عبد الغني بلوط، المفكر العراقي علي القاسمي لـ"العمق": نهضات البشرية الكبرى قامت على الترجمة
المفكر العراقي علي القاسمي لـ"العمق": نهضات البشرية الكبرى قامت على الترجمة
الجزء الأول
يعتبر المفكر العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، كاتبا متعدد الاهتمامات. فهو روائي وقاص وناقد ومترجم، إضافة إلى كونه أستاذا ً جامعياً متخصصاً في علم المصطلح وصناعة المعجم، وله اهتمام خاص بحقوق الإنسان والتنمية البشرية المستدامة. وتُدرَّس بعض كتبه، مثل كتابه "علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية" الذي تقع طبعته الثانية في 900 صفحة من الحجم الكبير، في معظم الجامعات العربية.
كما نُشِرت مجاميعه القصصية الست: "رسالة إلى حبيبتي" و"صمت البحر" و"دوائر الأحزان" و"أوان الرحيل" و"حياة سابقة" و"الحب في أوسلو"، في طبعات عديدة في العواصم العربية وتُرجِم الكثير منها إلى لغات عالمية، وصدرت له "الأعمال القصصية الكاملة" عن (مكتبة لبنان ناشرون). وحقَّقت روايته البكر "مرافئ الحب السبعة" نجاحاً كبيراً، فألف عنها الناقد المغربي إدريس الكريوي، كتاباً كاملاً يقع في 450 عنوانه "بلاغة السرد في الرواية العربية" صدر في بيروت والجزائر والرباط، ونُشِرت عنها دراسات نقدية بالعشرات. وإذا كانت مؤلفات القاسمي المنشورة قد تجاوز عددها خمسين كتاباً، فإن ما أُلِّفَ عنه من كُتُب ورسائل وأطروحات جامعية قد فاق عددها خمسين كتاباً كذلك.
عُرف عنه أنه يولي الأدب الأمريكي اهتماماً خاصاً، بعد أن درسه في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ترجم عددا من قصص همنغواي القصيرة، وروايتيْن من رواياته هما روايته السير ذاتية " الوليمة المتنقلة"، وروايته القصيرة " الشيخ والبحر" التي نال بعد نشرها جائزة نوبل للآداب سنة 1954. وقد أعيدت طباعة ترجمة القاسمي لهاتين الروايتين أكثر من عشر طبعات لكل واحدة منهما، في مختلف العواصم العربية.
إضافة إلى أن القاسمي أصدر كتابيْن يضمّان مختارات قصصية من الأدب الأمريكي هما: "مرافئ على الشاطئ الآخر: روائع القصص الأمريكية المعاصرة"، " وكتاب " مشاعل على الطريق: أروع وأبدع القصص الأمريكية الحديثة". وأشار في مقدمته المطولة للكتاب الأخير التي تناول فيها تطور القصة القصيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن تلك القصص التي اختارها لكبار الأدباء، تصوِّر الحضارة الأمريكية وهي سائرة في طريق الانحطاط، بسبب الإيغال في المادية والرأسمالية المتوحشة، ما أدى إلى انحلال الأسرة، وتفشي بعض الأوبئة الجنسية، والميز العنصري، والعنف والعصابات، وتعاطي المخدِّرات، والفوارق الطبقية الكبيرة، وغير ذلك.
ولد القاسمي في بلدة الحمزة الشرقي بمحافظة القادسية في العراق سنة 1942، ودرس الآداب والقانون والتربية وعلم النفس في جامعات عديدة: جامعة بغداد، والجامعة الأمريكية في بيروت، والجامعة العربية في بيروت، وجامعة أوسلو، والسوربون، وأكسفورد، وجامعة تكساس في أوستن التي نال منها دكتوراه الفلسفة في علم اللغة التطبيقي سنة 1972، والتحق بعدها مباشرة أستاذاً زائراً بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ووقع في حب المغرب فأقام فيه، وعمل في بعض المنظمات الدولية بالرباط مثل مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، وعمل مديراً في المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو).
ثمة موقع على الشابكة (الإنترنت) بعنوان "أصدقاء الدكتور علي القاسمي"، يستطيع القارئ الكريم أن يطَّلع على بعض مؤلَّفات القاسمي، وبعض الكتب والدراسات التي تناولت أعماله بالنقد.
كان بود جريدة العمق أن تجري حوارٍا مباشرا مع الدكتور القاسمي، بيدَ أنه بسبب الحجر الصحي، وجّهت إليه الأسئلة بالبريد الإلكتروني، فأجاب عليها مشكوراً.
حاوره عبد الغني بلوط
• ما جديد كتاباتكم؟ هل لذلك علاقة بمشروع فكري تريد أن تستمر فيه إلى النهاية؟
أقوم حاليا بترجمة بعض قصص إرنست همنغواي (1899ـ1961) المتعلِّقة بالصيد، وكتابة دراسة مستفيضة عن أسلوبه وتقنياته في السرد. وأنا ممن يرون أن لحياة الكاتب وحالته الصحية، البدنية والنفسية، وأحداث حياته، أثراً كبيراً في تشكيل كتاباته مضموناً وشكلاً.
