أصدقاء الدكتور علي القاسمي

قراءة نقدية لقصة الساعة للدكتور علي القاسمي


قراءات نقدية 
نقلا عن موقع، صحيفة المثقف
الساعة صوتُ الصمت.. مقاربات في الديالكتيك الزائف
حسام الجبوري


تعكسُ قصة (الساعة) للمبدع الدكتور علي القاسمي ديالكتيكاً من نمط خاصّ جدّاً، يبدو غرائبياً يتجاوز حدود مفاهيم الديالكتيك الفلسفية التقليدية؛ فهو صراع السمعِ، والبصر، صراع تراسل الحواسّ؛ أو فلنقل صراع المعرفة، وطرق المعرفة .
هذا الصراع لا يعتمد مقاربة النهايات الخلّاقة للحلول الوسطى كما يفهمها الماركسيون القدامى؛ بل هو صراع آخّاذ يحاول في جدليّته سبر غور الإنسان نفسه للمكاشفة بأيّ الوسائل التي تقرّبنا لنيل المعرفة .
يبدو السرد تراتبياً؛ يبدأ مختصراً (الغرابة مجسَّدةٌ في رجل)،  ثم يزداد إثراءاً، لكنّ الأحجية التي تغلّفت بوثائقية خادعة أصبحت أكثر غموضاً بسبب وضوحها !!
(الغرابة مجسَّدةٌ في رجل) تمثّل عتبة تُشعر بالقيمة الحقيقية للذة الاكتشاف؛ لا معرفة بلا غموض، ولا معرفة بلا فضول يستدعي الخوض في المجهولات !
الديالكتيك الخادع، يجعلك تنساب متوهّماً في الأحجية الظاهرة، لتقول : ها هنا الحلّ، لتجدَ نفسكَ في غير ما توقعت ! إذ تبدو فلسفة القصة نابعة من فكرة تعدد طرق المعرفة المنتجة لاختلاف المعرفة، تقنية تلاحق السمع، والبصر تحكم نسج القصّة منذ البداية .
ولأوّل وهلة نتعرف على القاسميّ، وهو يحاول في تقنية السرد تصفية الشخصيات الواحدة تلوَ الأخرى، فالقاسميّ وهو يتقدّم في خطاه السردية يجعل من شخصيّاته العابرة رموزاً مختصرة للانبهار، أو التعجّب، أو الاستغراب !
(الأساتذة، الطلبة) يُعلنون ردودَ أفعالهم تجاه هذا الأستاذ (سيدي محمد) ولا يكادون يفقهون سرّه في إشارة رمزية دقيقة لتوهّم الحواس الموصلة للمعرفة الخاطئة، أو الاستنتاجات غير الدقيقة، أما القاصّ الشغوف بالغرابة فإنّه وإنْ وقع في خدعة الحواسّ في البداية إلّا إنّ إصراره على المعرفة أوصله للحقيقة .
تَشَكُّلُ الرمزِ (الساعة) يبدو طاغياً على مفاصل القصة كلّها حتى الشخصيّات؛ فما أن تظهر شخصية حتى تختفي في إشارة رمزية لتلك الثواني العابرة، فما أن تحلّ حاضرة حتى تذهب مختفيةً، فالقاصّ لا يُعير أهمية لتكرار الشخصيات، هو لا يبحث عن تكرار نمطي في الشخصيّات، كأنه يقول : الغرابة تستدعي الفضول، والفضول يستدعي الرغبة، والرغبة تستدعي جرأة المحاولة .
ومن ثمّ يتفرّد القاصّ بالشخصية الوحيدة (سيدي محمد) ليخلقَ ثنائياً جدلياً يحاول من خلالهما المرور إلى بوابة المعرفة، تلك المعرفة المعتمدة على ثنائية (السمع، والبصر)، وهنا يحاول القاصّ ببراعة توظيف (الساعة) في محاولة خلق الرؤى، والاكتشاف !
تبدو (الساعة) بوابةً للولوج إلى فهم عالمنا، ولربما كانت المبالغة في اقتناء (سيدي محمد) غريبة لمن يجهل هذه الحقيقة، إذ يكفي اقتناء ساعة واحدة لمعرفة الوقت، لكنّ القضية ليست في معرفة الوقت، فـ(سيدي محمّد) أصبح لكثرة اعتنائه بالساعات واهتمامه بها ساعة لا تكاد تُخطِئ (فالوقت، بالنسبة للأستاذ سيدي محمد، مقدّس ذو قيمةٍ ساميةٍ، تكاد تعادل قيمة الدرس أو تسمو إلى مرتبة الأستاذ نفسه، وكأنّه يِؤمن بمقولة: " لولا الوقتُ، لما صار الإنسان إنسانًا ". ولهذا لم استغرب حمله ثلاث ساعات في آنٍ واحد: ساعتان يدويَّتان: واحدة على كلِّ معصم من معصمَيه، وثالثةٌ ساعةٌ جيبيّةٌ في جيب قميصه القريب من قلبه. وأحيانًا، يحمل بضع ساعات أُخرى في بقيَّة جيوب بذْلته. ولعلَّ سلوكه هذا هو الذي دعا زملاءَه إلى وصمه بتهمة الغرابة) .
