ يدي بحيث أحدثت النقودُ خَشْخَشَةً على المنضدة. وعندما تكلَّمتُ كان الصوت الذي يخرج من حنجرتي لا يشبه أيَّ شيءٍ يمتُّ إليَّ بصلة. كان بالكاد يرتفع عن همسٍ مبحوح. قلتُ لها: “أريدكِ”، أريدك جدّاً. هل بإمكانكِ الإفلات من زوجك؟ تعالي إلى شقّتي في الساعة السابعة مساء.”
أتت المرأة إلى شقّتي في الساعة السابعة مساء. مع أنها في ذلك الصباح، لم تقُل شيئاً بتاتاً. ولعلّنا وقفنا وهلة ينظر أحدنا إلى الآخر. نسيتُ كلَّ شيءٍ في العالَم سواها. ثم هزّت رأسها. وعندما أفكر في ذلك اللقاء الآن لا أستطيع أن أتذكّر كلمة صدرت عنها قط. جاءت إلى شقّتي في الساعة السابعة وكان الظلام مخيّماً. يجب أن تفهم أنّ ذلك كان في شهر تشرين الأول /أكتوبر. وكنت قد أطفأت أضواء الشقّة وبعثتُ بخادمتي إلى منزلها.
لم أشعر أنّني على ما يرام طوال ذلك النهار. جاء عدّة أشخاص لمقابلتي في مكتبي، ولكنّني كنتُ مرتبكاً وأنا أحاول التحدُّث معهم. وعزوا ذلك الارتباك إلى قرب زواجي وخرجوا ضاحكين.
كنت تلقيتُ صباح ذلك اليوم، أي قبلَ يومٍ واحد فقط من زواجي، رسالةً طويلة ورائعة جدّاً من خطيبتي التي لم تستطِع النوم في الليلة السابقة فنهضتْ من فراشها وكتبتْ تلك الرسالة. وكان كلُّ شيء ذكرَتْه فيها واقعياً ودقيقاً، ولكن يبدو أنّها هي نفسها، بوصفها كائناً حيّاً، انسحبتْ إلى مكانٍ ناءٍ. كانت تبدو لي كما لو كانت طيراً يحلّق بعيداً في سماوات قصيَّة، وكنتُ أنا مثل صبيٍّ حافي القدمَين، مرتبك، يقف في طريقٍ مُترِبٍ ويتطلّع إلى شخصها البعيد. أتساءل عمّا إذا كنتَ تفهم ما أعني.
وبالنسبة إلى الرسالة، فقد قامت خطيبتي التي ظلّت مستيقظة تلك الليلة، بإفراغ قلبها فيها. لم تكُن تعرف شيئاً عن الحياة طبعاً، ولكنّها كانت امرأة. فأنا أفترض أنّها كانت مستلقية على فراشها وهي متوتِّرة الأعصاب ومُجهَدة كما هو الحال بالنسبة إليَّ. كانت تُدرِك أنَّ تغيُّراً كبيراً على وشك الوقوع في حياتها، فتشعر بالسرور والخوف في آنٍ واحد. وكانت، وهي مستلقية في فراشها، تفكِّر في كلِّ ذلك. ثم نهضت من فراشها وأخذت تتحدُّث إليَّ على الورق. فأخبرتْني كيف أنَّها كانت خائفة وكيف أنها كانت مسرورة كذلك. ولقد سمعتْ، مثل جميع الفتيات، أشياء تتهامس بها النساء. وكانت في رسالتها رقيقة ولطيفة، إذ كتبتْ تقول: ” بعد وقتٍ طويل من زواجنا، سننسى أنَّنا رجل وامرأة. سنكون كائنَين إنسانيَّين. ويجب أن تتذكَّر أنَّني جاهلة، وقد أكون غبيّة في غالب الأحيان. وينبغي عليك أن تحبَّني وتكون صبوراً معي ورفيقاً بي. وعندما تزداد معرفتي، بعد وقت طويل من تعليمكَ لي، سأحاول أن أردَّ لكَ الجميل. سأحبّك برقَّة وإخلاص، فالإمكانات موجودة في أعماقي كذلك. آه، إنَّني مسرورة جدّاً لاقتراب موعد زواجنا.”