وقد كشفت الممثلة الكاتبة ميريل همنغواي (حفيدة الكاتب من ابنه البكر جاك) أسراراً جديدة مؤخراً عن أسرة همنغواي، في فيلم وثائقي بعنوان "الهروب من الجنون" أعدّت هي مادته وشارك أربعة ممثلين من أسرة همنغواي في أداء الأدوار المختلفة، ودعمته بكتابٍ من تأليفها عنوانه "وطلعت الشمس: التغلب على تركة المرض العقلي، والإدمان، والانتحار في أُسرتي". وتقول إن الانتحار وقع سبع مرات في أُسرتها. وتعزو هذا الميل إلى الانتحار إلى أن أفراد أُسرتها موهوبون ولكنهم توارثوا جينات الإبداع والاكتئاب من آبائهم. والاكتئاب يدفعهم إلى الإدمان فالانتحار.
فأبو الكاتب إرنست همنغواي، الطبيب كلارنس، فارق الحياة منتحراً في منزله بضاحية أوك بارك في مدينة شيكاغو بولاية ألينوي سنة 1928. وأخو الكاتب الوحيد الذي يصغره بـستة عشر عاما، الكاتب الروائي ليستر همنغواي (1915ـ 1982) انتحر بمنزله في شاطئ ميامي وعمره 67 عاماً، وحفيدة إرنست همنغواي، عارضة الأزياء الممثلة مارغو همنغواي (1954ـ1996) التي كانت توصف بأنها أجمل امرأة على مرِّ العصور، انتحرت بكمية كبيرة من المخدرات وعمرها 41 سنة في شقتها في سانتا مونيكا.
وتضيف الكاتبة الممثلة ميريل همنغواي قائلةً إنها هي نفسها مهدَّدة بالانتحار، وإنها تبذل جهوداً كبيرة للتخلُّص من الاكتئاب، عن طريق التحليل النفسي، والتعاليم الروحية، ومزاولة الرياضة، والمشي في المنتزهات وغير ذلك مما يوصي به الأطباء النفسيون.وترى أنه من المهم جداً أن يعترف الإنسان بالاكتئاب ويبوح به ويعمل على مكافحته بشتى الوسائل.
وكنتُ شخصياً قد ألّفتُ كتاباً بعنوان "الحب والإبداع والجنون: دراسات في طبيعة الكتابة الأدبية" (صدر عن دار الثقافة الجديدة بالدار البيضاء في 2006) تضمَّن دراسةً عنوانها "الإبداع والجنون، أية علاقة؟"، خلصتُ فيها إلى أن الإبداع يرتبط بشخصية المبدع وقدرته على تخيّل هياكل أو علاقات تتجاوز الواقع الذي نعيشه، بحيث يتصوَّر المبدع أشكالاً جديدة. و" تجاوز الواقع" و" تصوُّر أشياء غير موجودة" هما نوعان من الجنون. فالجنون فنون، كما يقولون. وقد أثبت الأطباء النفسانيون أن كلا الإبداع والجنون ينتقل بالمورِّثات (الجينات) من الآباء إلى البنين، وأن ثمَّة علاقة بين هذيْن النوعيْن من الجينات.
ويذكر الأطباء أن " الذُّهان"، وهو اضطراب عقلي شديد ينتج عنه اختلالٌ شاملٌ في شخصية الفرد، تسبِّبه جينات تنتقل من الأبوين إلى الطفل. وفي دراسة شملت أكثر من 200 مبدع بريطاني، وجِد أن 21.5% منهم قد انتحروا، وأن 33.3% منهم قد دخلوا المستشفيات لعلاج اضطرابات عقلية أو نفسية.
إن دراستي التفصيلية لحياة إرنست همنغواي تساعد على تفهم أعمق وتذوق أكبر لأعماله الأدبية الخالدة.
• ترجمتم "كثيرا" عن "ارنست همنغواي"، ما الذي جذبك أكثر إلى هذا الكاتب الأمريكي الكبير؟
يُعدُّ إرنست همنغواي من أعظم أدباء أمريكا، إن لم يكن أعظمهم وأشهرهم على الإطلاق في جميع عصور الأدب الأمريكي. فمؤلَّفاته خالدة وبعضها يُدرَّس في المدارس الثانوية والجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بلدان أخرى. فترجمتي لروايته " الشيخ والبحر"، مثلاً، تُدرَّس في المدارس الثانوية بدولة الإمارات العربية المتحدة. فهذه القصة الطويلة أو الرواية القصيرة تمجِّد القيم الإنسانية السامية، مثل نضال الإنسان واجتهاده من أجل التحكُّم في الطبيعية واستثمارها لترقية حياته، وعدم فقدان إيمانه بنفسه من جراء الانتكاسات التي يتعرّض لها. إضافة إلى ذلك، فقد كُتبِت بأسلوبٍ سهلٍ ممتنعٍ وتقنياتٍ سردية ٍ رفيعةٍ تترك أثراً عميقاً في نفس القارئ. فهي من الأدب العالمي الخالد الذي يستحق أن تقرأه الأجيال المتعاقبة.
إن اهتمامي بهمنغواي نابع من روعة أسلوبه. فلم يكُن أسلوب همنغواي وتقنياته محاكاةً لأسلوبِ أحد مشاهير الكتاب الذين سبقوه أو عاصروه. لا شك في أنه قرأ نصوصهم الأدبية واستحسن بعضها وتأثر ببعضها الآخر. ولكن الأسلوب الذي ميّزه عن الآخرين وأثرَّ في أساليب السرد باللغة الإنجليزية وغيرها، هو نتيجة تفكير وتجريب دائبين. وهذا ما أدركتْه لجنة جائزة نوبل للآداب التي منحته الجائزة سنة 1954، فقد ورد التسبيب التالي في قرارها: "... لإتقانه فنَّ السرد الذي برهن عليه مؤخراً في " الشيخ والبحر"، وللتأثير الذي مارسه على الأسلوب المعاصر...". فقد أمضى همنغواي الشهور الطوال بل السنين في تجربة الأساليب، فنجح في معظمها وأخفق في بعضها الآخر.