يُلحّ القاسميّ في جعل (الساعة) رمزاً، أو آيقونة تختزل بتكثيفها الدلالي الحياة بأكملها؛ فالفنجان في أصله اللغوي يدلّ على الساعة، ولا نستغرب إذا ما عرفنا علاقة القهوة بالقاص، ومدى ولعه بصناعتها، وشربها (عاد الأستاذ يحمل صينيّةً وفيها إبريق القهوة وفنجانان كبيران. ولمّا وضعها على الطاولة، لاحظتُ أنّ أحد الفنجانين يحمل رسمًا لساعةٍ فيها ثلاثة عقارب ملوَّنة.
لم أشأْ أن أسأله عن سرِّ الساعات الاثنتي عشرة وعن فائدتها له وهو مختصٌّ بالأدب الإنكليزيّ وليس بالجغرافية. وحاولتُ أن أصرف المحادثة عن موضوع الساعات التي لا أعرف عنها كثيرًا، إلى موضوعٍ آخر كالقهوة التي أعدُّ نفسي خبيرًا في شربها، فلم أوفّق إلا إلى قولٍ سخيفٍ آخر:
ـ  هذا فنجان لطيف على شكل ساعة.
وإذا به يقول:
ـ إن كلمة "فنجان" كانت تُلفظ " بنكان". واستُعلمت كلمة "بنكان"، في التراث العربيّ، لتدلَّ على نوعٍ من الساعات ذات الآلات الميكانيكيّة. والفنجان الذي ترتشف القهوة منه الآن يقوم بالوظيفتَيْن. فعندما تنتهي من شرب قهوتك تستطيع أن تقرأ فيه الوقت الذي استغرقتَه في الشرب) . القهوة هي الساعة، والساعة هي الحياة بإبداعها، وقدرتها على الاستمرار، القهوة، والساعة خلاصة كلّ شيء .
(الساعة) تختزلُ الحياة؛ حكمة الإنسان الأقدم، حين تمتزج الساعة بماهيتها الفلسفية بجغرافية المكان، صورة من توأمة المكان، والزمان، وفنائهما في فهم الإنسان لما حوله (ـ ظننتُ أنّ أجدادنا العرب القدامى لم يحفلوا بالوقت كما نحفل به اليوم، فبعيرهم في الصحراء لا يعبأ بالوقت، كما تتقيّد به طائراتنا اليوم.
قال مستغرباً قولي:
ـ على العكس تمامًا، كانت معرفتهم الدقيقة بالوقت تعوّض عن ضعف وسائل الاتصال والمواصلات عندهم. وكان من حرصهم على الوقت أنَّهم خصّصوا اسمًا لكلِّ ساعةٍ من ساعات الليل والنهار. فأسماء ساعات النهار الاثنتي عشرة، مثلاً، هي: الذرور، البزوغ، الضحى، الغزالة، الهاجرة، الزوال، الدُّلوك، العصر، الأصيل، الصبوب، الحُدُور، الغروب) . الإنسان هو الإنسان، تعدّدت الساعات لتعدّد الرؤى الحضارية، فالساعة حينئذٍ ليست إلّا انعكاسٌ للحياة، هي الحياة (وما فائدة اقتناء سبع ساعات يدويّة من نوعٍ واحدٍ، كتلك الساعات المرتَّبَة على الطاولة؟
أجاب بهدوء أقرب إلى الرتابة، كأنَّه يلقي درسًا كرَّره مرارًا:
ـ إنّها ليست من نوعٍ واحد. فالأولى تعمل باللولب، والثانية تعمل بالبطارية، والثالثة بحركة اليد، والرابعة بنبض المعصم، والسادسة بالطاقة الشمسية، والسابعة بحركة الهواء. أضف إلى ذلك، أنَّ كلَّ واحدةٍ منها تقوم بتنبيهي إلى أمرٍ مختلفٍ، بنغمةٍ مختلفة) .
