فيصل عبدالحسن، علي القاسمي هيمنغواي عراقي يجوب ثقافات العالم
السبت 2015/10/17
الدار البيضاء - كل من يلتقي علي القاسمي يشعر أنه ينهل من مكتبة معرفية وموسوعية كاملة، وما إن يضمك مجلس أدبي أو فكري أو مجرد جلسة أَخَوِيّة تفاجأ به يبادر الجميع بأفكار وحلول جديدة، لما يعيشه الناس في وطننا العربي من تحديات مصيرية، تشدك إليه ابتسامته اللطيفة التي لا تفارق شفتيه، ونظراته الواثقة وهو يحدثك، فهو قلما يشيح ببصره عن محدثه، وهو الذي اختار المغرب في أزمة تحطّم المشرق، ليكون جسره المعرفي الوطيد.
ولد علي محمد عيسى بن الحاج حسين القاسمي في بلدة الحمزة الشرقي في محافظة القادسية في العراق مطلع الأربعينات، وتلقى تعليمه العالي في جامعة بغداد، ثم في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم رحل إلى أوسلو وبريطانيا مواصلاً دراسته في أكسفورد، وانتقل إلى فرنسا والولايات المتحدة الأميركية متخصصاً في علم اللغة التطبيقي.
همنغواي والقاسمي
تتبع خطوات القاسمي، وهو يتنقل بين مدن ساحلية كثيرة، ليمر بأمكنة قريبة التشابه بالجغرافيا التي رسمها همنغواي في روايته ليترجم لنا روايته “الشيخ والبحر”، ومن الملاحظات التي كتبها عن معاناته أثناء ترجمة هذا العمل، كيف أنه مارس الصيد لعدة أيام على سواحل المحيط الأطلسي، مثل هيمنغواي تماماً، واحتك بالصيادين خصوصاً أولئك الذين أمضوا سنوات من أعمارهم في العمل في البحر، وعانوا لحظات الخوف أثناء اشتداد العواصف، بالذات عندما يخرجون بقواربهم البدائية إلى مسافات بعيدة من المحيط، فكانوا يصفون له لحظات الفرح، التي تعتريهم عندما تصيد شباكهم رزقاً وفيراً، ولحظات انكسارهم وحزنهم عندما يعودون من البحر وشباكهم خالية من أيّ صيد مهم.
كتب القاسمي في توطئته للرواية “في مرحلة الاستعداد لترجمة (الشيخ والبحر) شاهدت فيلمي سبنسر تريسي وأنتوني كوين، وأمضيت ليلة كاملة مع صياد وحيد في قارب صيد شبيه بقارب القصة في شواطئ مدينة الصويرة المغربية”. ليبدو القاسمي مترجماً مخلصاً لما ينقله من أدب، وهو قبل أن يترجم أيّ عمل من لغته الأم إلى اللغة العربية، يجعل نفسه في مقام المؤلف الحقيقي للعمل.
حياة همنغواي تستولي على خيال القاسمي وتسحره، ليظهر هذا السحر في ترجمته لكتاب (وليمة متنقلة)، حتى يخيل إلينا ونحن نتمتع بقراءة هذه السيرة المترجمة أن القاسمي يكتب عن نفسه، بعد أن اضطره ذلك للسفر إلى باريس، كما يقول، ليتتبع حركة همنغواي
وبحكم صداقتي للقاسمي، فقد عرفت أن الترجمة تمَّت في بيته الساحلي على شاطئ الهرهورة، وهو شاطئ جميل لمدينة تمارة المغربية القريبة من مدينة الرباط يقع على ساحل المحيط الأطلسي، المكان الذي لا يهدأ فيه صوت اندفاع الأمواج وتكسرها على الساحل، مصدرةً أصواتاً كتشظي الزجاج المهشم، وخصوصاً عندما يعلو صفير الريح، ما يضيف إلى إحساس المترجم الذي يسمع ويرى المحيط، بعين خياله وهو يرى الجانب الآخر من الأطلسي، حيث توجد أميركا والساحل الكوبي ومعاناة ذلك الشيخ الصياد، الذي يسخر منه زملاؤه، لأنهم اعتقدوا أن الزمن نال من قدرته على الصيد، كل هذه المؤثرات البصرية والسمعية والتخييل الذاتي أغنت القاسمي، وجعلته يصل في ترجمته لرواية “الشيخ والبحر” إلى روح النصّ وذروته، الإنسانية في وحدة وتآخ بين المؤلف والمترجم للنص الأدبي.