المقصود بالأسلوب هو مجموعة الملامح التعبيريّة التي يختارها المؤلِّف من العناصر اللغويّة القابلة للتَّبادل لنقل مقاصده إلى القارئ والتأثير فيه. ويختلف الأسلوب من كاتبٍ إلى آخر، بحسب نفسيّته وثقافته وخلفيته الاجتماعيّة، حتّى قيل في الفرنسيّة: "إنّ الأسلوب هو الرجل (أو الشخص) (Le style est l'homme.). أما التقنيّة فهي وسيلة فنيّة أو صنعة يستخدمها المؤلِّف في تشكيل عمله الأدبيّ بحيث تتضافر مع التقنيّات الأخرى لتحقيق أهدافه وإنتاج التأثير المطلوب في نفس القارئ.
هنا يحقّ للقارئ الكريم أًن يسأل: ما هي الخصائص الرئيسة لأسلوب همنغواي وما هي أهم تقنيّاته؟
في وسعنا إجمالها بما يأتي:
• السهولة: أسلوبُ همنغواي سهلٌ ممتنع. وهو من روّاد الأسلوبِ الواقعيِّ المُرسَل الذي حرّرَ الكتابة الأدبيّة الإنجليزيّة من التراكيب المعقّدة، ومن المفردات الصعبة والنادرة والحوشيّة والأنيقة، وانتقل بالكتابة إلى الألفاظ البسيطة والتعبيرات الواضحة. يقول همنغواي في كتابه " الوليمة المتنقّلة": "ولكن يحدث أحياناً أن أشرع في كتابة قصةٍ ما ولا أتمكّن من التقدّم فيها... أقول لنفسي: لا تقلقْ. لقد كنتَ تكتب دوماً من قَبل وستكتب الآن. كلّ ما عليك أن تفعله هو أن تكتب جملةً حقيقيّة واحدة...جملةً خبريّة حقيقيّة بسيطة...".
• الاقتصاد في اللغة: يعبّر همنغواي عن الفكرة بأقلّ عددٍ من المفردات. وهذا ما جعل الناقد أنتوني برجس يقول عن قصة " الشيخ والبحر": " إنّه نصٌّ لا يُضاهى. كلُّ كلمةٍ فيه ذات دلالة، ولا يوجد لفظٌ واحدٌ زائد."
• عدم المبالغة: يترجم المرحوم منير بعلبكي، في معجمه الجيّد "المورد"، هذا المصطلح الإنجليزي بـ (التصريح المكبوت)، أي: "تصريحٌ مقصودٌ به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أضعف أو أقلّ مما تقتضيه الحقيقة". ويقابل ذلك (المبالغة) أو (المغالاة ) وهو تصريح مقصود به أن يصوّر الفكرة على نحوٍ أقوى أو أكثر مما تقتضيه الحقيقة. وكأنّي بهمنغواي قد تعلّم عدم المبالغة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلَّب من المراسل الصحفيِّ أن ينقل الحوادثَ بنوع من الحياد، وعدم إضفاء أيّة عاطفة على الخبر.
• الحياديّة في السرد: وهذه الخاصّيّة ترتبط بالخاصّيّة التي سبقتها، أي عدم المبالغة، بل تعمّقها وتوضّحها. وتعني الحياديَّة في السرد نقلَ الأحداث ووصفَ الأشخاص بطريقةٍ شفّافة، مُجرّدةٍ من أية إيديولوجيّة، ومنزَّهة عن أيّة فكرة مسبقة. وكأنَّ همنغواي تعلّم الحياديّة في السرد من عمله الصحفيّ الذي يتطلّب أن ينقل الصحفيُّ الحوادثَ بنوع من الحياد، وعدم إضفاء عاطفة على الخبر، وعدم نقله من وجهة نظر سياسية معيّنة، كما ذكرنا، فالصحفي ليس هو المعلِّق على الأخبار. وهذا الأسلوب في الكتابة يسمِّيه رولان بارت "الدرجة الصفر للكتابة"، ويعني أن تكون الكتابة محايدة تماماً، مجرَّد أداة، يتخلّى فيها الكاتب إراديّاً عن كلّ لجوء إلى التزيين أو التزويق أو الأناقة في التعبير، والابتعاد عن الالتزام بأيّ موقف اجتماعيّ أو أسطوريّ للغة، بل أكثر من ذلك يُفضَّل عدم تعبير الكتابة عن جنس المتحدّث (ذكر أو أنثى) أو حالته (مفرد أو جمع)، ولا عن زمن الحدث (في الماضي أو الحاضر)، بحيث تكون أفضل أنواع الكتابة هي اللاكتابة، وأجمل الأساليب هو غياب الأسلوب. إنّه الحياد التام أو الصمت.
