|
|
|
عن المركز الثقافي العربي ـ في بيروت والدار البيضاء ـ صدر هذا الكتاب الجديد للباحث والكاتب العراقي الدكتور علي القاسمي الذي يقيم في المغرب ويعمل مستشارا لمكتب تنسيق التعريب بالرباط, التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, وعضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. الكتاب يحمل عنوان: العراق في القلب دراسات في حضارة العراق: ويضم فصولا عن السومريين ــ قوم نوح ــ, وملحمة جلجامش, وعشتار إلهة الحب والخصب والجمال, والحياة الاجتماعية والفكرية في زمن الفقيه أبي حنيفة وأثرها في آرائه, وتجليات العمارة الإسلامية في تخطيط مدينة بغداد العريقة, وكتب الدرس والأنس من العراق إلي الأندلس, وصلاح الدين الأيوبي: أخطاء شائعة عن صلاح الدين, ويوسف بن تاشفين وصلاح الدين الأيوبي, وعبد الرحمن مجيد الربيعي والقصة العراقية الحديثة. وأحمد الصافي النجفي بين الأمواج المغرقة والنيران المحرقة, ومحمد مهدي الجواهري: الشاعر والملك, وعبد الحق فاضل: هو الذي رأي, وعبد الحق فاضل ومنهجيته في الترجمة, وعبد الوهاب البياتي الشاعر, وعبد الوهاب البياتي: حب وموت وففي, وخلاص البياتي من الغربة والمنفي, وأخيرا سيرة الأدب: جنس سردي جديد.
واضح ان الدكتور علي القاسمي قد أفاد من ثقافاته وخبراته العديدة في تأليف هذا الكتاب الحافل. فهو يجمع بين ثقافات لغوية وتربوية, وخبرات معجمية ومجمعية, إضافة إلي إبداعه القصصي المتمثل في مجموعتين هما: صمت البحر( الدار البيضاء ـ دار الثقافة2003), ورسالة الي حبيبتي الدار البيضاء ـ دار الثقافة2003, وترجمته لكتابين في القصة هما: مرافيء علي الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة, والوليمة المتنقلة لإرنست همنجواي.
الدكتورعلي القاسمي يمثل ـ بين أقرانه ونظرائه ـ حالة ثقافية خاصة, فقد تلقي تعليمه العالي في العراق( جامعة بغداد, ولبنان( الجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة بيروت العربية), وبريطانيا( جامعة أكسفورد), وفرنسا( جامعة السوربون) والولايات المتحدة الأمريكية( جامعة تكساس في أوستن). كما أن دراساته وتخصصاته الأكاديمية شديدة التنوع والتكامل. فقد حصل علي بكالوريوس في الآداب وليسانس في الحقوق, وماجستير في التربية, ودكتوراه الفلسفة في علم اللغة التطبيقي. كما أن عمله في المنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط بين عامي2000,1982) مديرا لأمانة المجلس التنفيذي والمؤتمر العام, ثم مديرا للأمانة العامة لاتحاد جامعات العالم الإسلامي, من شأن هذا كله أن يضيف إلي فكره ورؤاه مزيدا من الغني والانفتاح والعمق والشمول أهدي المؤلف كتابه إلي ابنته علياء ذات السنوات الثماني, التي ولدت في أحضان الغربة وترعرعت بعيدة عن وطنها الأول: العراق, وهي تسأل أباها لماذا كل الأطفال في مدرستها يلهجون بذكر العراق ويدعون للعراق ويمتجدون العراق بعد أن عجزت سنواتها عن فهم ما يدور من حولها في الزمان والمكان.
وجاءت إجابته علي سؤال ابنته تقديما جميلا لكتابه, مشبعا بالشاعرية, واللغة الأدبية الجميلة. وهو ما أشرنا إليه في المقال السابق.
من أجمل فصول هذا الكتاب العراق في القلب حديث الدكتور القاسمي عن ترجمة الدكتور بسام خليل فرنجية لمختارات من شعر البياتي إلي اللغة الإنجليزية, وكيف أن المترجم اختار إحدي وخمسين قصيدة من ثماني مجموعات شعرية نشرت خلال السنوات العشرين الأخيرة, تدور جميعها حول موضوعات ثلاثة: الحب والنفي والموت, وهي محور قصائد البياتي, بل جوهر نظرته إلي الوجود.
وفي رأي القاسمي أن الحب لدي البياتي يتعدي حب الرجل للمرأة إلي حب الوطن والناس والإنسانية جمعاء. ونفيه لايقف عند حدود الإبعاد أو الابتعاد عن الوطن, وإنما يمتد إلي نفي الشاعر داخل ذاته وفكره وكلماته. أما الموت في شعر البياتي فهو كائن متعدد الرمز, متشعب الأبعاد, تربطه بالشاعر أواصر قربي, ورفقة طريق, وجدلية حب وكره, دائمة الحركة, دائبة الغليان. يقول البياتي عن نفسه في كتابه تجربتي الشعرية: فأنا منفي داخل نفسي وخارجها, مبصر وأعمي, ميت وحي, في حوار أبدي صامت مع موتي في رحلة الليل والنهار.