ترجمة القاسمي وضعتنا أمام التغييرات الكثيرة التي حصلت على مفردات لغتنا العربية خلال نصف قرن، وجعلتنا نقارن بين الترجمات السابقة للرواية وهذه الترجمة الحديثة.
مرافئ الحب السبعة
أربعون كتاباً ألفها القاسمي، وأخرى ترجمها ونشرها، كمعاجم لغوية، ودراسات في اللغة العربية والإنكليزية، قرّر أن يقدّم معارفه تلك على شكل أكاديمي، فدرّس في جامعات العالم والعالم العربي، وعمل مديراً لإدارة التربية في المنظَّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالرباط، ثم مديراً لإدارة الثقافة ومديراً لأمانة المجلس التنفيذي والمؤتمر العام في المنظمة نفسها، ومديراً للأمانة العامة لاتحاد جامعات العالم الإسلامي، ويعمل حالياً مستشاراً لمكتب تنسيق التعريب بالمغرب في مدينة الرباط.
القاسمي من القليلين من الذين لم تنعكس على وجوههم، وأرواحهم آثار التغرّب عن وطنهم، هذا التغرب الذي عاشه لأكثر من أربعة عقود، قضّاها في الدرس والتأليف، في روايته “مرافئ الحب السبعة” التي صدرت في العام 2012 يحكى قصة تَغَرُّبِه الكاملة، وإن حكاها بلسان شخصية أخرى هي أستاذ الكيمياء “سليم الهاشمي”.
الناقد المغربي إدريس الكريوي يصف الرواية في كتابه “بلاغة السرد في الرواية العربية” بقوله، إن رواية “مرافئ الحب السبعة” قد ولجت مناخاً روائيا متميزاً صنعه روائيون أفذاذ بالصبر والتقليد والمبادرة والتحدي والمنافسة، وسيّجه عباقرة الحكي العربي في مرحلة متميزة من مراحل النهضة العربية، مثل طه حسين ويحيى حقي وسهيل إدريس وتوفيق الحكيم والطيب صالح.
يضيف الكريوي أنه يلقي في معرض الأدب الزاخر هذا بروايته النفيسة “مرافئ الحب السبعة” سيراً على خطاهم واقتداء بهم حيناً، واجتهاداً حيناً آخر؛ ومضاهاة وتعديلاً للمشي والخطى أحياناً، وفي الحقيقة فإن القاسمي أعاد في هذه الرواية سؤال كل عراقي في منفاه، الذي يتساءله كل يوم تقريباً: لماذا أنا هنا، وماذا أفعل خارج بلدي؟ ما خلّفه له كل الماضي الذي عاشه، سواء خلال دراسته في أميركا أو إقامته في المغرب، وقد أجاد علي القاسمي في تحليل شخصية المثقف العراقي المهاجر سواء في روايته أو مجموعاته القصصية، التي تناول فيها حياة العراقيين خارج وطنهم “حياة سابقة”، “أوان الرحيل”، “دوائر الحزن”، “صمت البحر”، “رسالة إلى حبيبتي” وغيرها.
|
فكرة الاغتراب والبعد عن الوطن، نجدها مُعادة في أكثر من بحث في كتابه “العراق في القلب” وهو عبارة عن دراسات في حضارة العراق، ولأن القاسمي يجيد الإنكليزية والفرنسية، ويلم بالألمانية والأسبانية، فقد ترجم عن هذه اللغات ما سمّاه اللسانيّون والنقاد بالترجمة البديلة، إذ مهدت له هذه المعرفة اللغوية، الإلمام بالنص المترجم حد التماهي، وهو ما متعه في ترجمة الآدب الأجنبي، خصوصاً ما كتبه أرنست همنغواي من أدب رفيع.
مزاج أندلسي
ترجمة القاسمي لسيرة همنغواي “الوليمة المتنقلة”، هي عالم زاخر بالمعلومات عن فترة الخمسينات وأجواء الأدب والفن في باريس في تلك الفترة، في الكتاب سرد عن علاقات همنغواي في تلك الفترة بكتاب وفنانين كبار، منهم الروائي الأميركي سكوت فيتزجيرالد مؤلف رواية “غاتسبي العظيم”، والشاعر الأميركي عزرا باوند، والشاعر البريطاني ت. أس. أليوت، والروائي البريطاني جيمس جويس، والفنانة والكاتبة الأميركية جيرتيتيود شتاين.
