مؤلف هذا الكتاب هو الكاتب والباحث العراقي علي القاسمي الذي تلقى تعليمه العالي في جامعات العراق، ولبنان، وبريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأميركية. حصل على بكالوريوس في الآداب، وليسانس في الحقوق، وماجستير في التربية، ودكتوراة الفلسفة في علم اللغة التطبيقي. مارس التعليم في جامعة بغداد، وجامعة تكساس في أوستن بالولايات المتحدة، وجامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة محمد الخامس بالرباط. شغل بعض المناصب الرفيعة في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط، وفي منظمات أخرى، وهو يعمل حالياً مستشاراً لمكتب تنسيق التعريب بالرباط التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ومنذ نهاية الستينات وحتى الآن أصدر القاسمي كتباً عديدة منها: "علم اللغة وصناعة المعجم"، "مقدمة في علم المصطلح"، "الجامعة والتنمية"، "مفاهيم العقل العربي"... وغيرها، كما صدرت له مجاميع قصصية منها: "صمت البحر"، و"رسالة الى حبيبتي"، فضلاً عن مساهماته القيمة في الترجمة من الإنكليزية الى العربية، كما صدرت له بعض المؤلفات باللغة الإنكليزية.
وبهذا المعنى فإن القاسمي هو باحث وكاتب له باع طويل في مجال البحث والتدريس الأكاديمي والتأليف، وهو في كتابه الجديد "العراق في القلب، دراسات في حضارة العراق"، الصادر أخيراً عن المركز الثقافي العربي (الرباط، بيروت ـ 2004)، يسعى الى إبراز مكانة العراق التاريخية والحضارية في العالم، وذلك بنبرة وجدانية، وحساسية أدبية يؤكدهما العنوان (العراق في القلب) متبوعاً بعنوان فرعي (دراسات في حضارة العراق) كان يمكن له الاكتفاء به لولا أن الجانب العاطفي له مساحة في العمل، فهدف الباحث ليس فقط هو تسليط الضوء على جوانب، ومحطات هامة في تاريخ العراق القديم والمعاصر ـ على الرغم من إجادته في ذلك ـ بل إنه يظهر أيضاً، ومن خلال المواضيع المطروحة في الكتاب، مدى تعلقه ببلده الذي يعيش في هذه الأيام محنة عصيبة تدفعه الى تذكير القارئ بحضارة العراق، ودوره الهام في مجالات الثقافة والفنون وعلوم اللغة والدين، محاولاً استحضار تلك الجوانب المضيئة التي شعت بنورها على العالم.
الكتاب هو مزيج من التاريخ، والنقد الأدبي، والسياسة، والمذكرات فهو يشمل بعض القراءات النقدية لتلك الكتب التي تناولت تاريخ العراق ودرست الحضارات التي مرت عليه مثل كتاب (قوم نوح) للدكتور بهاء الدين الوردي، وكتاب (عشتار ومأساة تموز) للدكتور فاضل عبد الواحد، وكتاب (الفصوص) لصاعد البغدادي الذي حققه عبد الوهاب التازي سعود، وكتاب (ذكرياتي) وهو عبارة عن السيرة الذاتية للجواهري بقلم الشاعر نفسه، وكتاب عبد الرحمن مجيد الربيعي (من ذاكرة تلك الأيام)، كما يتضمن الكتاب تلخيصات لأهم الملاحم والأساطير التي ظهرت في بلاد الرافدين مثل (ملحمة كلكامش)، و(ملحمة عشتار) آلهة الخصب والجمال، كما يقدم الباحث دراسة حول الحياة الاجتماعية والفكرية في العراق في زمن الفقيه أبي حنيفة وأثرها في آرائه، ودراسة حول تجليات العمارة الإسلامية في تخطيط مدينة بغداد القديمة، ويقدم في دراسة أخرى قراءة لحياة البطل الكردي، ابن مدينة الموصل العراقية، صلاح الدين الأيوبي محاولاً تصحيح بعض الأخطاء الشائعة عن هذا البطل الإسلامي، ولا ينسى الباحث أن يعرج على بعض التجارب على صعيد القصة القصيرة في العراق فيتناولها بالدرس والتمحيص، ويتحدث أيضاً عن الخارطة الشعرية في هذا البلد عبر تسليط الضوء على جوانب من تجربة بعض الشعراء العراقيين من أمثال احمد الصافي النجفي، ومحمد مهدي الجواهري، وعبد الوهاب البياتي.
ولئن تبدت هذه المواضيع متباينة ومتنوعة إلا أن ثمة جامعاً يربط بينها هو العراق كجغرافيا، وكأرض أعطت بسخاء، وبرزت فيها عبر التاريخ أسماء هامة في مجالات الفن، والعمارة، والترجمة، والأدب، والكيمياء، والطب، والفلك، والفقه... وانطلاقاً من هذا الحيز الجغرافي الذي هو العراق الحافل بالإنجازات والإبداعات مثلما هو حافل بالآلام والخيبات، يحاول الكاتب أن يقدم كتاباً يجمع بين السياسة والأدب والتاريخ والدين ليرسم بانوراما شاملة، وإن مختزلة، عن بلد اسمه العراق تغنى الكثير من الشعراء بجماله وطيبة أهله منذ القديم وحتى العصر الراهن الذي يعيش فيه العراق أزمة لا يمل الكاتب من التفاؤل بنهايتها قريباً، وذلك لقناعة راسخة لدى لقاسمي تقول بأن الأرض التي أعطت، وأبدعت وكانت منارة للعلم والثقافة لا بد لها من أن تنهض من كبوتها وتستعيد دورها الحضاري، وهو يرغب في القول، من خلال الكتاب، بأن العراق ومنذ أقدم العصور كان مهداً للحضارات السومرية، والبابلية، والآشورية... والعراق هو أول من علّم البشرية القراءة والكتابة بالخط المسماري منذ آلاف السنين، وفيه افتتحت المدارس والمكتبات العامرة بالألواح الطينية المخطوطة في علوم الحساب والفلك والكيمياء، وفيه بنيت حدائق بابل المعلقة، إحدى عجائب الدنيا لسبع.