يُركّز القاص على خلق مقتربات حوار للولوج في عالم (سيدي محمّد) المليء بالغرائبية؛ غرائبية تبدو من كثرة اقتنائه للساعات، واهتمامه المبالغ بالوقت .
يجعل القاص التقاءه بـ(سيدي محمّد) نقطة البداية للحدث الأهمّ في القصّة، وكأنه يدخل عالماً مسحوراً يشبه ذلك المألوف في قصص (ألف ليلة وليلة)، فيقول: (داهمتني الدهشة والعجب عندما دخلتُ منزله، وبذلتُ جهدًا كبيرًا لإخفاء مشاعري، فقد خشيتُ أن أُسيء إلى مضيّفي إنْ ظهر الاستغراب على وجهي) .
تتشكّل نواة الصراع بين الإثنين في وعي حسّيّ يعتمد محورين؛ الأول : بصريّ، والثاني : سمعيّ1   . وتظهر متعة الاكتشاف البصري في البداية، بدايات التعرّف الأكثر غرائبية؛ حين تنحرف بوصلة الكلمات من الشخصية إلى عالمها المحيط ! فالقاصّ لم يُكلّف نفسه عناء البحث عن وصف (سيدي محمّد) جسديّاً، لا تظهر ملامحه أبداً، ولم يعِر القاصّ أهمية لبيان شكله؛ لأنه استعان بمعادل بصري خارجي يمنح من خلاله الشخصيّة أبعاداً أكثر عمقاً، فيرسم ملامحه من ذلك الغموض الذي يلفّ كلّ شيء حوله، يتداخل (سيدي محمّد) مع (زمكانيته) ليكوّنا معاً شخصيته المثيرة للفضول، وجعل جلّ اهتمامه في وصف المكان الذي امتلأ بالساعات ! وكأنه يصف الشخصية بمكانها؛ إذ يصبح المكان هو الذات، المكان الذي يكتنز كمّاً من الساعات تجعله مبهماً غرائبياً .
عجائبية أن يتماهى المكان والزمان في جوهر واحدٍ، حين امتزج المكان الأليف بالوقت، فلنقل بجرأة : لقد تغلّف المكان بصبغ من نوع فريد، اللون لم يعد مألوفاً، فالمألوف تلك الساعات المختلفة التي منحت المكان بعداً جديداً (كانت باحة المنزل غاصَّةً بحشدٍ غريبٍ عجيبٍ من الساعات القديمة والحديثة التي ينبعث منها خليطٌ من الأصوات والدقّات والأنغام. ففي وسط المنزل كانت ساعةٌ مائيّةٌ تحتلّ مكان النافورة. عرفتُها من أسطوانتها المملوءة بالماء، والآلة المجوفة الطافية على الماء، والكرات الصغيرة التي تسقط واحدةٌ منها كلَّ ساعةٍ في طاس، فتُحدث طنينًا يُعلِن عن انقضاء ساعة) . إنها جرأة اللعبة التي استبدل بها القاصّ المكان بالزمان، لم يتبادلا الأدوار؛ بل أزاح الزمان المكان، وحلّ محلّه !
يتكِئ القاص على المحدّد البصريّ في رسم المكان – أو فلنقل الزمان – الذي تماهى فيه (سيدي محمّد) حدّ الإغراق، فنلاحظ اهتمام القاص بوصف الساعات، وأشكالها، وأحجامها، وتفصيلاتها (وفي أعلى الحائط المقابل نُصِبتْ ساعةٌ شمسيّةٌ كبيرةٌ. وهذه الساعة مؤلَّفةٌ من عودٍ خشبيٍّ مغروزٍ في الحائط، تسقط عليه أشعة الشمس، فينتقل ظلُّه على لوحةٍ من الأرقام المخطوطة على الحائط لتحديد الوقت. وعلى جانبَي تلك المزولة، عُلّق على الجدار إسْطُرْلابان كبيران، أحدهما نحاسيّ والآخر فضيّ، لا أدري كيف حصل عليهما، لأنّني لم أَرَ إسْطُرْلاباً قطّ في أسواق هذه المدينة التي أعرفها منذ سنوات عديدة. وبينما كنتُ أفكِّر أنَّ الساعة الشمسيّة والإسْطُرْلاب لا يساعدان على معرفة الوقت إلا في النهار المشمس، لمحتُ على منضدةٍ في زاويةِ باحةِ الدار ساعةً رمليّةً مؤلَّفةً من قارورتَيْن زجاجيتَيْن كبيرتَيْن مُتَّصلتَيْن بعنقٍ صغيرٍ، وقد مُلِئت القارورة العُليا بالرمل، في حين خُطَّتْ على القارورة السفلى خطوطٌ وأرقام، وأخذتْ ذرّات الرمل تتسرَّب من القارورة العليا إلى القارورة السفلى من خلال العنق، ليشير الحدُّ الذي يبلغه الرمل المتجمِّع إلى الوقت) .