سحرت القاسمي حياة همنغواي فأظهر هذا السحر في ترجمته لكتاب وليمة متنقلة، ويمكنك أن تشعر بهذا الحب ينبض من بين السطور، حب ممزوج بإعجاب كبير لإبداع همنغواي، حتى يخُيل لنا ونحن نتمتع بقراءة هذه السيرة المترجمة أن القاسمي يكتب عن نفسه، ويبدو أن القاسمي وجد نفسه قريناً للمؤلف أثناء ترجمته لهذه السيرة.
اضطره ذلك للسفر مع ابنته علياء عندما كانت صغيرة إلى باريس، كما يقول، ليتتبع حركة همنغواي، في شوارع باريس ومطاعمها وساحاتها وحدائقها ومحلاتها وبناياتها لئلا يقع عندما يترجم الكتاب في أي خطأ جغرافي أو خلط ما بين عبارات أو وصف مسترع لمناخ المكان، أو نقل غير أمين لطبائع الناس الذين يعيشون في المكان الذي قطنه همنغواي.
هذا نوع من الإخلاص العميق للترجمة لا نجده لدى المترجمين إلا في ما ندر، فالقاسمي لديه هدف أخلاقي واعتباري لترجمة سيرة كاتب كبير كهمنغواي لا يمكنه أن يحيد عنهما. ومما يُلاحظ على الكتاب عنوانه المترجم “الوليمة المتنقلة”، لكن يذهب استغرابنا عندما نعرف من خلال ترجمة القاسمي لمقطع من رسالة كتبها همنغواي لصديق له عام 1950 حيث قال فيها “إذا واتاك الحظ بما فيه الكفاية لتعيش في باريس وأنت شاب، فإن ذكراها ستبقى معك أينما ذهبت طوال حياتك، لأن باريس وليمة متنقلة”.
القاسمي يجيد الإنكليزية والفرنسية، ويلم بالألمانية والأسبانية، وقد ترجم عن هذه اللغات ما سماه اللسانيون والنقاد بـ”الترجمة البديلة”، إذ مهدت له هذه المعرفة اللغوية، الإلمام بالنص المترجم حد التماهي، وهو ما مكنه من ترجمة الآدب الأجنبية، خصوصا ما كتبه أرنست همنغواي من أدب رفيع
وصف الكاتب المغربي الجاحظ مسعود الصغير القاسمي في دراسة لإحدى المجموعات القصصية التي نشرها في إحدى الجرائد المغربية، فقال عنه “القاسمي، هو المثقف العربي المبدع الذي لا ينضب قلمه ولا يعي، في مجالات معرفية متنوعة، بما آتاه الله من طاقة فكرية وإبداعية، وعلمية متدفقة على الدوام، ومساره التعليمي غني وحافل بالإنجازات العلمية؛ وبعطاءاته المتواصلة”.
تناول الصغير إشكالية الغربة والبعد عن العراق في نصوص القاسمي القصصية فقال عنها “نصوص القاسمي تكوِّن حقلاً دلالياً يذوب فيه الكاتب إنسانية وشوقاً وحلماً بالوصال وهو في المغترب، الوصال الذي يسكره رحيق أزهار بلاده، وخمر العشق العذري”. في زمن العفة والاحتراق عن بُعد؛ تماما مثلما اشتاق الشاعر الأندلسي إلى حبيبته متنهداً “كم حسدتُ النسيمَ الذي قبَّلك”، فالقاص، علي القاسمي، يغترف من تجارب العشق الصافي الذي لا يدنسه شيء؛ خلافاً لما فتح عليه عينيه في الغرب من ابتذال المرأة، واعتبارها قطعة جمالية يحقُّ الاستمتاع بها، مثلما يستمتع الناظرُ بمشهدٍ طبيعي جمالي، إنه رأى نساء المغترب يعرضن مفاتنهن، ويشهرن جمالهن بشكل إباحي- تجاري.
إن صورة حبيبته هي ما ترسّب في ذهنه من الثقافة الشرقية المحافظة، التي تنظر إلى المرأة نظرة وقار وعفة. امرأة المغترب تضفي على هذا الكون الدفءَ والأنس والجمالية، هي امرأة الشرق.
علي القاسمي بعد الغربة التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً في المغرب، يطل بعينيه المتعبتين من القراءة والتأليف ويراقب المارة من مكان منزوٍ بمقهى صغير في مدينة الرباط يجلس فيها صباحاً، ويوميا،ً لوقت قصير قبل أن يذهب إلى مقر عمله، وابتسامته الشهيرة لا تفارق شفتيه.