الشرائع
وسُنّت في العراق أقدم الشرائع وأولى القوانين التي عرفتها الإنسانية من عهد أوركاجينا ملك سومر العادل، وأول مشرّع، ومصلح اجتماعي في العالم، ففي بابل شمالي العراق كتبت القوانين بخطوط كبيرة على مسلة عظيمة هي مسلة حمورابي، ونظمت فيه أولى الملاحم الشعرية التي عرفتها البشرية، وهو مهبط الرسالات السماوية ففي سومر جنوبي العراق بنى نوح سفينته لإنقاذ العالم من الطوفان، وفي مدينة أور الواقعة قرب ناصرية اليوم ولد ونشا أبو الأنبياء سيدنا ابراهيم.
وعندما بزغ فجر الإسلام في مكة المكرمة أشرقت شمسه على بلاد العراق المتاخمة بدءاً من البصرة التي أنجبت عباقرة في علوم اللغة، والفقه، والدين، والشعر من أمثال الحسن البصري، ووقلةاصل بن عطاء، والخليل بن احمد الفراهيدي، وسيبويه، والجاحظ، وأبي نواس، ورابعة العدوية، وإخوان الصفا، وابن الهيثم ... فكانت البصرة منارة علم وأدب ومنها انطلقت السفن الى أقاليم الأرض النائية ونسج البحارة بعد عودتهم من تلك الرحلات حكايات السندباد البحري، وعلي بابا والأربعين حرامي... وسواها التي لا تزال تلهب المخيلة.
أما الكوفة فقد اختارها علي بن أبي طالب عاصمة الخلافة الإسلامية، وكانت فيها مدرسة أنجبت علماء كبار كالفيلسوف الكندي، واللغوي الشهير الكسائي، والكيمائي جابر بن حيان، والفقيه أبو حنيفة النعمان، والشاعر الأشهر في العربية المتنبي وصولاً الى مبدعي العراق المعاصرين من أمثال الجواهري، والرصافي، والسياب، والبياتي، ونازك الملائكة، وهادي العلوي، وفؤاد التكرلي، وسعدي يوسف، وبلند الحيدري وغيرهم.
ومن الموصل خرج القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي الذي هب لنجدة المنكوبين في الشام ومصر ضد الغزوات الصليبية، وانتصر على الغزاة في معركة حطين 1187م. والموصل كذلك هي المدينة التي وهبت للمكتبة العربية مصنفات ابن جني عميد اللغويين العرب، وكتاب (الكامل في التاريخ) لابن الأثير. أما بغداد فكانت عاصمة العرب والمسلمين وحاملة شعلة الحضارة الإسلامية أيام توهجهها، فقد أقام فيها الرشيد وأولاده من بعده منارة حضارية للعلم والمعرفة، وكان يرد على جامعاتها كبار العلماء من مشارق الأرض ومغاربها، وابتكر العرب فيها الورق الصقيل، وفيها دون الكندي فلسفته، والرازي علومه الطبية، ودون كذلك كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، ومنها رحل الموسيقي زرياب الى الأندلس، وشهدت بغداد أهم الترجمات ففيها نقلت الى العربية فلسفة اليونان، وعلوم الهند، وآداب الفرس، وفيها برز الأئمة الشافعي، وابن حنبل، والغزالي، وفيها ألفت قصص (ألف ليلة وليلة) وغيرها الكثير من الإنجازات، والإبداعات، والاكتشافات التي لا تزال تأثيرها حاضراً بقوة في المشهد الثقافي العربي والعالمي المعاصر، غير أن هذا التاريخ المشرق يجري تغييبه اليوم، لكن الشجرة لا يمكن لها أن تحجب الغابة، وما هذه الأيام العصيبة التي يعيشها العراق سوى سحابة عابرة لا تستطيع أن تحجب شمس العراق المشرقة، بحسب قناعة الباحث.
إن مجمل الأفكار والمواضيع والآراء التي يطرحها الكتاب يقدم مادة علمية قيمة موثقة بالأرقام، والأمثلة، والتواريخ، والباحث يسعى من خلال هذا الجهد، الى تبرير سبب عشقه، وعشق الكثيرين غيره، لهذا البلد، فهو ليس فقط حيزاً جغرافياً ومكانياً نشتاق إليه بل قدم للبشرية أهم الإنجازات، والابتكارات، وعاشت على أرضه أولى الحضارات البشرية وبرز في مدنه المختلفة المتصوفة، والشعراء، والفقهاء، والقادة، والنحاة، والموسيقيين، والمعماريين، والأئمة... ولذلك فهو يعيش في القلب بكل هذا التاريخ، الشاهد على عراقة هذا البلد، وعلى الدور الحضاري الهام الذي لعبه على مر العصور.