كان القاسمي يعترض علي عنوان المجموعة الشعرية في الترجمة, وهو العنوان الذي وضعه المترجم بسام فرنجية حب وموت ونفي, علي أساس أن الترتيب الطبيعي والمنطقي ينبغي ان يكون حب ونفي وموت. لكنه ـ وكأنه يكتشف ذلك لأول مرة ـ وجد أن الشاعر نفسه قد قدم الموت علي الغربة مرتين, أولاهما في قوله: هذه الدنيا التي تشبعنا موتا وغربة, والثانية في قوله: كان حبي لك موتا ورحيل.
يقول القاسمي: عدت إلي كتاب البياتي يتجربتي الشعرية أطالعه للمرة الثانية, ورجعت إلي ديوانه أستمتع بقراءته للمرة السابعة بعد السبعين. وهذه المرة, وبكل بساطة, وجدت أن الترتيب الطبيعي هو: حب وموت ونفي, طبقا لتصاعد المعاناة وتجذرها فنفي البياتي أشد ألما وأقسي وقعا من موته. فالموت بالنسبة له هو الولادة الحقيقية علي مدي التاريخ, وهو نغمة واحدة تعزف علي عود منفرد. أما النفي فهو كقبو التعذيب في أوروبا القروسطية تتنوع فيه آلات التعذيب وتتواصل عملياته. فالبياتي منفي في وطنه, منفي في ذاكرته, منفي في الكلمات, منفي في الطرقات, منفي في كل يوم وليلة. يقول البياتي في تجربته الشعرية: وفي مثل هذا المناخ المشحون بالتوتر والقلق والانتظار, أحمل كل ليلة عصاي, وأرحل مع الطيور المهاجرة, في انتظار معجزة إنسانية تقع, والكلمات تعمل في صمتها, لتهبني هذه الشرارة الإنسانية, هذا الأمل, هذا الخيط من الدخان الذي أكتب فيه قصائدي. فالحرية ثقيلة وباهظة ومحرقة.
ويضيف الدكتور القاسمي أن البياتي عراقي قبل أن يكون عربيا أو عالميا. وللمفكرين والفنانين العراقيين تاريخ مرير وتجربة قاسية طويلة في النفي والغربة والتشرد والترحال يعودان إلي أيام أبي الأنبياء إبراهيم الخليل الذي اضطر إلي الفرار من مدينة أور الكلدانية في جنوب العراق متوجها إلي بابل ومنها فر هاربا بعقيدته الحنفية إلي مصر وفلسطين, في الألف الثاني قبل الميلاد.
وأبو حيان التوحيدي من كتاب العراق في القرن الرابع الهجري عاني تجربة الغربة والاغتراب ووصفها وفرق بين غرباء ثلاثة: غريب الوطن وغريب الفكر, وغريب الفكر والوطن. فقال: هذا وصف غريب نأي عن وطن بني بالماء والطين, وبعد عن الآلاف, فأين أنت من غريب قد طالت غربته, وقل حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟ وأين أنت من غريب لاسبيل له إلي الاوطان, ولا طاقة له علي الاستيطان؟ بل الغريب من هو في غربته غريب. هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه, ولم يتزحزح من مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه, وأبعد البعداء من كان غريبا في محل قربه, لأن غاية المجهود أن يسلو عن المجهود, ويغمض عن المشهود, ويقصي عن المعهود.
والشاعر العباسي ابن زريق البغدادي توفي في غربته بالأندلس سنة420 هـ, ووجدت معه قصيدة يخاطب فيها زوجته التي تركها في بغداد, شاكيا مرارة الترحال, ووعثاء السفر, ولوعة النوي.
يقول البغدادي: يكفيه من لوعة التشتيت أن له من النوي, كل يوم, ما يروعه ما آب من سفر إلا وأزعجه رأي إلي سفر بالعزم يزمعه كأنما هو في حل ومرحل موكل بقضاء الله يذرعه
ولايوجد في العالم كله بلد مثل العراق ينجب أعظم شعراء لغته القومية ويهبهم للغربة والتشرد. فالسياب مات غريبا بعيدا عن وطنه, ورفاقه في مدرسة الشعر الحر كنازك الملائكة وسعدي يوسف والراحلين البياتي وبلند الحيدري, عاشوا مشتتين في أصقاع العالم. أما الجواهري, شاعر العرب الأكبر, كما كان يلقبه طه حسين فقد سبقهم جميعا إلي الغربة والترحال, والموت في دمشق, بعيدا عن العراق.
وينتهي الدكتور القاسمي إلي أن الدكتور بسام فرنجية أسدي من خلال كتابه القيم خدمة جليلة للثقافة العربية ولثقافة الناطقين باللغة الإنجليزية في آن واحد. فقد عرف بأدبنا العربي بما يليق به, وقدم للمكتبة الإنجليزية شاعرا عملاقا لانجد بين الشعراء الإنجليز أو الأمريكان المعاصرين له, من يملك مثل نفسه الإنساني أو عمقه الثوري أو عين ورؤيته الصدفية وهو في عمله هذا يخدم التواصل البشري والحوار بين الحضارات والتفاهم المتبادل بين الأمم.
في صميم وقته وأوانه يجيء هذا الكتاب الجميل المفعم بالعواطف والأشواق والمحبة والانتماء والوعي الوطني والقومي; العراق في القلب, للدكتور علي القاسمي. ليجعلنا نتساءل كما تساءلت ابنته ذات الأعوام الثمانية: لماذا يلهجون بذكر العراق ويدعون للعراق ويمجدون العراق؟ ولنجد في ثنايا الكتاب كثيرا من الإجابة علي هذا السؤال.
|
|