والآن، أنتَ ترى بوضوحٍ كافٍ الفوضى التي سبَّبتُها أنا بتصرُّفي. وبعد أن قرأتُ رسالة خطيبتي، في مكتبي، أصبحتُ حالاً قويّاً وذا عزم. أتذكّر أنّني نهضتُ من مقعدي وأخذتُ أجول في المكتب، وكنتُ فخوراً بأنّني سأغدو زوجاً لهذه المرأة ذات الأخلاق النبيلة. وفي الحال، شعرتُ بأنَّني شديد الاهتمام بها مثلما كنت قد شعرت بأنّني كنتُ ضعيفاً أمام المرأة الأخرى. وللتأكُّد من شعوري هذا، اتخذتُ قراراً قويّاً بأن لا أكون ضعيفاً. وكنتُ قد نويتُ الذهاب لزيارة خطيبتي في الساعة التاسعة من ذلك المساء. وقلتُ لنفسي: ” إنَّني على ما يرام الآن. إنَّ صفاء روحها قد أنقذني من نفسي. سأذهب إلى منزلي الآن, وسأطرد المرأة الأخرى.” وكنت في الصباح قد هاتفت خادمتي وأخبرتها بأنّني لا أريدها أن تبقى في الشقّة ذلك المساء، أما الآن فإنّني التقطتُ سماعة الهاتف لأخبرها بأنّني أريدها أن تبقى في الشقّة.”
ثمَّ أتتني فكرة أخرى، فقلتُ في نفسي: ” إنّني لا أريدها هناك على أية حال. ماذا ستظنّ بي عندما ترى المرأة الأخرى وهي تطرق بابي ذلك المساء قبل يوم واحد من زواجي؟” وهكذا أعدتُ سماعة الهاتف إلى مكانها. وتهيأتُ للانصراف إلى منزلي. وقلتُ في نفسي: ” إذا كنتُ أريد الخادمة أن تبتعد عن الشقّة فإنّ السبب في ذلك هو أنّني لا أريدها أن تسمع ما أقوله لتلك المرأة. لا يمكنني أن أكون فظّاً معها. سأقدّم لها نوعاً من الاعتذار والتبرير.”
وجاءتِ المرأة في الساعة السابعة مساء، وكما قد تتصوّر، فإنَّني سمحتُ لها بالدخول ونسيتُ القرار الذي اتخذته. ومن المحتمل أنّه لم تكُن لديَّ النية لأفعل أيَّ شيءٍ آخر. كان هنالك جرس على بابي، ولكنَّها لم تقرعه، وإنَّما طرقتْ الباب طرقاً خفيفاً هادئاً. ويبدو لي أنَّ كلَّ شيء فعلَتْه تلك المرأة في ذلك المساء كان هادئاً وناعماً ولكنَّه قاطع وسريع. هل أظهر لها؟ عندما طرقتِِ الباب كنتُ على مقربة من الباب، حيث كنتُ أقف وأنتظر منذ نصف ساعة. وكانت يداي ترتعشان مثلما كانتا ترتعشان ذلك الصباح عندما وقعت عيناها عليّ وأنا أحاول وضع النقود على المنضدة في الدكان. وعندما فتحتُ الباب، دخلتْ بسرعة وأخذتُها بين ذراعيّ. وقفنا معا في الظلام وتوقفتْ يداي عن الارتعاش. وشعرتُ بأنّني كنتُ سعيداً وقوياً.
وعلى الرغم من أنّني بذلت جهدي لأوضّح لك كلَّ شيء، فإنّني لم أخبرك الكثير عن المرأة التي تزوجتها. فقد ركّزت حديثي، كما ترى، على المرأة الأخرى. أطلقتُ تصريحاً عامّاً بأنَّني أحبُّ زوجتي، وبالنسبة إلى رجلٍ في مثل خبرتكَ وفطنتكَ، فإنَّ هذا التصريح لا يعني شيئاً على الإطلاق. وأُخبركَ الحقيقة وهي أنَّني لو لم أشرع في الحديث عن هذه القضيَّة لما شعرتُ بالارتياح. كان لا بُدَّّ أن أعطيكَ الانطباع بأنَّني كنتُ مُغرَماً بزوجة بائع السجائر. لم يكُن ذلك صحيحاً. من المؤكَّد أنَّني كنتُ منجذباً إليها خلال الأسبوع الذي سبق زواجي، ولكنّها عندما وافتني في شقّتي، خرجتْ تماماً من فكري.