الساعات المتكدّسة ليست إلّا أشكال حياتنا، وأفعالنا المتنوعة، رسوم ما تمليه جوارحنا في كوننا الواسع، أو الضيق، نحن الساعات التي تختصرُ حتى بيئتنا التي نحيا بها، و(سيدي محمّد) الإنسان المثالي الذي يحيطه الكون، أو يحيط هو بكونه !
يُشعرنا الدكتور القاسمي؛ وهو يحاول استكناه ما في نفسه حين لجأ لحوارية خجولة، تعكس حرجَ أن نسألَ بسذاجة عن قيمة هذا الكون المتراكب المتراكم، يمنحنا وهو يصنع حواره فرصةَ أن نقول : بالفعل، ما هذه الغرابة التي نحيا بها ؟ ما قيمة أن يحيا الإنسان في الكون المتقنِ الصنع، من دون أن يتعايش مع اتقانه ؟
حوار يخترق عقولنا السطحية للبحث عما هو جوهريّ بقيمة عالية، فالساعات ليست أداة لمعرفة الوقت، ليست كبقية الاختراعات الإنسانية التي يوجهها في منفعة محدّدة، الساعات فلسفة الإنسان، ونظرته نحو كونه الذي يحيا به .
أسئلة تتناوب بين السذاجة في الطرح، والفلسفة في الردّ، فالحوار الذي يشوبه القلق، والتأزم منبعه الخوف من المعرفة، خوفٌ وعشقٌ تلازما منذ فتح الإنسان الأول عيناه وأدرك تلك المحسوسات التي كانت جسره نحو المعقولات .
يُدركُ القاسميّ المولع بالاكتشاف لذة الغرابة فنراه يركّز على إبراز مشاعره، ليخلق صورة متناصفة؛ نصفها الأول مليء بالاستغراب والدهشة والانفعالات، ليكملها بنصفها الآخر الجامد المتفلسف (شعرتُ أنّني ينبغي أن أقول شيئًا، لأُخفي أمارات الاندهاش التي سيطرت على وجهي، فرسمتُ ابتسامةً على شفتَيَّ وقلت:
ـ هوايةُ جمع الساعات رائعة)، وهو إذ يبدأ في محاولة اكتشافه لهذا العالَم الغرائبي، يرسم ما يشعر به من اختلاجات، يختصِرُ بها رحلة الآف السنين من سير الإنسان نحو معرفته، وفهمه لمحيطه (بدتْ لي عبارتي سخيفةً ولا معنى لها في ذلك المقام، فأردفتُ قائلاً:
ـ منزلك أشبه ما يكون بمتحفٍ متخصِّص) .
في مقابل هذا المتسائل المستغرِب يبدو (سيدي محمد) جافّاً بعيداً عن المشاعر، أو اختلاجات الذات، وانعكاساتها، هو فيلسوف مخض الدنيا بتجربته، يختزل بساعاته حضارات معتّقة لآلاف السنين (قال دون أن ينظر إليّ:
ـ الساعة أروع ما اخترعه العقل البشريّ. ويعود الفضل لأجدادنا العرب القدماء.
وهنا حاولت أن أقول شيئًا ذكيًّا ينمُّ عن إلمامي بتاريخ الساعات، فلم يحضرني إلا العبارة التالية:
ـ أتقصد بذلك الساعة الدقّاقة التي أهداها الخليفة العباسي هارون الرشيد إلى شارلمان، ملك الإفرنج، فأفزعتْ حاشيته؟
قال:
ـ لا أقصد بالساعة الآلة أو الأداة، وإنّما الوحدة الزمنيّة. فالعرب البائدة من السومريِّين والبابليِّين والفراعنة هم الذين توصَّلوا إلى تقسيم الزمن إلى سنواتٍ وفصولٍ وشهورٍ وأسابيعَ وأيامٍ وساعات، عن طريق مراقبة الكواكب والنجوم، وتقسيم الزمن الذي تستغرقه في كلِّ دورةٍ من دوراتها) .
