أصدقاء الدكتور علي القاسمي

محمد نجيم، إرنست همنغواي وفتنة باريس


نقلا عن موقع الاتحاد

إرنست همنغواي وفتنة باريس

رائعة من روائع الأدب الإنساني تلك التي خلّفها لنا الكاتب والروائي الأميركي الشهير إرنست همنغواي، المولود بمدينة أوك بارك في سنة 1899 وفارق الحياة منتحرا في سنة 1961، بعد حياة حافلة بالمجد الأدبي وصلت إلى قمته بحصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1954. يروي مُترجم هذا العمل الرحلي الأدبي الرائع الدكتور علي القاسمي علاقته بأعمال همنغواي قائلا في توطئة هذا العمل الترجمي الجميل والممتع: “كنت طالباً في الجامعة الأميركية في بيروت عندما أهدى إليّ أحد الأصدقاء هو الكاتب الأميركي جون مكلنك فريزير، الذي كان يشاركني إعداد كتاب باللغة الإنجليزية عن القصة الحديثة في العراق، أهدى إليّ كتاباً من أعمال أرنست همنغواي عنوانه “الوليمة المتنقلة”، كان قد صدر في الولايات المتحدة الأميركية عام 1963 بعد وفاة مؤلِّفه منتحراً عام 1961. وكنت قد قرأت عدداً من مؤلفات همنغواي الأخرى، منها مجموعة قصصه القصيرة، وروايته “لا تزال الشمس تشرق”، وروايته “لمن تُقرع الأجراس؟”، وقصته الطويلة “ثلوج كليمنجارو”، وروايته “العجوز والبحر” التي نال على إثرها جائزة نوبل للآداب عام 1954. كما كنت قد قرأت كتاباً عن حياته بعنوان “بابا همنغواي” للصحفي الأميركي هتشنر الذي حرص على رفقته خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، كان يحتفظ خلالها بسجل مفصّل عن تنقلات همنغواي وعلاقاته وأنشطته المختلفة”. 
في “الوليمة المتنقلة” يتحدّث همنغواي عن مدينة باريس التي عاش فيها في أوائل العشرينات من القرن العشرين، من سنة 1921 إلى 1926، وهي سنوات تقع في تلك الفترة التي يسميها الفرنسيون بـ”الحقبة الجميلة” وبسنوات الجنون. كما يتحدّث عن الأدباء والفنانين الذين كانوا يعيشون في باريس في تلك الأيام والذين ربطته معهم صلات مودة وصداقة، خاصة أولئك الذين قدموا من بريطانيا وأميركا واتخذوا باريس مربعا لمزاولة أدبهم وفنّهم. وفي مقدمة أولئك الأدباء الشاعر الأميركي عزرا باوند والشاعر الأميركي البريطاني تي. أس. إليوت، والروائي البريطاني جيمس جويس، والكاتبة الأميركية غيرتيتيود شتاين، والروائي الأميركي سكوت فتزجيرالد، وغيرهم. 
ويقول علي القاسمي إنه أقدم على ترجمة “الوليمة المتنقلة”، ليوفر للمكتبة العربية معلومات دسمة عن أولئك المشاهير من الأدباء والفنّانين، لا يجدها الباحثون عادة في المراجع المختصة بالأعلام والسير والتراجم.
ومن عوائق الترجمة التي واجهها المترجم أمام هذا الهرم الإبداعي الروائي همنغواي، هو أن هذا الأخير لا يطرح أسئلة مباشرة ولا يسرد جميع الأحداث، وإنما يستخدم التلميح بدلا من التصريح، والتضمين بدلا من التقنين. إنه يلجأ إلى تقنية “جبل الجليد” ليتيح للقارئ متعة الاكتشاف والمشاركة في العمل الإبداعيّ. 
ويقول المترجم إن همنغواي يتحدّث في كتاب “الوليمة المتنقّلة” عن باريس في العشرينات من القرن العشرين، وعن الأدباء الذين التقى بهم هناك وربطته معهم صداقة ومودة. ولكنّه، في حقيقة الأمر وبصورة غير مباشرة، يتحدّث عن نفسه من خلالهم ومن خلال باريس. فنحن نرى أحياء باريس التي ارتادها، وشققها التي سكنها، ومطاعمها التي أكل فيها، ومقاهيها التي كتب قصصه على طاولاتها، وحلبات سباق الخيول التي قامر فيها، وهكذا. ونحن نتعرف كذلك على الأدباء البريطانيين والأميركيين من خلال المحادثات التي تجري وبينه بينهم. يمكننا أن نعدّ هذا الكتاب من كتب السيرة الذاتية ولكنه دُوّن بطريقة مبتكرة وأسلوب روائي يختلف عن أساليب الكتب التي سبقته من هذا الصنف الأدبي.