• اللغة الإشاريّة: الإشارة لا العبارة والتلميح لا التصريح: أو ما أَسماها نقّاد همنغواي بتقنيّة ( جبل الجليد) التي ابتكرها. فهو لا يكشف لك من الحقائق والمشاهد إلا جزءاً يسيراً ويترك الباقي لكَ لتُعمِل فيه خيالَكَ وتأويلَكَ؛ ولكلّ قارئ خياله وتأويله. فجبل الجليد في المحيط لا يظهر منه إلا قمّته الصغيرة، وعلى المُشاهِد أن يتخيّل ضخامةَ قاعدةِ الجبل المغمورة في الماء. وليست الإشارة التي يستخدمها همنغواي تقتصر فقط على الشكل (أي اللغة الإشاريّة)، وإنّما تمتدّ كذلك إلى المضمون (أي تفاصيل الحدث). كلمات موحية، ونقاط فقط من وقائع الأحداث، عليك أنتَ أن توصلها وتلونّها لتكتمل لكَ اللوحة.
• اللامباشَرية: أي أنّه يبتعد عن الأسلوب التقريريّ، ويتجنّب إعطاء القارئ معلوماتٍ أو استنتاجات أو حِكَم بصورةٍ مباشرة. إنّه يسرد الأحداث كما وقعتْ ليترك للقارئ فرصةَ استخلاص المعلومات أو النتائج أو الحِكم منها.
• إشراك القارئ في العمليّة الإبداعيّة: يتأتّى له ذلك باستخدام تقنيّات متعدّدة مثل طرح السارد أسئلة دون إعطاء الجواب عليها، بحيث يجد القارئ نفسه مطالباً بالإجابة عنها، أو استعمال ضمير المخاطب أحياناً في السرد ليُشرِكَ القارئَ في الحوار ويجعلَه طرفاً معنيّاً بالحوادث وما يجري في القصّة؛ أو ترك فراغات في النصِّ يميل القارئ إلى ملئها واستكمالها طبقاً لنظريّة الجشتالت.
وقد أمضى سنوات عديدة في التجريب ليتوصل إلى خصائص هذا الأسلوب. الذي أثَّر في الأساليب الإنجليزية وغيرها.
• اشتغلتم بالترجمة، في نظركم ما هي القضايا الأساسية التي يمكن الاهتمام بها في هذا المجال؟
إن ترجماتي وكثير من ترجمات غيري هي مجرَّد هواية، وليست ضمن خطة وطنية أو قومية لتحقيق التنمية البشرية في بلداننا. فقيام كاتب هاوٍ بترجمةِ كتابٍ من هنا وكتاب من هناك، عندما يحلو له وبمقدار ما يسمح به وقته، لا يترك أثراً يُذكَر في حركة التفاعل الثقافي الإنساني، كما أوضحت ذلك في كتابي " الترجمة وأدواتها". لا بُد من وجود مؤسَّسة ترعاها الدولة تعمل في ضوء خطَّة مدروسة لتحقيق النهضة المنشودة. فالنهضات الكبرى في تاريخ البشرية قامت على الترجمة، ويمكنني أن أذكر أربعة منها:
أ ـ حركة الترجمة إلى العربية في العصر العباسي الأول حينما أنشأ الخليفة هارون الرشيد دار الحكمة لترجمة فلسفة اليونان، وعلوم الهند، وآداب الفرس.
ب ـ حركة الترجمة الأوربية التي بدأت في القرن الرابع عشر لترجمة علوم العرب وآدابهم وتدريسها في جامعاتهم، وكانت من عوامل النهضة الأوربية.
ج ـ حركة الترجمة السوفيتية بعد نجاح الثورة سنة 1917 التي تُرجِمت خلالها آلاف الكتب العلمية الى اللغة الروسية.
د ـ حركة الترجمة الى اللغة اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تُرجِمت فيها علوم الغرب وتقنياته، واستوعبها اليابانيون باللغة اليابانية، وصاروا ينافسون الغرب.
ولكن الترجمة إلى العربية في العصر الحاضر، كسيحة لا ضرورة لها، لأن جميع الدول العربية تدرّس العلوم والتقنيات بلغة أجنبية، هي عادة لغة المُستعمِر القديم: الإنجليزية في المشارق والفرنسية في المغارب. وهكذا بقيت العلوم والتقنيات أجنبية غريبة ولمستوطن بلداننا التي بقيت محطات لسياحة الغربيين، وليس للإنتاج والزراعة والتصنيع. والترجمة، في مفهوم اقتصاد السوق، سلعة من السلع تخضع لقانون العرض والطلب. لماذا نترجم كُتباً علمية وتقنية إذا كنا ندرس العلوم والتقنيات باللغة الأجنبية؟
الحلقة الثانية والأخيرة
يعتبر المفكر العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، كاتبا متعدد الاهتمامات. فهو روائي وقاص وناقد ومترجم، إضافة إلى كونه أستاذا ً جامعياً متخصصاً في علم المصطلح وصناعة المعجم، وله اهتمام خاص بحقوق الإنسان والتنمية البشرية المستدامة.
بعد الجزء الأول الذي تحدث فيه عن جديد أعماله وعن سر اهتمامه بأعمال ارنست همنغواي، وقضايا الترجمة، يسلط الضوء في هذا الجزء الثاني من حواره لجريدة العمق، على البحث المصطلحي، وبروز الطفل في كتاباته، وقضايا النقد وسر إعجابه بمدينة مراكش..