يُغرِق القاسميّ نفسه في متاهات الحيرة، والشعور بالغربة، ولكنها غربة من يحاول استكناه الرموز، وحلحلة الأحجيات، فضول الإنسان الأوّل الذي سار على أرضٍ ألفها، وحاول أن يعرف سرّ العلاقة التي تربطه بها (لم أدرِ ما أقوله له، ووجدتني أشيح بوجهي عنه)، (قلتُ له، كأنني أنتقد بصورةٍ غير مباشرة هوسَه بالوقت) .
يحاول القاسميّ في غفلة من السرد المتسارع أن يلقي الحجر في البركة الراكدة، يضعنا أمام زمن الصفر الذي يبدأ متسارعاً بانتباهة مفاجئة هي أقرب إلى الصدمة، وكأنه يصحو من غفوة سحرية، تبدو تلك اللحظة العجيبة مشتركة بيننا جميعا، وهنا يستبدل القاصّ محدده البصريّ بتقنية أخرى للإيقاظ، وهو المحدّد السمعي، ينتقل من الاستكشاف البصري إلى القرع السمعي، وهنا تبدأ المكاشفة الحقيقية!
(كانت الساعات المختلفة الجداريّة والمنضديّة والجيبيّة واليدويّة تقرع، بين آونة وأُخرى، أجراسًا وجلاجل متباينة الأنغام، متنوِّعة الإيقاعات. وبمرور الزمن، اكتشفتُ أنّ حياة الأستاذ سيدي محمد تتحكَّم فيها أجراسُ ساعاته. فجرسٌ يوقظه من نومه في الفجر لأداء صلاة الصبح، وجرسٌ آخر يقرع ليدخلَ المغطس في الحمام ويستلقي في مائه الدافئ المريح، وجرسٌ آخر يُخرجه من الحمام، وخامسٌ يُجلسه على مائدة الفطور، وسابعٌ ينبّهه إلى الخروج في اتّجاه الكُليّة. وجلجلةٌ خفيفةٌ من إحدى ساعتيْه اليدويَّتَين تسترعي انتباهه إلى التوجُّه إلى قاعة الدرس، وجلجلةٌ من الساعة اليدوية الأُخرى تذكّره بانتهاء الحصّة، وهكذا دواليك) .
استطاع القاسميّ بفضوله الوصول إلى مكاشفته، لحظة إنصاتٍ، لحظة استماعٍ تعني كثيراً؛ (حياة الأستاذ سيدي محمد تتحكَّم فيها أجراسُ ساعاته)، وهنا يضعنا القاسميّ أمام صدمة أخرى؛ فقد انتهت اللعبة؛ وقديماً قالوا : إذا عُرفَ السبب بطل العجب؛ حينها لن يجدَ القاسمي بدّاً من التفرّد، موت (سيدي محمّد) أصبح ضرورة، أصبحا واحداً، سيكملُ القاص ما بدأه (سيدي محمّد)؛ لأنه عرف الحقيقة، واكتشف السرّ، (توثَّقتْ صداقتنا حتّى أخذتُ أقترب من تفكيره، وأمسيتُ أقربَ الناس إليه)، وهنا أصبحت المقاربة بديالكتيكها معدومة؛ أصبح الصمتُ سيّد الحقيقة (أمّا خادمه العجوز، فقد اكتشفتُ أنَّه مصاب بالصمم، وأنَّه اعتاد على مُجرياتِ حياةِ الأستاذ المنظَّمة بحيث إنّه لم يَعُدْ في حاجةٍ إلى قراءة شفاهه لمعرفة تعليماته)، لقد أصبح القاص على حدود المعرفة؛ لذا فهو يؤمن أن السمع لم يعد وسيلته للوصول والاقتراب، لقد استبدله بنقيضه الصمت، ديالكتيك فريد من نوعه (وعندما مرض الأستاذ كنتُ كثيرًا ما أعوده، فأُعجبُ لصمت تلك الساعات. لقد توقّفتْ عن قرع أجراسها، كأنّها تحرص على عدم إزعاجه. طال مرضه، ودام صمتُ ساعاته شهورًا) .
هل انتهى كلّ شيء ؟ كلا ... الصمتُ المزهوّ بانتصاره عاد خاسراً خائباً؛ فلعبة الديالكتيك، والأحجيات الغامضة لا تُرضي الساعة كثيراً (أسرعتُ إلى المنزل. ودخلتُ غرفة نومه. كان مسجّى على فراشه، وقد فارق الحياة. وكانت جميع الساعات تقرع أجراسها بشكلٍ متواصل)؛ لذا عاد الصوت من جديد، لعبة أخرى، ومقاربة أخرى تبدأ بالموت، ثم الحياة، أقصد الساعة .
***
للاطلاع
د. حسام الجبوري
..........................
1- يظهر البعد السمعي في النصف الثاني من القصة .