هل أخبرك الحقيقة؟ إنَّني أبذل قصارى جهدي لأخبرك عمّا حدث لي. أقول إنَّني لم أفكِّر منذ ذلك المساء في المرأة التي جاءت إلى شقّتي. والآن، لكي أخبرك بحقائق القضية، أقول إنَّ ما قلتُه ليس صحيحاً. لقد ذهبتُ إلى خطيبتي في الساعة التاسعة من ذلك المساء كما طلبتْ مني في رسالتها. وفي شكلٍ ما، لا يمكن أن أشرح لكَ أنَّ المرأة الأخرى ذهبت معي. هذا ما أعني ـ فأنت ترى أنّني كنت أفكر أنّه إذا ما حدث أيّ شيء بيني وبين زوجة بائع السجائر، فإنّني لن أكون قادراً على إتمام زواجي. كنت قد قلتُ في نفسي: ” إمّا هذا أو ذاك.”
وفي واقع الأمر، ذهبتُ لأرى محبوبتي ذلك المساء وكلِّي إيمان جديد بالمستقبل الزاهر لحياتنا المشتركة. أخشى أنَّني خلطتُ الأمور وأنا أحاول سردها عليك. فقبل لحظات قلتُ لكَ إنَّ زوجة بائع السجائر ذهبتْ معي إلى منزل خطيبتي. لا أعني أنّها ذهبتْ معي فعلاً. ما كنتُ أحاول أن أقوله هو أن بعض إيمانها برغباتها وإقدامها على تحقيق رغباتها قد رافقني. فهل هذا واضح بالنسبة إليكَ؟ وعندما وصلتُ إلى منزل خطيبتي وجدتُ حشداً من الناس. كان بعضهم من الأقرباء الذين قدِموا من أماكن بعيدة ولم ألتقِِ بهم من قبل. ونظرتْ إليّ بسرعة عندما دخلتُ الغرفة. لا بُدَّ أنَّ وجهي كان يفيض بالبشر والسرور. فلم أرَها من قبل بمثل ذلك التأثُّر. حسبتْ أنَّ رسالتها قد أثَّرت فيّ بعمق، وطبعاً كان ذلك صحيحاً. وقفزتْ من مكانها وجرتْ نحوي لاستقبالي. كانت مثل طفلة مبتهجة. وأمام جميع الناس الذين كانوا ينظرون إلينا مستفهمين، صرختْ قائلة: “آه، إنّني سعيدة جدّاً. لقد فهمتَُ. سنكون كائنَين إنسانيَّين. لن نكون مجرّد زوج وزوجة !”
وكما يحقُّ لكَ أن تفترض، فقد ضحك كلُّ واحد هناك، ولكنَّني لم أضحك. وإنّما طفرت الدموع من عينيّ. وكنتُ سعيداً جدّاً لدرجة أنَّني أردتُ أن أصرخ. لعلَّكَ تفهم ما أعني. فعندما قرأتُ رسالة خطيبتي ذلك اليوم في مكتبي، قلتُ في نفسي: ” سأعتني بهذه المرأة الصغيرة العزيزة.” وكما ترى، فإنَّ ذلك نوع من الزهو بالنفس. وعندما صرختْ هي في منزلها على تلك الصورة وضحك كلُّ واحد من الحاضرين، قُلتُ في نفسي: ” سنعتني بنفسينا.” وهمستُ شيئاً من هذا القبيل في أُذنها. وأقول لكَ الحقيقة: إنّ روح المرأة الأخرى هي التي جعلتني أشعر على هذا النحو. وقبل أن يتجمَّع حولنا جميع الضيوف، ضممتُ خطيبتي وقبَّلنا بعضنا. وشعر المدعوون بروعة العواطف التي تجيش فينا عندما نتقابل. ماذا سيظنون بي لو عرفوا حقيقتي؟ الله وحده يعلم.