حاوره عبد الغني بلوط
اشتغلتم بالبحث المصطلحي واشتهرتم به، إلى أين يسير هذا البحث في العالم العربي في ظل ما تجاذب سياسي لا ينتهي؟
البحث المصطلحي في البلدان العربية بخير، فهناك في كلِّ بلدٍ عربي مجمع لغوي يقوم بتوليد المصطلحات العلمية والتقنية وغيرها، وهناك في الرباط مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم / جامعة الدول العربية، يتولى تنسيق تلك المصطلحات وتوحيدها. وأصدر هذا المكتب أكثر من ستين معجماً موحداً لمصطلحات العلوم والتقنيات تشتمل على آلاف مؤلفة من المصطلحات، مثل: المعجم الموحد لمصطلحات الفيزياء العامة والنووية، والمعجم الموحد لمصطلحات الكيمياء، والمعجم الموحد لمصطلحات النفط، والمعجم الموحد لمصطلحات الأرصاد الجوية، والمعجم الموحد لمصطلحات الطب البيطري. إلخ. إلخ. إلخ.
وكل معجم يشتمل على المصطلحات الأساسية في ذلك العلم مع مقابلاتها الفرنسية والعربية، وأحياناً مع تعريفات المفاهيم التي تعبّر عنها تلك المصطلحات. أضف إلى ذلك أن عدداً من المنظَّمات والمؤسَّسات المتخصِّصة في العالم العربي تدعم البحث المصطلحي بإصدار معاجم في مجال اختصاصها، فالمنظمة العربية للزراعة مثلاً أصدرت معجما لمصطلحات الزراعة، ومنظمة الصحة العالمية ـ مكتب القاهرة ـ أصدر معجماً بمصطلحات الطب وتعريفاتها، يضم أكثر من نصف مليون مصطلح.
وأكثر من هذا فإن مكتب تنسيق التعريب يمتلك بنكاً للمصطلحات. وفي الحقيقة، كان المغرب العزيز من أوائل الدول في العالم التي أنشأت بنكاً للمصطلحات في السبعينيات من القرن الماضي، حينما أسَّس المرحوم أحمد الأخضر غزال، مدير معهد الدراسات والأبحاث للتعريب بالرباط آنذاك ،بنكَ المصطلحات في معهده، ثم أُنشئت بنوك المصطلحات في عدد من البلاد العربية. فالعمل المصطلحي بخير. اسمح لي أن أضرب لك مثلا على ما أقول. في الشهر الأولى من جائحة ـ كوفيد 19 في العالم العربي، اضطلع مكتب تنسيق التعريب بالرباط بإصدار "معجم مصطلحات كوفيد 19" (إنجليزي ـ فرنسي ـ عربي)، مع تعريفات جميع المصطلحات الطبية المتخصصة باللغة العربية. فاللغة العربية تمتلك اليوم جميع المصطلحات العلمية والتقنية الأساسية اللازمة للتعبير عن أكثر الموضوعات تخصُّصاً علميا أو تقنياً.
ولكن ـ بيني وبينك ـ هذه الآلاف المؤلَّفة من المصطلحات، لا أعدّها أنا مصطلحات، وإنما هي مولَّدات، لأنها لا تُستعمَل . وما لم ينتشر اللفظ العلمي ويلقى قبولاً في الاستعمال الفعلي فهو ليس مصطلحاً بل مولَّداً عرضة للسبات أو الموت. مجرَّد مولَّدات في معاجم مرتَّبة على الرفوف. وهذا يُذكّرنا ببيت الشعر الساخر:
وعندَ الشيخِ كُتبٌ من أبيه ... مسطَّرةٌ ولكنْ ما قراها
فالسياسة اللغوية في بلداننا العربية تحتّم تعليم العلوم والتقنيات بغير العربية، أي بلغة أجنبية. وطلابنا لا يستوعبون النصوص العلمية والتقنية باللغة الأجنبية، ولا تشكِّل مفاهيمها جزءً من منظومتهم المفهومية. وهذا بشهادة جمعية أساتذة كليات العلوم الذين يصرحون بخجل أنهم يدرّسون طلابهم باللغة الأجنبية مدة أربع سنوات أو أكثر، وبعد تخرجهم لا تستطيع أغلبيتهم الساحقة كتابة فقرة بسيطة بتلك اللغة (الاستثناء أولئك القلة من الطلاب الذين درسوا التعليم العام بمدارس أجنبية). وطبعاً، عذرُ أولئك الأساتذة أنهم أساتذة علوم وليسوا أساتذة لغة إنجليزية أو فرنسية، وهم على حق.
عندما كنتُ أعمل في مراجعة الترجمة العربيةلـ "تقرير التنمية البشرية" الذي يصدره سنوياً البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، قمتُ بدراسةٍ إحصائيةٍ بسيطةٍ على سُلّم التنمية البشرية الموجود في آخر التقرير الذي يقسم البلدان الأعضاء في الأمم المتحدة وهي أكثر من 180 بلدا، على ثلاثة أنواع:بلدان ذات تنمية بشرية عالية، ومتوسطة، ومتدنّية. فوجدتُ أن جميع البلدان ذات التنمية البشرية العالية، تستخدم لغاتها الوطنية في التعليم في جميع مراحله ومستوياته، مثل الدول الغربية واليابان والصين وكوريا وماليزيا وتركيا وإيران وغيرها؛ وأن البلدان ذات التنمية المتدنية تدرِّس العلوم والتقنيات بلغة أجنبية مثل معظم الدول العربية والإفريقية والهند وباكستان وبنغلاديش والفلبين وغيرها.
