مصطفى شقيب، (تحليل نفساني) لقصص أوان الرحيل
أوان الرحيل
مصطفى شقيب
أوان الرحيل (تحليل نفساني)
نقلا عن موقع مجانين
تحليل لقصص أوان الرحيل-الصادرة سنة 2007 عن دار ميريت- مصر، للكاتب العراقي المقيم في المغرب الدكتور علي القاسمي، وهو عالم المصطلحيات المشهور الذي انكب في السنوات الأخيرة على إصدار القصص القصيرة التي تعالج أبعاداً وجودية بلغة عميقة وبسيطة في الآن معاً.
مجموع القصص 14 قصة قدم لها بما عرفه الكاتب - ما يشبه المقدمة، وذيّلت بما يشبه الخاتمة. جميع القصص تقطع نفس قارئها، فمن يبدأ قراءتها قد لا ينتهي منها بسهولة.
قصص كلها نهايات لشيء ما، بدايات لشيء ما.
ليست ميتات تلك بالمعنى المطلق، ولكنها "حياة بعد الحياة، وموت قبل الموت" كما يقول الكاتب، وإلا فما معنى ذلك الشغف وتلك الجدية في آخر القصص لدى الكاتب لتحديد تاريخ وفاته وتدوين تلك الكلمات الجد عادية، حيث التاريخ "لا فرق.. غداً صباحا.. ساعة بدء العمل.."
أية صرخة بليغة أقوى من هذه الصرخة لمن يسمعها، صرخة ضد لامبالاة الآخر، أنانيته وجشعه..
الآخر المتمثل في شركة دفن الأموات أو الأحياء معاً، التي مثّلت كل الحمق والنذالة لدى الأحياء.. -قصة النهاية- أو الآخر المتمثل أيضاً فيمن تنتظر نجدته ليسعفك من موت محقق، كما وقع لبطل قصة النجدة الذي لم يزل معتقداً بحسن نيةة الآخر، وظن دائماً أن من يتحسس حوالي قلبه ومعصمه كان يقيس نبضات قلبه، فإذا به يبغي سرقة ما في جيبه وما على يده.
وفي الكومة، الحمامة، الخوف، ما يشبه الخاتمة والقصص الأخرى، نجد ضرر الإنسان وموته ناتج عن تخلي الإنسان عن أخيه الإنسان، أو ساكن كوكبه الحيوان.
ففي المنتزه يعد ثلاث أيام بلياليهن والرجل يقوم برياضة الجري كل صباح ويمر على الإنسان الشبح ولا يعيره أدنى اهتمام، رغم تحركه ومد يده طلباً للنجدة، إلى أن يخور ويسقط إلى الأبد.
وفي الحمامة والخوف، تخلٍ سافر عن إنقاذ حياة في خطر.
في قصة أخرى، تخلى الناس، جميع الناس عن ذلك الميت، حتى حفار قبره الذي لم يستفد كما ينبغي، اللهم إلا الكاتب الذي كان مشيّعه الوحيد بالأذكار التي اختلطت بأغاني حامل النعش في العربة في مفارقة غريبة وعبثية يؤسف لها-بئس الميتة وبئس الحياة..
أما أطفال فلسطين والعراق والصومال فلا بواكي لهم..
لكن المثير فيما حكى هو تلك القصة -ما يشبه المقدمة- حيث يبحث الكاتب لدى زيارته دمشق عن الموت والأموات بعد كل ذلك في كل مكان، الشيء الذي دعا الأخ الأصغر للتعليق "ألم تشبع من القبور والمقابر في العراق نعم، طافف الكاتب المقابر مقبرة مقبرة لإعادة الاعتبار للأموات، وسجّل أساه على تغاضي الأحياء عن تقدير موتاهم، وذلك طابع الشعوب المتخلفة تجاه أحياءها فبالأحرى موتاها، وهي بذلك إنما لا تكرم ولا تقدر نابغاتها كما كانت تفعل العرب معع شعرائها. ذهب الكاتب بحثاً عن قبر المرحوم البياتي المهاجر في حياته وبعد مماته، ولم يكن في رحلة سفر استجمام، بل كان في مهمة عمل علمية فاغتنم الفرصة رغم ضيق الوقت: قمة التضحية والوفاء!.
وهذه البداية أو ما يشبه البداية، على حد عنوان الكاتب، هي التي شرعت لباقي القصص الأخرى المنادية بتواصل الحي مع الميت واستمرارية الحياة، بل نهل هذه الأخيرة من الممات، والأخذ بأعمال الميت والاستنارة بها واتباع منهاجها ونبراسها.
من ليلة وفاة جدي -القصة- وسرّ الأصابع وسحرها واقترانها بالموت والجمال، والصحة والأعمال، في تطابق مع قول الخالق "بلى قادرين على أن نسوي بنانه" إلى الوصية -القصة- ودفع الوالد لولده ليتسلح بالعلم والعمل، النهل من القرآن والعمل باليد والسلاح للصيد وإطعام الأسرة، تحمّلاً للمسؤولية ولو في سن العاشرة!.