لقد ذكرتُ لكَ مرتين أنَّني بعد ذلك المساء لم أفكِّر في المرأة الأخرى أبداً. هذا صحيح جزئيّاً، ولكن أحياناً في المساء عندما أكون ماشياً وحدي في الشارع أو المنتزه، كما نتمشى الآن، وعندما يرقّ المساء ويحلّ الظلام بسرعة كما حدث هذه الليلة، فإنَّ الإحساس بتلك المرأة الأخرى يجتاح جسدي وفكري. بعد تلك المقابلة، لم أرَها مرّة أُخرى مطلقاً. وفي اليوم التالي تمّ زواجي، ولم أعُد إلى شارعها قطّ. ومع ذلك فغالباً ما يتملَّكني، وأنا أتمشّى، كما أفعل الآن، شعور حسّيّ ماديّ سريع، كما لو كنتُ بذرة في التربة وقد سقطت عليّ أمطار الربيع الدافئة. كما لو أنّني لم أكُن رجلاً وإنّما شجرة.
والآن، فأنتَ ترى أنَّني متزوج وكلُّ شيءٍ على ما يرام. وزواجي بالنسبة إليَّ حقيقة جميلة. ولو زعمتَ أنّ زواجي ليس سعيداً لوصمتُكَ بالكذب. لقد حاولتُ أن أخبركَ عن المرأة الأخرى. فهناك نوع من الارتياح عند الحديث عنها. ولم أُحدِّثكَ عنها من قبل. أليس من السخف أنَّني كنتُ أخشى أن أعطيك الانطباع بأنَّني لا أحبّ زوجتي؟ ولو لم أشعر بصورة غريزية أنَّكَ ستفهمني لَما تحدَّثتُ إليكَ. في الحقيقة، إنَّني هيَّجت نفسي بعض الشيء. فالليلة سأفكِّر في المرأة الأخرى. وهذا يحدث لي أحياناً. وسيحدث لي هذا بعد أن آوي إلى فراشي. فزوجتي تنام في الغرفة المجاورة لغرفتي ويبقى بابها مفتوحاً دائماً. وسيبزغ القمر هذه الليلة، وعندما يكون القمر في كبد السماء فإنّ خيوط أشعته الطويلة ستسقط على فراشها. وسأستيقظ في منتصف الليل هذه الليلة، وستكون هي نائمة وقد وضعت إحدى ذراعيها على رأسها.
ما الذي أتحدّث عنه؟ فالرجل لا يتحدّث عن زوجته وهي نائمة في فراشها. ولكن ما أحاول أن أقوله هو أنَّ حديثي معكَ اليوم سيجعلني أفكِّر في المرأة الأخرى هذه الليلة. لن تكون أفكاري بنفس الشكل الذي كانت عليه في الأسبوع الذي سبق زواجي. وإنّما سأتساءل عمّا حدث لتلك المرأة. وللحظات سأشعر ثانية أنّني أضمّها إليّ. سأشعر لساعةٍ تقريباً أنَّني كنتُ أقرب إليها من أيِّ شخص آخر. ثم سأفكِّر في الوقت الذي سأكون فيه بمثل ذلك القرب من زوجتي. فهي ما زالت، كما ترى، امرأة متيقّظة في إحساسي. سأغمض عينيّ وهلة، وستحدّق عينا تلك المرأة الأخرى اللامعتان الثاقبتان المليئتان بالعزم في عينيّ. وسيدور رأسي، ثم أفتح عينيَّ بسرعة وأرى مرَّةً أُخرى المرأةَ العزيزة التي اخترتُها شريكة حياتي بجانبي. ثم سأنام، وعندما أستيقظ في الصباح، سيداخلني نفس الشعور الذي تملَّكني يوم خرجتُ من شقتي المظلمة ذلك المساء بعد أن مررت بأهمِّ تجربة في حياتي. وأنتً تفهم أنَّ ما أريد أن أقوله هو أنّني عندما أستيقظ ستكون المرأة الأخرى قد غادرتني تماماً