التدبير المصطلحي بخير في البلدان العربية، ولكنه جزءٌ من السياسة اللغوية التي تقرر مصير البلدان تقدماً وصعوداً أو تخلفا وهبوطاً. وهذه السياسة اللغوية في بلداننا تقتضي دراسة العلوم والتقنيات بلغة المستعمِر القديم: الإنجليزية أو الفرنسية. فلم يعُد قيمة للمصطلحات العربية التي تضعها المجامع العربية ويوحّدها مكتب تنسيق التعريب بالرباط. وهذا يؤثر على عالمية اللغة العربية، التي تقاس اليوم بكمية المحتوى الشابكي لكل لغة (أي كمية المادة المتوافرة في الشابكة ـ الإنترنت ـ بتلك اللغة). فاللغة الفارسية اليوم تتقدَّم في هذا المقياس على اللغة العربية، لأن الطلاب الإيرانيين يدرسون العلوم والتقنيات باللغة الفارسية ويستطيع معظمهم إنشاء مواقع شابكية في تخصُّصهم، فتنتشر المعرفة في البلاد. أما طلابنا العرب فلا يستطيعون التعبير عن معلوماتهم باللغة العربية، لأنهم درسوا تلك المعلومات بلغة أجنبية لا يتقنونها ولا يستطيعون التعبير بها بسهولة وطلاقة. فتبقى معرفتهم الضئيلة محصورة فيهم ولا يشاركون في التنمية البشرية لبلدانهم. التنمية البشرية تتطلب من الطبيب، مثلاً، أن ينقل معرفته وخبراته إلى الممرضة والمساعد الطبي والمريض وجميع المواطنين الآخرين.
موضوع الطفل بارز في كتاباتكم، برأيكم هل نال هذا الموضوع الاهتمام المستحق في الإبداع على المستوى العربي؟
صحيح أن لي كتابيْن حول الطفل: أحدهما قصة طويلة " عصفورة الأمير: قصة عاطفية من طي النسيان للأذكياء من الفتيات والفتيان"، لأن هذه الفئة العمرية من الأطفال ( بين السنة الحادية عشرة والخامسة عشرة من العمر)، لا تجد كثيراً من القصص المناسب لها. وكتابي الثاني هو للأساتذة وعنوانه " لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي". وصدر الكتابان عن (مكتبة لبنان ناشرون) في بيروت. ولكن هاذيْن الكتابيْن لا أثر حقيقي لهما في خدمة الطفل.
فخدمة الأطفال الحقيقية تكمن في النظام التعليمي الإلزامي الجيد الذي يستوعب جميع الأطفال، ويطلق مواهبهم الكامنة. فهو نظام يحقق العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بين الأطفال، فينفع الأمة بالكشف عن الأطفال الموهوبين لتسنُّم قيادة المؤسسات الإنتاجية في البلاد فيعمُّ الرفاه. بيدَ أن نظام التعليم في بلداننا العربية نظام طبقي لا يحقق تكافؤ الفرص بين الأطفال ولا يؤدي إلى التماسك الاجتماعي في البلاد. فهذا النظام يتكوَّن من أربعة أنواع من المدارس تكوِّن مواطنين بعقليات مختلفة. وأنواع المدارس هي:
أـ المدارس الأجنبية التي تملكها دول أجنبية وتدرِّس منهجاً أجنبياً، وتفرض أجوراً باهظة لا يطيقها إلا أبناء رجال السلطة أو الأغنياء. وعلى الرغم من أنها حسب الاتفاقات تلتزم بتدريس المنهج الوطني، فهي لا تفعل ذلك. وخريجو هذه المدارس يشعرون بالاغتراب في بلدانهم، فيهاجر معظمهم إلى البلدان الذين تربوا على ثقافتها. ومَن يبقى منهم هو الذي يتولى المراكز القيادية في المؤسسات الوطنية، لأن البلدان العربية تستعمل اللغة الأجنبية في المؤسسات العلمية والتقنية والاقتصادية والمالية كالبنوك والشركات.
ب ـ المدارس الحرة / الأهلية / الخاصة: وهي تدرس المنهج الوطني مع عناية خاصة باللغة الأجنبية، وتتقاضى أجورا تطيقها الطبقة المتوسطة بشقِّ الأنفس، وخريجو هذه المدارس يعملون عادة مساعدين لخريجي النوع الأول من المدارس، لأن الكفاءة في العمل تعتمد على إتقان اللغة الأجنبية بالدرجة الأولى.
ج ـ المدارس الحكومية: وهي تدرِّس المنهج الوطني، ولكنها سيئة التجهيز، فلا تتوفَّر على مكتبات ولا مختبرات ولا ملاعب رياضية مناسبة، ويكثر فيها غياب المدرسين والتسرب المدرسي. وهي لا تستوعب جميع الأطفال. فكثير منهم يبقى بلا تعليم. وعلى الرغم من أن هذه المدارس تخصّص ساعات أسبوعية للغة الأجنبية أكثر بكثير من الساعات المخصصة للغة الوطنية، فإن الأكثرية الساحقة من الأطفال لا يستطيعون التواصل باللغة الأجنبية بعد إنهاء الدراسة الثانوية. ومعظم المنتسبين لهذه المدارس يواجهون البطالة، ويبقى أملهم في الهجرة بقوارب الموت إلى الغرب بحثاً عن إنسانيتهم.