    تعليقات (7)


    1.    
    أخي الحبيب اللساني الأديب الدكتور حسام الجبوري،
    أذهلتني مقالتك النقدية وأخذت بمجامع القلب. لقد أبحرتَ بعيداً، وغصتَ إلى أعماق سحيقة. واصطدتَ أغلى اللآلئ.
    كيف استطعتَ أن تحيط بكل هذه المصطلحات الفلسفية، من الصوفية إلى الماركسية؟
    لا شك أنها المعرفة الثرة التي تتسلح بها. فالموهبة الأدبية وحدها تبقى هزيلة مالم تعضدها المعرفة الحقة.
    أشكرك من القلب، متمنياً لك التألق في مسيرتك الأكاديمية.
    محبكم: علي القاسمي

    1.    
    أستاذنا الأكرم ... تقف الكلمات عند منعطف التعبير لاهثةً خلف كرم أخلاقكَ ، وطيبة نفسكَ العراقية الأصيلة ... بكَ أفتخر ... تحياتي ودعائي لك مستمرين دائمين .
    المحب : د. حسام الجبوري

    1.    
    أخي الكريم اللساني الأديب الدكتور حسام الجبوري،
    أشكرك مرة أخرى على مقالتك النقدية الراقية التي نشرتها صحيفة المثقف الغراء اليوم على الرابط:
    http://www.almothaqaf.com/b/readings-5/938664

    مع جزيل الشكر وخالص المودة.
    محبكم: علي القاسمي

    1.    
    قراءة عميقة ودقيقة أطلعنا عبرها على أسرار خفية غابت عنا عند قراءة قصة ( الساعة ) للمبدع الدكتور العلامة علي القاسمي المحترم , ولاشك أن الثقافة العالية وبعد النظر والغوص في دقائق أسرار اللغة من الصفات الغالبة على أستاذنا القدير الدكتور حسام الجبوري أستاذ اللغات السامية في جامعة بغداد , فبين قصة الساعة وهذا المقال محاورة للإبداع بين علمين كبيرين من أعلام اللغة . فهنيئا لنا بكما. مع خالص التقدير والمودة.

    1.    
    الباحثة بتول الربيعي ... اتمنى لك دوام الموفقية
    د. حسام الجبوري

    1.    
    وأنا أقوم بترجمة هذه القصة الغريبة "الساعة" الداخلة في تيمة لحظات الحتضار والموت، قرأتها وأعدت قرائتها وما زلت أفعل..بغرض فك الرموز وإيصال النص الأدبي إلى اللغة لأخرى -الفرنسية-بالبيان المطلوب..
    من أعقد ما استوقفني في الترجمة، ترجمة أوقات النهار الإنثي عشر:لا تطابق بين اللغات طبعا،وبالأحرى مع العربية الغنية بالمفردات والتعابير والتمييز بينها..
    قصة غرابة ازدادت غرابة مع اكتشاف هذا الناقد المتفرد الذي يبحر بنا في عوالم مخفية، ويحلل شخوصا وأحاسيس لا نراها للوهلة الأولى..
    يبدو أن القاص القاسمي لم يقدّم لنا فقط صاحب الساعة "سيدي محمد" و"الغرابة متجسّدة في رجل"، ولكن أيضا عجائبية ناقد متميّز..من أرض الفرات دائما..

    1.    
    الأستاذ مصطفى شقيب ... العربية غنية بشكل مذهل في مفرداتها ، ثراؤها اللغوي لا تملكه لغة أخرى ... أشكر اهتمامك بقراءة المقال ...تحياتي
    د.حسام

    مقالات ذات صلة