مع وعزرا باوند
في “الوليمة المتنقلة” يتحدث همنغواي عن الشاعر الكبير والمؤسس عزرا باوند، ويصفه بأنه كان دائما الصديق الطيّب الذي يفعل الخير للآخرين باستمرار. ولا يقارن فقر الشقّة الصغيرة التي يسكنها وزوجته دوروثي إلا بغنى شقّة غيرترود شتاين. وتتوافّر شقّته على ضوء جيد وموقد لتدفئتها، وفيها لوحات لفنانين يابانيين من معارف عزرا. وهؤلاء الفنانون هم من المعروفين في بلادهم ولهم شَعر طويل أسود لامع يهبط إلى الأمام عندما ينحنون؛ وكنت معجباً بهم جداً، ولكن لوحاتهم لم ترُق لي. لم أفهم تلك اللوحات على الرغم من أنها ليست لغزاً، وعندما كنت أفهمها لم تكن تعني شيئاً لي. وكنت أسف لذلك ولكن لم يكن بوسعي أن أفعل شيئاً بصدده.
أما لوحات دوروثي فقد أحببتها كثيرا، وألفيت دورثي جميلة جداً ولها قوام رائع. وأحببت كذلك تمثال عزرا النصفي الذي صنعه النحات غوديير ـ برزيسكا، وأعجبتني جميع الصور الفوتوغرافية لأعمال ذلك النحات التي أطلعني عليها عزرا في الكتاب الذي ألّفه عنه. وأعجب عزرا كذلك بلوحات بكابيا ولكنني ظننت آنذاك أنها لا قيمة لها. وكذلك لم تعجبني لوحات وندهام لويس التي أعجب بها عزرا كثيراً. كان يحب أعمال أصدقائه، وهذا شيء جميل كالإخلاص، ولكنه يمكن أن يتحوّل إلى كارثة كإصدار الحكم.

..وغيرترود شتاين
وعن الشاعرة الأميركية الجميلة غيرترود شتاين التي ألهمت كبار أدباء عصرها، ومن بين هؤلاء همنغواي الذي قال عنها في “الوليمة المتنقلة” إن الكيفية التي انتهت بها علاقتي مع غيرترود شتاين غريبة حقا. كنا قد أصبحنا صديقين حميمين، وقدمتُ لها خدمات عملية مثل إقناعي فورد بالشروع في نشر كتابها الطويل على حلقات مسلسلة في مجلته، وساعدتها على طباعة مسوّدات الكتاب وتصحيحها. وكانت صداقتنا ستغدو أكثر حميمية مما كنت آمل لها. ولكن ليس ثمة مستقبل كبير لرجال تربطهم صداقة بسيدات عظيمات على الرغم من أن هذا النوع من الصداقة ممتع تماما قبل أن يؤول إلى الأفضل أو الأسوأ، ويتضاءل عادة مستقبل هذا الصنف من الصداقة مع النساء الكاتبات الطموحات جداً. 

..وسكوت فتزجيرالد
ويصف لنا همنغواي الأديب الشهير سكوت فتزجيرالد بكونه صاحب طبيعية مثل طرزٍ دبّجه الغبار على أجنحة فراشة. لا يفهم ذلك أحياناً أكثر مما تفهمه الفراشة ولا يعرف متى يتعرّض ذلك الطرز للزوال أو التشويه. وأصبح مؤخراً واعياً بجناحيه المعطوبين وتكوينهما وتعلّم كيف يفكر فلم يعد بوسعه الطيران؛ لأن حب الطيران قد اختفى، وصار بإمكانه أن يتذكّر فقط، عندما لا يتطلّب الأمر مجهودا. 
وقع أمر غريب جدا عندما التقيت سكوت فتزجيرالد أول مرة. حدثت أشياء غريبة عديدة مع سكوت فيما بعد، ولكن لم أتمكن من نسيان تلك الحادثة البتة. لقد جاء إلى حانة (دينغو) في شارع (دلامبر)، حيث كنت جالسا مع أشخاص متواضعين تماما، وقدّم لنا نفسه وقدّم رجلا طويلا لطيفا كان معه اسمه (دونك شابلان)، لاعب البيسبول المشهور. لم أتتبع مباريات برنستون للعبة البيسبول ولم أسمع مطلقا بدونك شابلان، ولكنه كان لطيفا للغاية وهادئا ومرتاح البال وودوداً وقد فضّلته على سكوت كثيراً.
في “الوليمة المتنقلة” يصف لنا إرنست همنغواي شوارع باريس ومقاهيها ومكتباتها ومواخيرها بوصف روائي بارع وبحس شاعري مفتن قلما نجده في نصوص أدبية خالدة كتب عن مدينة الأنوار بأقلام أهلها من صُناع الأدب الفرنسي الراقي، أو بأقلام الوافدين إليها من قارات وثقافات أخرى. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نشكر الدكتور علي القاسمي الذي قدم لنا ترجمة أمينة لعمل إبداعي ساحر وشائك.

مقالات ذات صلة