د ـ مدارس التعليم الأصيل: وهي استمرار مع تطوير جزئي للمدارس الدينية القرآنية.
وهذا نظام تعليمي تنفرد به البلدان العربية. قد توجد مدارس أجنبية في بعض الدول المتقدِّمة، ولكن الحصول على وظيفة حكومية ـ حتى لو كانت في السلك الدبلوماسي ـ يعتمد أساساً على إتقان الموظف للغة الوطنية وثقافة بلاده، لا اللغة الأجنبية وثقافة أهلها.
غالبا ما نسمع في الندوات والمؤتمرات الفكرية عن تراجع النقد الأدبي في العالم وأثر ذلك على المستوى العربي، إذا كان ذلك صحيحا إلى ماذا تعزون هذا التراجع، وما هو دور النقاد أنفسهم لعودة الروح إلى النقد أم الأدباء يمكنهم أن يضمنوا أعمالكم نقدا كما فعلتم أنتم في عدد من مؤلفاتكم؟
إذا كان ما تفضلتم به صحيحاً، فمردّه إلى أن هذا العصر هو عصر العلم والتقنيات، وليس عصر الأدب والنقد.
ولكن الأدب بمختلف أجناسه وأنواعه متخلِّف في بلداننا لعدّة أسباب:
ـ إن الأدب جزءُ من ثقافة البلاد. والبلاد المتقدّمة ذات ثقافة متطورة، فيغلب ازدهار الأدب فيها.
ـ إن الإبداع الأدبي يُدرَّس في جامعات البلدان المتقدّمة. فتقنيات كتابة القصة، أو الشعر، لها دروس خاصة في الجامعات الأمريكية مثلاً، يُعطيها كُتّاب أو شعراء مشهورون حتى لو لم يكونوا قد حصلوا على الدكتوراه، وهذا هو الاستثناء الوحيد في تعيين أساتذة الجامعات.
ـ إن الأدب ينتعش ويتطور إذا كان ثمة أدباء محترفون. وفي بلداننا لا نجد أدباء محترفين. كلنا هواة نعمل في التعليم أو الصحافة أو غيرهما ونزاول الإبداع في أوقات فراغنا بحسب أحوالنا. أما في فرنسا، مثلاً، يتمتع المبدعون، من رسامين وأدباء، برعاية الدولة، وهناك مؤسّسات توفّر السكن والأكل والمكتبة لمن يريد التفرغ سنة أو أقل لإنجاز كتاب في النقد، أو الرواية أو البحث. وقد زرت أحد هذه المساكن الفرنسية التي تقدم خدماتها لأصحاب الإبداع ذي العلاقة بالثقافة الفرنسي، بالقرب من مدينة مراكش على طريق اوريكة.
ـ إن الصحافة الغربية تفرد مجلات وجرائد متخصِّصة بالأدب والنقد. وحتى الصحف السياسية اليومية تخصِّص صفحات كثيرة للأدب وفيها حقل لمراجعة الكتب الجديدة ونقدها. وإذا ألقينا نظرة على الصحف العربية نجد أنها ـ في معظمها ـ تخصص أربع أو خمس صفحات للرياضة البدنية خاصة كرة القدم، ولا تخصص إلا صفحة أسبوعية واحدة للنقد.
وعلى الرغم من كل ذلك، فأنا أجد النقد الأدبي في المغرب العزيز يواكب المقاربات النقدية العالمية، عن طريق الترجمة المتواصلة. والأدباء في المشرق يستفيدون كثيراً من الدراسات النقدية المغربية المزدهرة.
فرضت جائحة كورونا نفسها على العالم، وفي مجال الإبداع ظهرت كتابات اعتبرت "متسرعة" حولها، في نظركم، هل يمكن أن نقبل من المبدع "منجزا قابلا للاستهلاك الظرفي"، أم يجب أن ننتظر نضج الشروط الذاتية والموضوعية للإقبال على الكتابة في هذا الموضوع؟
في طفولتي، علّمني والدي أن الأدب الجيد يدور حول مواضيع رئيسة ثلاثة: الميلاد، والحب، والموت.
وأحسب أن الإبداع الرفيع هو الذي يستطيع أن يرقى بالحدث مهما كان صغيراً محدوداً إلى سماوات الخيال الشاسعة. والإبداع الفاخر لا ينحصر في المكان والزمان إلا إذا كان ذلك من أغراضه، كما نجده في الرواية التاريخية مثلاً.
بصفتكم مفكرا عراقيا مقيما في المغرب، وعلى اطلاع بالثقافة المشرقية والثقافة المغربية، ما هي ميزة كل ثقافة، أين تلتقيان وأين تختلفان؟
في علم الاجتماع، تُعرَّف الثقافة بأنها مجموعة الأعراف والمعارف والقيم والسلوكيات الاجتماعية السائدة في مجتمع ما ويتوارثها أبناؤه جيلاً بعد جليل، وهي ككل شيء آخر قابلة للتراكم والتطور.