والنداء -القصة- من أجل نشر أعمال الميت في حق البلد المضيف –المغرب- اعترافاً بالفضل، تركاً للآثار ووفاء للديار. فكما خلقنا من هذه الأرض نرجع إليها لتروي ظمأنا وخصوصاً أوطاننا -كما في قصة الظمأ-، هذه تحتاجنا لإكمال الصرح والبناء المتناسق.
في قصص القارب والساعة، وسائل للرحلات وللأوقات، أعظم وفاء من الأشياء تجاه الإنسان، الصانع أحياناً، المراقب أحياناً: الساعات تتوقف- القارب يختفي لدى موت الإنسان.
وقصص الرحيل هذه تحكي شجاعة نادرة لحاكيها ومعايشها؛ أعطى الكاتب أنموذجاً في المواجهة، في امتصاص لحظات المرض، في التعويض عن الموت، وتقديم الإيجابيات والإفادات مقابل الحزن والمآسي- ألا تصبح الجلسات حول المريض مجالس أدبية تحكي النوادر والطرائف لتتعالى الضحكات والقهقهات -قصة الساعة-؟ ألم ينسِنا الكاتب حالات الموت وأحزانها وعوضنا عنها بالأوصاف الدقيقة للحياة حولنا، من الطبيعة المخضرة أحياناً، الذابلة أحياناً أخرى، إلى حالات الناسس وتقلباتهم؟ من منا لن يتذكر غرابة الصديق المغربي للكاتب المهتم بالساعات والزمن؟ من منا لن يتذكر جداً الكاتب وسر الأصابع الذهبية؟ قصة القارب الشاهد الوفي؟ والقصة العجيبة -النهاية- وسخرية الأموات من الأحياء؟ أو بالأحرىى كشف غرابة الأحياء ونذالتهم!.
تمضي أجواء القصص كلها منسابة كطريق سيّار، لا تشعر فيها بالعقدة ولا بالغصة، قصص للغرابة لا تخلف كآبة، لا تحفر مآسي داخلك، وإن صنعت قلقاً فهو قلق مثمر إيجابي.. بل للمفارقة، بفضل براعة راويها تُفضي إلى دعوة داخلية لتقبل الموت والاستمرار في حياة بعد الحياة ونبذ الموت قبل الموت، عبر حمل المشعل، حمل الرسالة والتزود بزاد الميت لصنع حياة مصداقاً لكلام الخالق "يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي".
وفي القصص هروب من صخب الحياة والمدنية إلى الخلاء، حيث ستواجهك المصاعب ذاتها أو من صنف آخر -الخوف والصراع من أجل البقاء كما في الغزالة وقصة الخوف-.
العالم صغير، وقد تضيق الأرض بما رحبت، لكن يبقى موقف الإنسان هم المفصلي في كل الحالات، وبأنانيته قد يصارع لبقائه كما في الغزالة، ولكن ليس بالضرورة من أجل الآخر -قصة الخوف- ليبتلع مرارة ما بعد مرارة لعدم إنجاد الآخر، إحساس مشابه لدى كل المتقاعسين والمساومين والخونة والمتعاونين مع المحتلين.
لم يفت الكاتب الإشارة في إحدى قصصه -جزيرة العشاق- إلى أن الموت أصناف وأصناف، فإن كانت الدول والشعوب تموت، فليس بسبب فقرها المادي دائماً، فالثراء والرفاهية قد تفضيان إلى ترهل الإنسان وموته البطيء وتعرضه لشتى أنواع العلل والأمراض، وهي دعوة واضحة لأمتنا كي تتخذ هويتها مرجعاً لكل نهضة وتقدم.
قصص عبارة عن بناء هندسي لم يكن ليكتمل لولا غربة من بعد غربة عاشها الكاتب، واحتواها بدل أن تحتويه.
كما أوتي الكاتب حسّاً عالياً من الحدس ونباهة فريدة في احتواء الأزمات. وفي كل قصة تفاصيل حياة مليئة، تفاصيل طويلة كبيرة تركن الموت جانباً وتجعله تفصيلاً صغيراً في زاوية ما، لتبقى الحياة الذكرى الحقيقية، الحدث الحقيقي.
لا أعرف أحداً كتب كل هذا عن الموت والرحيل بكذا روح شُجاعة..
وسننسى أو نتناسى بالتأكيد حالات الرحيل تلك لنعوضها بأحسن منها، حالات من الإيجابية والتواصل مع الأموات وإتمام أعمالهم في إطار سلسلة متصلة من حياة بعد الحياة.
أليس هذا ما يرمي إليه كل علاج نفساني لكذا حالات؟ التعرض، المواجهة، الحكي المفصل، التخيل، الخطاب الإيجابي، التقدير الذاتي.. هذا ما أدته قصص الكاتب ببراعة لا مثيل لها.