وفي كل ثقافة كبرى،ت وجد ثقافات فرعية متعدّدة. وهذه الثقافات الفرعية قائمة على أساس جغرافي، أو مهني، أو لغوي، أو طبقي أو غير ذلك. فإذا كان أبناء البلد الواحد يشتركون في ثقافة واحدة تطبع تفكيرهم وشعورهم وسلوكهم بشكل عام، فإن الثقافات الفرعية لها خصوصيات وميزات. فإذا قلنا إن الثقافة الفرنسية تسود في فرنسا، فإننا ينبغي أن ندرك أن هناك ثقافات فرعية جهوية أو لغوية مثل الثقافة الألزاسية، والثقافة الباسكية، والثقافة البريتونية، إلخ، وهناك ثقافات فرعية مهنية، مثل الثقافة الزراعية، والثقافة الصناعية، والثقافة العسكرية، إلخ.، وهكذا.
والثقافة العربية الإسلامية كذلك، هي إحدى الثقافات العالمية الكبرى. وتشكل الثقافة المشارقية والثقافة المغاربية ثقافتين فرعيتين فيها. ولكن ينبغي التنبيه هنا أن لفظ " العربية" في مصطلح " الثقافة العربية الإسلامية"، لا يدل على عرق أو جنس بشري مخصوص وإنما يدل على ثقافة. فإذا قلنا الثقافة العربية الإسلامية في العراق أو المشرق، لا يعني ذلك أن الناس هناك جميعهم من جنس العرب، فنحن نجد فيهم الآشوريين والسريان والأرمن، وأغلبيتهم من المسيحيين. ولكن ذلك يعني أنهم يشتركون في أعراف ومعارف وسلوكيات الثقافة العربية الإسلامية. وكان الرسول (ص) هو الذي نفى صفة الجنس والعرق عن الثقافة العربية الإسلامية بقوله: "ليست العربية بأب لأحدٍ منكم أو أمّ، وإنّما هي اللسان، فمن تكلَّم العربية فهو عربي"، أي فهو عربي ثقافة لأن اللغة هي عنصر الثقافة الأساسي الذي تنتقل بواسطته الثقافة وتتراكم وتُتوارث. (وقد علمني ذلك شيخي المرحوم العلامة المغربي عبد العزيز بنعبد الله).
وجواباً على سؤالك الكريم، أقول إن الثقافتين الفرعيتين المشارقية والمغاربية يلتقيان في الخصائص الرئيسة للثقافة العربية الإسلامية، ولكل منهما خصوصياته وميزاته التي أفرزتها العوامل الجغرافية والتاريخية والبشرية. وإذا قرأتَ روايتين أحدهما مصرية والأخرى تونسية، سترى أنهما نابعتان من ثقافة كبرى واحدة، مع خصوصيات فرعية لكل منهما.
وعندما ينتقل الإنسان من ثقافة إلى أخرى يُصاب بالاغتراب الذي هو أشد من الغربة. وتتفاوت درجة شدته من فرد إلى آخر حتى يمسي عند بعضهم مرضاً يسمّى بالحنين إلى الوطن Home sickness/Mal du pays، وهذا ما أصابني بعد أن أنهيت دراستي في الولايات المتحدة الأمريكية. ولما لم يكن بمقدوري الرجوع إلى العراق، تشرَّفتُ وسعدتُ بالقدوم إلى المغرب، وقد ذكرت ذلك في روايتي السير ذاتية " مرافئ الحب السبعة" حين قلت:
"وصلتُ إلى الرباط، مدينة جديدة كل الجدة عليَّ. لم أرَها من قبل، ولم أَخْبُر دروبها، ولم أعرف أزقَّتها، بل من السهل أن تضيع خطواتي فيها. ولكن شيئاً ما في هذه المدينة جعلني أشعر أنها ليست غريبة. فوجوه أهلها تحمل ملامح وجوه أهل بلدتي. وصوامع جوامعها ينطلق منها ذات الأذان الذي كنت أسمعه في منزلي منذ طفولتي، وأزياء أهلها قريبة من أزياء أعمامي وأخوالي. أليس هذا ما كنتُ أبحث عنه بلسما لمرض الحنين إلى الوطن الذي أصابني في أمريكا؟"
ذلك الشيء الذي أسعدني في الرباط هو عناصر الثقافة الكبرى المشتركة، وخصوصيات الثقافة الفرعية المغربية هي التي جذبتني أكثر، فشعرتُ أنني بين أهلي وأصحابي.
مراكش مدينة تاريخية بأبعاد حضارية وجمالية، غالبا ما تصفون هذه المدينة في أحاديثكم، ما الذي جعلكم تكنون هذا الود للمدينة الحمراء؟
مراكش مدينة جميلة ذات حضارة عريقة متميزة في العالم. وجميع الحواضر المغربية الكبرى: فاس، طنجة، مكناس، الدار البيضاء، الرباط، تطوان، مدن جميلة رائعة لها خصوصياتها المتميزة.
لقد زرتُ مدناً كثيرة في العالم، ولكني وجدتُ مراكش أجملها طبيعة، وأصحّها هواء، وأعذبها ماء، وأكرمها أُناساً. وهذا ما أخبرني به كذلك صديقي المرحوم عبد الكريم غلاب، شيخ الأدباء المغاربة، الذي زار أغلب عواصم العالم بحكم عمله الصحفي.
ماذا تعني لكم هذه الكلمات؟
الحب.. هو أن تحب المكان الذي تعيش فيه وتحب أهله، لتكون سعيداً.
الغربة.. الغربة غربتان: جسدية وفكرية، والأخيرة أشد.
الإبداع.. الإبداع ملاذ من الغربة.
الأمل .. لا حياة بلا أمل.
الموت.. الموت بداية حياة.
علي.. طالبُ علم.